الحجّ في آيات القرآن: عبادة منفتحة على الله

الحجّ في آيات القرآن: عبادة منفتحة على الله

لم يكن المسجد الحرام مسجداً عادياً في طبيعته وخصوصيته، ولم يأت بناؤه تلبية لرغبةٍ ذاتيةٍ في بناء مسجد للعبادة كما هي حال المؤمنين عادة، بل جاء نتيجة أمر من الله، فقد أوحى لنبيّه إبراهيم(ع) أن يبني هذا المسجد ليكون بيتاً له ـ تعالى ـ على مستوى العالم كلّه، ليفِد إليه الناس من كلّ بقاع الأرض، تلبيةً لدعوته الشّاملة، من أجل تحقيق المنافع الدنيويّة والأخرويّة، الماديّة والمعنويّة.. ولينطلق النّاس من خلاله، ومن خلال الأعمال المتنوّعة الّتي شرّعها لهم في رحابه وأجوائه، ليخلصوا له العبادة من موقع التّوحيد، ولينفتحوا على عمق التّوحيد في صفائه ونقائه، فيما تعيشه أفكارهم، وتختزنه مشاعرهم، وتتحرّك فيه أوضاعهم، في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم، من خطٍّ يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يمرّ النّاس إلا من خلاله، ولا يلتقي بخصوصيّات الحياة إلا في دائرة رضاه.

وهكذا كان الحجّ هو العبادة المنفتحة على أكثر من أفق للعقيدة، والمرتكزة على أكثر من قاعدةٍ للحركة، والقريبة إلى الجانب العمليّ في الحياة، فيما يلتقي به الإنسان مع الله في أكثر من موقع، وهذا ما نحاول استيحاءه من خلال الآيات التالية.

دعوة لتطهير البيت

}وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ{، فحدَّد الله له موقعاً، وأراده أن يجعله مرجعاً يقصده النّاس في رحلتهم إليه ـ تعالى ـ للعبادة، وأن يعدّه إعداداً كاملاً لتحقيق النّتائج الروحيّة الّتي يريدها الله من حركة العبادة في ساحاته، وأوحى إليه أن يؤكّد صفة التوحيد فيه؛ من حيث الشكل، بإعطائه صورة بعيدة عن عبادة الأوثان الّتي توجد في أماكن العبادة عادةً، ويتعبد لها النّاس لتقرّبهم إلى الله زلفى، ومن حيث المضمون، فيما يثيره معنى التّوحيد من أفكار ومشاعر وآفاق روحيّة في عمق الذّات، وفي امتداد الحركة، ومن حيث شخصيّة الإنسان الّذي يبني المسجد ويرعاه فيما يستهدفه منه، وفيما يركّزه عليه من أسس البناء، ولهذا جاء النّداء الإلهيّ لإبراهيم(ع)، ليختصر ذلك كلّه في قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً{، بما يعنيه ذلك من إقامة قواعد المسجد كلّها على أساس التّوحيد، الّذي هو سرّ وجوده، وهدف العبادة فيه الّتي تجمع الحياة والإنسان لتقودهما إلى وعي العبوديّة الخالصة لله، }وَطَهِّرْ بَيْتِي{ طهارةً كاملةً، بمعناها المادّيّ الّذي يستدعي النّظافة من كلّ قذارة تسيء إلى جوّ التّحليق في آفاق الطّهارة الرّوحيّة الّتي تختزنها روحيّة العبادة وتخلقها داخل الإنسان، فإنّ الإسلام ـ في كثير من تشريعاته ـ يبتعد عن التّجريد، ويعمل على إطلاق المعاني الرّوحيّة من حركة الأشياء المحيطة بحياة الإنسان عادةً، ولذا، فإنّ الله شرّع الطّهارة من الحدث والخبث، اللّذين يمثّلان القذارة الماديّة والمعنويّة، كشرط لصحّة الصّلاة والطّواف على سبيل الإلزام، واستحبّها لكثير من الأمور العباديّة الأخرى، على سبيل الرّخصة.

وهكذا أراد المسجد طاهراً في أرضه،{للطّائفين{ الّذين يقصدون البيت للطّواف حوله، بصفته الرّمز المادّيّ للتحرّك في فلك رضى الله، عبر احترام أوامره ونواهيه، في كلّ المجالات الّتي يطوف بها الإنسان في حياته، وعلى مستوى كلّ العلاقات الّتي يقيمها مع النّاس من حوله، سواء من يتَّصل بهم وينتمي إليهم، أو من يتحرَّك في دوائرهم الفكريَّة والعمليَّة، وفي كلّ الأماكن الّتي يتَّخذها الإنسان مواقع ثابتة أو متحرِّكة لمشاريعه ولأوضاعه العامَّة والخاصَّة، ليكون ذلك كلّه مع الله في دائرة معيَّنة يمثّلها بيته، وله، في العبادة الّتي يخلص فيها الإنسان لربّه، تماماً كما هو الطّواف بالبيت.  {والقائمين{ الّذين يقومون لله في صلاتهم، كرمزٍ للقيام بين يديه في طاعتهم له في كلّ شيء، فهم يقومون له منتظرين أوامره ونواهيه ليطيعوها، وليخلصوا إليه الطّاعة فيها وفي كلّ شيء، }وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ{ الّذين يتعبَّدون له في ركوعهم وسجودهم، فيما يمثِّله الرّكوع والسّجود من انحناء الإنسان أمام الله بجسده، وانسحاقه أمامه بجبهته، كرمزٍ لانحناء كلّ حياته أمام إرادته، بعيداً عن الخضوع الكامل بكلّ أشكاله ومعانيه.

الإعلان عن الحجّ

فإذا استكملت البيت ـ يا إبراهيم ـ وأتممت بناءه وإعداده على قاعدة الطّهر والتّوحيد، فإنّ هناك مهمَّة أخرى تنتظرك، وهي الإعلان عن الحجّ ودعوة النّاس إليه، لتكون لهذا البيت خصوصيّة عباديّة تختلف عن سائر بيوت الله، وليمثّل الاتحاد البشريّ في الحياة، باعتباره البيت العالميّ الّذي يلتقي فيه النّاس جميعاً من كلّ الأجناس والألوان على عبادة الله، ليعيشوا وحدة الإنسانيّة من خلال وحدة الموقع الّذي يقدّسونه ويتعبّدون فيه، ووحدة العبادة، كرمزٍ للإخلاص في إيمانهم بوحدة الله..

}وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ{، وأعلن ذلك في كلّ نداءاتك، كتشريع تقرّره وتثبته، لا مجرّد صوت تطلقه، ليشعروا ـ من خلال ذلك ـ بأنّ هناك إلزاماً إلهيّاً يدفعهم إلى الامتثال، ويقودهم إلى الطّاعة، فـ {يَأْتُوكَ رِجَالاً} راجلين سائرين على أقدامهم، }وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ{ أي بعير مهزولٍ من شدّة التّعب والجهد، }يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ{ أي طريق بعيد، لما توحيه كلمة العمق من امتداد ضارب في المجهول، }لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ{، فيما يحصلون عليه من خلال الحجّ من منافع دنيويّة يحقّقها لهم اجتماعهم على مستوى التّعارف والتّبادل والتّعاون والتّشاور في المشاكل الّتي يعيشونها فكراً وواقعاً، عبر ما يثيرونه من قضايا، وما يحدّدونه من أهداف، وما ينتظرونه من حلول.

وبذلك تسقط الحواجز المادّيّة والنّفسيّة الّتي تضعها الفواصل العرقيّة واللّونيّة والقوميّة بين النّاس، ليلتقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله، والسّير على منهجه، والالتزام بدينه، والجهاد في سبيله، طلباً لرضاه، ما يوفّر لهم الخروج من الدّوائر الضيّقة الّتي يحبسون حياتهم فيها، لينطلقوا إلى الدّائرة الواسعة الّتي تحتويهم جميعاً، ما ينقذهم من مشاكل التجزئة في حلّ القضايا العامّة الّتي قد يستغرقون معها في خصوصيّاتهم، فيسيئون بذلك إلى تلك القضايا من حيث يريدون أو لا يريدون، لابتعادهم عن الأسس الّتي ترتكز عليها القضايا الإسلاميّة لجهة علاقتها ببعضها البعض، وارتباطها بالهدف الكبير الّذي يتحرّك فيه الإسلام في الحياة..

وهكذا تتواصل المنافع الدّنيويّة في رحاب الحجّ، لتصل إلى مستوى توحيد الموقف السياسيّ، والتصوّر الفكريّ، وتحقيق التكامل الاقتصادي، والمواجهة الموحّدة للقوى الطّاغية وغيرها. وهذا ما يمكن الوصول إليه في هذا المؤتمر العالميّ السنويّ الّذي يتشكّل بطريقةٍ عفويّةٍ، امتثالاً لأمر الله في العبادة، ليمتدّ إلى امتثال أمره في حركة الإنسان في الواقع.

أمّا المنافع الروحيّة الّتي تتداخل ـ في أكثر من موقع ـ مع المنافع الماديّة، فتأتي من التّشريعات الإسلاميّة المتّصلة بواجبات الحجّ المتنوّعة الّتي تحقّق لكلّ جانب من جوانب شخصيّة الإنسان، حركة روحيّة تغذّي فيه علاقته بالله وإخلاصه له، وشوقه للوصول إلى درجات القرب عنده في دار النّعيم..

وهكذا يريد الله للنّاس في الحجّ أن يأتوا إلى رحاب البيت، ليشهدوا ـ من مواقع الوعي والمعاناة ـ المنافع الّتي يجدونها أمامهم عند الوصول، أو الّتي يحقّقونها بعده، }وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ{ هي أيّام التّشريق الّتي تبدأ من يوم الأضحى حتَّى الثّالث عشر من ذي الحجَّة، على ما ذكر في أحاديث أئمَّة أهل البيت(ع)، أو هي أيّام الحجّ.. {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} من الإبل والبقر والغنم، إذا ذبحوها أو نحروها في نسكهم، حيث جعل الله ذلك تعبّداً منهم له تعالى، لتكون قرباناً له، إذ أحلّ لهم هذه الأضحية، وجعل لها معنى يتّصل بالجانب الإيمانيّ من حياتهم، ما يوحي بهذا التّزاوج في التّشريع بين ما هو روحيّ وما هو مادّيّ في حياة النّاس، إذ يجب أن لا يستغرقوا في حياتهم في جانب واحد، فالله هو الّذي خلق الرّوح الّتي تلتقي به لتعبده، وهو الّذي خلق المادّة لتكون شاهداً على سرّ الإبداع في عظمته، وهو الّذي خلق الأنعام وأراد للإنسان أن يتقرّب بها إليه، تنميةً للحياة الّتي شاء لها أن تكون خاضعةً لقانون التّضحية بحياة مخلوقة لله، من أجل حياةٍ أخرى يريد لها أن تؤكّد إرادته في دور الخلافة على الأرض.

الانتفاع بذبائح الحجّ

}فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ{، وهي رخصة شرعيَّة بأكلها، تدفع احتمال التّحريم الّذي قد يتوهَّمه البعض، على أساس أنّ القربان لا بدّ من أن تأكله النّار، ولا يجوز للإنسان أن يأكل منه، لأنّه لله، وما يكون لله لا يجوز أن يأكله الإنسان. ولكنّ الله أراد أن يبيّن أنّ القربان يمثّل معنى داخل الإنسان عند تقديم الأضحية باسمه.. وتنتهي المسألة عند هذا الحدّ، وبعد ذلك تأتي قضيّة الانتفاع بالأضحية حتّى لا تذهب طعمةً للنّار أو للتّراب، فللإنسان أن يأكل منها، هديّةً من الله له، وأن يعطي الفقراء القسم الآخر }وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ{، لتكون جزءاً من التّشريع المتكامل الّذي يفتح للفقير الأبواب الّتي تسدّ فاقته، وتقضي حاجته، وتسكت جوعه.

ومن خلال ما تقدّمه الآية، نستوحي ما ينبغي للمسلمين فعله بالذّبائح الّتي يمتثلون بذبحها واجب تقديم الأضحية يوم النّحر، فلا يلقونها في التّراب دون فائدة، ما يعطي للآخرين انطباعاً سلبيّاً عن التّشريع الإسلاميّ الّذي قد يتحوّل، من خلال ممارسة كهذه، إلى عملٍ عبثيّ، تدفن معه ثروة حيوانيّة كبيرة تحت التّراب، في وقت تعاني الكثير من الشّعوب الإسلاميّة المجاعة، علماً أنّ القرآن أكّد استثمار تلك الأضاحي والانتفاع منها بشكل فرديّ أو جماعيّ، كجزءٍ من المساهمة في حلّ مشكلة الفقر، وهو ما يؤدّي تركه إلى إلغاء الهدف من التّشريع نفسه، وإلى تجميد الحكم الشّرعيّ في صورة ذاتيّة، بدلاً من أن يتحرّك ليحقّق لنفسه وللإنسان مصداقيّة الحلّ الإسلاميّ للحياة.

وربما تحتاج المسألة إلى دراسةٍ فقهيّة، لتجاوز الإشكالات الشرعيّة الّتي يثيرها البعض حول المسألة، ليُصار إلى حلّها من ناحيةٍ شرعيّةٍ، كما تحتاج إلى دراسةٍ عمليّة واقعيّة، لمواجهة المشاكل العمليّة في تنظيم الذّبح وتوزيعه.

الخروج من الإحرام

}ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ{، وهو ما أصابهم من الشّعث والغبار ونحوهما مما تفرضه قيود الإحرام، لينظّفوا أجسادهم، ويقلّموا أظفارهم، ويأخذوا من شعورهم، وليخرجوا من الإحرام، لأنّ ذلك هو نهاية مدّة الإحرام.

}وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ{ الّتي ألزموا بها أنفسهم، وقد يكون المقصود بها الإحرام، إذ إنّه شبيه بالنّذر لجهة ما يتضمّنه من معنى الالتزام، وقد يكون المقصود به النّذورات الطّارئة المتعلّقة ببعض قضايا الإنسان الخاصّة والمهمّة لديه، }وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيق{، ليكون الطّواف نهاية العمل، وقد جاء في الحديث عن أئمّة أهل البيت(ع) أنّه طواف النّساء، لأنّ الخروج من الإحرام يحلّل للحاج كلّ شيء ما عدا النّساء، ولذلك فهو يحتاج إلى الطّواف لتصبح النّساء حلالاً عليه.. ولا يرى المسلمون الآخرون ذلك ضروريّاً، وتفصيل المسألة في الفقه.

والمراد بالبيت العتيق، الكعبة، الّتي كانت أوّل بيت وضع للّناس، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً{]آل عمران: 96]، وذلك لقدم بنائها.

علامة التقوى

}لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى{، في إشارة إلى ذبائح الحجّ الّتي يعدّها الحاج للهدي يوم النّحر امتثالاً لأمر الله، فله أن ينتفع بلبنها وبركوبها إلى الوقت المحدّد للذّبح أو النّحر، فإنّ إعدادها للهدي لا يجعلها محرّمة عليه قبل ذلك، لأنها تكون ملكاً له، لا مانع من تصرّفه بها بما لا ينافي تقديمها لله في العبادة.. وقد جاء في الحديث، أنّ رسول الله(ص) مرّ برجلٍ يسوق بَدَنَةً وهو في جهدٍ، فقال (ص ): "اركبها". قال الرّجل: يا رسول الله، إنّها هدي، فقال(ص): "اركبها، ويلك"{ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، وهو البيت الحرام الّذي يشمل الحرم كلّه، وهو أرض الحرام، ومنها منى، الّتي تذبح فيها الأنعام للهدي.

البُدن من شعائر الله

}وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ{، فقد اعتبر الله نحر النّاقة السّمينة عند البيت الحرام من وسائل القرب إليه، كمظهر من مظاهر عبادته وطاعته، فيما يوحيه من دليل على حضور الله في وعي المؤمن وفي حركته}..لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ{، لما تنتفعون به من لبنها ولحمها ووبرها وظهرها عند ركوبكم عليها، وفي حملها أثقالكم من بلد إلى بلد، }فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ{ قائمات قد صفّت أيديها وأرجلها عند النّحر، ولا تذكروا عليها غير اسمه.

وقد ذكر في صور النّحر للإبل، أنّ أفضل صوره، هو أن يقام البعير واقفاً تجاه القبلة، وأن تعقل إحدى يديه، ويتّجه النّاحر إلى القبلة أيضاً، ثم يضرب في لبّته بآلةٍ حادّة، من سكّين أو خنجر أو نحوهما.

}فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}، أي سقطت جنوبها على الأرض، وهو كناية عن خروج روحها بالنّحر، }فَكُلُواْ مِنْهَا{، فذلك مباح لكم، }وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ{ الرّاضي بما يعطى من غير مسألة، }وَالْمُعْتَرَّ{ الّذي يتعرّض لك بالمسألة لتعطيه، وكلاهما في موقع الفقر والحاجة، }كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ{ وأخضعناها لإرادتكم، وجعلنا منافعها في خدمة حياتكم لتنتفعوا بها، ولتدركوا مواقع النّعمة في خلقها، }لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}  الله الّذي خلقكم وخلقها، ورزقكم ورزقها، وجعلها من موارد رزقكم، فاستحقّ عليكم الشّكر بالقول، اعترافاً بجميل النّعمة في صنعه، وبالعمل طاعةً له في أوامره ونواهيه.

سرّ العبوديّة

}لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دماؤها{، فإنّ الله غنيٌّ عنها وعنكم، لأنّه هو خالقها وخالقكم، فلم يتعبّدكم بنحرها لترجع منفعتها إليه، تماماً كما هو الحال في العبادات كلّها، الّتي لن يرجع منها شيءٌ إليه، لأنّه الربّ الغنيّ عن عباده، الّذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، }وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ{، فيما يعبّر عنه موقف العطاء المادّيّ بلا مقابل تقرّباً إلى الله، من حركة داخليّة تنمّي التقوى في النّفس، وتثيرها في الواقع، ذلك أنّ الممارسة كلّما امتدّت في حياة الإنسان، عمّقت تجربته الرّوحيّة في الدّاخل، بحيث تصبح الحركة على المستوى العمليّ هي السّلوك الّذي يختزن الحالة الرّوحيّة في المعنى، وبذلك تصبح الممارسة أسلوباً في التّربية الّتي تبني الدّاخل وتحدّد ملامح الشخصيّة، الأمر الّذي يجعلنا نسعى إلى تعميق الفكرة في النّفس، عبر تكرار العمل الّذي يطبع معناها ويعكسه في الواقع.

والتّقوى حالة روحيّة يتحسّس الإنسان من خلالها في قلبه وروحه سرّ العبوديّة لله، لجهة وعي المسؤوليّة وتجسيدها حركة في الواقع، في شعور عظيم بالحضور الإلهيّ الّذي يحيط بكلّ ما حوله ومن حوله، وما فوقه وما تحته، لأنّ الله هو المهيمن على كلّ شيء، والخبير بكلّ سرّ وعلانية، وهو على كلّ شيء قدير.

* المصدر: كتاب "من وحي القرآن".

لم يكن المسجد الحرام مسجداً عادياً في طبيعته وخصوصيته، ولم يأت بناؤه تلبية لرغبةٍ ذاتيةٍ في بناء مسجد للعبادة كما هي حال المؤمنين عادة، بل جاء نتيجة أمر من الله، فقد أوحى لنبيّه إبراهيم(ع) أن يبني هذا المسجد ليكون بيتاً له ـ تعالى ـ على مستوى العالم كلّه، ليفِد إليه الناس من كلّ بقاع الأرض، تلبيةً لدعوته الشّاملة، من أجل تحقيق المنافع الدنيويّة والأخرويّة، الماديّة والمعنويّة.. ولينطلق النّاس من خلاله، ومن خلال الأعمال المتنوّعة الّتي شرّعها لهم في رحابه وأجوائه، ليخلصوا له العبادة من موقع التّوحيد، ولينفتحوا على عمق التّوحيد في صفائه ونقائه، فيما تعيشه أفكارهم، وتختزنه مشاعرهم، وتتحرّك فيه أوضاعهم، في أقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم ومواقفهم، من خطٍّ يبدأ من الله وينتهي إليه، فلا يمرّ النّاس إلا من خلاله، ولا يلتقي بخصوصيّات الحياة إلا في دائرة رضاه.

وهكذا كان الحجّ هو العبادة المنفتحة على أكثر من أفق للعقيدة، والمرتكزة على أكثر من قاعدةٍ للحركة، والقريبة إلى الجانب العمليّ في الحياة، فيما يلتقي به الإنسان مع الله في أكثر من موقع، وهذا ما نحاول استيحاءه من خلال الآيات التالية.

دعوة لتطهير البيت

}وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ{، فحدَّد الله له موقعاً، وأراده أن يجعله مرجعاً يقصده النّاس في رحلتهم إليه ـ تعالى ـ للعبادة، وأن يعدّه إعداداً كاملاً لتحقيق النّتائج الروحيّة الّتي يريدها الله من حركة العبادة في ساحاته، وأوحى إليه أن يؤكّد صفة التوحيد فيه؛ من حيث الشكل، بإعطائه صورة بعيدة عن عبادة الأوثان الّتي توجد في أماكن العبادة عادةً، ويتعبد لها النّاس لتقرّبهم إلى الله زلفى، ومن حيث المضمون، فيما يثيره معنى التّوحيد من أفكار ومشاعر وآفاق روحيّة في عمق الذّات، وفي امتداد الحركة، ومن حيث شخصيّة الإنسان الّذي يبني المسجد ويرعاه فيما يستهدفه منه، وفيما يركّزه عليه من أسس البناء، ولهذا جاء النّداء الإلهيّ لإبراهيم(ع)، ليختصر ذلك كلّه في قوله: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً{، بما يعنيه ذلك من إقامة قواعد المسجد كلّها على أساس التّوحيد، الّذي هو سرّ وجوده، وهدف العبادة فيه الّتي تجمع الحياة والإنسان لتقودهما إلى وعي العبوديّة الخالصة لله، }وَطَهِّرْ بَيْتِي{ طهارةً كاملةً، بمعناها المادّيّ الّذي يستدعي النّظافة من كلّ قذارة تسيء إلى جوّ التّحليق في آفاق الطّهارة الرّوحيّة الّتي تختزنها روحيّة العبادة وتخلقها داخل الإنسان، فإنّ الإسلام ـ في كثير من تشريعاته ـ يبتعد عن التّجريد، ويعمل على إطلاق المعاني الرّوحيّة من حركة الأشياء المحيطة بحياة الإنسان عادةً، ولذا، فإنّ الله شرّع الطّهارة من الحدث والخبث، اللّذين يمثّلان القذارة الماديّة والمعنويّة، كشرط لصحّة الصّلاة والطّواف على سبيل الإلزام، واستحبّها لكثير من الأمور العباديّة الأخرى، على سبيل الرّخصة.

وهكذا أراد المسجد طاهراً في أرضه،{للطّائفين{ الّذين يقصدون البيت للطّواف حوله، بصفته الرّمز المادّيّ للتحرّك في فلك رضى الله، عبر احترام أوامره ونواهيه، في كلّ المجالات الّتي يطوف بها الإنسان في حياته، وعلى مستوى كلّ العلاقات الّتي يقيمها مع النّاس من حوله، سواء من يتَّصل بهم وينتمي إليهم، أو من يتحرَّك في دوائرهم الفكريَّة والعمليَّة، وفي كلّ الأماكن الّتي يتَّخذها الإنسان مواقع ثابتة أو متحرِّكة لمشاريعه ولأوضاعه العامَّة والخاصَّة، ليكون ذلك كلّه مع الله في دائرة معيَّنة يمثّلها بيته، وله، في العبادة الّتي يخلص فيها الإنسان لربّه، تماماً كما هو الطّواف بالبيت.  {والقائمين{ الّذين يقومون لله في صلاتهم، كرمزٍ للقيام بين يديه في طاعتهم له في كلّ شيء، فهم يقومون له منتظرين أوامره ونواهيه ليطيعوها، وليخلصوا إليه الطّاعة فيها وفي كلّ شيء، }وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ{ الّذين يتعبَّدون له في ركوعهم وسجودهم، فيما يمثِّله الرّكوع والسّجود من انحناء الإنسان أمام الله بجسده، وانسحاقه أمامه بجبهته، كرمزٍ لانحناء كلّ حياته أمام إرادته، بعيداً عن الخضوع الكامل بكلّ أشكاله ومعانيه.

الإعلان عن الحجّ

فإذا استكملت البيت ـ يا إبراهيم ـ وأتممت بناءه وإعداده على قاعدة الطّهر والتّوحيد، فإنّ هناك مهمَّة أخرى تنتظرك، وهي الإعلان عن الحجّ ودعوة النّاس إليه، لتكون لهذا البيت خصوصيّة عباديّة تختلف عن سائر بيوت الله، وليمثّل الاتحاد البشريّ في الحياة، باعتباره البيت العالميّ الّذي يلتقي فيه النّاس جميعاً من كلّ الأجناس والألوان على عبادة الله، ليعيشوا وحدة الإنسانيّة من خلال وحدة الموقع الّذي يقدّسونه ويتعبّدون فيه، ووحدة العبادة، كرمزٍ للإخلاص في إيمانهم بوحدة الله..

}وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ{، وأعلن ذلك في كلّ نداءاتك، كتشريع تقرّره وتثبته، لا مجرّد صوت تطلقه، ليشعروا ـ من خلال ذلك ـ بأنّ هناك إلزاماً إلهيّاً يدفعهم إلى الامتثال، ويقودهم إلى الطّاعة، فـ {يَأْتُوكَ رِجَالاً} راجلين سائرين على أقدامهم، }وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ{ أي بعير مهزولٍ من شدّة التّعب والجهد، }يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ{ أي طريق بعيد، لما توحيه كلمة العمق من امتداد ضارب في المجهول، }لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ{، فيما يحصلون عليه من خلال الحجّ من منافع دنيويّة يحقّقها لهم اجتماعهم على مستوى التّعارف والتّبادل والتّعاون والتّشاور في المشاكل الّتي يعيشونها فكراً وواقعاً، عبر ما يثيرونه من قضايا، وما يحدّدونه من أهداف، وما ينتظرونه من حلول.

وبذلك تسقط الحواجز المادّيّة والنّفسيّة الّتي تضعها الفواصل العرقيّة واللّونيّة والقوميّة بين النّاس، ليلتقوا على صعيد واحد هو الإيمان بالله، والسّير على منهجه، والالتزام بدينه، والجهاد في سبيله، طلباً لرضاه، ما يوفّر لهم الخروج من الدّوائر الضيّقة الّتي يحبسون حياتهم فيها، لينطلقوا إلى الدّائرة الواسعة الّتي تحتويهم جميعاً، ما ينقذهم من مشاكل التجزئة في حلّ القضايا العامّة الّتي قد يستغرقون معها في خصوصيّاتهم، فيسيئون بذلك إلى تلك القضايا من حيث يريدون أو لا يريدون، لابتعادهم عن الأسس الّتي ترتكز عليها القضايا الإسلاميّة لجهة علاقتها ببعضها البعض، وارتباطها بالهدف الكبير الّذي يتحرّك فيه الإسلام في الحياة..

وهكذا تتواصل المنافع الدّنيويّة في رحاب الحجّ، لتصل إلى مستوى توحيد الموقف السياسيّ، والتصوّر الفكريّ، وتحقيق التكامل الاقتصادي، والمواجهة الموحّدة للقوى الطّاغية وغيرها. وهذا ما يمكن الوصول إليه في هذا المؤتمر العالميّ السنويّ الّذي يتشكّل بطريقةٍ عفويّةٍ، امتثالاً لأمر الله في العبادة، ليمتدّ إلى امتثال أمره في حركة الإنسان في الواقع.

أمّا المنافع الروحيّة الّتي تتداخل ـ في أكثر من موقع ـ مع المنافع الماديّة، فتأتي من التّشريعات الإسلاميّة المتّصلة بواجبات الحجّ المتنوّعة الّتي تحقّق لكلّ جانب من جوانب شخصيّة الإنسان، حركة روحيّة تغذّي فيه علاقته بالله وإخلاصه له، وشوقه للوصول إلى درجات القرب عنده في دار النّعيم..

وهكذا يريد الله للنّاس في الحجّ أن يأتوا إلى رحاب البيت، ليشهدوا ـ من مواقع الوعي والمعاناة ـ المنافع الّتي يجدونها أمامهم عند الوصول، أو الّتي يحقّقونها بعده، }وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ{ هي أيّام التّشريق الّتي تبدأ من يوم الأضحى حتَّى الثّالث عشر من ذي الحجَّة، على ما ذكر في أحاديث أئمَّة أهل البيت(ع)، أو هي أيّام الحجّ.. {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} من الإبل والبقر والغنم، إذا ذبحوها أو نحروها في نسكهم، حيث جعل الله ذلك تعبّداً منهم له تعالى، لتكون قرباناً له، إذ أحلّ لهم هذه الأضحية، وجعل لها معنى يتّصل بالجانب الإيمانيّ من حياتهم، ما يوحي بهذا التّزاوج في التّشريع بين ما هو روحيّ وما هو مادّيّ في حياة النّاس، إذ يجب أن لا يستغرقوا في حياتهم في جانب واحد، فالله هو الّذي خلق الرّوح الّتي تلتقي به لتعبده، وهو الّذي خلق المادّة لتكون شاهداً على سرّ الإبداع في عظمته، وهو الّذي خلق الأنعام وأراد للإنسان أن يتقرّب بها إليه، تنميةً للحياة الّتي شاء لها أن تكون خاضعةً لقانون التّضحية بحياة مخلوقة لله، من أجل حياةٍ أخرى يريد لها أن تؤكّد إرادته في دور الخلافة على الأرض.

الانتفاع بذبائح الحجّ

}فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ{، وهي رخصة شرعيَّة بأكلها، تدفع احتمال التّحريم الّذي قد يتوهَّمه البعض، على أساس أنّ القربان لا بدّ من أن تأكله النّار، ولا يجوز للإنسان أن يأكل منه، لأنّه لله، وما يكون لله لا يجوز أن يأكله الإنسان. ولكنّ الله أراد أن يبيّن أنّ القربان يمثّل معنى داخل الإنسان عند تقديم الأضحية باسمه.. وتنتهي المسألة عند هذا الحدّ، وبعد ذلك تأتي قضيّة الانتفاع بالأضحية حتّى لا تذهب طعمةً للنّار أو للتّراب، فللإنسان أن يأكل منها، هديّةً من الله له، وأن يعطي الفقراء القسم الآخر }وَأَطْعِمُواْ البائس الْفَقِيرَ{، لتكون جزءاً من التّشريع المتكامل الّذي يفتح للفقير الأبواب الّتي تسدّ فاقته، وتقضي حاجته، وتسكت جوعه.

ومن خلال ما تقدّمه الآية، نستوحي ما ينبغي للمسلمين فعله بالذّبائح الّتي يمتثلون بذبحها واجب تقديم الأضحية يوم النّحر، فلا يلقونها في التّراب دون فائدة، ما يعطي للآخرين انطباعاً سلبيّاً عن التّشريع الإسلاميّ الّذي قد يتحوّل، من خلال ممارسة كهذه، إلى عملٍ عبثيّ، تدفن معه ثروة حيوانيّة كبيرة تحت التّراب، في وقت تعاني الكثير من الشّعوب الإسلاميّة المجاعة، علماً أنّ القرآن أكّد استثمار تلك الأضاحي والانتفاع منها بشكل فرديّ أو جماعيّ، كجزءٍ من المساهمة في حلّ مشكلة الفقر، وهو ما يؤدّي تركه إلى إلغاء الهدف من التّشريع نفسه، وإلى تجميد الحكم الشّرعيّ في صورة ذاتيّة، بدلاً من أن يتحرّك ليحقّق لنفسه وللإنسان مصداقيّة الحلّ الإسلاميّ للحياة.

وربما تحتاج المسألة إلى دراسةٍ فقهيّة، لتجاوز الإشكالات الشرعيّة الّتي يثيرها البعض حول المسألة، ليُصار إلى حلّها من ناحيةٍ شرعيّةٍ، كما تحتاج إلى دراسةٍ عمليّة واقعيّة، لمواجهة المشاكل العمليّة في تنظيم الذّبح وتوزيعه.

الخروج من الإحرام

}ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ{، وهو ما أصابهم من الشّعث والغبار ونحوهما مما تفرضه قيود الإحرام، لينظّفوا أجسادهم، ويقلّموا أظفارهم، ويأخذوا من شعورهم، وليخرجوا من الإحرام، لأنّ ذلك هو نهاية مدّة الإحرام.

}وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ{ الّتي ألزموا بها أنفسهم، وقد يكون المقصود بها الإحرام، إذ إنّه شبيه بالنّذر لجهة ما يتضمّنه من معنى الالتزام، وقد يكون المقصود به النّذورات الطّارئة المتعلّقة ببعض قضايا الإنسان الخاصّة والمهمّة لديه، }وَلْيَطَّوَّفُواْ بِالْبَيْتِ الْعَتِيق{، ليكون الطّواف نهاية العمل، وقد جاء في الحديث عن أئمّة أهل البيت(ع) أنّه طواف النّساء، لأنّ الخروج من الإحرام يحلّل للحاج كلّ شيء ما عدا النّساء، ولذلك فهو يحتاج إلى الطّواف لتصبح النّساء حلالاً عليه.. ولا يرى المسلمون الآخرون ذلك ضروريّاً، وتفصيل المسألة في الفقه.

والمراد بالبيت العتيق، الكعبة، الّتي كانت أوّل بيت وضع للّناس، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ للذي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً{]آل عمران: 96]، وذلك لقدم بنائها.

علامة التقوى

}لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى{، في إشارة إلى ذبائح الحجّ الّتي يعدّها الحاج للهدي يوم النّحر امتثالاً لأمر الله، فله أن ينتفع بلبنها وبركوبها إلى الوقت المحدّد للذّبح أو النّحر، فإنّ إعدادها للهدي لا يجعلها محرّمة عليه قبل ذلك، لأنها تكون ملكاً له، لا مانع من تصرّفه بها بما لا ينافي تقديمها لله في العبادة.. وقد جاء في الحديث، أنّ رسول الله(ص) مرّ برجلٍ يسوق بَدَنَةً وهو في جهدٍ، فقال (ص ): "اركبها". قال الرّجل: يا رسول الله، إنّها هدي، فقال(ص): "اركبها، ويلك"{ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}، وهو البيت الحرام الّذي يشمل الحرم كلّه، وهو أرض الحرام، ومنها منى، الّتي تذبح فيها الأنعام للهدي.

البُدن من شعائر الله

}وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ{، فقد اعتبر الله نحر النّاقة السّمينة عند البيت الحرام من وسائل القرب إليه، كمظهر من مظاهر عبادته وطاعته، فيما يوحيه من دليل على حضور الله في وعي المؤمن وفي حركته}..لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ{، لما تنتفعون به من لبنها ولحمها ووبرها وظهرها عند ركوبكم عليها، وفي حملها أثقالكم من بلد إلى بلد، }فَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَآفَّ{ قائمات قد صفّت أيديها وأرجلها عند النّحر، ولا تذكروا عليها غير اسمه.

وقد ذكر في صور النّحر للإبل، أنّ أفضل صوره، هو أن يقام البعير واقفاً تجاه القبلة، وأن تعقل إحدى يديه، ويتّجه النّاحر إلى القبلة أيضاً، ثم يضرب في لبّته بآلةٍ حادّة، من سكّين أو خنجر أو نحوهما.

}فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}، أي سقطت جنوبها على الأرض، وهو كناية عن خروج روحها بالنّحر، }فَكُلُواْ مِنْهَا{، فذلك مباح لكم، }وَأَطْعِمُواْ الْقَانِعَ{ الرّاضي بما يعطى من غير مسألة، }وَالْمُعْتَرَّ{ الّذي يتعرّض لك بالمسألة لتعطيه، وكلاهما في موقع الفقر والحاجة، }كَذلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ{ وأخضعناها لإرادتكم، وجعلنا منافعها في خدمة حياتكم لتنتفعوا بها، ولتدركوا مواقع النّعمة في خلقها، }لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}  الله الّذي خلقكم وخلقها، ورزقكم ورزقها، وجعلها من موارد رزقكم، فاستحقّ عليكم الشّكر بالقول، اعترافاً بجميل النّعمة في صنعه، وبالعمل طاعةً له في أوامره ونواهيه.

سرّ العبوديّة

}لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دماؤها{، فإنّ الله غنيٌّ عنها وعنكم، لأنّه هو خالقها وخالقكم، فلم يتعبّدكم بنحرها لترجع منفعتها إليه، تماماً كما هو الحال في العبادات كلّها، الّتي لن يرجع منها شيءٌ إليه، لأنّه الربّ الغنيّ عن عباده، الّذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، }وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ{، فيما يعبّر عنه موقف العطاء المادّيّ بلا مقابل تقرّباً إلى الله، من حركة داخليّة تنمّي التقوى في النّفس، وتثيرها في الواقع، ذلك أنّ الممارسة كلّما امتدّت في حياة الإنسان، عمّقت تجربته الرّوحيّة في الدّاخل، بحيث تصبح الحركة على المستوى العمليّ هي السّلوك الّذي يختزن الحالة الرّوحيّة في المعنى، وبذلك تصبح الممارسة أسلوباً في التّربية الّتي تبني الدّاخل وتحدّد ملامح الشخصيّة، الأمر الّذي يجعلنا نسعى إلى تعميق الفكرة في النّفس، عبر تكرار العمل الّذي يطبع معناها ويعكسه في الواقع.

والتّقوى حالة روحيّة يتحسّس الإنسان من خلالها في قلبه وروحه سرّ العبوديّة لله، لجهة وعي المسؤوليّة وتجسيدها حركة في الواقع، في شعور عظيم بالحضور الإلهيّ الّذي يحيط بكلّ ما حوله ومن حوله، وما فوقه وما تحته، لأنّ الله هو المهيمن على كلّ شيء، والخبير بكلّ سرّ وعلانية، وهو على كلّ شيء قدير.

* المصدر: كتاب "من وحي القرآن".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية