ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
دعوة إلى الوحدة:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون... ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم}..كانت هذه الآيات في الدعوة إلى الوحدة التي ترتكز على أساس العقيدة الواحدة والخط الواحد، فكأن الله تعالى يريد أن يقول للمسلمين جميعاً: إذا كنتم ترتبطون بحبل الله وتعتصمون به، وحبل الله هو القرآن، فعليكم أن تكونوا الواعين لكل الكلمات التي تريد أن تفرقكم عن القرآن وعن مجتمعكم لكي تتنازعوا لتفشلوا وتذهب ريحكم.
{واعتصموا بحبل الله جميعاً}، ليمسكه كل واحد منكم، ليكون تمسككم بهذا الحبل هو الأساس الذي يجمعكم.. أن تقول في نفسك عندما تنظر إلى المسلمين جميعاً إن هؤلاء يتمسكون بالقرآن وإن اختلفوا في تفسيره وفهمه، علماً أن كثيراً منهم لا يرتكز على العناد، ولكنه قد يتحرك مع الفهم الخاطئ والاجتهاد الخاطئ،,وفي هذا الإطار علينا أولاً وقبل كل شيء إذا تنازعنا في شيء أن نردّه إلى الله وإلى الرسول.
التأليف بين القلوب:
ولقد نزلت هذه الآية، كما تذكر كتب السيرة، في مجتمع الرسالة المدني، حيث جمع الله تعالى بين "الأوس" و"الخزرج" من خلال الإسلام، مما أثار ضغينة اليهود الذين أخذوا يثيرون الأحقاد التاريخية بين المسلمين، وذلك عبر تذكيرهم بالحروب التي خاضوها ضد بعضهم البعض، حتى غفلوا عن إسلامهم وتنادوا"السلاح.. السلاح"، وجاء رسول الله (ص) وعاشوا روحانيته، ورجعوا إلى الإسلام... {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم ـ من خلال العقيدة الواحدة والخط الواحد على أساس عبادة الإله الواحد والسير مع الرسول الواحد في الخط الواحدـ فأصبحتم بنعمته إخوانا ً وكنتم على شفا حفرة من النار ـ عندما كنتم تتحركون في خط الشرك ولو لم تهتدوا لوقعتم في النار ـ فأنقذكم منها ـ بالإسلام ـ كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.
وإذا كان الله تعالى يتحدث مع أولئك باعتبار أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم، فهل نقبل أن تنقلب الصورة ونتحول إلى أعداء بعد أن أصبحنا إخواناً بالدين! لقد عشنا بالإسلام وبخط أهل البيت(ع)، وتنطلق الحزبيات هنا والعائليات هناك والعصبيات والسياسات هنالك من أجل أن تفرّق الأخ عن أخيه، ومن أجل أن يختزن الأخ المسلم الحقد في نفسه ضد أخيه المسلم الآخر، بينما ينفتح المسلم على غير المسلم وقد يتحالف معه ضد أخيه المسلم، وقد يلتزم معه في مواجهة الإنسان المسلم، هذا واقع أصبح المسلمون يعيشونه في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث نرى كثيراً من المسلمين يتحالفون مع غير المسلمين من أجل قتال المسلمين والسيطرة عليهم لأسباب مذهبية أو حزبية أو سياسية، وهذا ما يرفضه الله تعالى. وإذا كان الله يمتنّ على المسلمين أنهم كانوا أعداءً فألّف بين قلوبهم، فإٍن الشيطان يقول لنا عكس ذلك: واذكروا إذ كنتم إخواناً فصرتم أعداء بفضل وساوسي وما غرزته في نفوسكم من الحقد والعداوة والبغضاء.
الخطوط واحدة رغم الخلاف في التفاصيل:
أيها الأحبة: عندما نريد أن نفهم مسألة هذا الاعتصام بحبل الله، قد يقول بعض الناس:إن هذا الفريق يختلف عنّا في المذهب ولذلك فإنه منحرف عن الإسلام، وعلينا أن نقف منه موقف التقاطع لا التواصل وموقف العداوة لا الصداقة أو الأخوّة! هذا هو الوضع الذي يتحرك فيه المسلمون من هذا الفريق ضد ذاك الفريق، أو ذاك الفريق ضد هذا الفريق. هنا علينا أن نفكر من خلال وحي القرآن، فالقرآن الكريم يؤكد لنا أن هناك ثوابت يلتقي عليها المسلمون، وهي ما يجمع المسلمون عليه من التوحيد والنبوّة والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالكتاب كله، ولا سيما القرآن، وبالرسل كلهم والملائكة، كما يؤمنون جميعاً بالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن اختلفنا بين من يتكتف في الصلاة وبين من يسبل يديه، وبين من يغسل رجليه في الوضوء وبين من يمسح عليهما، أو بين من يفطر عند سقوط قرص الشمس وبين من يفطر عند ذهاب الحمرة المشرقية، فإن هذه التفاصيل لا تنفي أن الخطوط واحدة، فما نختلف فيه مع بعضنا البعض في هذا المذهب أو ذاك قد يتفق فيه بعضنا في الفتوى مع هذا أو ذاك، ففي مسألة الإفطار عند الغروب مثلاً، هناك الكثير من علمائنا الكبار، ومنهم السيد الخوئي(قده) والسيد محسن الحكيم(قده)، يفتون بأن الغروب يتحقق عند سقوط قرص الشمس ولا يجب انتظار ذهاب الحمرة المشرقية، وإن كان بعضهم يحتاطاستحبابياً والآخر وجوبياً، وهناك علماء آخرون يرون أنه لا بدّ من الانتظار حتى ذهاب الحمرة المشرقية، أو أن السنّة يرون أنه يكتفى أن يقرأ بعد الفاتحة في الصلاة آية من الآيات لا سورة كاملة، وهو ما يراه بعض علمائنا أيضاً، وإن كان المشهور من علمائنا أنه لا بد أن يُقرأ سورة كاملة، لكن القضية ليست حدّية، بل إن الكثير من القضايا الفقهية مما يلتزمه مشهور السنّة قد يلتزمه مشهور الشيعة والعكس صحيح، حتى المحاكم السنّية قد أخذت ببعض الفتاوى التي تتعلّق fالطلاق وبغيره من المسائل.
الحفاظ على المصلحة الإسلامية:
نعم، هناك اختلاف في مسألة الخلافة، وهو خلاف عميق ونعتبره مهماً جداً وليس خلافاً عادياً، لأن القضية تدور حول من هو الحجة بعد رسول الله (ص)الذي نأخذ بكل كلامه وفكره، هل هو عليّ (ع) وأولاده أم الآخرون؟ هذا خلاف مهم جداً، ولكن مع ذلك علينا أن ننظر إلى علي(ع) كيف واجه الخلاف في هذه المسألة الحسّاسة الحيوية، علماً أن القضية تتصل بشخصه، حيث نراه (ع)قد وقف على الحياد أولاً، ولكن عندما حدثت الردة في الإسلام وشعر بالأخطار تهدد الواقع الإسلامي، ترك موقف الحياد واندفع ليعاون ويساعد وينصح ويشير على هؤلاء الذين تقدموه وأخذوا حقه، وهو القائل: "فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه..". فالحق يبقى حقاً، ولم يتنازل عن حقه(ع)، وخطبة الشقشقية تدل على ذلك، ولكن عندما تكون المسألة مسألة سلامة الإسلام، فإنه يقدم التنازلات العملانية حتى يحفظ رأس الإسلام، لذا علينا، إذا اتصلت المسألة بمصلحة المسلمين، أن نقف بقوة مع هذه المصلحة.
مواجهة الحرب ضد الإيمان:
ولننظر إلى الواقع الذي نعيشه الآن، هناك حرب على الثقافة الإسلامية، حرب ضد النبوّة وضد الوحي، وإنكار أن الإسلام هو دين الله، حرب ضد الإيمان باليوم الآخر وضد التشريعات الإسلامية الأساسية، فالمسألة ليست حرباً لمصلحة السنّة أو الشيعة، بل هي حرب على القاعدة الأساسية للإسلام، ونبقى نحن في غفلة من هذه الحرب، فنفترق ونتقاتل والإسلام يسقط، وهو يتطلب أن نقف جميعاً حتى ندافع عن القاعدة الإسلامية الأساسية وعن رأس الإسلام عقيدة وشريعة وثقافة، ثم بعد أن يطمئن الإسلام نتحاور في شؤون الخلافة وغيرها..
منطق القرآن في مواجهة الخلافات:
وإذا كان الله طلب منا أن ندعو أهل الكتاب ـ وكم بيننا وبين اليهود والنصارى من خلافات في العقيدة وفي كثير من القضايا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم،ألا نقول لأهل القرآن: تعالوا Yلى كلمة سواء بيننا وبينكم! علينا أن نفهم منطق القرآن الكريم ومنطق الإمام عليّ(ع) والقضية هي قضيته، لقد عاش الإمام علي (ع)مرارة كأشد ما تكون، ولكنه كان مطمئناً لأنه كان يحارب من أجل الإسلام سلماً بعد رسول الله، كما حارب من أجل الإسلام حرباً في حياة رسول الله(ص).
وحين ننتقل إلى الداخل؛ داخل كل خط، سواء الخط السنّي عند السنّة أو الخط الشيعي عند الشيعة، يستوقفنا أيضاً أمر الله لنا بالاعتصام بحبله، ونتساءل لماذا نثير الخلافات والتمزقات فيما بيننا، حتى في المسائل الدينية التي تمثل تكاليف شرعية، كأن يلتزم هذا مجتهداً وذاك يلتزم مجتهداً آخر، فهل من المعقول والمشروع أن تفرّق بيننا مثل هذه التفاصيل؟! أنت لك وجهة نظر فقهية وذاك له وجهة نظر فقهية أخرى، أو عندك وجهة نظر في جانب من جوانب تفاصيل العقيدة وذاك عنده وجهة نظر أخرى، فهل نخلق منها مشاكل تثير التكفير واللعن والتضليل والمقاطعة؟! هناك كثير من الناس، حتى ممن يملكون مواقع دينية، عندما يختلفون مع أمثالهم يتقاطعون بينهم، وعندنا أنه" لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام"..
لقد أصبحنا نعاني من تمزقات تنطلق من التخلف وعدم الوعي، وهناك قضايا كبرى لا بدّ أن نلتقي عليها، وحتى القضايا التي نختلف فيها لا بدّ أن يلتقي الجميع حتى يتحاوروا فيما بينهم بشأنها، لا أن يتراشقوا من بعيد بالتهم والصفات المختلفة، والمشكلة أن المستكبرين عرفوا كيف يسقطون هذه الروح الإسلامية من الداخل وكيف يحوّلون المسألة إلى عصبية للذات وللحزب وللحركة وللعائلة بدلاً من أن تكون التزاماً بالإسلام وقيمه، إن الله تعالى يقول:{إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}، ونحن نمارس العكس ، لأننا نقول من خلال خلافاتنا: إنما المؤمنون أعداء فعقّدوا العلاقات بين أخويكم.. أليس هذا هو ما نسير فيه؟!..
يدي ممدودة للجميع:
علينا أن نرجع إلى كتاب الله وسنّة نبيه وسيرة الأئمة من أهل البيت(ع)، سيرة الانفتاح والتعاون على البرّ والتقوى وترك التباغض والتقاطع في هذا المجال. قد تقولون في بعض الحالات{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، فلماذا لا تتوحدون أنتم؟ لقد قلت لكم سابقاً وأقول لكم الآن من موقع مسؤوليتي أمام الله وليس أمامكم: ليس في قلبي أيّ سوء على مؤمن ويدي ممدودة للجميع، ولا أزال أدعو الجميع إلى أيّ لقاء وحوار وأيّ وقوف في خط المسؤولية، وقد أعذرت إلى الله في ذلك ولا أتحمل أيّ مسؤولية، بل إن ندائي الدائم هو نداء اللقاء والمحبة والوحدة والتفاهم على أساس كلمة الله.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين علىأنفسهم، وأن يجمع كلمتنا على الخير والهدى وكلمة التقوى، إنه أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وأحبوا بعضكم بعضاً وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وانفتحوا على الحق وكونوا معه واهتموا بأمور المسلمين ،فإن من لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، وقد أرادنا رسول الله (ص) أن نكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر، وانفتحوا على كل قضايا الإسلام في كل الساحات الإسلامية حتى تقفوا مع كل قضية عادلة،ليشعر المسلمون في أقصى الغرب بأن المسلمين في أقصى الشرق يقفون معهم ويتألمون لآلامهم ويعيشون مشاكلهم ويساعدونهم بكل ما يستطيعون.. وحين نتطلع إلى أحوال المسلمين فماذا نرى؟
لا تنسوا معاناة شعب العراق:
عندما نتطلع إلى أحوال المسلمين، نرى ما يصيب الشعب العراقي من خلال الـعشرات والمئات الذين يموتون - من الأطفال خاصة - بسبب الحصار وقلة التغذية، بالإضافة إلى أولئك الذين تلاحقهم الطائرات الأمريكية لترتكب المجزرة تلو المجزرة بحقهم، في ظل عناوين وتهاويل لا أساس لها، هذا ناهيك عما يعانيه العراقيون المشردون في أكثر من مكان، مما يؤدي بهم إلى حالة من التعقيد النفسي والعملي بفعل ما يعانونه في الدول الإسلامية كما في أماكن التشريد المختلفة..
إن علينا أن نفكر في هذا الشعب الجريح الذي عاش المأساة من أكثر من جهة، وأن لا ننساه في غمرة التجاذبات السياسية في المنطقة، ولا سيما في الساحات العربية والإسلامية، لأن ذلك هو الذي تفرضه علينا طبيعة الروح العربية والإسلامية، ليبقى لهم الإحساس بالانتماء إلى هذه الأمة في كل قضاياهم وأوضاعهم الخاصة والعامة.
الوقوف مع مسلمي"داغستان":
وليس بعيداً عن ذلك ما يصيب المسلمين في "داغستان"، الذين يحاول الإعلام الاستكباري الحديث عنهم تحت فزّاعة "الأصولية الإسلامية"، ولكن القضية الحقيقية هي أنهم يريدون الاستقلال من أجل ممارسة إنسانيتهم بحرية، لأنهم لا يحصلون على حقوقهم الشرعية في داخل الاتحاد الروسي، ولذلك فإننا ندعو المسلمين جميعاً إلى الوقوف معهم من أجل معالجة قضيتهم بعدالة وانفتاح.
توازن رعب بين المقاومة والصهاينة:
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أن القصف على المدنيين في القرى الآمنة، والاغتيالات الإجرامية للمجاهدين بزرع العبوّات الناسفة في المناطق المحررة، واللعبة السياسية الإعلامية المتحركة في أكثر من موقع، هو الأسلوب الذي يتبعه العدو في عهده الجديد من أجل رفع معنويات جنوده الذين أسقطت المقاومة عنفوانهم، وحوّلت وجودهم إلى مشكلة عندهم، فلا يقوم العدوّ بضربة إلا ليرد عليه المجاهدون بضربة مماثلة أو أقوى منها.. وإذا كان العدّو يتحدث عن يده الطويلة، فإنه يعرف أن للمقاومة يداً طويلة في خط المواجهة للاحتلال، مما يؤكد وصول القضية إلى مستوى توازن الرعب، وهذا ما يمثله نزول المستوطنين إلى الملاجئ عند اغتيال الشهيد علي ديب.
لنقف صفاً واحداً في مواجهة الاحتلال:
المطلوب في هذه المرحلة الآن من الموقف اللبناني الداخلي، الوقوف خلف المجاهدين ودعمهم مادياً ومعنوياً، وملاحقة العملاء في الداخل، هؤلاء الذين ينفذون خطط العدو في التفجيرات والاغتيالات، فإن ذلك يمثل مسؤولية شرعية للجميع ،لأن ذلك هو الذي ينقذ الوطن من خطط العدوّ.
إننا نريد للبنانيين جميعاً أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، ليقفوا صفاً واحداً، بحيث يكون الصوت واحداً في مقاومة الاحتلال، وليبتعدوا عن الخلافات الجانبية التي تُسقط الروح وتربك الواقع وتبعث على الفشل الذي يذهب بالقوة، فقد كان لصمودهم مع المجاهدين الدور الكبير في الدعوات المتكررة داخل كيان العدو للانسحاب من لبنان، حيث وصل الصراخ السياسي والأمني إلى مستوى لم نعهده في تاريخ الكيان الصهيوني من قبل.
أيها اللبنانيون: لقد فُتحت أبواب التحرير فلا تغلقوها بخلافاتكم الهامشية، وليكن التقارب بدل التباعد، والتواصل بدل التقاطع، والتعاون بدل التنافر، والوقوف مع خط الوحدة بدل واقع التفرّق، فهذا هو الذي يؤكد قوة البلد وثباته وصلابته أمام التحديات.
الحذر كل الحذر من السياسة الأمريكية:
وفي هذا الجو، لا بدّ لنا من رصد الموقف الأمريكي المتمثل بزيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية إلى الحدود اللبنانية - الفلسطينية، بعد زيارته لتركيا والكيان الصهيوني، وتأكيده من هناك على "أهمية الحفاظ على التفوق النوعي لإسرائيل على جميع القوات المسلّحة الأخرى في الشرق الأوسط.."
إن هذا التصريح يدل على أن أمريكا تريد تسليم الشرق الأوسط لإسرائيل على أساس التحالف الأمريكي - الإسرائيلي في المنطقة، لتكون الشعوب الأخرى في موقع الضعف، لتنفيذ المخططات الأمريكية ضد الشعوب، وهذا ما ينبغي أن نفهمه من سياسة الشيطان الأكبر الذي يقدّم نفسه باسم الوسيط النـزيه، ولكنه في الواقع يتحرك في صورة العدّو الشريك لإسرائيل في كل عدوانها ضد الأطفال والشيوخ والنساء والقرى الآمنة.
إننا نقول للعرب وللمسلمين: عندما تفكرون في إسرائيل فكّروا في أمريكا، وعليكم أن لا تتوهموا أن التسوية ستجلب لكم السلام، بل إنها ستجلب لكم كل النتائج السلبية على جميع المستويات، الأمر الذي يفرض عليكم الحذر كل الحذر أمام ما يحمله المستقبل القريب.
تحمل مسؤولية قضايانا المصيرية:
وعلينا أن نراقب حركة التسوية على الصعيد الفلسطيني، والذي تتحرك اللعبة فيه لإدخال الفلسطينيين في متاهات التفاصيل بما قد يبتعد بها عن القضية الأساس في حقوق الشعب الفلسطيني، وهكذا علىالصعيد السوري واللبناني، الذي تتحرك على ساحته التجاذبات السياسية والإعلامية والأمنية التي تحجب وضوح الرؤية في حركة المستقبل، مما يفرض على الجميع الابتعاد عن الحركة بذهنية اللعبة السياسية لا بذهنية القضايا المصيرية.
ونصل إلى الواقع الداخلي، لنكرر دعوتنا إلى الوحدة السياسية في معالجة القضايا العامة، ليرتفع الجميع إلى مستوى المشكلة الصعبة التي يعيشها البلد في الداخل والخارج، فلا تكون السياسة مهنة في سوق الأطماع، بل رسالة في ساحة المصير، ولينطلق البلد في ساحاته السياسية إلى التحديق في ما يحتاجه الشعب في حاضره ومستقبله، لا ما يريده الآخرون الذين يعملون على استغلال كل قضاياه وموارده لحساب أطماعهم السياسية والاقتصادية.
وعلينا أن نقف مع أهلنا المحاصَرين في المنطقة الحدودية في "بنت جبيل" و"عيثا الشعب" و "بليدا" و"عيناثا"، فإن معلوماتنا تفيد أنهم يعانون معاناة شديدة من خلال الحصار الأمني والغذائي من قِبَل العدّو، ونريد للدولة أن تواصل جهدها في التحرك من أجل حلّ هذه المشكلة الإنسانية التي هي من إفرازات الاحتلال وإثارتها في المحافل الدولية كافة.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
دعوة إلى الوحدة:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون... ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات وأولئك لهم عذاب عظيم}..كانت هذه الآيات في الدعوة إلى الوحدة التي ترتكز على أساس العقيدة الواحدة والخط الواحد، فكأن الله تعالى يريد أن يقول للمسلمين جميعاً: إذا كنتم ترتبطون بحبل الله وتعتصمون به، وحبل الله هو القرآن، فعليكم أن تكونوا الواعين لكل الكلمات التي تريد أن تفرقكم عن القرآن وعن مجتمعكم لكي تتنازعوا لتفشلوا وتذهب ريحكم.
{واعتصموا بحبل الله جميعاً}، ليمسكه كل واحد منكم، ليكون تمسككم بهذا الحبل هو الأساس الذي يجمعكم.. أن تقول في نفسك عندما تنظر إلى المسلمين جميعاً إن هؤلاء يتمسكون بالقرآن وإن اختلفوا في تفسيره وفهمه، علماً أن كثيراً منهم لا يرتكز على العناد، ولكنه قد يتحرك مع الفهم الخاطئ والاجتهاد الخاطئ،,وفي هذا الإطار علينا أولاً وقبل كل شيء إذا تنازعنا في شيء أن نردّه إلى الله وإلى الرسول.
التأليف بين القلوب:
ولقد نزلت هذه الآية، كما تذكر كتب السيرة، في مجتمع الرسالة المدني، حيث جمع الله تعالى بين "الأوس" و"الخزرج" من خلال الإسلام، مما أثار ضغينة اليهود الذين أخذوا يثيرون الأحقاد التاريخية بين المسلمين، وذلك عبر تذكيرهم بالحروب التي خاضوها ضد بعضهم البعض، حتى غفلوا عن إسلامهم وتنادوا"السلاح.. السلاح"، وجاء رسول الله (ص) وعاشوا روحانيته، ورجعوا إلى الإسلام... {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم ـ من خلال العقيدة الواحدة والخط الواحد على أساس عبادة الإله الواحد والسير مع الرسول الواحد في الخط الواحدـ فأصبحتم بنعمته إخوانا ً وكنتم على شفا حفرة من النار ـ عندما كنتم تتحركون في خط الشرك ولو لم تهتدوا لوقعتم في النار ـ فأنقذكم منها ـ بالإسلام ـ كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون}.
وإذا كان الله تعالى يتحدث مع أولئك باعتبار أنهم كانوا أعداء فألف بين قلوبهم، فهل نقبل أن تنقلب الصورة ونتحول إلى أعداء بعد أن أصبحنا إخواناً بالدين! لقد عشنا بالإسلام وبخط أهل البيت(ع)، وتنطلق الحزبيات هنا والعائليات هناك والعصبيات والسياسات هنالك من أجل أن تفرّق الأخ عن أخيه، ومن أجل أن يختزن الأخ المسلم الحقد في نفسه ضد أخيه المسلم الآخر، بينما ينفتح المسلم على غير المسلم وقد يتحالف معه ضد أخيه المسلم، وقد يلتزم معه في مواجهة الإنسان المسلم، هذا واقع أصبح المسلمون يعيشونه في حياتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث نرى كثيراً من المسلمين يتحالفون مع غير المسلمين من أجل قتال المسلمين والسيطرة عليهم لأسباب مذهبية أو حزبية أو سياسية، وهذا ما يرفضه الله تعالى. وإذا كان الله يمتنّ على المسلمين أنهم كانوا أعداءً فألّف بين قلوبهم، فإٍن الشيطان يقول لنا عكس ذلك: واذكروا إذ كنتم إخواناً فصرتم أعداء بفضل وساوسي وما غرزته في نفوسكم من الحقد والعداوة والبغضاء.
الخطوط واحدة رغم الخلاف في التفاصيل:
أيها الأحبة: عندما نريد أن نفهم مسألة هذا الاعتصام بحبل الله، قد يقول بعض الناس:إن هذا الفريق يختلف عنّا في المذهب ولذلك فإنه منحرف عن الإسلام، وعلينا أن نقف منه موقف التقاطع لا التواصل وموقف العداوة لا الصداقة أو الأخوّة! هذا هو الوضع الذي يتحرك فيه المسلمون من هذا الفريق ضد ذاك الفريق، أو ذاك الفريق ضد هذا الفريق. هنا علينا أن نفكر من خلال وحي القرآن، فالقرآن الكريم يؤكد لنا أن هناك ثوابت يلتقي عليها المسلمون، وهي ما يجمع المسلمون عليه من التوحيد والنبوّة والإيمان باليوم الآخر والإيمان بالكتاب كله، ولا سيما القرآن، وبالرسل كلهم والملائكة، كما يؤمنون جميعاً بالصلاة والصوم والزكاة والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن اختلفنا بين من يتكتف في الصلاة وبين من يسبل يديه، وبين من يغسل رجليه في الوضوء وبين من يمسح عليهما، أو بين من يفطر عند سقوط قرص الشمس وبين من يفطر عند ذهاب الحمرة المشرقية، فإن هذه التفاصيل لا تنفي أن الخطوط واحدة، فما نختلف فيه مع بعضنا البعض في هذا المذهب أو ذاك قد يتفق فيه بعضنا في الفتوى مع هذا أو ذاك، ففي مسألة الإفطار عند الغروب مثلاً، هناك الكثير من علمائنا الكبار، ومنهم السيد الخوئي(قده) والسيد محسن الحكيم(قده)، يفتون بأن الغروب يتحقق عند سقوط قرص الشمس ولا يجب انتظار ذهاب الحمرة المشرقية، وإن كان بعضهم يحتاطاستحبابياً والآخر وجوبياً، وهناك علماء آخرون يرون أنه لا بدّ من الانتظار حتى ذهاب الحمرة المشرقية، أو أن السنّة يرون أنه يكتفى أن يقرأ بعد الفاتحة في الصلاة آية من الآيات لا سورة كاملة، وهو ما يراه بعض علمائنا أيضاً، وإن كان المشهور من علمائنا أنه لا بد أن يُقرأ سورة كاملة، لكن القضية ليست حدّية، بل إن الكثير من القضايا الفقهية مما يلتزمه مشهور السنّة قد يلتزمه مشهور الشيعة والعكس صحيح، حتى المحاكم السنّية قد أخذت ببعض الفتاوى التي تتعلّق fالطلاق وبغيره من المسائل.
الحفاظ على المصلحة الإسلامية:
نعم، هناك اختلاف في مسألة الخلافة، وهو خلاف عميق ونعتبره مهماً جداً وليس خلافاً عادياً، لأن القضية تدور حول من هو الحجة بعد رسول الله (ص)الذي نأخذ بكل كلامه وفكره، هل هو عليّ (ع) وأولاده أم الآخرون؟ هذا خلاف مهم جداً، ولكن مع ذلك علينا أن ننظر إلى علي(ع) كيف واجه الخلاف في هذه المسألة الحسّاسة الحيوية، علماً أن القضية تتصل بشخصه، حيث نراه (ع)قد وقف على الحياد أولاً، ولكن عندما حدثت الردة في الإسلام وشعر بالأخطار تهدد الواقع الإسلامي، ترك موقف الحياد واندفع ليعاون ويساعد وينصح ويشير على هؤلاء الذين تقدموه وأخذوا حقه، وهو القائل: "فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه التي إنما هي متاع أيام قلائل يزول منها ما زال كما يزول السراب أو كما ينقشع السحاب، فنهضت حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه..". فالحق يبقى حقاً، ولم يتنازل عن حقه(ع)، وخطبة الشقشقية تدل على ذلك، ولكن عندما تكون المسألة مسألة سلامة الإسلام، فإنه يقدم التنازلات العملانية حتى يحفظ رأس الإسلام، لذا علينا، إذا اتصلت المسألة بمصلحة المسلمين، أن نقف بقوة مع هذه المصلحة.
مواجهة الحرب ضد الإيمان:
ولننظر إلى الواقع الذي نعيشه الآن، هناك حرب على الثقافة الإسلامية، حرب ضد النبوّة وضد الوحي، وإنكار أن الإسلام هو دين الله، حرب ضد الإيمان باليوم الآخر وضد التشريعات الإسلامية الأساسية، فالمسألة ليست حرباً لمصلحة السنّة أو الشيعة، بل هي حرب على القاعدة الأساسية للإسلام، ونبقى نحن في غفلة من هذه الحرب، فنفترق ونتقاتل والإسلام يسقط، وهو يتطلب أن نقف جميعاً حتى ندافع عن القاعدة الإسلامية الأساسية وعن رأس الإسلام عقيدة وشريعة وثقافة، ثم بعد أن يطمئن الإسلام نتحاور في شؤون الخلافة وغيرها..
منطق القرآن في مواجهة الخلافات:
وإذا كان الله طلب منا أن ندعو أهل الكتاب ـ وكم بيننا وبين اليهود والنصارى من خلافات في العقيدة وفي كثير من القضايا إلى كلمة سواء بيننا وبينهم،ألا نقول لأهل القرآن: تعالوا Yلى كلمة سواء بيننا وبينكم! علينا أن نفهم منطق القرآن الكريم ومنطق الإمام عليّ(ع) والقضية هي قضيته، لقد عاش الإمام علي (ع)مرارة كأشد ما تكون، ولكنه كان مطمئناً لأنه كان يحارب من أجل الإسلام سلماً بعد رسول الله، كما حارب من أجل الإسلام حرباً في حياة رسول الله(ص).
وحين ننتقل إلى الداخل؛ داخل كل خط، سواء الخط السنّي عند السنّة أو الخط الشيعي عند الشيعة، يستوقفنا أيضاً أمر الله لنا بالاعتصام بحبله، ونتساءل لماذا نثير الخلافات والتمزقات فيما بيننا، حتى في المسائل الدينية التي تمثل تكاليف شرعية، كأن يلتزم هذا مجتهداً وذاك يلتزم مجتهداً آخر، فهل من المعقول والمشروع أن تفرّق بيننا مثل هذه التفاصيل؟! أنت لك وجهة نظر فقهية وذاك له وجهة نظر فقهية أخرى، أو عندك وجهة نظر في جانب من جوانب تفاصيل العقيدة وذاك عنده وجهة نظر أخرى، فهل نخلق منها مشاكل تثير التكفير واللعن والتضليل والمقاطعة؟! هناك كثير من الناس، حتى ممن يملكون مواقع دينية، عندما يختلفون مع أمثالهم يتقاطعون بينهم، وعندنا أنه" لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام"..
لقد أصبحنا نعاني من تمزقات تنطلق من التخلف وعدم الوعي، وهناك قضايا كبرى لا بدّ أن نلتقي عليها، وحتى القضايا التي نختلف فيها لا بدّ أن يلتقي الجميع حتى يتحاوروا فيما بينهم بشأنها، لا أن يتراشقوا من بعيد بالتهم والصفات المختلفة، والمشكلة أن المستكبرين عرفوا كيف يسقطون هذه الروح الإسلامية من الداخل وكيف يحوّلون المسألة إلى عصبية للذات وللحزب وللحركة وللعائلة بدلاً من أن تكون التزاماً بالإسلام وقيمه، إن الله تعالى يقول:{إنما المؤمنون أخوة فأصلحوا بين أخويكم}، ونحن نمارس العكس ، لأننا نقول من خلال خلافاتنا: إنما المؤمنون أعداء فعقّدوا العلاقات بين أخويكم.. أليس هذا هو ما نسير فيه؟!..
يدي ممدودة للجميع:
علينا أن نرجع إلى كتاب الله وسنّة نبيه وسيرة الأئمة من أهل البيت(ع)، سيرة الانفتاح والتعاون على البرّ والتقوى وترك التباغض والتقاطع في هذا المجال. قد تقولون في بعض الحالات{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم}، فلماذا لا تتوحدون أنتم؟ لقد قلت لكم سابقاً وأقول لكم الآن من موقع مسؤوليتي أمام الله وليس أمامكم: ليس في قلبي أيّ سوء على مؤمن ويدي ممدودة للجميع، ولا أزال أدعو الجميع إلى أيّ لقاء وحوار وأيّ وقوف في خط المسؤولية، وقد أعذرت إلى الله في ذلك ولا أتحمل أيّ مسؤولية، بل إن ندائي الدائم هو نداء اللقاء والمحبة والوحدة والتفاهم على أساس كلمة الله.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين علىأنفسهم، وأن يجمع كلمتنا على الخير والهدى وكلمة التقوى، إنه أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وأحبوا بعضكم بعضاً وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وانفتحوا على الحق وكونوا معه واهتموا بأمور المسلمين ،فإن من لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم، وقد أرادنا رسول الله (ص) أن نكون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمّى والسهر، وانفتحوا على كل قضايا الإسلام في كل الساحات الإسلامية حتى تقفوا مع كل قضية عادلة،ليشعر المسلمون في أقصى الغرب بأن المسلمين في أقصى الشرق يقفون معهم ويتألمون لآلامهم ويعيشون مشاكلهم ويساعدونهم بكل ما يستطيعون.. وحين نتطلع إلى أحوال المسلمين فماذا نرى؟
لا تنسوا معاناة شعب العراق:
عندما نتطلع إلى أحوال المسلمين، نرى ما يصيب الشعب العراقي من خلال الـعشرات والمئات الذين يموتون - من الأطفال خاصة - بسبب الحصار وقلة التغذية، بالإضافة إلى أولئك الذين تلاحقهم الطائرات الأمريكية لترتكب المجزرة تلو المجزرة بحقهم، في ظل عناوين وتهاويل لا أساس لها، هذا ناهيك عما يعانيه العراقيون المشردون في أكثر من مكان، مما يؤدي بهم إلى حالة من التعقيد النفسي والعملي بفعل ما يعانونه في الدول الإسلامية كما في أماكن التشريد المختلفة..
إن علينا أن نفكر في هذا الشعب الجريح الذي عاش المأساة من أكثر من جهة، وأن لا ننساه في غمرة التجاذبات السياسية في المنطقة، ولا سيما في الساحات العربية والإسلامية، لأن ذلك هو الذي تفرضه علينا طبيعة الروح العربية والإسلامية، ليبقى لهم الإحساس بالانتماء إلى هذه الأمة في كل قضاياهم وأوضاعهم الخاصة والعامة.
الوقوف مع مسلمي"داغستان":
وليس بعيداً عن ذلك ما يصيب المسلمين في "داغستان"، الذين يحاول الإعلام الاستكباري الحديث عنهم تحت فزّاعة "الأصولية الإسلامية"، ولكن القضية الحقيقية هي أنهم يريدون الاستقلال من أجل ممارسة إنسانيتهم بحرية، لأنهم لا يحصلون على حقوقهم الشرعية في داخل الاتحاد الروسي، ولذلك فإننا ندعو المسلمين جميعاً إلى الوقوف معهم من أجل معالجة قضيتهم بعدالة وانفتاح.
توازن رعب بين المقاومة والصهاينة:
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أن القصف على المدنيين في القرى الآمنة، والاغتيالات الإجرامية للمجاهدين بزرع العبوّات الناسفة في المناطق المحررة، واللعبة السياسية الإعلامية المتحركة في أكثر من موقع، هو الأسلوب الذي يتبعه العدو في عهده الجديد من أجل رفع معنويات جنوده الذين أسقطت المقاومة عنفوانهم، وحوّلت وجودهم إلى مشكلة عندهم، فلا يقوم العدوّ بضربة إلا ليرد عليه المجاهدون بضربة مماثلة أو أقوى منها.. وإذا كان العدّو يتحدث عن يده الطويلة، فإنه يعرف أن للمقاومة يداً طويلة في خط المواجهة للاحتلال، مما يؤكد وصول القضية إلى مستوى توازن الرعب، وهذا ما يمثله نزول المستوطنين إلى الملاجئ عند اغتيال الشهيد علي ديب.
لنقف صفاً واحداً في مواجهة الاحتلال:
المطلوب في هذه المرحلة الآن من الموقف اللبناني الداخلي، الوقوف خلف المجاهدين ودعمهم مادياً ومعنوياً، وملاحقة العملاء في الداخل، هؤلاء الذين ينفذون خطط العدو في التفجيرات والاغتيالات، فإن ذلك يمثل مسؤولية شرعية للجميع ،لأن ذلك هو الذي ينقذ الوطن من خطط العدوّ.
إننا نريد للبنانيين جميعاً أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، ليقفوا صفاً واحداً، بحيث يكون الصوت واحداً في مقاومة الاحتلال، وليبتعدوا عن الخلافات الجانبية التي تُسقط الروح وتربك الواقع وتبعث على الفشل الذي يذهب بالقوة، فقد كان لصمودهم مع المجاهدين الدور الكبير في الدعوات المتكررة داخل كيان العدو للانسحاب من لبنان، حيث وصل الصراخ السياسي والأمني إلى مستوى لم نعهده في تاريخ الكيان الصهيوني من قبل.
أيها اللبنانيون: لقد فُتحت أبواب التحرير فلا تغلقوها بخلافاتكم الهامشية، وليكن التقارب بدل التباعد، والتواصل بدل التقاطع، والتعاون بدل التنافر، والوقوف مع خط الوحدة بدل واقع التفرّق، فهذا هو الذي يؤكد قوة البلد وثباته وصلابته أمام التحديات.
الحذر كل الحذر من السياسة الأمريكية:
وفي هذا الجو، لا بدّ لنا من رصد الموقف الأمريكي المتمثل بزيارة رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية إلى الحدود اللبنانية - الفلسطينية، بعد زيارته لتركيا والكيان الصهيوني، وتأكيده من هناك على "أهمية الحفاظ على التفوق النوعي لإسرائيل على جميع القوات المسلّحة الأخرى في الشرق الأوسط.."
إن هذا التصريح يدل على أن أمريكا تريد تسليم الشرق الأوسط لإسرائيل على أساس التحالف الأمريكي - الإسرائيلي في المنطقة، لتكون الشعوب الأخرى في موقع الضعف، لتنفيذ المخططات الأمريكية ضد الشعوب، وهذا ما ينبغي أن نفهمه من سياسة الشيطان الأكبر الذي يقدّم نفسه باسم الوسيط النـزيه، ولكنه في الواقع يتحرك في صورة العدّو الشريك لإسرائيل في كل عدوانها ضد الأطفال والشيوخ والنساء والقرى الآمنة.
إننا نقول للعرب وللمسلمين: عندما تفكرون في إسرائيل فكّروا في أمريكا، وعليكم أن لا تتوهموا أن التسوية ستجلب لكم السلام، بل إنها ستجلب لكم كل النتائج السلبية على جميع المستويات، الأمر الذي يفرض عليكم الحذر كل الحذر أمام ما يحمله المستقبل القريب.
تحمل مسؤولية قضايانا المصيرية:
وعلينا أن نراقب حركة التسوية على الصعيد الفلسطيني، والذي تتحرك اللعبة فيه لإدخال الفلسطينيين في متاهات التفاصيل بما قد يبتعد بها عن القضية الأساس في حقوق الشعب الفلسطيني، وهكذا علىالصعيد السوري واللبناني، الذي تتحرك على ساحته التجاذبات السياسية والإعلامية والأمنية التي تحجب وضوح الرؤية في حركة المستقبل، مما يفرض على الجميع الابتعاد عن الحركة بذهنية اللعبة السياسية لا بذهنية القضايا المصيرية.
ونصل إلى الواقع الداخلي، لنكرر دعوتنا إلى الوحدة السياسية في معالجة القضايا العامة، ليرتفع الجميع إلى مستوى المشكلة الصعبة التي يعيشها البلد في الداخل والخارج، فلا تكون السياسة مهنة في سوق الأطماع، بل رسالة في ساحة المصير، ولينطلق البلد في ساحاته السياسية إلى التحديق في ما يحتاجه الشعب في حاضره ومستقبله، لا ما يريده الآخرون الذين يعملون على استغلال كل قضاياه وموارده لحساب أطماعهم السياسية والاقتصادية.
وعلينا أن نقف مع أهلنا المحاصَرين في المنطقة الحدودية في "بنت جبيل" و"عيثا الشعب" و "بليدا" و"عيناثا"، فإن معلوماتنا تفيد أنهم يعانون معاناة شديدة من خلال الحصار الأمني والغذائي من قِبَل العدّو، ونريد للدولة أن تواصل جهدها في التحرك من أجل حلّ هذه المشكلة الإنسانية التي هي من إفرازات الاحتلال وإثارتها في المحافل الدولية كافة.