وفيه مسائل:
ـ يجب على المدين أداء الدين الحـالّ ـ مع قدرتـه ـ إذا ظهرت على الدائن أمارة عدم الرضا بالتأخير، فضلاً عما لو طلب منه وفاءه، ولا يحل له المماطلة والإمتناع عن أدائه، بل هو من كبائر الذنوب، وكذلك حكم الدين المؤجل إذا حل أجله.
ـ يختلف حكم وفاء الدين المؤجل قبل حلول الأجل على صور ثلاث:
الأولى: أن يكون اشتراط التأجيل من المدين، فيكون التأجيل حق المدين وحده، فلا يجب عليه الوفاء قبل الأجل، كما أنه لا يحق للدائن مطالبته بالوفاء قبله، وإذا رغب المدين بالوفاء قبل حلول الأجل وجب على الدائن تسلُّم دينه منه.
الثانية: أن يكون المشترطُ هو الدائنَ، مع استعداد المدين للوفاء لو رغب الدائنُ به قبل الأجل، فيكون التأجيل حق الدائن وحده، فاذا طلب دينه قبل الأجل وجب الوفاء على المدين، فيما لا يكون الدائن ملزماً بالقبول لو وفى المدين دينه قبل الأجل.
الثالثة: أن يكون الشرط لهما معاً، فليس للدائن مطالبة المدين بالوفاء قبل حلول الأجل، كما أن له الامتناع عن القبول لو وفى المدين دينه قبل حلوله.
ـ يكفـي فـي تحقّـق القدرة مـن المديـن ـ بحيث لا يسوغ معها الإمتناع عن الوفاء ـ أنْ يكون عنده ما يقدر على الوفاء به، من نقد، أو دين له على غيره يمكنه طلبه، أو أعيان منقولة، أو غير منقولة، كالأراضي والدور ونحوهما، ولو ببيع شيء منها أو إجارته؛ وإذا كان قادراً على الاستقراض وجب عليه، كما يجب عليه ـ مِنْ أجل وفـاء دينـه ـ التكسبُ اللائق بحاله مع قدرته عليه وتوفر مجالاته. نعم لا يجب عليه بيعُ ما هو مستغن عنه بأقل من قيمته إذا كان النقصان فاحشاً، وإلا وجب عليه بيعه وسداد دينه به. وكذا لا يجب عليه التعرض للصدقة، ولا طلب الحق الشرعي من الخمس والزكاة، ولا طلب الهبة، من أجل ذلك، نعم إذا دُفِع له شيء من ذلك وجب عليه قبوله مع عدم المهَانة.
ـ لا يجب على المدين بيع دار سكناه، واحدة كانت أو أكثر، ولا ثيابه وسيارته وكتبه وسلاحه وأدوات معاشه، ولا الاستغناء عن خادمه، ولا ما أشبه ذلك مما هو من ضروراته العرفية اللائقة به والمناسبة لشأنه، مما يكون في تركه والتخلي عنه حرج عليه أو منقصة له، وهي المعبَّر عنها بـ (مُستثنيات الدين).
نعم، إذا أمكنه ـ دون حرج ولا منقصة ـ الاكتفاء بدار أصغر، أو بدارٍ إيجاراً أو وقفاً، وجب عليه بيع داره الأكبر أو إجارة قسم منها، أو الاكتفاء بدار إيجاراً أو وقفاً؛ وكذلك الأمر في عدة العمل وآلة المعاش، فإنه إذا أمكنه التكسب بعمل غيره وجب عليه بيعها لوفاء دينه.
ـ المقصود من كون دار سكناه وما أشبهها من المستثنيات، أنه لا يجبر على بيعها لوفاء دينه ولا يجب عليه، وأما إذا رضي هو بذلك ـ رغم عدم وجوبه عليه ـ وأدى به دينه فإنه يجوز له فعله ويصح منه، وإن كان ينبغي أن لا يبيع دار سكناه مهما كانت الظروف، وبخاصة إذا تعارض ذلك مع واجب آخر، مثل إسكان زوجته والإنفاق عليها، فإنه يحرم حينئذ. كذلك فإنَّ على الدائن أن لا يرضى ببيع المدين لبعض المستثنيات، فضلاً عن أن يَحمله أو يُشجعه على ذلك.
ـ إنما تستثنى تلك الأمور في حال حياة المدين، أما بعد وفاته فلا تستثنى، بما في ذلك دار سكناه، بل يجب على ورثته إخراج دينه من أصل تركته دون استثناء شيء منها مقدماً على حجة الإسلام وعلى الوصية، حتى لو كان في ورثته صغار، إذ إن معاشهم وتدبير أمورهم واجبُ وَليِّهم والمؤمنين الذين يعيشون بينهم إذا صاروا بدون دار ولا أثاث ولا قوت.
ـ إذا اشترط الدائن على المدين في عقد القرض أو في عقدٍ غيرِه بيع المستثنيات إذا انحصر وفاء الدين بها، صح الشرط ووجب على المدين العمل به.
ـ يجب على المدين وفاء الدين المثلي بمثل جنس الدين ومقداره، حتى لو اختلفت قيمته وقت الوفاء عنها وقت اشتغال الذمة بالدين، إلا إذا كان من النقد المستحدث وانهارت قيمته كثيراً، فإن المعول ـ حينئذ ـ على قيمته التي كان عليها قبل انهياره، سواء في ذلك القرض أو غيره من الديون، وسواء ما نتج منه عن المعاملة، كثمن المبيع في النسيئة، أو مهر الزوجة في عقد الزواج، أو ما نتج عن غيرها، كنفقة الزوجة وضمان التالف وأرش الجناية؛ وأما القيمي فإنَّه إذا كان ما اشتغلت به الذمة هو نفس العين الكلية، كما لو كان الثمـن ـ في بيع النسيئة مثلاً ـ حيواناً أو زيتاً أو جوهرة، وجب الوفاء بدفع ما يساوي قيمة فرد من أفراد العين القيمية الموصوفة عندهما بما يرفع الجهالة بها؛ وإذا كان ما اشتغلت به الذمة هو نفس القيمة، كما في ضمان التالف من الأعيان القيمية، وجب الوفاء بدفع ما يساوي قيمة العين من النقد عند الوفاء بها لا حين تلفها، وهكذا سائر موارد الدين ما عدا القرض الذي بيّنا حكمه في محله (أنظر المسألة: 128)، و(أنظر ـ أيضاً ـ حول انهيار قيمة النقد المسألة: 130).
ـ يجوز في سائر موارد الدين ـ غير القرض ـ اشتراط أن يكون الوفاء بما يناسب قيمة الدين في وقت اشتغال الذمة لعملة أخرى أو لقيمة الذهب أو غيره من العَروض، وذلك كما إذا كان طن القمح يساوي خمسين دولاراً ـ مثلاً ـ حين اشتغال الذمة به، فاشترط أحدهما على الآخر إعطاءه من القمح مقداراً يساوي خمسين دولاراً حين الوفاء له، سواءً زاد عن مقداره الأول أو نقص عنه؛ أما في القرض فإنه يجوز إذا كان المُشترطُ هو المقترضَ، أو كان هو المقرضَ، ولكن كان الشرط في عقدٍ غيرِ القرض، أو كان في عقد القرض ولكن كان ما شرطه موافقاً حين الوفاء لقيمته حين اشتغال الذمة أو أنقص منها، دون ما لو كان أزيد. (أنظر المسألة: 129).
ـ يجوز التبرع بأداء دين الغير، حياً كان أو ميتاً، وتبرأ ذمة المدين به، دون فرق بين ما لو كان المدين راضياً بذلك التبرع أو غير راض، بل يصح حتى في صورة ما لو منعه المدين عن ذلك؛ كذلك فإنه ليس للدائن الإمتناع عن قبول وفاء المتبرع، ويجبر عليه لو امتنع، تماماً كما لو كان الوفاء من المدين نفسه.
ـ إذا رغب المدين في عزل مال الدين وتعيينه في فرد خاص ـ مقدمة للوفاء به ـ لم يتعين، بل يبقى كسائر أمواله، فله أن يتصرف به، ويكون نماؤه له، كما أن تلفه عليه؛ فإذا قبضه الدائن أو من يقوم مقامه، ولو بمثل أمره له أن يضع المال في صندوقه أو الحيوان في حظيرته، أو ما يشبه ذلك مما يعدّ قبضاً للعين وتسلماً لها بإذن الدائن، تعيّن ـ حينئذ ـ في ذلك الفرد وخرج به عن العهدة.
ـ يجوز للدائن ـ أو المدين ـ أن يوكِّل غيره في استيفاء دينه أو في الوفاء به، ومن ذلك توكيل مصرف أو مؤسسة مالية بالقيام بهذه الخدمة له؛ كما أنه يجوز للمصرف القيام بهذه الخدمة لزبائنه وأخذ الأجرة عليها، إلا أنْ يكون على ذلك الديـن فائـدة ربويـة، فلا تجـوز المطالبـة ـ حينئـذ ولصالـح الدائـن ـ بالفائدة الربوية ولا أخذ الأجرة عليها.
ـ إذا دفع المدين مال الدين إلى شخص ليوصله إلى الدائن، فتصرف به الوسيط تصرفـاً موجبـاً لتلفـه ـ أو تغيُّره ـ قبل إيصاله إلى الدائن، عمداً أو غفلة، وجب على ذلك الوسيط مراجعة المدين وتسوية الأمر معه، لكون المال ـ قبل قبض الدائن له ـ ما يزال على ملك المدين، فلا يكفي الوسيطَ مراجعةُ الدائن والاستحلال منه إلا أن يكون الوسيط وكيلاً عن الدائن، فيصير قبضه قبض الدائن الموكِّل، فإذا تلف ـ حينئذ ـ رجع على موكِّله.
وكذلك حكم كل مورد يتصرّف فيه الرسول بالمال الذي يحمله إلى غيره، هدية كان أو حقاً شرعياً أو ثمناً لمبيع أو غير ذلك.
ـ إذا كان المال الذي بيد الكافر ثمناً لخمر أو ميتة أو خنزير لم يكن على المسلم بأس في أخذ هذه الأثمان وفاءً لدين له على ذلك الكافر أو ثمناً منه في معاوضة بينهما ما دام يرى ذلك حلالاً في معتقده.
ـ إذا رغب المدين في وفاء الدين، فلم يقدر على الوصول إلى الدائن أو مَنْ يقوم مقامه، كان حكمه في صور:
الأولى: إذا علم حياته ـ أو احتملها ـ واحتمل الوصول إليه، وجب عليه العزم على الوفاء لو قدر عليه، ولزمه السعي بالنحو الممكن للوصول إليه، فإن خاف حدوث شيء عليه لزمته الوصية به حرصاً على براءة ذمته منه، وذلك مهما طال الزمن؛ فإن زال احتمال الوصول إليه ويئس منه لزمه التصدق به عنه.
وكذلك حكم ما لو علم موته لكنه لم يتمكن من الوصول إلى ورثته.
الثانية: إذا غاب الدائن وانقطع خبره، ولم تعلم حياته ولا موته، فإن احتمل موته في غيبته وجب دفع المال إلى ورثته: إما بعد أربع سنين من قيامهم بالفحص عنه في الأرض بالنحو الوارد في محله، أو بعد عشر سنين من انقطاع خبره وإن لم يكن قد فُحص عنه، وإلا وجب الانتظار (أنظر المسألة: 1006).
الثالثة: إذا كان العجز عن الوصول إلى الدائن لغيبة المدين نفسه في سجن أو سفر بعيد، لم يكـن له ـ في هـذه الصورة ـ دفع الدين لغير صاحبه، ولزمه التريث حتى يقدر على الوصول إليه أو إلى من يقوم مقامه مهما طال الزمن.
ـ إذا مات الدائن وحل الوفاء بالدين وجب عليه دفعه إلى الورثة، ولو كان وارثه هو الحاكم الشرعي، فإذا تعدد الورثة لم يكف الدفع لبعضهم، بل لا بد من إحراز وصول حصة كل واحد منهم من الدين والتوثق من ذلك ولو عن طريق وكيل أو ولي لهم جميعاً، ولو ادّعى بعض الورثة عدم وصول حصته ـ ولو عن طريق الوكيل أو الولي ـ وجب على المدين تصديقه وإبراء الذمة منه ما لم يثبت كذبه.
ـ إذا لـم يـؤد المديـن الديـن ـ رغم حلول أجلـه ـ بعدما طالبه الدائن به، وكان قادراً على أدائه، جاز للدائن أو من يقوم مقامه إجباره على الدفع ـ مع عدم التنازع ـ ولو باللجوء إلى حاكم الجور عند انحصار تحصيل الحق به، فإن تنازعا في كيفية الوفاء أو في مقدار الدين أو نحو ذلك لزمهما الترافع إلى الحاكم الشرعي دون سواه، إلا أن ينحصر تحصيل الحق بغيره. وإذا بذل المدين الدين بعد حلول أجله لم يكن للدائن الإمتناع، فإذا امتنع جاز للمدين إجباره، فإن تعذر إجباره جاز تسليم الدين للحاكم الشرعي بدلاً عنه مع إمكانه، لا إلى سواه، فلا يكفي ـ مثلاً ـ إيداعه بإسمه في البنك، أو وضعه أمانة عند شخص، أو نحو ذلك، فإنه لو تلف المال ـ في هذه الصورة ـ لم تبرأ ذمة المدين منه؛ فإن لم يوجد الحاكم الشرعي، أو وجـد لكنه امتنع ـ على فرض جـواز الامتنـاع ـ عن قبض الدين، بقي الدين في ذمة المدين، وصبر عليه مدة يُعتدُّ بها عرفاً إلى أن يأخذه الدائن أو من يقوم مقامه، وإلا جاز له التخلية بينه وبين المال إذا أمن عليه من الضياع وكان بإذن الحاكم الشرعي.
ـ إذا عجز المدين عن أداء الدين حرم على الدائن إزعاجه بالمطالبة به والإلحاح عليه، بل يجب عليه انتظار يساره والصبر عليه؛ نعم إذا لم يصدّقه في ادعاء الإعسار كان له منازعته في ذلك حتى يتثبت من إعساره ولو برفع الأمر إلى الحاكم الشرعي. كذلك فإن للدائنين اللجوء إلى الحاكم الشرعي عند «إفلاس» المدين، وهو ما سنعرض له لاحقاً في بحث مستقل.
ـ يستحب الإرفاق في طلب الدين حتى مع يسار المدين، ويكره الإلحاح عليه بالاستيفاء. وكذا يستحب قضاء دين الأبوين، وبخاصة بعد وفاتهما، كما يستحب إبراء ذمة المؤمن الحي مما عليه من الدين، فضلاً عن الميت.
تتمة فيها فائدتان:
الفائدة الأولى: في الإبراء
وفيها مسائل:
ـ (الإبراء) مصطلح يراد به: (إسقاط ما في ذمة المدين وهِبَتُهُ له)، وهو أمر مستحب حتى مع غنى المدين الحي وقدرته على الوفاء، فضلاً عما لو كان ميتاً، كما سبق منا ذكره.
ـ الإبراء من الإيقاعات، فلا يحتاج إلى قبول المدين ورضاه به، ويقع بكل لفظ يدل عليه، مثل: (سامحتك)، أو: (وهبتك ما في ذمتك)، أو: (أحللتك من الدين الذي لي عليك)، وما أشبهه؛ سواءً في ذلك العربية وغيرها، والفصحى وغيرها.
ـ إذا صدر الإبراء من الدائن وقع لازماً، فتبرأ به ذمة المدين وتفرغ حتى لو تراجع عنه بعد ذلك، فإذا طالبه الدائن به لم تجب على المدين إجابته ولا الوفاء له بشيء إلا أن يحب هو ذلك ويرضى به.
ـ لا فرق في لزوم الإبراء بين ما لو كان المدين ذا رحم أو غيره، ولا بين ما لو كان الدين نتاج معاملة أو غيرها.
الفائدة الثانية: في المقاصة
وفيها مسائل:
ـ (المُقاصَّة) مصطلح يراد به: (مبادرة من له مالٌ على غيره ـ عيناً كان أو ديناً ـ إلى أخذ ما يقابل مالَهُ من مالٍ آخر لذلك الغير، دون علمه، إذا لم يُؤَدِّه له عند الاستحقاق)، وهي جائزة وحق ثابت لصاحب المال باستقلاله ـ دون ضرورة لمراجعة الحاكم الشرعـي ولا التحاكـم عنـده ـ إذا لم يتمكن من تحصيل حقه بالطرق الشرعية أو العادّية بدون حرج، وهي مُقدَّمة على الاستعانة بالظالم، وذلك في الموردين التاليين:
الأول: ما إذا غصبه ماله، بسرقة أو نحوها، أو تَمَرَّد عن دفع حق واجب عليه ظلماً لصاحبه وبغياً عليه، كثمن المبيع نسيئة، أو أجرة عمل، أو عدم رد عين مستعارة، أو نحو ذلك من الموارد التي يكون فيها للمقتص حق واضح عند المقتص منه، عيناً كان ذلك أو ديناً.
الثاني: ما إذا طالبه فامتنع عن الدفع لجهله باستحقاق المطالب ما يطالب به، فإنه رغم ذلك، وحيث إن المقتص معتقد بأنه صاحب حق في المال الفلاني الموجود عند غريمه أو في ذمته، فإن له الاقتصاص منه بأخذ ماله إن كان عيناً، وباستيفاء دينه من ماله إن كان ديناً.
أما إذا طالبه فلم يتنكر لحقه، أو استمهله ليتثبت من إدعائه بمثل مراجعة حساباته، أو رغب إليه رفع الأمر للحاكم الشرعي، أو ما أشبه ذلك مما يظهر منه رغبة المطلوب منه بأداء حق الطالب عند ثبوته عنده واستكمال مقدماته، لم يكن للطالب أن يستعجل الأمر ويقتص من الغريم غير الجاحد.
ـ رغم جواز المقاصة في الموردين المذكورين في المسألة السابقة فإنها مكروهة، وبخاصة في الحالات التالية:
الأولى: ما إذا كان المال المقتص به أمانةً عند المقتص للمقتص منه.
الثانية: ما إذا احتسب المقتص منه المال المأخوذ منه عند الله تعالى، وهو ما يحدث ـ عادة ـ عند الشعور بالظلم والعجز عن فعل شيء لرد الظالم.
الثالثة: ما إذا حلف الغريم للمطالب بعدم وجود حق له عنده، وذلك بمبادرة شخصية من الغريم؛ أما إذا كان قد حلف أمام القاضي بطلب من المطالب على عدم استحقاقه ما يدعيه، فلا يجوز الاقتصاص منه.
ـ لا فرق في جواز الاقتصاص بين ما لو كان للمقتص منه مال عند المقتص بنحو الأمانة أو العارية أو الإجارة أو نحوها، وبين ما لو وَجدَ مالَه خارج حرزه بلقطة أو غيرها، بل وبين ما لو أخذه من حرزه غفلة عن المقتص منه، وإن كُرهَ منه الاقتصاص في بعض هذه الموارد كما تقدم في المسألة السابقة.
ـ يشترط في المال المقتص به ـ مع التمكن ـ أن يكون مثل المال الذي للمقتص إذا كان المال «المسلوب» مثلياً، وبقيمته إذا كان المسلوب قيمياً، فإن لم يقدر على ذلك جاز له أخذ أي مال يقع تحت يده، ولو كان منفعة، فإن كانت قيمته أزيد من قيمة المسلوب وجب عليه رد الزائد، ولو ببيعه وأخذ ما يساوي قيمة ماله، نعم إذا أمكنـه ـ في هـذه الحالـة ـ إجارته مثلاً لمدةٍ تساوي أجرتُه فيها مقدارَ ما أُخذ منه لم يجب عليه ذلك، وإن كان هو الأحوط استحباباً.
ـ يعتبر المال المأخوذ أمانة بيد المقتص، فإذا تلف في يده قبل أن يأخذ حقه منه من دون تفريط منه ولا تأخير في الاقتصاص لم يضمنه، وجاز له أخذ فردٍ آخرَ غيره لتحصيل حقه منه؛ كذلك فإنه لا يضمن ما يزيد من العين المأخوذة عن مقدار حقه إذا تلف ذلك الزائد من دون تأخير منه في رده ولا تفريط في حفظه، كما أنه لا يضمن ما ينقص من قيمة الباقي إذا نقصت عند اقتطاع حقه من العين المقتص بها.
ـ يملك المقتص ما يأخذه من مال المقتص منه، ويصير المأخوذ عوضاً عن ذلك المفقود، فتبرأ ذمة الغريم من الدين إذا كان المال المطلوب منه ديناً، كما أنه يملك العين التي سلبها إذا كان المطلوب منه عيناً؛ وعليه، فإنه إذا تاب الغريم وتسامح من المقتص وبذل له ماله الذي سلبه منه ـ عيناً أو دينـاً ـ لم يجب على المقتص قبوله وجاز له الإكتفاء بالمال المأخوذ حتى لو كان المقتص به ما يزال موجوداً عنده بعينه.
ـ لا تجوز المبادرة إلى الاقتصاص قبل استنفاد الوسائل الشرعية والعادّية مع عدم الحرج عليه في ذلك، ومرادنا بالطرق الشرعية والعادّية هو: ما سبق ذكره في أبواب مختلفة حول إقناع من عليه الحق اما: بأداء ما عليه من ثمن أو أجرة أو عين مستعارة، أو بإجباره من خلال القاضي الشرعي على ذلك في الموارد المذكورة ونحوها، والتي يجمعها أنه: (يحق لصاحب الحق في مثل هذه الموارد إجبار الممتنع على الأداء بعد مطالبته به بالنحو المتعارف)، فإذا لم ينفع ذلك جاز له الاقتصاص حينئذ؛ ثم إنه لو فرض انحصار تحصيل الحق إما: بالاستعانة بالظالم أو بالاقتصاص، قُدِّمَ الاقتصاص عليه، وبخاصة إذا لم يُؤمن مِنْ تعدي الظالم وإفراطه في استرجاع الحق.
من جهة أخرى فإنه لا يجب على المقتص استئذان الحاكم في أخذ المال في موارد جواز الاقتصاص؛ لكنهما إذا ترافعا إلى الحاكم الشرعي فحكم لأحدهما، لم يكن للمحكوم عليه ـ إذا اعتقد أنه صاحب حـق ـ أن يقتص من المحكوم له على الأحوط وجوباً؛ وقد سبق ذكر بعض موارده في (فقرة «الثالثة» من المسألة: 163).
ـ يجب أن يراعى في المال المقتص به أمور:
الأول: أن لا يكون من مستثنيات الدين، وهي الأمور اللازمة في معاش المقتص منه مما سبق ذكره في (المسألة: 142).
الثاني: أن لا يكون محجـوراً عليه لفلس، فإنَّ مالَـه ـ حينئـذ ـ يصير حقاً للغرماء بنسبة ما لكل واحد منهم من دين عليه، فلا يجوز لواحد منهم أن يقتص منه ويأخذ من أمواله دينَه؛ ومثله ما لو مات الغريم ولم تف تركته بتمام ديونه، فإنه مع جحود الوارث لحقه ليس له الاقتصاص، لتعلق حق الغرماء بالتركة. هذا، ولا فرق في عدم جواز الاقتصاص ـ في الحالتين المذكورتيـن ـ بين ما لو أراد المقتص أخذ تمام دينه أو أراد أخذ حصته فقط كواحد من الغرماء، بل إن عليه انتظار مجرى الأمور وأخذ حقه مع سواه.
الثالث: أن لا يكون المال المأخوذ قد تعلق به حق الغير، كالعين المرهونة للغير، أو التي تعلق بها النذر أو نحوه.
ـ كما يجوز الاقتصاص عن ماله المسلوب إذا كان عيناً أو ديناً، كذلك يجوز الاقتصاص عنه إذا كان منفعة، كما إذا غصبه منفعة داره وكان منكراً أو مماطلاً، بل يجوز ـ أيضاً ـ إذا كان حقاً مالياً كحق التحجير؛ أو كان قد تعلق بالعين حق الرهن لدين له على غيره، فيجوز له أن يأخذ من مال الغريم ما يجعله رهناً على دينه مقابل تلك العين التي كانت مرهونة عنده رغم كونه غير مالك لها.
ـ لا يجوز الاقتصاص من مال الغريم إذا كان مشتركاً بينه وبين غيره إلا بإذن الشريك؛ ومن جهة أخرى فإنه لا يمنع كون العين المغتصبة مشتركة بين اثنين من مبادرة أحد الشريكين للإقتصاص من المغتصب بمقدار حصته، بما في ذلك ما لو كان المغتصب هو شريكه.
ـ لا يشترط في المقاصة المباشرة، بل يجوز لصاحب الحق توكيل غيره بالاقتصاص له، فإذا وكَّله جاز له الاقتصاص ولم يأثم فيه.
ـ يجوز للحاكم الشرعي ـ من باب الولاية الشرعية ـ الاقتصاص من مال مانع الحق الشرعي من الخمس والزكاة والمظالم مع جحوده أو مماطلته، إذا لم يمكن إجباره على الأداء؛ وكذا يجوز له الاقتصاص بأخذ بدل العين الموقوفة وقفاً عاماً من مال المغتصب إذا لم يمكن استرجاعها منه أبداً، وإلا فيقتص من ماله عن منافعها ما دامت مغصوبة، وكذا حكم الموقوف عليه في الوقف الخاص أو العام إذا غصبت العين الموقوفة منه.
ـ إذا تبيّن له بعد المقاصة أنه كان مخطئاً في دعواه، وجب عليه رد ما أخذه أورد عوضه إذا كان تالفاً، وعليه غرامة ما وقع من الضرر. وكذا لو تبيّن أن ما أخذه كان ملكاً لغير الغريم.
ـ يستحب للمقتص أن يدعو حين أخذ مال المقتص منه بما يظهر منه تفويض الأمر إلى الله تعالى، وكونُه مضطراً لذلك، وحرصُه على تجنب ظلم المأخوذ منه، ونحو ذلك مما يناسب هذا الوضع الاستثنائي الذي يعيشه المؤمن، وقد ورد في بعض الأخبار الدعاء بهذه الصيغة: (اللهم إني آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه مني، وإني لم آخذ الذي أخذته خيانة ولا ظلماً).
ـ الأفضل للمؤمن أن يلزم في مثل هذا المقام جانب الأخلاق الفاضلة ويتسامى عن المخاصمة والتنازع، ويدع الإنتصاف والمطالبة بحقه، وخاصة فيما لا يضره التغاضي عنه من أمواله، فقد ورد في الحديث عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: (ثلاثة لا ينتصفون من ثلاثة أبداً: العاقل من الأحمق، والبَر من الفاجر، والكريم من اللئيم).
بل إن الأحوط استحباباً للمطالب بحقه رفع أمره إلى الحاكم الشرعي وإيكال الأمر إليه والتحاكم لشريعة الله تعالى، وعليه ـ وجوباً ـ الالتزام بما يحكم به الحاكم وترك الرد عليه؛ فإن (المقاصة) وإن أرجعت حقاً لكنها سوف تترك في نفس الطرفين قدراً من الحزازة والبغضاء، وبخاصة إذا كان المأخوذ منه معتقداً بعدم أحقية الآخذ، مما قد يجر إلى استمرارٍ في النزاع يَفُتُّ في عضد المؤمنين وتناصرهم.