وفيه مسائل:
ـ التلف هو: (
حدوث ما يوجب خروج العين بمادتها وهيئتها عن ما يخصها من وجوه الانتفاع المعتد به)؛ مما يختلف في مظهره وتشكله اختلافاً كبيراً تبعاً لطبيعة الأشياء وهيئات صنعها، إذ إن تلف الكرسي يختلف عن تلف الطحين أو الكتاب أو الثوب أو الزيت أو غيرها مما لا يحصى كثرة. فإن تلفت الهيئة وبقيت المادة لم يعتبر ذلك تلفاً موجباً لضمان المثل أو القيمة بالنحو الذي هو مورد الكلام، بل إنه يكون مـن فـروع رد العين المغصوبـة التي ذكرناهـا سابقاً فـي محلها (
أنظـر المسألـة: 388).
ـ ينبغي تقسيم التلف ـ من جهة الفاعل ـ إلى قسمين:
الأول: التلف، وهو الذي يحدث على الشيء بأسبابه الطبيعية من دون قيام إنسان به، كموت الحيوان حتف أنفه، وفساد الفاكهة أو اهتراء الثوب بتقادم العهد ومرور الزمن، والحرق والغرق والسقوط من شاهق وافتراس الوحش ولدغ الحشرات السامة، وغير ذلك مما لا يكاد يحصى.
الثاني: الإتلاف، وهو: (
قيام فاعل بشري بعمل يؤدي إلى التلف مباشرة أو يكون موجداً لسبب يؤدي إلى التلف)، وهو ما قد يكون عن وعي وقصد واختيار، كالإتلاف الحادث من المكلف العاقل الملتفت المختار، أو يكون عن إكراه، أو عن غفلة وعدم التفات، كمثل ما يصدر عن الصبي أو النائم أو المجنون المطبق أو السائر في الظلمة ونحوها؛
والإتلاف نوعان:
1 ـ إتلاف المباشرة: وهو: (
قيام الفاعل بالعمل المتلف للعين، ولو بعد حين) كذبح الشاة أو تمزيق الثوب أو محو كلمات الكتاب أو هدم المنزل بآلة الهدم، ونحو ذلك.
2 ـ إتلاف التسبيب: وهو: (
قيام الفاعل بإيجاد مقدمات ما به يكون التلف)، وذلك مثلُ: بلِّ القمح بالماء المؤدي إلى تعفنه، أو إجراء الماء قرب أساس المنزل المؤدي إلى خسف التراب تحته وتهدمه، أو رش الماء على الطريق بما يؤدي إلى إنزلاق المارة به، ونحو ذلك.
ـ تتحدد مسؤولية من تلفت العين عنده، أو أتلفها هو حال وجودها عنده، أو مطلقاً، على النحو التالي:
أولاً: يضمن المتسلط على العين (أي: من كانت العين تحت يده) تلف المال الحادث عنده بأي سبب طبيعي، فضـلاً عـن ضمانـه له بإتلافه ـ أو إتلاف أجنبي له ـ مباشرة أو تسبيباً، في كل حالة يكون التسلط فيها على العين بغير وجهٍ حق، كالمأخوذ غصباً أو بالمعاملة المعاوضية الفاسدة أو اشتباهاً وجهلاً، وهو التسلط الذي يصطلح عليه بـ (يد العدوان)، وذلك بالمعنى الذي يشمل الغصب وما يلحق به مما لا عدوان فيه.
ثانياً: لا يُضمن كل تلف بسبب طبيعي واقع على العين عند المتسلط عليها بوجه حق، وهو ما يصطلح عليه بـ(يد الأمانة)، وهي تشمل حالة ما لو وُجد المال عنده بوكالة أو رهن أو عارية أو وديعة، أو معاملة معاوضية صحيحة إذا فسخت بالإقالة أو الخيار ولزم بسببه رد العين إلى صاحبها.
ثالثاً: يضمن كلُّ من (أتلف) مال غيره، سواءً في ذلك ما لو كان بقصد أو بدونه، وما لو كانت العين تحت يده أو لم تكن، ويد عدوان كانت أو يد أمانة، وبالمباشرة أتلفها أو بالتسبيب.
ـ إذا اشترك اثنان ـ أو أكثر ـ في إتلاف العين، فذلك على أنحاء:
الأول: ما إذا قاما معاً بإحداث الإتلاف، بحيث اشتركا في إتلاف كل جزء من أجزاء العين، وذلك كما لو أمسكا بالسكين فذبحا بها الحيوان، أو أشعلا النار في الثوب أو الشجرة في وقت واحد فأحرقاه، أو دفعا شيئاً بحركة واحدة من يديهما فتحطم، أو نحو ذلك؛ وهنا يكون الضمان موزعاً على الشركاء بالتساوي بنسبة عددهم، مناصفة إن كان الشركاء اثنين، وأثلاثاً إن كانوا ثلاثة، وهكذا؛ وذلك من دون فرق بين ما لو كان الإتلاف منهم بالمباشرة أو التسبيب.
الثاني: ما إذا اشتركا في إتلاف جميع العين، ولكن بفعل من أحدهما بالمباشرة ومن الآخر بالتسبيب، وهو ما يعبر عنه الفقهاء بـ (اجتماع المباشر والسبب)؛ وهنا يكون الضمان على من كان أقوى أثراً في الإتلاف، ففي مثل ما لو أوجد أحدهما السبب بحفر البئر، فقام الآخر بمباشرة دفعه في البئر، كان الضمان على الدافع لأنه أقوى أثراً من الحافر؛ وفي مثل ما لو وضع شخص قارورة تحت رجلي النائم فتحرك فكسرها يضمن واضع القارورة لأنه أقوى في الإتلاف من المباشر النائم؛ ومنه ما لو ترك الباب مفتوحاً فسرق المال، أو دل السارق على المال فسرقه، فالضمان على السارق لا على الدال ولا على فاتح الباب.
الثالث: ما إذا أنجز كل واحد منهما إتلاف قسم من العين بعمل مستقل، كما لو أحرق أحدهما اليوم جزءاً من الدار، ثم أحرق الثاني في اليوم الثاني الجزء الآخر منها؛ فهنا يضمن كل واحد منهما الجزء الذي أتلفه، سواء كانا مباشرين أو مسببين أو كان أحدهما مباشراً والآخر مسبباً.
هذا هو حكم الاشتراك من حيث المبدأ، لكنه قد يعرض على بعض موارده ما يوجب اختلافاً في حكمه، وذلك كما لو كانا ـ إضافـة إلى اشتراكهما في إتلاف جميع العين ـ قد اشتركا قبل الإتلاف في غصب جميع العين، فيجب ـ بذلك ـ على كل واحد منهما ضمان تمام العين، وجاز للمالك الرجوع على أيهما شاء (
أنظر المسألة: 375).
ثم إنه ـ نظـراً لتشعـب فـروع هـذه المسألـة ـ ينبغي الرجوع إلى الحاكـم الشرعي وأهل الخبرة لتحديد مدى مسؤولية كل واحد من الشركاء، ولا سيما في حالات التسبيب وحالات اجتماع السبب والمباشر.
ـ إذا غصب مأكولاً، فأطعمه المالك مع جهله بالحال، كما لو قدمه له بعنوان الضيافة؛ أو غصب شاة وطلب من مالكها ذبحها على أنها مال الغاصب فذبحها جاهلاً بالحال ـ أيضاً ـ، ضمن الغاصب الطعام والشاة رغم أن مباشر الإتلاف هو المالك، لأن سببية الغاصب في الإتلاف أقوى من المباشر؛ نعم لو دخل المالك دار الغاصب فوجد طعاماً فأكله دون أن يدري أنه مغصوب منه لم يضمن الغاصب ما تلف من الطعام.
ـ كل حيوان يكون عند مقتنيه ـ مالكاً كان أو غيره، كالمستأجر والمستعير ـ فيجني على مال غيره من زرع أو متاع فيفسده، فإن كان مقتنيه معه، راكباً أو سائقاً أو قائداً أو مصاحباً، ضمن ما أفسده، وإن لم يكن معه، بأن خرج من حظيرته وسرحَ فأفسد زرعاً أو متاعاً لم يضمن مقتنيه جنايته إلا أن يكون قد قصّر في حفظه برباط أو بإغلاق باب الحظيرة إن كان ذلك من شأنه عرفاً، ومن ذلك ما لو انسلّ ليلاً فأفسد زرع جاره، أما إذا انسلَّ نهاراً فأفسد الزرع لم يضمن مقتنيه جنايته لأن صاحب الزرع مقصر في حفظه من العوادي بترك حراسته له أو نحوها مما هو متعارف في مثله؛ ومن موارد هذه المسألة ما لو جعل متاعه في الطريق فأتلفه الحيوان الذي قصّر صاحبه في ربطه. هذا، وحيث يكون الضمان على المقتني غير المالك، كالمستأجر والراعي والمستعير فإنه ليس للمجني عليه أن يرجع على مالك الحيوان، فضلاً عن أنه ليس للمقتني الرجوع على المالك بعد رجوع المجني عليه على المقتني.
نعم، إذا كان الحيوان طائراً، فَفُتح بابُ قفصه فكَسَر بخروجه قارورةً أو أراق ما فيها، ضمن فاتح القفص ما أفسده حتى لو كان ذلك لضيق القفص واضطرابه عند خروجه منه.
ـ إذا وشى شخص على آخر إلى الظالم، أو اشتكى عليه عنده بحق أو بغير حق، فأخذ الظالم منه مالاً بغير حق، لم يضمن الواشي والشاكي ما خسره، بل الضمان على آخذ المال، نعم يأثم الواشي أو الشاكي حيث لا يكون محقاً، أو محقاً دون أن ينحصر استنقاذ الحق بالظالم.
ـ إذا انهـار جدار شخـص ـ أو انقلعـت شجرتـه ـ فوقع على حيوان شخص آخر أو متاعه أو زرعه أو نحو ذلك فأتلفه، لم يضمن صاحب الجدار إلا عند توفر ما يلي:
أ ـ أن يعلم بأن الجدار ـ أو الشجرة ـ في معرض السقوط، ويدع إصلاحه وتدعيمه أو هدمه.
ب ـ أن يجهل صاحب المال التالف بحال الجدار فيجعل حيوانه أو متاعه أو زرعه قرب الجدار.
وإلا فإن جهل صاحب الجدار بحاله، أو علم صاحب المال التالف بتصدع الجدار، لم يضمن صاحب الجدار ما تلف بانهياره.
ـ إذا تصرف شخص في ملكه بما هو مشروع له، فتلف بسببه مال غيره، لم يضمن المتصرف إلا إذا كان من شأن ذلك العمل الإضرار بالغير عند إهماله وترك التحرز منه، وذلك في مثل الحالات التالية:
أ ـ من وضع إناء زهور أو إبريق ماء على حائطه، وكان في معرض السقوط، فأهمله فسقط على حيوان الغير أو متاعه فأتلفه.
ب ـ من أشعل ناراً في ملكه من شأنها السراية إلى زرع غيره، فلم يتحرز من سرايتها فسرت إليه وأحرقته.
ج ـ من أرسل الماء في ملكه، وكان من شأنها التعدي إلى ملك جاره والإضرار به، فلم يتحرز من تعديها فتعدت إليه وأتلفته.
أما إذا لم يكن الإبريق في معرض السقوط، ولا النار أو الماء في معرض السراية والتعدي، فاتفق إضرارها بالغير، لم يضمن صاحب الإبريق والأرض ما تلف.
ـ إذا كان السبب ـ بذاته ـ غير كاف في إحداث التلف إلا إذا وقع في ظرف معين، ضَمِنَ المُسبِّبُ ما يتلف به إذا صادف ذلك الظرف ولو دون قصد أو علم منه، وذلك في مثل الحالات التالية:
أ ـ حَبَسَ الشاة المرضعة عن وليدها، وكان غذاؤه منحصراً بها، فمات.
ب ـ حَبَسَ الراعي عن ماشيته، وكانت في محل فيه سباع لا يحميها منها إلا الراعي، فقتل السبع بعضها.
ج ـ فَتَحَ غطاء إناء فيه زيت في مجال عصف الريح أو تقافز الطيور، فوقعت وأهريق زيتها فتلف.
أما إذا فعل ذلك في ظرف عادي، فصادف موت الوليد أو افتراس السبع لبعض الشياه أو وقوع إناء الزيت، لم يضمن ما تلف.
ـ إذا أسند شخص حمله إلى جدار الغير ليستريح، فانهار الجدار تحت ثقله، فإن كان ذلك بإذن صاحب الجدار لم يضمن الحمَّال الجدار ولا ما يتلف بوقوع الجدار عليه، وإلا ضمنهما. ولو وقع نفس الحمل على شيء فأفسده، فإن وقع أثناء حمله له ضمن ما تلف بوقوعه، وإن وقع بعدما وضعه من يده لم يضمن إلا إذا قصر في وضعه بالطريقة المناسبة.
ـ من أضر بالطريق كان ضامناً لما يحدث بسببه من تلف في مال الغير، وذلك كأن أجرى عليها بالماء أو النفط فانزلقت به سيارة أو حيوان فتلف، أو حفر حفرة ولم يتحرز من وقوع الغير فيها بغطاء ونحوه، أو نحو ذلك من التصرفات المنافية لحق المارة.