الحج بما هو عبادة وفريضة على الناس يهدف فيما يهدف إليه إلى تأكيد حقيقة الإيمان بالله تعالى في قلوب عباده وتجديد لحركة المشاعر في النفوس لجهة معايشة هذا الإيمان وتعميقه في القلوب وتركيزه في العقول.
ومن انعكاسات هذا التأكيد والتجسيد تعزيز روح الأمة في اجتماعها ووحدتها، وترسيخ معاني المحبة والرحمة والأخوة بين أفرادها ومذاهبها وطوائفها، والسعي إلى إصلاح ذات البين والتعاون على رفض الفتن والعصبيات والإثم والعدوان والبغث.
والحج يعلِّم الناس أن يتلاقوا وينتفعوا من كل الغنى والتنوّع الذي أودعه الله تعالى في الأمة، وأن يتعالوا على كل الفروقات والحواجز بينهم، والتي تعقد حياتهم، فإذا ساروا في خط الإيمان فلن يكون لأي فروقات من معنى واعتبار.
وإلى هذا المعنى يشير سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(قده) بقوله: "وعندما يجتمع الناس في الحج يجب أن تسقط كل الحواجز المادية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس، ليلقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله والسير على نهجه والالتزام بدينه والجهاد في سبيله طلباً لرضاه، مما يوفّر لهم الخروج من الدوائر الضيّقة التي يحبسون حياتهم فيها لينطلقوا إلى الدائرة الكبيرة التي تحتويهم جميعاً، والتي تؤسس لقضاياهم الإسلامية وارتباطها بالهدف الكبير الذي يتحرك فيه الإسلام في الحياة". [من أقوال سماحة المرجع السيد فضل الله(رض)].
فالحج إلزام إلهي للمؤمنين المخلصين بما عاهدوا عليه الله من الانقياد لطاعته والانتفاع من اجتماعهم بما يقوي وحدتهم ويؤسس لعلاقات وروابط جديدة على مستوى التعاون والتعارف والتشاور في حل مشاكلهم، فتتحوّل النداءات في طقوس الحج إلى امتثالات والتزامات تنعكس بتجلياتها على الواقع برمّته، لتضخّ به الحياة في عروق المجتمع لتبعده عن الرتابة..
وفي هذا السياق يقول سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، في معرض تفسيره لقول الله تعالى: {وأذِِّنْ في النَّاسِ بالحجِّ}، وأعلن ذلك في نداءاتك كتشريع تقرره، لا مجرد صوت تطلقه ليشعروا من خلال ذلك بأن هناك إلزاماً إلهياً يدفعهم إلى الامتثال ويقودهم إلى الطاعة يأتوك سائرين على أقدامهم أو على بعير مهزول من شدّة التعب من أي طريق بعيد ليحصلوا على منافع الحج الدنيوية التي يحققها لهم اجتماعهم على مستوى التعارف والتبادل والتعاون والتشاور في حلّ المشاكل التي يعيشونها. [من أقوال المرجع السيد فضل الله(رض)].
ويتابع سماحته: "إن كلمة (لبيك) تعني إننا ـ يا رب ـ نلتزم في موقفنا هذاع بكل نداءاتك بالإسلام كلّه، في عباداته وفي أخلاقه وفي جهاده، وفي سياسته واقتصاده، وفي مواجهة كل التحديات التي يواجهها الإنسان من الشيطان الداخلي في عمق نفسه أو من الشيطان الخارجي في عمق واقعه وفيما يحيط بحياته..
إنها الحركة الصارخة في النداء الذي تنطلق به كل حناجر الحجاج لتؤكد موقفهم الذي يريد أن يلتزم بالإسلام من جديد، في مسيرتهم إلى مركز الدعوة الإسلامية في مكة، لتكون مسيرة الحجاج من سائر أقطار العالم هي مسيرة الإسلام التي تقول ـ من خلال تلك الكلمات الخاضعة الهادرة ـ يا رب إذا كان الناس قد تركوا الإسلام فلم يؤمنوا به ولم يرتبطوا به، وإذا كان المسلمون قد انحرفوا عن خطه وتركوا الكثير من تعاليمه وانتموا إلى الاتجاهات الأخرى التي تختلف عن خطه المستقيم..
إذا كان الواقع هو ذلك، فها نحن قادمون إلى بيتك المحرم لنقول من كل قلوبنا ومن كل عقولنا ومن كل مواقعنا ومواقفنا وتطلعاتنا "لبيك اللهم لبيك" فقد جعلت الإسلام لنا بكل عمقه وامتداده رسالة الحياة، ونحن نريد أن ننطلق إلى الحياة من خلاله. [بينات، محاضرات سماحة المرجع فضل الله(رض) حول الحج].
ولا يمكن للإيمان أن يتأكد أن يخرج إلى العلن فعلاً وممارسة إلا إذا خرج من دائرة الاستغراق بالغيب في حالة وجدانية ملتهبة معزولة عن إدارة وتحريك شؤون الحياة بما ينفع الفرد والجماعة، وهنا تأخذ العلاقة بالله أبعاداً أصيلة ومعيوشة.
وفي جولة في آفاق الحج وما يتصل بذلك، يوضّح سماحة المرجع السيد فضل الله(رض) بأن القيمة الكبرى للعبادات الإسلامية أنها لا تمثّل مجرد حالة وجدانية ذاتية غارقة في ضباب المحبة وغيبوبة الخشوع ليبقى الإنسان بعيداً عن حركة الحياة عندما يقف بين يدي الله، بل هو تعبير عن الخط الإسلامي العملي في علاقة العبد بربّه، حيث يلتقي الجانب الروحي بالحياة في أوسع مجالاتها وأرحب آفاقها، ليتصور معها حياته التي تضجّ فيها الحركة، فنجد في الصلاة.. التصور الإسلامي لله في صفاته المتصلة بحركة الحياة في مخلوقاته من التربية والرعاية والرحمة، وبطبيعة العلاقة التي تشد الإنسان إلى الله وبالتوجه إليه في مجال الصراع الذي تزدحم فيه التيارات الضالة والجاحدة في مقابل الخط المستقيم.
فإذا التقينا بالحج، فإننا نلتقي بالعبادة الزاخرة بأكثر من معنى، فهي تلتقي بالصلاة في أجواء الطواف والسعي، والوقوف بعرفات والمزدلفة والمبيت بمنى، حيث يعيش الإنسان أعمق حالات التأمل وأصفى مشاعره وأرفع درجاته.
أما الإحرام، فإنه يمثل الالتقاء بالصوم، حيث يفرض على الإنسان الالتزام الطوعي الاختياري بكثير من الأشياء التي تتصل بشهواته وعاداته وأخلاقه، فتمثل مرحلة تدريبية صعبة يتعلّم فيها الصبر والخشونة واحترام مشاعر الآخرين، واحترام كل شيء محترم حوله حتى الحيوان والنبات.. إلى جانب دقّة الملاحظة عندما يراقب كل حركة من ركاته حتى سقوط الشعر وحلّ البدن والنظر في المرآة، أما رمي الجمار فإنه يمثّل الرمز العملي للصراع مع الشيطان في ما تمثله الجمرات من رمز.
ويتابع قائلاً: وهكذا يتحرك الإنسان من عمل إلى عمل ليحقق لنفسه البناء الروحي والفكري والعملي في أجواء العبادة التي يعيش في داخلها اللقاء بالله، وبذلك لا تشارك العبادة في عزل الإنسان عن الحياة، بل هي على العكس من ذلك، تدفعه دفعاً إليها بكل قوة من موقع الروحية التي تعطي المادة معناها دون أن تفقدها صفاتها المادية، وقد لا يكتفي الإسلام في تحقيق معنى العبادة بما افترضه وشرّعه من أشكالها، بل يمتد بها حتى يجعلكل عمل محبوب لله عبادة إذا قام به الإنسان لوجه الله..
ويختم سماحته(رض): وفي ضوء ذلك كله نجد في كلمة: {وأتمّوا الحجَّ والعمرةَ لله} إيحاءً بالإتمام من الناحية الروحية التي يعيش الإنسان فيها أجواء الحج، بالمستوى الذي يرتفع فيه إلى الآفاق العالية التي تمثلها هذه الفريضة، ويتحرك معها بأخلاقية إسلامية كاملة، فلا يكتفي بالشكل ويبتعد عن المضمون، لأنه يمثل ـ في هذه الحالة ـ الإتمام الشكلي إلى جانب النقص الواقعي المضموني، مما يجعل العمل غير مقرّب لله وغير مقبول عنده، لأن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما أقبل الإنسان فيها بكل كيانه وروحيته. [تفسير من وحي القرآن، ج4، ص:98].
فالحج تجربة عبادة ترفع من إحساس المؤمن بمسؤولياته في الحياة، فعندما يعود إلى موطنه ومجتمعه عليه واجب العمل بهذا الإحساس، وفي هذا المضمار يقول سماحة المرجع السيد فضل الله(رض): "عندما نريد أن نحدّق بالحج في إيحاءاته وفيما يرمز إليه لنخرج من الاستغراق في ذاتية الأعمال إلى الانفتاح على الآفاق الواسعة التي بلور فيها شخصية الإنسان المسلم ليعود من حجّه إنساناً منفتحاً على كل مسؤوليته إنساناً منفتحاً على كل مسؤوليته في الحياة منطلقاً من الساحات الواسعة التي كلّما عاش فيها مسؤوليته كلما اتسعت أكثر. [من أقوال سماحة المرجع السيد فضل الله(قده)].
وأخيراً وليس آخراً يرى سماحته(رض) أن الإنسان في الحج يقف بين يدي ربّه عارياً من كل شكليات الواقع الفردي والاجتماعي ليؤكد أنه لن يستجيب له استجابة واحدة، ولكن إجابة مما يوحي أن الإجابة تظل تتحرك في خط الحياة، فكل الإجابات تؤكد أن يكون كله في حركة مع الله يتحول الإنسان إلى تجسيد لاستجابة الله من خلال دعوته سبحانه وتعالى للناس {استَجِيبُوا للِه وللرَّسُولِ إذَا دَعاكم لمَا يُحْييكم} [من أقوال سماحة المرجع السيد فضل الله(قده)].