ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
ويل للمطففين:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {ويل للمطففين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون *ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم* يوم يقوم الناس لربّ العالمين}..
هذه السورة تبدأ بالحديث عن المطففين الذين بيَّن الله صفاتهم في قوله: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون *وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسِرون}، يعني إذا أرادوا أن يشتروا شيئاً فإنهم يأخذون حقهم وافياً غير منقوص، ولكنهم إذا باعوا الناس فإنهم ينقصون حقوقهم، والله تعالى يُنذر هؤلاء الذين ينقصون من حقوق الناس فيعطونهم أقل مما يستحقون، ليؤكد لهم أنهم لا يخلدون في الدنيا، وأنهم سوف يحاسَبون على ذلك حساباً عسيراً.. {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم}، عظيم في حساباته الدقيقة، وعظيم في رعبه والأهوال التي يواجهونها، وعظيم في المصير الذي يواجههم في ذلك اليوم بسبب ما اقترفوه من أعمال سيئة. ثم يصوّر لنا الله تعالى حجم هذه العظمة: {يوم يقوم الناس لرب العالمين}، يوم يقف الناس بكل أعمالهم وأثقالهم أمام رب العالمين الذي يعلم سرّهم ونجواهم، ويعلم كل ما تخفيه سرائرهم، ليقدّم كل إنسان في ذلك اليوم حسابه، ليقدّم هؤلاء الذين أكلوا أموال الناس بغير حق حسابهم أمام الله.
أوفوا المكيال والميزان بالقسط:
لقد أرسل الله تعالى نبياً إلى قوم يتعاطون هذه العادة وهو "شعيب"، فيقول تعالى:{وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير - الله وسّع عليكم ولستم بحاجة إلى أن تنقصوا المكيال والميزان - وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط* ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين - لأن فقدان التوازن في الحقوق يؤدي إلى فساد الواقع الاقتصادي الذي ينعكس سلباً على الواقع الاجتماعي في علاقات الناس بعضهم ببعض عندما يفقدون العدل في ذلك، وإذا فقد المجتمع العدل فقد أساس النجاة في الأمور كلها - بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ - فالله هو الذي يرزقكم ويمنحكم ما يمكنكم من العيش بسلام وخير، ودوري أن أبلّغكم رسالة الله - قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو نفعل في أموالنا ما نشاء} لم يناقشوه في طبيعة الفكرة التي طرحها أو التحذير الذي حذرهم منه، ولكنهم واجهوه بأن ما نعبده من الأوثان هو عادات آبائنا، أي كانوا يقدسون ما كان عليه آباؤهم من دون مناقشة، ولذلك رفضوا الدخول في الحوار مع النبي!! وكأن عقولهم أُغلقت عن فهم الحقيقة التي يضيء لهم الأنبياء كل جوانبها.
ضوابط التصرف بالمال:
ثم، {أو نفعل في أموالنا ما نشاء}، كانت الفكرة عند قوم شعيب، كما هي الفكرة الموجودة عند كثيرين من الناس، أن الإنسان حرّ في ماله أن يفعل به ما يشاء، حر أن يغش أو يسرق، وبعضهم يقول عنها إنها التجارة، ولكن للتجارة قواعد وقوانين وضوابط، فكلما كنت تاجراً أميناً أكثر كلما وثق الناس بك أكثر، وكلما أعطيت حقوق الناس في تجارتك أكثر كلما استطعت أن تنجح في حركتك الاقتصادية أكثر، لأن التجارة لا تقوم على الشطارة، قد تكون شاطراً لتستغل فرصة غفلة الناس للإيقاع بهم، ولكن الشطارة قد تنفعك يوماً أو أكثر، بينما إذا اكتشف الناس الخلل في أمانتك عند ممارستك شطارتك فإنها ترتد عليك، بينما إذا كنت الأمين على أموال الناس فإن الثقة تمثل أعلى رأس مال لك، فرأس المال ليس هو ما تملكه من مال، ولكنه ما تملكه من صدق وأمانة ومحافظة على الضوابط التي يتحرك فيها الناس.
والله تعالى لم يمنع الإنسان أن يمارس حريته في ماله، ولكنه تعالى وضع له ضوابط في حركة هذا المال، فحرّم عليه أن يفسد حياة الناس بماله أو يأكل أموال الناس بالباطل، وحرّم عليه التجارات التي تسقط المجتمع وتهدم عقله وروحه وإرادته، لذلك علينا أن لا نفهم مسألة الحرية انفلاتاً من الضوابط، ولكنها لا بدّ أن تكون مسؤولة، أن تكون حراً، أن لا تصطدم حريتك بحرية الآخر ولا تجعل حريتك سبباً في إفساد حياة الناس، بل عليك أن تكون كما أراد عليّ (ع): "يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها"، وقد ارتفع النبي (ص) بهذه المسألة حتى اعتبر ميزان الإيمان هو أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها".
"وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان":
وإذا كانت الآية تحدثت عن الكيل والوزن، فإن المسألة تمتد إلى كل حركة التعامل مع الناس، فعندما تبيع أرضاً، عليك أن لا تنقص المشتري من هذه الأرض بأن تأخذ بعض الأمتار لحسابك مستغلاً جهل هذا الإنسان بالمساحة، وهو أمر منتشر هذه الأيام عندنا، أو تكون صاحب محطة بنـزين، وتحاول أن تنقص ما تبيعه للناس، والكثيرون يبررون عملهم بأن العادة جرت على هذا الأساس، ولكن العادة لا تحلّ حراماً. قد تنقصون حقوق الناس عندما يشترون منكم البنـزين أو غيره، ولكن الله تعالى يعرف كيف يوظّف ما حصلتم عليه، في الأمراض التي يمكن أن تأكل كل ثرواتكم، وفي المشاكل والمخاطر التي يمكن أن تعيدكم إلى الصفر، هل سمعتم قصة ذلك الإنسان الذي كان له بقرة يحلبها ويبيع حليبها بعد أن يخلطه بالماء واتسعت أمواله وصار عنده بقر كثير، وجاء سيل وكانت بقراته في الوادي، وأخذها السيل كلها، وبدأ يندب حظه وكان له ولد مؤمن فقال له: يا أبتاه لماذا تبكي، إن الماء الذي مزجت الحليب به تجمّع فصار سيلاً أخذ كل ثروتك!!
وقد كرر القرآن الكريم الاهتمام بهذه المسألة في أكثر من آية، فقال تعالى: {فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم}، {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين}، {وزنوا بالقسطاس المستقيم}، {والسماء رفعها ووضع الميزان* ألاّ تطغوا في الميزان* وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}، وهكذا تمتد المسألة إلى كل حقوق الناس لأن القضية تنطلق من خط العدل، ومن العدل أن تعطي كل ذي حق حقه، فلا تستغل غفلة الناس وسذاجتهم، ولا تستغل قوتك لتأخذ حقوقهم، بعض الناس يستغل جهل وأميّة أمه أو زوجته ليجعلها تبصم على التنازل عن كل ثروتها وكل ما عندها، ألا يحصل أن بعض الناس يستغلون غفلة الكثيرين من الناس الذين لا يعرفون القراءة والكتابة؟ وهكذا، نجد أن كثيراً من الناس يستغلون قوتهم وسيطرتهم على زوجاتهم ليوقّعن لهم على التنازل عن مهورهن وحقوقهن وما يملكن،{ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم* يوم يقوم الناس لرب العالمين}؟؟..
لنحسب حساب الآخرة:
علينا أن نحسب حساب الآخرة لأن الدنيا تموت ونموت فيها، والآخرة دار الحيوان، علينا أن نعرف أن الله تعالى هو الرزّاق{وفي السماء رزقكم وما توعدون}، وأن الله جعل رزقنا في الحلال، وبعض الناس يحاول أن يستعجل الرزق من الحرام فيمنعه الله من الحلال، ويكون إثمه عليه. إن الله يأمر بالعدل والإحسان، ويريدنا أن نكون العادلين مع كل الناس، سواء كانوا مستضعفين أو غير مستضعفين، سواء كانوا من الأقربين أو من الأبعدين، لأن الشطارة هي أن تعرف كيف تحصل على رضى الله والجنة، وكيف تحصل على الأمن في ذلك اليوم{يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}..
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في أموالكم، فلا تأكلوا إلا مالاً حلالاً، فإن الله تعالى جعل البَرَكة في المال الحلال، واتقوا الله في شهواتكم، فلا تمارسوا إلا الشهوة الحلال التي أباحها الله، واتقوا الله في مواقفكم، فلا تقفوا إلا المواقف التي يرضاها الله، واتقوا الله في تأييدكم ورفضكم، فلا تؤيدوا إلا من أراد الله لكم أن تؤيدوه، ولا تخذلوا إلا من أراد الله لكم أن تخذلوه، واعملوا بالصدق وتحركوا في خط الأمانة، أن تكونوا الصادقين مع ربكم وأنفسكم ومع الناس كلهم، وأن تكونوا الأمناء على ما حمّلكم الله من مسؤولية وعلى ما حمّلكم الناس من مسؤولية وعلى ما أعطيتم الناس من المواثيق والعهود..
اتقوا الله وكونوا الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتقف ضد الاستكبار أياً كان الاستكبار، سواء كان دولياً أو شخصياً أو غير ذلك، لأن الله أعدّ للمستكبرين نار جهنم خالدين فيها، ولتكن تقوى الله في كل حياتنا هي القاعدة التي ننطلق فيها. ومن تقوى الله أن لا نؤيد المستكبرين ولا نتحرك مع الظالمين، وأن نقف مع المستضعفين في حقوقهم العامة والخاصة، وأن ننصر المظلومين سواء على مستوى فردي أو جماعي، وأن نتحمّل مسؤوليتنا عن الإسلام كله والمسلمين كلهم، وأن نواجه كل الواقع السياسي الذي يتدخل في مصيرنا.. وفي هذا المجال، لا بدّ لنا أن نطلّ في مواقفنا على ما يحوطنا ويحيط بنا من مشاكل، فماذا هناك؟
العدو يدخل الفلسطينيين في متاهات:
لقد تابع العالم الكسوف الطبيعي للشمس بكل اهتمام، للتعـرّف على أشكالـه وألوانه ونتـائجه، وكان الـعالم العربي - والفلسطيني بالذات - يعيش حالة الكسوف السياسي في مواجهة الصهيونية. ففي فلسطين، تتحرك اللعبة السياسية للعدو من أجل متابعة تقطيع الوقت، وإدخال الفلسطينيين في متاهات تواريخ الانسحاب بين أيلول وتشرين وشباط، مع إغلاق مناطق شاسعة في الضفة الغربية وقطاع غزة على أهلها، وإرسال الجنود لهدم منـزلين يعودان لعائلتين فلسطينيتين بحجة أنهما شيّدا من دون رخصة، مع حملة ضد السلطة الفلسطينية لفشلها في حفظ الأمن في مناطق سيطرتها، والعودة إلى الحديث عن ضرورة تنفيذها للشروط الإسرائيلية في مواجهة الشعب الفلسطيني باعتقال قيادات الانتفاضة وجمع السلاح والتنسيق مع الأمن الإسرائيلي والأمريكي في ملاحقة المجاهدين..
خضوع أمريكي لإسرائيل:
وتقف أمريكا في كل هذا الجو لتخضع لإسرائيل، فتؤجل وزيرة الخارجية الأمريكية زيارتها إلى فلسطين حتى لا تحرج "باراك" في استعجالها تنفيذ اتفاق "واي"، ولتترك له الحرية في البدء بالتنفيذ في الوقت الذي يريده، لتكـون زيارتها - كعادة الزيارات الأمريكية - في الوقت المناسب لإسرائيل للقيام بضغوط جديدة ضد السلطة الفلسطينية وسوريا ولبنان، وليس هناك موقف عربي موحّد في مواجهة الموقف الإسرائيلي والأمريكي، بل إننا نلاحظ وجود ضعف عربي وكسوف سياسي في أكثرية المواقع، من دون أن يتحوّل هذا الكسوف للعودة إلى الوضع الطبيعي للواقع.
دعوة لعودة الانتفاضة:
إننا نلاحظ في حركة الشباب الفلسطيني انتفاضة جنينية مستقبلية تتحرك في موقع هنا وموقع هناك ضد كل التعسف الصهيوني والضعف العرفاتي والتنازل العربي، ونريد للمعارضة الفلسطينية في الداخل والخارج أن تخطط لعودة الانتفاضة إلى الساحة، ولتعطيل كل الخطط التي تريد لفلسطين أن تسقط تحت تأثير الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والسقوط السياسي في الساحة العربية، فإن المرحلة الحاضرة هي مرحلة النهاية للقضية في الواقع السياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ضغوط تستهدف الموقف السوري ـ اللبناني:
وإلى جانب ذلك، قد يواجه الموقف السوري - اللبناني بعض الضغط من أمريكا في زيارة وزيرة خارجيتها المرتقبة، تحت شعار تسهيل حركة "باراك" من أجل السلام، والعمل على أساس الواقعية السياسية في تقديم التنازلات في المفاوضات لحساب إسرائيل.. وفي هذا الجو، يستمر الحديث الصهيوني عن الصواريخ السورية التي تعمل سوريا على تطويرها بمساعدة إيرانية، وتصوير هذه الصواريخ وكأنها القوة الخارقة التي تستطيع تدمير الكيان الصهيوني، كأسلوب من أساليب الضغط المستمر ضد سوريا، وكمحاولة لاستمالة المزيد من العطف الدولي بالإشعار بأن هذا الكيان لا يزال مهدداً من جيرانه وهو الذي يملك أحدث ترسانات الأسلحة في العالم!
وتستمر إسرائيل في الاعتداءات على الجنوب، في حركة الضغط الميداني التي تترافق مع الضغوط السياسية والتهديدات المستمرة التي يطلقها المسؤولون الصهاينة، في الوقت الذي تعترف فيه إسرائيل بحصارها لـ"عيثا الشعب" و"بنت جبيل" ومحاولة وضع ذلك في إطار تعامل أهلنا هناك مع المقاومة، مما أدى إلى اعتقالات واسعة في صفوف المدنيين..
المقاومة تنجح في طرد الاحتلال:
وبهذه المناسبة، لا بدّ من الإشارة - في ضوء تراجع العدو أمام ضربات المجاهدين - إلى انسحاب جنود الاحتلال من موقع "القنطرة"، والذي سوف تتبعه انسحابات أخرى، مما يوحي بأن حركة المقاومة قد نجحت في ممارسة الضغط على الاحتلال بطريقة وبأخرى، الأمر الذي جعله يتحدث عن الانسحاب من لبنان في توقيت محدد كـ"بشارة" لجنوده وعملائه في الخروج من المأزق، وهذا هو الذي يؤكد قناعتنا بأن مواجهة المجاهدين للعدّو هي الطريقة الوحيدة لفرض الانسحاب عليه، من خلال تحويل احتلاله إلى مأزق سياسي وأمني لكيانه في الداخل والخارج..
لنخرج السياسة من دائرة اللعبة إلى دائرة الرسالة:
ونصل إلى الداخل اللبناني لنؤكد حاجة لبنان إلى المزيد من الوحدة في الموقف في مواجهة التحديات، والبُعد عن المهاترات، والانفتاح على عملية الوفاق السياسي العام، من أجل مواكبة حركة الإصلاح وترشيدها وتهيئة كل الوسائل السياسية والقضائية لإنجاحها على خط العدل، وتركيز مسألة المحاسبة لكل الذين أفسدوا البلاد وظلموا العباد، وإيقاف الهدر، من دون أن يكون هناك تمييز بين كبير وصغير أو مراعاة لمركز قوة هنا ومركز قوة هناك، ليكون الشعب وحده هو مركز القوة..
إننا ندعو الوسط السياسي كله، الذي حكم في الماضي ويحكم في الحاضر، إلى أن يدقق في شعاراته السياسية الإصلاحية، ليراجع موقفه على أساس كل المفردات في مواقف الصدق أمام الاستحقاقات.. أيها المسؤولون: أخرجوا السياسة من دائرة اللعبة إلى دائرة الرسالة، وأبعدوا الواقع السياسي في البلد عن كل أساليب المهاترات التي تضع العصي في الدواليب، في عملية تسجيل النقاط وتعطيل عملية التغيير، فقد تعب الشعب من كل اللاعبين في حركة طموحاتهم الذاتية ومواقعهم الاستغلالية، ويريد أن يرتاح من ذلك كله، ليدخل في المستقبل من الباب الكبير للعدالة والحرية والصدق والأمانة على كل صعيد.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
ويل للمطففين:
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {ويل للمطففين* الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون *ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم* يوم يقوم الناس لربّ العالمين}..
هذه السورة تبدأ بالحديث عن المطففين الذين بيَّن الله صفاتهم في قوله: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون *وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسِرون}، يعني إذا أرادوا أن يشتروا شيئاً فإنهم يأخذون حقهم وافياً غير منقوص، ولكنهم إذا باعوا الناس فإنهم ينقصون حقوقهم، والله تعالى يُنذر هؤلاء الذين ينقصون من حقوق الناس فيعطونهم أقل مما يستحقون، ليؤكد لهم أنهم لا يخلدون في الدنيا، وأنهم سوف يحاسَبون على ذلك حساباً عسيراً.. {ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم}، عظيم في حساباته الدقيقة، وعظيم في رعبه والأهوال التي يواجهونها، وعظيم في المصير الذي يواجههم في ذلك اليوم بسبب ما اقترفوه من أعمال سيئة. ثم يصوّر لنا الله تعالى حجم هذه العظمة: {يوم يقوم الناس لرب العالمين}، يوم يقف الناس بكل أعمالهم وأثقالهم أمام رب العالمين الذي يعلم سرّهم ونجواهم، ويعلم كل ما تخفيه سرائرهم، ليقدّم كل إنسان في ذلك اليوم حسابه، ليقدّم هؤلاء الذين أكلوا أموال الناس بغير حق حسابهم أمام الله.
أوفوا المكيال والميزان بالقسط:
لقد أرسل الله تعالى نبياً إلى قوم يتعاطون هذه العادة وهو "شعيب"، فيقول تعالى:{وإلى مدين أخاهم شعيباً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير - الله وسّع عليكم ولستم بحاجة إلى أن تنقصوا المكيال والميزان - وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط* ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين - لأن فقدان التوازن في الحقوق يؤدي إلى فساد الواقع الاقتصادي الذي ينعكس سلباً على الواقع الاجتماعي في علاقات الناس بعضهم ببعض عندما يفقدون العدل في ذلك، وإذا فقد المجتمع العدل فقد أساس النجاة في الأمور كلها - بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ - فالله هو الذي يرزقكم ويمنحكم ما يمكنكم من العيش بسلام وخير، ودوري أن أبلّغكم رسالة الله - قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو نفعل في أموالنا ما نشاء} لم يناقشوه في طبيعة الفكرة التي طرحها أو التحذير الذي حذرهم منه، ولكنهم واجهوه بأن ما نعبده من الأوثان هو عادات آبائنا، أي كانوا يقدسون ما كان عليه آباؤهم من دون مناقشة، ولذلك رفضوا الدخول في الحوار مع النبي!! وكأن عقولهم أُغلقت عن فهم الحقيقة التي يضيء لهم الأنبياء كل جوانبها.
ضوابط التصرف بالمال:
ثم، {أو نفعل في أموالنا ما نشاء}، كانت الفكرة عند قوم شعيب، كما هي الفكرة الموجودة عند كثيرين من الناس، أن الإنسان حرّ في ماله أن يفعل به ما يشاء، حر أن يغش أو يسرق، وبعضهم يقول عنها إنها التجارة، ولكن للتجارة قواعد وقوانين وضوابط، فكلما كنت تاجراً أميناً أكثر كلما وثق الناس بك أكثر، وكلما أعطيت حقوق الناس في تجارتك أكثر كلما استطعت أن تنجح في حركتك الاقتصادية أكثر، لأن التجارة لا تقوم على الشطارة، قد تكون شاطراً لتستغل فرصة غفلة الناس للإيقاع بهم، ولكن الشطارة قد تنفعك يوماً أو أكثر، بينما إذا اكتشف الناس الخلل في أمانتك عند ممارستك شطارتك فإنها ترتد عليك، بينما إذا كنت الأمين على أموال الناس فإن الثقة تمثل أعلى رأس مال لك، فرأس المال ليس هو ما تملكه من مال، ولكنه ما تملكه من صدق وأمانة ومحافظة على الضوابط التي يتحرك فيها الناس.
والله تعالى لم يمنع الإنسان أن يمارس حريته في ماله، ولكنه تعالى وضع له ضوابط في حركة هذا المال، فحرّم عليه أن يفسد حياة الناس بماله أو يأكل أموال الناس بالباطل، وحرّم عليه التجارات التي تسقط المجتمع وتهدم عقله وروحه وإرادته، لذلك علينا أن لا نفهم مسألة الحرية انفلاتاً من الضوابط، ولكنها لا بدّ أن تكون مسؤولة، أن تكون حراً، أن لا تصطدم حريتك بحرية الآخر ولا تجعل حريتك سبباً في إفساد حياة الناس، بل عليك أن تكون كما أراد عليّ (ع): "يا بني، اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها"، وقد ارتفع النبي (ص) بهذه المسألة حتى اعتبر ميزان الإيمان هو أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك، فقال: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ويكره له ما يكره لها".
"وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان":
وإذا كانت الآية تحدثت عن الكيل والوزن، فإن المسألة تمتد إلى كل حركة التعامل مع الناس، فعندما تبيع أرضاً، عليك أن لا تنقص المشتري من هذه الأرض بأن تأخذ بعض الأمتار لحسابك مستغلاً جهل هذا الإنسان بالمساحة، وهو أمر منتشر هذه الأيام عندنا، أو تكون صاحب محطة بنـزين، وتحاول أن تنقص ما تبيعه للناس، والكثيرون يبررون عملهم بأن العادة جرت على هذا الأساس، ولكن العادة لا تحلّ حراماً. قد تنقصون حقوق الناس عندما يشترون منكم البنـزين أو غيره، ولكن الله تعالى يعرف كيف يوظّف ما حصلتم عليه، في الأمراض التي يمكن أن تأكل كل ثرواتكم، وفي المشاكل والمخاطر التي يمكن أن تعيدكم إلى الصفر، هل سمعتم قصة ذلك الإنسان الذي كان له بقرة يحلبها ويبيع حليبها بعد أن يخلطه بالماء واتسعت أمواله وصار عنده بقر كثير، وجاء سيل وكانت بقراته في الوادي، وأخذها السيل كلها، وبدأ يندب حظه وكان له ولد مؤمن فقال له: يا أبتاه لماذا تبكي، إن الماء الذي مزجت الحليب به تجمّع فصار سيلاً أخذ كل ثروتك!!
وقد كرر القرآن الكريم الاهتمام بهذه المسألة في أكثر من آية، فقال تعالى: {فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم}، {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين}، {وزنوا بالقسطاس المستقيم}، {والسماء رفعها ووضع الميزان* ألاّ تطغوا في الميزان* وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}، وهكذا تمتد المسألة إلى كل حقوق الناس لأن القضية تنطلق من خط العدل، ومن العدل أن تعطي كل ذي حق حقه، فلا تستغل غفلة الناس وسذاجتهم، ولا تستغل قوتك لتأخذ حقوقهم، بعض الناس يستغل جهل وأميّة أمه أو زوجته ليجعلها تبصم على التنازل عن كل ثروتها وكل ما عندها، ألا يحصل أن بعض الناس يستغلون غفلة الكثيرين من الناس الذين لا يعرفون القراءة والكتابة؟ وهكذا، نجد أن كثيراً من الناس يستغلون قوتهم وسيطرتهم على زوجاتهم ليوقّعن لهم على التنازل عن مهورهن وحقوقهن وما يملكن،{ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون* ليوم عظيم* يوم يقوم الناس لرب العالمين}؟؟..
لنحسب حساب الآخرة:
علينا أن نحسب حساب الآخرة لأن الدنيا تموت ونموت فيها، والآخرة دار الحيوان، علينا أن نعرف أن الله تعالى هو الرزّاق{وفي السماء رزقكم وما توعدون}، وأن الله جعل رزقنا في الحلال، وبعض الناس يحاول أن يستعجل الرزق من الحرام فيمنعه الله من الحلال، ويكون إثمه عليه. إن الله يأمر بالعدل والإحسان، ويريدنا أن نكون العادلين مع كل الناس، سواء كانوا مستضعفين أو غير مستضعفين، سواء كانوا من الأقربين أو من الأبعدين، لأن الشطارة هي أن تعرف كيف تحصل على رضى الله والجنة، وكيف تحصل على الأمن في ذلك اليوم{يوم لا ينفع مال ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}..
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في أموالكم، فلا تأكلوا إلا مالاً حلالاً، فإن الله تعالى جعل البَرَكة في المال الحلال، واتقوا الله في شهواتكم، فلا تمارسوا إلا الشهوة الحلال التي أباحها الله، واتقوا الله في مواقفكم، فلا تقفوا إلا المواقف التي يرضاها الله، واتقوا الله في تأييدكم ورفضكم، فلا تؤيدوا إلا من أراد الله لكم أن تؤيدوه، ولا تخذلوا إلا من أراد الله لكم أن تخذلوه، واعملوا بالصدق وتحركوا في خط الأمانة، أن تكونوا الصادقين مع ربكم وأنفسكم ومع الناس كلهم، وأن تكونوا الأمناء على ما حمّلكم الله من مسؤولية وعلى ما حمّلكم الناس من مسؤولية وعلى ما أعطيتم الناس من المواثيق والعهود..
اتقوا الله وكونوا الأمة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتقف ضد الاستكبار أياً كان الاستكبار، سواء كان دولياً أو شخصياً أو غير ذلك، لأن الله أعدّ للمستكبرين نار جهنم خالدين فيها، ولتكن تقوى الله في كل حياتنا هي القاعدة التي ننطلق فيها. ومن تقوى الله أن لا نؤيد المستكبرين ولا نتحرك مع الظالمين، وأن نقف مع المستضعفين في حقوقهم العامة والخاصة، وأن ننصر المظلومين سواء على مستوى فردي أو جماعي، وأن نتحمّل مسؤوليتنا عن الإسلام كله والمسلمين كلهم، وأن نواجه كل الواقع السياسي الذي يتدخل في مصيرنا.. وفي هذا المجال، لا بدّ لنا أن نطلّ في مواقفنا على ما يحوطنا ويحيط بنا من مشاكل، فماذا هناك؟
العدو يدخل الفلسطينيين في متاهات:
لقد تابع العالم الكسوف الطبيعي للشمس بكل اهتمام، للتعـرّف على أشكالـه وألوانه ونتـائجه، وكان الـعالم العربي - والفلسطيني بالذات - يعيش حالة الكسوف السياسي في مواجهة الصهيونية. ففي فلسطين، تتحرك اللعبة السياسية للعدو من أجل متابعة تقطيع الوقت، وإدخال الفلسطينيين في متاهات تواريخ الانسحاب بين أيلول وتشرين وشباط، مع إغلاق مناطق شاسعة في الضفة الغربية وقطاع غزة على أهلها، وإرسال الجنود لهدم منـزلين يعودان لعائلتين فلسطينيتين بحجة أنهما شيّدا من دون رخصة، مع حملة ضد السلطة الفلسطينية لفشلها في حفظ الأمن في مناطق سيطرتها، والعودة إلى الحديث عن ضرورة تنفيذها للشروط الإسرائيلية في مواجهة الشعب الفلسطيني باعتقال قيادات الانتفاضة وجمع السلاح والتنسيق مع الأمن الإسرائيلي والأمريكي في ملاحقة المجاهدين..
خضوع أمريكي لإسرائيل:
وتقف أمريكا في كل هذا الجو لتخضع لإسرائيل، فتؤجل وزيرة الخارجية الأمريكية زيارتها إلى فلسطين حتى لا تحرج "باراك" في استعجالها تنفيذ اتفاق "واي"، ولتترك له الحرية في البدء بالتنفيذ في الوقت الذي يريده، لتكـون زيارتها - كعادة الزيارات الأمريكية - في الوقت المناسب لإسرائيل للقيام بضغوط جديدة ضد السلطة الفلسطينية وسوريا ولبنان، وليس هناك موقف عربي موحّد في مواجهة الموقف الإسرائيلي والأمريكي، بل إننا نلاحظ وجود ضعف عربي وكسوف سياسي في أكثرية المواقع، من دون أن يتحوّل هذا الكسوف للعودة إلى الوضع الطبيعي للواقع.
دعوة لعودة الانتفاضة:
إننا نلاحظ في حركة الشباب الفلسطيني انتفاضة جنينية مستقبلية تتحرك في موقع هنا وموقع هناك ضد كل التعسف الصهيوني والضعف العرفاتي والتنازل العربي، ونريد للمعارضة الفلسطينية في الداخل والخارج أن تخطط لعودة الانتفاضة إلى الساحة، ولتعطيل كل الخطط التي تريد لفلسطين أن تسقط تحت تأثير الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والسقوط السياسي في الساحة العربية، فإن المرحلة الحاضرة هي مرحلة النهاية للقضية في الواقع السياسي على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ضغوط تستهدف الموقف السوري ـ اللبناني:
وإلى جانب ذلك، قد يواجه الموقف السوري - اللبناني بعض الضغط من أمريكا في زيارة وزيرة خارجيتها المرتقبة، تحت شعار تسهيل حركة "باراك" من أجل السلام، والعمل على أساس الواقعية السياسية في تقديم التنازلات في المفاوضات لحساب إسرائيل.. وفي هذا الجو، يستمر الحديث الصهيوني عن الصواريخ السورية التي تعمل سوريا على تطويرها بمساعدة إيرانية، وتصوير هذه الصواريخ وكأنها القوة الخارقة التي تستطيع تدمير الكيان الصهيوني، كأسلوب من أساليب الضغط المستمر ضد سوريا، وكمحاولة لاستمالة المزيد من العطف الدولي بالإشعار بأن هذا الكيان لا يزال مهدداً من جيرانه وهو الذي يملك أحدث ترسانات الأسلحة في العالم!
وتستمر إسرائيل في الاعتداءات على الجنوب، في حركة الضغط الميداني التي تترافق مع الضغوط السياسية والتهديدات المستمرة التي يطلقها المسؤولون الصهاينة، في الوقت الذي تعترف فيه إسرائيل بحصارها لـ"عيثا الشعب" و"بنت جبيل" ومحاولة وضع ذلك في إطار تعامل أهلنا هناك مع المقاومة، مما أدى إلى اعتقالات واسعة في صفوف المدنيين..
المقاومة تنجح في طرد الاحتلال:
وبهذه المناسبة، لا بدّ من الإشارة - في ضوء تراجع العدو أمام ضربات المجاهدين - إلى انسحاب جنود الاحتلال من موقع "القنطرة"، والذي سوف تتبعه انسحابات أخرى، مما يوحي بأن حركة المقاومة قد نجحت في ممارسة الضغط على الاحتلال بطريقة وبأخرى، الأمر الذي جعله يتحدث عن الانسحاب من لبنان في توقيت محدد كـ"بشارة" لجنوده وعملائه في الخروج من المأزق، وهذا هو الذي يؤكد قناعتنا بأن مواجهة المجاهدين للعدّو هي الطريقة الوحيدة لفرض الانسحاب عليه، من خلال تحويل احتلاله إلى مأزق سياسي وأمني لكيانه في الداخل والخارج..
لنخرج السياسة من دائرة اللعبة إلى دائرة الرسالة:
ونصل إلى الداخل اللبناني لنؤكد حاجة لبنان إلى المزيد من الوحدة في الموقف في مواجهة التحديات، والبُعد عن المهاترات، والانفتاح على عملية الوفاق السياسي العام، من أجل مواكبة حركة الإصلاح وترشيدها وتهيئة كل الوسائل السياسية والقضائية لإنجاحها على خط العدل، وتركيز مسألة المحاسبة لكل الذين أفسدوا البلاد وظلموا العباد، وإيقاف الهدر، من دون أن يكون هناك تمييز بين كبير وصغير أو مراعاة لمركز قوة هنا ومركز قوة هناك، ليكون الشعب وحده هو مركز القوة..
إننا ندعو الوسط السياسي كله، الذي حكم في الماضي ويحكم في الحاضر، إلى أن يدقق في شعاراته السياسية الإصلاحية، ليراجع موقفه على أساس كل المفردات في مواقف الصدق أمام الاستحقاقات.. أيها المسؤولون: أخرجوا السياسة من دائرة اللعبة إلى دائرة الرسالة، وأبعدوا الواقع السياسي في البلد عن كل أساليب المهاترات التي تضع العصي في الدواليب، في عملية تسجيل النقاط وتعطيل عملية التغيير، فقد تعب الشعب من كل اللاعبين في حركة طموحاتهم الذاتية ومواقعهم الاستغلالية، ويريد أن يرتاح من ذلك كله، ليدخل في المستقبل من الباب الكبير للعدالة والحرية والصدق والأمانة على كل صعيد.