في الفلس (الافلاس)

في الفلس (الافلاس)

يراد بـ (الفَلَس): (حالة عجز المدين عن وفاء ديونه الكثيرة الزائدة على ما يملكه من أموال غير محتاج إليها في معاشه)؛ ومرادنا بالأموال التي لا يحتاج إليها في معاشه، هو:كل ما يدخل في عنوان (مستثنيات الدين) من دار وأثاث وسيارة ونحوها، مما سيأتي بيانه لاحقاً. وحيث يتحقّق الفلس فانه يقال لمن كانت هذه الحالة فيه: (مُفلِّساً)، كما يقال لدائنه أو دائنيه: (غريم وغرماء). وتفصيل أحكام هذه الحالة يقع في مسائل:

ـ إذا تسامح الدائنون مع المفلس، فأبرأوا ذمته مما عليه أو انتظروا يساره فلم يطالبوه، كان خيراً؛ وأما إذا ألح بعضهـم ـ أو جميعهم ـ عليه بالوفاء مما عنده من أموال، فتوافق معهم على حل مرضٍ يعطي ـ على أساسه ـ كل واحد منهم بعض مالَه عنده، على أن يكفوا عن مطالبته بالباقي إلى حين القدرة أو يبرأوه منه، كان خيراً أيضاً؛ وإلا جاز لهم أن يَحْجُروا عليه بالنحو الذي سيأتي.

ـ (الحَجْر) هو: (منع المالك من التصرف بأمواله لأسباب متعددة، كالصغر والجنون والفلس وغيرها). وكنا قد ذكرنا ما عدا الفلس من أسباب الحجر في مباحث (المدخل) من الجزء الثاني (أنظر ص: 23) وأجّلنا الحديث عن الحجر بالفلس إلى محله هنا في باب الدين، فنقول: لا يتحقّق الحجر بالفلس إلا عند توفر أمور:

الأول: أن تكون الديون ثابتة عليه شرعاً، فلو كان بعضها مورد تنازع وبعضها ثابت، وكانت أمواله غير قاصرة عن الوفاء بالثابت، لم يُحجر عليه في حينه.

الثاني: أن تكون جميع الديون التي يَقْصُر مالُه عن الوفاء بها، حالّة؛ فلو كان بعضها مؤجلاً لم يحجر عليه، حتى لو كانت أمواله قاصرة عنها حين حلولها.

الثالث: أن يطلب الغرماء كلهم، أو بعضهم ـ إذا كان دين ذلك البعض من الكثرة بحدٍ تقصر أمـوال المفلس عن الوفاء به ـ من الحاكم الشرعي إيقاع الحجر على أمواله؛ فليس للغرمـاء أن يقوموا هم ـ دون الحاكم ـ بالحجر، كما أنه ليس للحاكم أن يستقل بإيقاعه إلا أن يكون هو من الغرماء، أو يكون ولياً عن بعضهم بيُتْم أو جنون، ويكون دينه ـ وحْدَه ـ مما تقصر عنه أموال المدين.

ـ إذا أمـر الحاكـم بالحجـر علـى المفلـس لـم يجـز له ـ منذئذ ـ التصرّف بأمواله على شتى أنواعها، من الأعيان والمنافع والديون ونحوها مما له مالية، بعوض كان التصرف، كالبيع والإجارة، أو بغير عوض، كالوقف والهبة والإبراء، وصارت جميعها متعلقاً لحق الغرماء ليُوفي منها بعض ديونهم؛ أما قبل الأمر بالحجر فإن تصرفاته ـ رغم كونه مفلساً ـ صحيحة ونافذة، بما في ذلك ما لو كان العقد غير لازم بمثل الخيار، فإنه لا يجب عليه حين إذْ حَجَّر الحاكم عليه أن يرجع بالعقد، بل يجوز له إمضاء البيـع ـ مثـلاً ـ وإسقاط خياره ما دام قد صدر منه البيع قبل الحجر. نعم إذا أخرج أمواله ـ جميعها ـ عن ملكه بصلح أو هبة بقصد الفرار من حق الدُّيان بعد إفلاسه وقبل الحكم بالحجر عليه ـ وبخاصة إذا لم يَرْجُ حصول مال آخر له لوفاء ديونه ـ فإنه يشكل الحكم بصحة تصرفه.

ـ ينفذ الحجْر ـ حتماً ـ في أمواله الموجودة حين إيقاعه، فإذا تجدد له مال بعد الحجر بمثل الميراث والهبة والحيازة ونحوها، كان حكمه على نحوين:
1 ـ أن يصير به قادراً على الوفاء للغرماء، فيبطل الحجر الصادر بحقه، وتعود إليه أهلية التصرف بماله، ويجب عليه الوفاء لدائنيه بالنحو الذي ذكرناه في مبحث وفاء الدين.

2 ـ أن يبقى ما عنده من أمـوال ـ بمـا فيها المستجدة ـ قاصراً عن الوفاء بدينه؛ فلا يكون المال الجديد مشمولاً للحجر الصادر قبل تملكه له، نعم يجوز للغرماء مطالبة الحاكم بإيقاع الحجر على المال الجديد وضمه لأمواله الأخرى المحجور عليها.

ـ يتساوى جميع الغرماء في لزوم أن يأخذ كل واحد منهم بعض دينه بنسبة حصته كمـا سيأتـي بيانـه، فلا يجـوز ـ بعـد الحجـر ـ أن يسبق أحد الغرماء زملاءه فيأخذ كامل حصته، مقاصة أو برضا المدين، بل ولا يجوز للمدين أن يؤثره بذلك على سائر الغرماء؛ من دون فرق في ذلك بين غرماء المفلس الحي أو الميت، ومن دون فرق في غرماء المفلس الميت بين من كانت عين دينه موجودة في التركة أو غير موجودة، فلا يشملها ما سبق ذكره في مبحث (وفاء الدين، المسألة: 138) من أن: «للدائن أن يأخذ عين دينه إذا وجدها في تركة الميت»، لأننا قد اشترطنا في جوازه ـ هناك ـ أن لا يضر أخذها بتمام حق سائر الغرماء، وهو شرط مفقود هنا، فلا بد لغريم الميت المفلس من مشاركة سائر الغرماء في القسمة، وترك أخذ عين دينه إلا أن يكون قد باعه إياها في الذمة فإن له استردادها ـ حينئذ ـ بخيار التفليس. (أنظر المسألة: 190، فقرة «ثالثاً»).

ـ ينحصر حق الاستيفاء ـ من الأموال الموجودة ـ بمن هو من غرمائه حين إيقاع الحجر، فلا يشاركه من يتجدد بعده بمثل اقتراض المفلس منه أو شرائه منه في الذمة أو نحوه، ولا من يقر له المفلس ـ بعد الحجر ـ بدين سابق أو عين، رغم نفوذ الإقرار في حق نفسه وتعلق حق للمُقَر له على هذا المفلِّس المقر، بحيث يجب عليه الوفاء له بمضمون إقراره فيما بعد بالنحو المناسب. نعم إذا ظهر بعد القسمة من له حق الاستيفاء من الغرماء انتقضت القسمة وشاركهم الغريم الوافد في أموال المفلس بنسبة حصته.

ـ إذا حكم الحاكم بالحجر على المفلس، ورغب الغرماء بأخذ حصصهم بما يساويها من النقد، أمره الحاكم بجلب أمواله من مظانها وفعل مقدمات ذلك، كبيع الأعيان وإحضار أثمانها، واستيفاء ما لَهُ من ديون، وإحضار عوض ما لَهُ من منافع، والقيام بغير ذلك مما هو ضروري لإيصال حصة كل دائن؛ فإن أبى القيام بذلك، وطلب الغرماء من الحاكم القيام به، قام الحاكم بكل ما هو ضروري لإحصاء أمواله وجلبها وتحويلها إلى نقد؛ ثم تقسم هذه الأموال بين الغرماء فيعطى كل واحد منهم حصةً هي بمقدار نسبة دينه إلى مجموع الديون، فمن كان دينه ـ مثلاً ـ ربع مجموع الديون المطلوبة من المفلس كان له الربع من المال الموجود عنده، وهكذا سائر الغرماء.

هذا، وإن للغرماء أن لا يطلبوا بيع الأعيان التي عنده، بل يتراضون فيما بينهم على توزيع هذه الأموال ـ أعياناً وغيرها ـ عليهم على ما هي موجودة عليه، فيأخذ بعضهم مقابل حصته سيارة، والآخر مقداراً من النقد، والثالث منفعة عين تحت يده، وهكذا.

وكيفما يتراض الغرماء فيما بينهم، ينفذ، وليس للمفلس فيه رأي ولا له حق الإعتراض، فإن اختلف الغرماء في كيفية اقتسام المال على حصصهم فض الحاكم النزاع بينهم بالنحو الذي يراه، ولو لم يطلبوا منه ذلك بخصوصه.

وإذا تم هذا الأمر وقسمت أموال المفلس على الغرماء زال الحجر عنه وصحت تصرفاته فيما يستجد له من مال بعد ذلك.

ـ لا تبرأ ذمة المفلِّس مما يبقى عليه من ديون بالحجر عليه وتقسيم أمواله، بل يجب عليه الوفاء بالباقي عند قدرته عليه، ولو بعد مدة طويلة، بل حتى بعد موت المفلس، فإنَّ على ورثته الوفاء من تركته قبل توزيعها على الوصية والورَّاث.

ـ لا يختلف حكم المفلس عن غيره من المدينين في لزوم استثناء ما هو من ضرورات معاشه من أمواله، كداره وأثاثه وسيارته ونحوها مما ذكرناه سابقاً في مبحث (وفاء الدين)، فلا يحجر عليها ولا يجوز للدائنين أخذها في قبال ديونهم ولا إلزام المفلس بدفعها لهم؛ لكن ينبغي الإلفات إلى أنه لا يستثنى من أمواله ـ ما يحتاجه في نفقته العادّية من طعام وشراب وكسوة ونحوها ـ إلا ما هو بحاجة إليه إلى حين تقسيم أمواله، فلا يستثنى حين التقسيم مقدار نفقته لشهر أو سنة، بل يؤخذ جميع ماله ـ حينئذ ـ ولا يترك له شيء منه لنفقته، إذ إنه بعد ذلك يستأنف عمله وإنتاجه لتحصيل معاشه. (أنظر المسألة: 142).

وفي هذا الصدد، لو مات المفلس بعد الحجر عليه وقبل قسمة أمواله أخذ منها كفنه وسائر مؤنة تجهيزه من السدر والكافور وغيرهما وقُدِّم على حقوق الغرماء، والأحوط استحباباً الاقتصار على المقدار الواجب، وإن كان القول باعتبار المتعارف بالنسبة إلى أمثاله لا يخلو من قوة.

تفريع: في أفضلية بعض الغرماء أو (خيار التفليس)

وفيه مسائل:
ـ قد صار معلوماً أن أموال المفلس توزع على الغرماء بنسبة حصة كل واحد منهم من مجموع الديون إلى مجموع الأموال الموجودة، فلا يجوز لواحد منهم استباق الآخرين بعد الحجر على المفلس إلى أخذ حصته كاملة؛ ويستثنى من ذلك عدد من الغرماء جعلت لهم الشريعة أفضلية على غيرهم في حالات خاصة، وهو ما نبيّنه على النحو التالي:

أولاً:
إذا تعلق بالمال الموجود حق شرعي من الزكاة أو الخمس، وجب ـ حينئذ ـ إخراج مقدار الزكاة والخمس قبل قسمته، أما إذا كان الحق الشرعي ديناً في ذمته مستحقاً عليه سابقاً دون أن يكون له تعلق بعين المال الموجود فإنه يُشرك في القسمة كسائر الديّان؛ دون فرق في ذلك بين المفلس الحي أو الميت.

ثانياً: إذا كانت بعض الأعيان الموجودة مرهونة لأحد الغرماء، كان ذلك الغريم أولى بها، فيأخذ منها تمام مقدار دينه ويدع الزائد لسائر الغرماء.
ثالثاً: إذا كان في أمـوال المفلس عين اشتراهـا في الذمـة، كان البائع ـ بعد إفلاس المشتري ـ بالخيار بين فسخ البيع وأخذ عين ماله وبين إمضاء البيع ومشاركة الغرماء في القسمة، وهذا هو ما يقال له: (خيار التفليس) الذي فضّلنا ذكره هنا في مباحث الدين على ذكره في مباحث البيع؛ وكما يثبت خيار التفليس في البيع فإنه يثبت بنفس النحو للمقرض إذا وجد عين ماله بين أموال المفلس، ويتخير بين الرجوع في القرض وفسخه وأخذ العين، وبين إمضاء القرض والمشاركة في القسمة؛ كذلك فإنه يثبت في الإجارة بالنحو الذي سبق ذكره في مباحث الإجارة، (أنظر المسألة: 257 من الجزء الثاني).

ـ لا بد لثبوت (خيار التفليس) في البيع والقرض من توفر أمور:

الأول: أن يكون الدين حالاًّ، أو مؤجلاً وقد حل قبل القسمة، فإن كان مؤجلاً إلى ما بعد القسمة لم يكن له الرجوع بالعين.
الثاني: أن لا تكون العين من مستثنيات الدين التي لا تدخل في القسمة عند الحجر، كداره أو سيارته أو نحوهما، فإن كانت كذلك لم يكن له الرجوع فيها.

الثالث: أن تبقى العين كما هي، فلو تغيرت بما لا يبقى معه عنوان العين السابق لم يكن له الرجوع بها، وذلك كما لو زرع الحب أو استفرخ البيض، أو نما عنده نمواً مغيراً لعنوانه، كأن صار الفرخ دجاجة، أو اختلطت العين بمال آخر للمشتري المفلس بنحو يعدّ معه تالفاً، كاختلاط ماء الورد بالماء، أو يكون الاختلاط موجباً للشركة، كاختلاط الزيت بزيت آخر، ونحو ذلك من وجوه التغير المزيل للعنوان. أما إذا لم يكن التغير موجباً لزوال العنوان فإنه لا يضر ببقاء خيار التفليس، وذلك كما لو تعيبت العين، أو قصَّر الثوب أو صبغه، أو أحدث بناءً في الأرض أو زرعاً، أو نحو ذلك.

ـ إذا استرجع البائع ـ أو المقرض ـ العين بخيار التفليس، فما نتج عنها ـ قبل إرجاعها ـ من زيادة منفصلة فعلاً، كالولد والبيض والصوف والثمر، فهي لمن كانت تحت يده، أي للمشتري المفلس، وكذا حكم الزيادة المتصلة القابلة للانفصال، كالجنين قبل تولده والثمر قبل اقتطافه ونحو ذلك؛ أما الزيادة المتصلة غير القابلة للانفصال، كالسِّمَن والطول ونحوهما، فإنها تتبع العين، فيأخذها البائع معها دون أن يعوض شيئاً على من أحدثها.

ـ إذا اشترى أرضاً، فأحدث فيها بناءً أو غرساً ثم فَلَّس، كان للبائع الرجوع بالبيع واستعادة الأرض، أما البناء الذي عليها ـ أو الغرس ـ فهو للمشتري، فإن تراضيا على إبقاء البناء لمصلحة المشتري مجاناً أو بعوض كان خيراً، وإن لم يتراضيا فليس للبائع إجبار المشتري على إبقاء البنـاء ـ ولو مجانـاً ـ إذا أراد هدمه، كما أنه ليس للمشتري إجبار البائع على الإبقاء ـ ولو بعـوض ـ إذا طالبه بهدمه، فإن امتنع المشتري حين إذ طالبه البائع بهدمه كان له إجباره على الهدم.

ـ إذا تعيبت العين عند المُفلِّس لم يسقط حق البائع بالخيار، فإن فسخ ـ والحال هذه ـ لم يكن له إلا أن يأخذ العين كما هي، ويرجع بأرش العيب على من تسبب به بحسب قواعد الضمان وأحكامه؛ وإلا أمضى البيع وشارك الغرماء في القسمة؛ من دون فرق في ذلك بين ما لو كان العيب بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو الأجنبي أو البائع.

ـ لا يمنـع تلف بعض العين عند المفلس من رجـوع البائـع ـ أو المقرض ـ بالبيع بذلك البعض الباقي ومشاركة الغرماء في القسمة بالتالف إذا كان مضموناً على المفلس، كما أن له إمضاء البيع ومشاركة الغرماء في القسمة في الثمن.

ـ إذا باع الشريك حصته ديناً فأفلس المشتري، كان لشريكه شراء الحصة المباعة من المشتري أخذاً بالشفعة ولو بعد الحجر عليه، فيسقط حق البائع في الخيار، ويدخل الثمن الذي دفعه الشفيع في أموال المشتري، ويتعلق به حق سائر الغرماء، فيشترك البائع معهم بنسبة حصته دون أن يتعلق له حق بتمام الثمن.

ـ لا يجب الفور في استخدام الخيار ما دام التأخير لا يعطل القسمة، فإن عطلها وجبت المبادرة إلى حسم أمره واختيار أحد الأمرين، فإن تباطأ أحضره الحاكم فخيّره، فإن امتنع أشركه في القسمة قهراً ودفع إليه نصيبه.

يراد بـ (الفَلَس): (حالة عجز المدين عن وفاء ديونه الكثيرة الزائدة على ما يملكه من أموال غير محتاج إليها في معاشه)؛ ومرادنا بالأموال التي لا يحتاج إليها في معاشه، هو:كل ما يدخل في عنوان (مستثنيات الدين) من دار وأثاث وسيارة ونحوها، مما سيأتي بيانه لاحقاً. وحيث يتحقّق الفلس فانه يقال لمن كانت هذه الحالة فيه: (مُفلِّساً)، كما يقال لدائنه أو دائنيه: (غريم وغرماء). وتفصيل أحكام هذه الحالة يقع في مسائل:

ـ إذا تسامح الدائنون مع المفلس، فأبرأوا ذمته مما عليه أو انتظروا يساره فلم يطالبوه، كان خيراً؛ وأما إذا ألح بعضهـم ـ أو جميعهم ـ عليه بالوفاء مما عنده من أموال، فتوافق معهم على حل مرضٍ يعطي ـ على أساسه ـ كل واحد منهم بعض مالَه عنده، على أن يكفوا عن مطالبته بالباقي إلى حين القدرة أو يبرأوه منه، كان خيراً أيضاً؛ وإلا جاز لهم أن يَحْجُروا عليه بالنحو الذي سيأتي.

ـ (الحَجْر) هو: (منع المالك من التصرف بأمواله لأسباب متعددة، كالصغر والجنون والفلس وغيرها). وكنا قد ذكرنا ما عدا الفلس من أسباب الحجر في مباحث (المدخل) من الجزء الثاني (أنظر ص: 23) وأجّلنا الحديث عن الحجر بالفلس إلى محله هنا في باب الدين، فنقول: لا يتحقّق الحجر بالفلس إلا عند توفر أمور:

الأول: أن تكون الديون ثابتة عليه شرعاً، فلو كان بعضها مورد تنازع وبعضها ثابت، وكانت أمواله غير قاصرة عن الوفاء بالثابت، لم يُحجر عليه في حينه.

الثاني: أن تكون جميع الديون التي يَقْصُر مالُه عن الوفاء بها، حالّة؛ فلو كان بعضها مؤجلاً لم يحجر عليه، حتى لو كانت أمواله قاصرة عنها حين حلولها.

الثالث: أن يطلب الغرماء كلهم، أو بعضهم ـ إذا كان دين ذلك البعض من الكثرة بحدٍ تقصر أمـوال المفلس عن الوفاء به ـ من الحاكم الشرعي إيقاع الحجر على أمواله؛ فليس للغرمـاء أن يقوموا هم ـ دون الحاكم ـ بالحجر، كما أنه ليس للحاكم أن يستقل بإيقاعه إلا أن يكون هو من الغرماء، أو يكون ولياً عن بعضهم بيُتْم أو جنون، ويكون دينه ـ وحْدَه ـ مما تقصر عنه أموال المدين.

ـ إذا أمـر الحاكـم بالحجـر علـى المفلـس لـم يجـز له ـ منذئذ ـ التصرّف بأمواله على شتى أنواعها، من الأعيان والمنافع والديون ونحوها مما له مالية، بعوض كان التصرف، كالبيع والإجارة، أو بغير عوض، كالوقف والهبة والإبراء، وصارت جميعها متعلقاً لحق الغرماء ليُوفي منها بعض ديونهم؛ أما قبل الأمر بالحجر فإن تصرفاته ـ رغم كونه مفلساً ـ صحيحة ونافذة، بما في ذلك ما لو كان العقد غير لازم بمثل الخيار، فإنه لا يجب عليه حين إذْ حَجَّر الحاكم عليه أن يرجع بالعقد، بل يجوز له إمضاء البيـع ـ مثـلاً ـ وإسقاط خياره ما دام قد صدر منه البيع قبل الحجر. نعم إذا أخرج أمواله ـ جميعها ـ عن ملكه بصلح أو هبة بقصد الفرار من حق الدُّيان بعد إفلاسه وقبل الحكم بالحجر عليه ـ وبخاصة إذا لم يَرْجُ حصول مال آخر له لوفاء ديونه ـ فإنه يشكل الحكم بصحة تصرفه.

ـ ينفذ الحجْر ـ حتماً ـ في أمواله الموجودة حين إيقاعه، فإذا تجدد له مال بعد الحجر بمثل الميراث والهبة والحيازة ونحوها، كان حكمه على نحوين:
1 ـ أن يصير به قادراً على الوفاء للغرماء، فيبطل الحجر الصادر بحقه، وتعود إليه أهلية التصرف بماله، ويجب عليه الوفاء لدائنيه بالنحو الذي ذكرناه في مبحث وفاء الدين.

2 ـ أن يبقى ما عنده من أمـوال ـ بمـا فيها المستجدة ـ قاصراً عن الوفاء بدينه؛ فلا يكون المال الجديد مشمولاً للحجر الصادر قبل تملكه له، نعم يجوز للغرماء مطالبة الحاكم بإيقاع الحجر على المال الجديد وضمه لأمواله الأخرى المحجور عليها.

ـ يتساوى جميع الغرماء في لزوم أن يأخذ كل واحد منهم بعض دينه بنسبة حصته كمـا سيأتـي بيانـه، فلا يجـوز ـ بعـد الحجـر ـ أن يسبق أحد الغرماء زملاءه فيأخذ كامل حصته، مقاصة أو برضا المدين، بل ولا يجوز للمدين أن يؤثره بذلك على سائر الغرماء؛ من دون فرق في ذلك بين غرماء المفلس الحي أو الميت، ومن دون فرق في غرماء المفلس الميت بين من كانت عين دينه موجودة في التركة أو غير موجودة، فلا يشملها ما سبق ذكره في مبحث (وفاء الدين، المسألة: 138) من أن: «للدائن أن يأخذ عين دينه إذا وجدها في تركة الميت»، لأننا قد اشترطنا في جوازه ـ هناك ـ أن لا يضر أخذها بتمام حق سائر الغرماء، وهو شرط مفقود هنا، فلا بد لغريم الميت المفلس من مشاركة سائر الغرماء في القسمة، وترك أخذ عين دينه إلا أن يكون قد باعه إياها في الذمة فإن له استردادها ـ حينئذ ـ بخيار التفليس. (أنظر المسألة: 190، فقرة «ثالثاً»).

ـ ينحصر حق الاستيفاء ـ من الأموال الموجودة ـ بمن هو من غرمائه حين إيقاع الحجر، فلا يشاركه من يتجدد بعده بمثل اقتراض المفلس منه أو شرائه منه في الذمة أو نحوه، ولا من يقر له المفلس ـ بعد الحجر ـ بدين سابق أو عين، رغم نفوذ الإقرار في حق نفسه وتعلق حق للمُقَر له على هذا المفلِّس المقر، بحيث يجب عليه الوفاء له بمضمون إقراره فيما بعد بالنحو المناسب. نعم إذا ظهر بعد القسمة من له حق الاستيفاء من الغرماء انتقضت القسمة وشاركهم الغريم الوافد في أموال المفلس بنسبة حصته.

ـ إذا حكم الحاكم بالحجر على المفلس، ورغب الغرماء بأخذ حصصهم بما يساويها من النقد، أمره الحاكم بجلب أمواله من مظانها وفعل مقدمات ذلك، كبيع الأعيان وإحضار أثمانها، واستيفاء ما لَهُ من ديون، وإحضار عوض ما لَهُ من منافع، والقيام بغير ذلك مما هو ضروري لإيصال حصة كل دائن؛ فإن أبى القيام بذلك، وطلب الغرماء من الحاكم القيام به، قام الحاكم بكل ما هو ضروري لإحصاء أمواله وجلبها وتحويلها إلى نقد؛ ثم تقسم هذه الأموال بين الغرماء فيعطى كل واحد منهم حصةً هي بمقدار نسبة دينه إلى مجموع الديون، فمن كان دينه ـ مثلاً ـ ربع مجموع الديون المطلوبة من المفلس كان له الربع من المال الموجود عنده، وهكذا سائر الغرماء.

هذا، وإن للغرماء أن لا يطلبوا بيع الأعيان التي عنده، بل يتراضون فيما بينهم على توزيع هذه الأموال ـ أعياناً وغيرها ـ عليهم على ما هي موجودة عليه، فيأخذ بعضهم مقابل حصته سيارة، والآخر مقداراً من النقد، والثالث منفعة عين تحت يده، وهكذا.

وكيفما يتراض الغرماء فيما بينهم، ينفذ، وليس للمفلس فيه رأي ولا له حق الإعتراض، فإن اختلف الغرماء في كيفية اقتسام المال على حصصهم فض الحاكم النزاع بينهم بالنحو الذي يراه، ولو لم يطلبوا منه ذلك بخصوصه.

وإذا تم هذا الأمر وقسمت أموال المفلس على الغرماء زال الحجر عنه وصحت تصرفاته فيما يستجد له من مال بعد ذلك.

ـ لا تبرأ ذمة المفلِّس مما يبقى عليه من ديون بالحجر عليه وتقسيم أمواله، بل يجب عليه الوفاء بالباقي عند قدرته عليه، ولو بعد مدة طويلة، بل حتى بعد موت المفلس، فإنَّ على ورثته الوفاء من تركته قبل توزيعها على الوصية والورَّاث.

ـ لا يختلف حكم المفلس عن غيره من المدينين في لزوم استثناء ما هو من ضرورات معاشه من أمواله، كداره وأثاثه وسيارته ونحوها مما ذكرناه سابقاً في مبحث (وفاء الدين)، فلا يحجر عليها ولا يجوز للدائنين أخذها في قبال ديونهم ولا إلزام المفلس بدفعها لهم؛ لكن ينبغي الإلفات إلى أنه لا يستثنى من أمواله ـ ما يحتاجه في نفقته العادّية من طعام وشراب وكسوة ونحوها ـ إلا ما هو بحاجة إليه إلى حين تقسيم أمواله، فلا يستثنى حين التقسيم مقدار نفقته لشهر أو سنة، بل يؤخذ جميع ماله ـ حينئذ ـ ولا يترك له شيء منه لنفقته، إذ إنه بعد ذلك يستأنف عمله وإنتاجه لتحصيل معاشه. (أنظر المسألة: 142).

وفي هذا الصدد، لو مات المفلس بعد الحجر عليه وقبل قسمة أمواله أخذ منها كفنه وسائر مؤنة تجهيزه من السدر والكافور وغيرهما وقُدِّم على حقوق الغرماء، والأحوط استحباباً الاقتصار على المقدار الواجب، وإن كان القول باعتبار المتعارف بالنسبة إلى أمثاله لا يخلو من قوة.

تفريع: في أفضلية بعض الغرماء أو (خيار التفليس)

وفيه مسائل:
ـ قد صار معلوماً أن أموال المفلس توزع على الغرماء بنسبة حصة كل واحد منهم من مجموع الديون إلى مجموع الأموال الموجودة، فلا يجوز لواحد منهم استباق الآخرين بعد الحجر على المفلس إلى أخذ حصته كاملة؛ ويستثنى من ذلك عدد من الغرماء جعلت لهم الشريعة أفضلية على غيرهم في حالات خاصة، وهو ما نبيّنه على النحو التالي:

أولاً:
إذا تعلق بالمال الموجود حق شرعي من الزكاة أو الخمس، وجب ـ حينئذ ـ إخراج مقدار الزكاة والخمس قبل قسمته، أما إذا كان الحق الشرعي ديناً في ذمته مستحقاً عليه سابقاً دون أن يكون له تعلق بعين المال الموجود فإنه يُشرك في القسمة كسائر الديّان؛ دون فرق في ذلك بين المفلس الحي أو الميت.

ثانياً: إذا كانت بعض الأعيان الموجودة مرهونة لأحد الغرماء، كان ذلك الغريم أولى بها، فيأخذ منها تمام مقدار دينه ويدع الزائد لسائر الغرماء.
ثالثاً: إذا كان في أمـوال المفلس عين اشتراهـا في الذمـة، كان البائع ـ بعد إفلاس المشتري ـ بالخيار بين فسخ البيع وأخذ عين ماله وبين إمضاء البيع ومشاركة الغرماء في القسمة، وهذا هو ما يقال له: (خيار التفليس) الذي فضّلنا ذكره هنا في مباحث الدين على ذكره في مباحث البيع؛ وكما يثبت خيار التفليس في البيع فإنه يثبت بنفس النحو للمقرض إذا وجد عين ماله بين أموال المفلس، ويتخير بين الرجوع في القرض وفسخه وأخذ العين، وبين إمضاء القرض والمشاركة في القسمة؛ كذلك فإنه يثبت في الإجارة بالنحو الذي سبق ذكره في مباحث الإجارة، (أنظر المسألة: 257 من الجزء الثاني).

ـ لا بد لثبوت (خيار التفليس) في البيع والقرض من توفر أمور:

الأول: أن يكون الدين حالاًّ، أو مؤجلاً وقد حل قبل القسمة، فإن كان مؤجلاً إلى ما بعد القسمة لم يكن له الرجوع بالعين.
الثاني: أن لا تكون العين من مستثنيات الدين التي لا تدخل في القسمة عند الحجر، كداره أو سيارته أو نحوهما، فإن كانت كذلك لم يكن له الرجوع فيها.

الثالث: أن تبقى العين كما هي، فلو تغيرت بما لا يبقى معه عنوان العين السابق لم يكن له الرجوع بها، وذلك كما لو زرع الحب أو استفرخ البيض، أو نما عنده نمواً مغيراً لعنوانه، كأن صار الفرخ دجاجة، أو اختلطت العين بمال آخر للمشتري المفلس بنحو يعدّ معه تالفاً، كاختلاط ماء الورد بالماء، أو يكون الاختلاط موجباً للشركة، كاختلاط الزيت بزيت آخر، ونحو ذلك من وجوه التغير المزيل للعنوان. أما إذا لم يكن التغير موجباً لزوال العنوان فإنه لا يضر ببقاء خيار التفليس، وذلك كما لو تعيبت العين، أو قصَّر الثوب أو صبغه، أو أحدث بناءً في الأرض أو زرعاً، أو نحو ذلك.

ـ إذا استرجع البائع ـ أو المقرض ـ العين بخيار التفليس، فما نتج عنها ـ قبل إرجاعها ـ من زيادة منفصلة فعلاً، كالولد والبيض والصوف والثمر، فهي لمن كانت تحت يده، أي للمشتري المفلس، وكذا حكم الزيادة المتصلة القابلة للانفصال، كالجنين قبل تولده والثمر قبل اقتطافه ونحو ذلك؛ أما الزيادة المتصلة غير القابلة للانفصال، كالسِّمَن والطول ونحوهما، فإنها تتبع العين، فيأخذها البائع معها دون أن يعوض شيئاً على من أحدثها.

ـ إذا اشترى أرضاً، فأحدث فيها بناءً أو غرساً ثم فَلَّس، كان للبائع الرجوع بالبيع واستعادة الأرض، أما البناء الذي عليها ـ أو الغرس ـ فهو للمشتري، فإن تراضيا على إبقاء البناء لمصلحة المشتري مجاناً أو بعوض كان خيراً، وإن لم يتراضيا فليس للبائع إجبار المشتري على إبقاء البنـاء ـ ولو مجانـاً ـ إذا أراد هدمه، كما أنه ليس للمشتري إجبار البائع على الإبقاء ـ ولو بعـوض ـ إذا طالبه بهدمه، فإن امتنع المشتري حين إذ طالبه البائع بهدمه كان له إجباره على الهدم.

ـ إذا تعيبت العين عند المُفلِّس لم يسقط حق البائع بالخيار، فإن فسخ ـ والحال هذه ـ لم يكن له إلا أن يأخذ العين كما هي، ويرجع بأرش العيب على من تسبب به بحسب قواعد الضمان وأحكامه؛ وإلا أمضى البيع وشارك الغرماء في القسمة؛ من دون فرق في ذلك بين ما لو كان العيب بآفة سماوية أو بفعل المشتري أو الأجنبي أو البائع.

ـ لا يمنـع تلف بعض العين عند المفلس من رجـوع البائـع ـ أو المقرض ـ بالبيع بذلك البعض الباقي ومشاركة الغرماء في القسمة بالتالف إذا كان مضموناً على المفلس، كما أن له إمضاء البيع ومشاركة الغرماء في القسمة في الثمن.

ـ إذا باع الشريك حصته ديناً فأفلس المشتري، كان لشريكه شراء الحصة المباعة من المشتري أخذاً بالشفعة ولو بعد الحجر عليه، فيسقط حق البائع في الخيار، ويدخل الثمن الذي دفعه الشفيع في أموال المشتري، ويتعلق به حق سائر الغرماء، فيشترك البائع معهم بنسبة حصته دون أن يتعلق له حق بتمام الثمن.

ـ لا يجب الفور في استخدام الخيار ما دام التأخير لا يعطل القسمة، فإن عطلها وجبت المبادرة إلى حسم أمره واختيار أحد الأمرين، فإن تباطأ أحضره الحاكم فخيّره، فإن امتنع أشركه في القسمة قهراً ودفع إليه نصيبه.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية