إذا نظرنا إلى النيّة في ذاتها، بغضّ الطرف عن علاقتها بالفعل والفاعل، كان وجودها كعدمها، تماماً كالتصورات والأمنيات التي لا يلحقها أي فعل ونشاط، أما قوله تعالى: {وَإنْ تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ}(284 ـ البقرة)، وما في هذا المعنى من الآيات، فالمراد منه ما يُترجم ويتجسّم في شيء ملموس، أمّا السّجين الدفين في الأعماق من حيث هو، فلا سؤال عنه ولا حساب عليه، وسبق الكلام عن ذلك في فقرة حديث النفس من فصل المسؤوليّة.
وإذا نظرنا إلى النية من حيث علاقتها بصاحبها، كان لها شأن ووزن، وإن ظلت سجينة في النفس، لأنّ نيّة الخير تنبئ عن طيب القلب وشرف النفس وكمال الذّات، ونيّة السوء والشرّ تدلّ على خبث السريرة ومرض في القلب ونقص في الذات والصفات.
والأول أهل للإحسان والإكرام، لأنه يستشعر الخير ويُرجى منه، على عكس الثاني الذي لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره، وهو بذلك يستحقّ الذمّ والعقاب بحكم العقل والعقلاء، ولكنّ الله سبحانه يعفو عنه تفضّلاً منه وكرماً (أول من تكلم بالفلسفة اليونانية اسمه ثالس الملطي، ومن أقواله: القصد من وجود الإنسان أن لا يفعل الشرّ، لا أن يُمنع من التفكير في الشرّ). قال الإمام زين العابدين (ع): "وأما العاصي أمرك، فلم تعاجله بنقمتك.. ولقد كان يستحقّ في أول ما همّ بمعصيتك ما أخّرت عنه من عذاب.. وهذا ترك لحقك، ورضى بدون واجبك، فمن أكرم منك يا إلهي؟".
وفي الحديث: "من همّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همّ بها وعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة.. ومن همّ بسيّئة ولم يعملها، لم تكتب عليه".
وفوق ذلك، رفع الإسلام نيّة الخير بلا عمل إلى العمل القائم على نيّة الخير، فقد جاء في سفينة البحار: "من أحبَّ قوماً حشر معهم، ومن أحبَّ عمل قوم شاركهم فيه". وعن البخاري، أنّ النبيّ (ص) قال لأصحابه الذين جاهدوا في بعض الغزوات: "إنّ بالمدينة قوماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم.. حبسهم العذر".
وعن الترمذي منسوباً إلى الرسول الأعظم (ص): "إنّ الفقراء الذين يغبطون المتصدقين، سوف ينالون نفس الثّواب عند الله" . والشّرط الأساس لهذه المشاركة، صدق النيّة والعزم الوطيد، بحيث لا يصرفها عن العمل إلا مانع قاهر، تماماً كما حدث للمعذرين الذين ذكرهم سبحانه بقوله: {إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ}(92 ـ التوبة).
وفي نهج البلاغة خطبة 188: "من مات منكم على فراشه وهو على معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته، مات شهيداً، أو وقع أجره على الله، واستوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، وقامت النيّة مقام إصلاته لسيفه".
وأيضاً اشتهر عن صاحب الشّريعة السمحة: "إنّ نيّة المؤمن خير من عمله، ونيّة الكافر شرّ من عمله". وكثرت الأقوال والتفاسير حول هذا الحديث حتى انتهت إلى عشرة!.. مع أنه من المحكمات لا من المتشابهات فيما نظن، لأن (خير) هنا ليست للتفضيل والمفاضلة، بل لمجرّد الخير، تماماً كما في قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ}(10 ـ البقرة). وكلمة (من) للتبعيض، مثل "منهم من آمن ومنهم من كفر". والمعنى أن نيّة المؤمن من غير عمل لصارف ومانع، تحسب له وتسجّل، وتكون بعضاً من أعماله الباقيات الصالحات، وكذلك الكافر حين ينوي عملاً من أعمال الكفر.
هذ إلى أنّ الكافر كلّه شرّ ذاتاً وعملاً ونيّة.
وقد يقول قائل: إنّ حديث "من همّ بسيّئة ولم يعملها لم تكتب عليه"، يتنافى مع حديث "إذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار". فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه". والجواب، إنّ هذا الحديث موضوع في مقابل حديثين صحيحين: الأوّل "يا عمار، تقتلك الفئة الباغية"، والثاني "إن علياً(ع) أمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين"، والفئة الأولى أهل الجمل، والثانية أهل صفين، والثالثة الخوارج.
وبعد، فقد تبيَّن لنا مما عرضناه في هذه الفقرة، والتي قبلها بلا فاصل: أنّ النيّة والإرادة شرط ضروريّ لصحة الأعمال كلّها أو جلّها، حيث لا أثر لعمل غير شعوريّ ومراد، وبالخصوص من حيث العقوبة والمثوبة.. وأيضاً استبان بوضوح أنّ من نوى الشّرّ واعتزم على فعله ثم تركه لسبب أو لآخر، فهو خليق بالذّمّ والعقاب أصلاً وعقلاً، ولكنّ صاحب الأمر والشّرع أطلقه وأعفاه تفضّلاً وكرماً، وأمّا من نوى الخير بصدق وعزم، وحيل بينه وبينه، فهو من عباد الله المخلصين.
وكلّ ما قيل أو يمكن أن يقال حول هذا الموضوع، فهو مجرّد محاولة لتفريع الجزئيات واستخراجها من هذا المبدأ العام الذي أعلنه صاحب الشّرع والشّريعة بقوله: "لا يصلح قول إلا بعمل، ولا يصلح قول وعمل إلا بنيّة، ولا يصلح قول وعمل ونيّة إلا بموافقة السنّة"، لأن ما خالف كتاب الله وسنّة نبيّه فهو بدعة وضلالة.
وأخيراً، صلوات الله وسلامه على الصّادق الناطق بلسان جدّه سيد الكونين (ص)، حيث يقول: "علينا أن نلقي إليكم الأصول، وعليكم أن تفرّعوا".
*من كتاب "فلسفة الأخلاق في الإسلام".