المرجعيّة الدينيَّة بين الواقع التَّقليديّ وطموحات المأسسة
العلامة فضل الله أنموذجاً
شهدت الحوزة العلميَّة للمسلمين الشّيعة في القرن الماضي، دعوات جديَّة واقتراحات منهجيَّة لتطوير المرجعيَّة الدينيَّة ومأسستها. ولعلَّ أبرز المناقشات حول تطوير المرجعيَّة ومأسستها، تعود إلى خريف العام 1960م وشتاء العام 1961م، حيث انطلقت نقاشات بين الفقهاء والعلماء في إيران حول اختيار مرجع التَّقليد ووظائفه. وكان من أبرز الّذين طرحوا أفكاراً وكتبوا أبحاثاً حول تطوير مرجعية التقليد وآلية اختيارها ووظائفها وتحويلها إلى مؤسَّسة، السيد محمود الطالقاني (1979م)، والسيد مرتضى الجزائري، والشيخ مرتضى مطهّري (1979م)، والشيخ محمد مهدي بهشتي (1980م)، والمفكّر الإسلامي مهدي بازرگان (1995م).
ولاحقاً، طرح السيّد محمد باقر الصّدر أطروحة أطلق عليها تسمية "المرجعيّة الصّالحة أو الرَّشيدة"، وطرح السيد محمد حسين فضل الله (2010م) كذلك اقتراحاً سمّاه "المرجعية المؤسَّسة"، إضافةً إلى أفكار متفرّقة طرحها عدد من العلماء والفقهاء، تركَّزت على تطوير المرجعيَّة والحوزة الدينيَّة، وأبرز هؤلاء: الشيخ محمد مهدي شمس الدين (2001م)، والشيخ محمّد جواد مغنيّة (1980م)، والشيخ محمد رضا المظفر، والسيد علي الخامنئي، وغيرهم. وسوف نعرض لمعظم هذه الأفكار مع التَّشديد على أطروحتي السيّدين محمد باقر الصدر ومحمد حسين فضل الله بشأن مأسسة المرجعيَّة، لكونهما أكثر تفصيلاً وشموليَّة.
نشوء نظريَّة المجتهد الأعلم
بعد خسارة الاتّجاه الأخباري على أيدي الأصوليّين، بزعامة الشَّيخ وحيد البهبهاني (1791م) في كربلاء، والَّذي كان إيذاناً ببدء التَّغيير لمصلحة اتجاه الأصوليّين، حصل البهبهاني على لقبي المؤسِّس والمجدّد للفقه الاثني عشري.
وقد تركَّز جدل البهبهاني مع خصمه الشَّيخ يوسف البحراني (1758م) على ضرورة الاجتهاد بعد الغيبة الكبرى للإمام المهدي، واستحالة استفتاء الإمام الغائب في قضايا الدّين والفقه. وهكذا اتجه البهبهاني إلى القول بـ "العلم الإجمالي" للمجتهد بعد غيبة الإمام، وإمكان تقليده بشكلٍ لم يسبق له مثيل لدى الاثني عشريَّة. وقال البهبهاني: إنّ ثمّة رأياً سائداً يقول: إنّ باب معرفة الأحكام أقفل بعد غيبة الإمام، لكن مع ذلك، لا بدّ من استمرار التأمّل، ولا يستطيع أحد إغلاق باب الاجتهاد، على الرّغم من عدم تحقّق العلم اليقينيّ. ثم إنَّ هناك بديهيّات لا يمكن إنكارها، وإن لم تصدر عن الأئمَّة المعصومين. فلا بدَّ في النهاية من اعتبار الاجتهاد المستند إلى الدّليل مفيداً للعلم والبرهان، وإلا صار الدِّين مستحيلاً، ولكي لا تصبح الأمور فوضى، يقتصر الأمر على المجتهدين([1]).
وهكذا قاد البهبهاني القول ببلوغ المجتهد درجة العلم، إلى القول إنَّه بمثابة وكيلٍ للإمام أو نائبٍ عنه. ثم جاء الشّيخ أحمد النراقي (1245هـ ــ 1830م) فقال بذلك صراحةً، مشدِّداً على أنَّ المجتهدين الَّذين يبلغون هذه الرّتبة قلّة تتوافر لها الأعلميَّة. وأوضح أنَّ الفقيه الذي يستحقّ لقب نائب الإمام، هو رأس المجتهدين وأعلمهم، وهو وحده الّذي يستحقّ التقليد من جانب المكلَّفين. وكان هذا التّطوّر في القرن التّاسع عشر، بحسب أحد الباحثين([2]).
ويبدو أنَّ ثمة تضارباً في الآراء بشأن بداية القول بوجوب تقليد الأعلم، فقد ذكر السيّد مرتضى الجزائري، أنَّ مسألة تقليد الأعلم، أي اتّباع عامّة الناس للمجتهد الأعلم من بين المجتهدين الآخرين، هي مسألة حديثة نسبياً في التاريخ الفقهيّ الشيعيّ، تعود فقط إلى ثلاثة أو أربعة قرون؛ إذ لم تكن مطروحةً قبل ذلك. ففي العصر القاجاري، استخدم العلماء كلّ التطوّرات التي تقول بتقليد المجتهد الأعلم لتأسيس مرجعيّة التقليد. وقد ظهر مصطلح الأعلم والأعلميّة للمرة الأولى لدى الشيخ حسن العاملي في كتابه "معالم الأصول"، لكن الأعلم عنده هو ذلك المتقدّم في الحديث وأقوال الأئمة([3]).
ويعتقد البعض أنّ مسألة تقليد الأعلم قد طرحت في زمن الشيخ جعفر الكبير، المشهور بـ "كاشف الغطاء" (1228هـ)، صاحب كتاب "كشف الغطاء عن خفيات الشريعة الغرّاء"، بينما يذهب آخرون إلى القول: إنها طرحت في زمن شيخ الفقهاء مرتضى الأنصاري (1281هـ ـ 1864م)، رائد المرحلة الخامسة من تطوّر الفقه الشيعي([4]). فعندما استقرَّ الشيخ الأنصاري كمرجع تقليد، خلفاً للشيخ النجفي الأصفهاني (1266هـ ـ 1849م)، رأى أنّ المعتبر هو الأعلم في الأصوليّين([5]).
وأوضح الطّبطبائي اليزدي (1338هـ ــ 1920م) أواخر القرن التاسع عشر، شرط الأعلميّة، كما قال بضرورة تقليد المجتهد الأعلم. أمّا المجتهد الأعلم، فهو القادر ــ استناداً إلى معرفته الوثيقة بأصول الفقه ــ على استنباط الأحكام الشّرعيّة من أدلّتها الفرعيَّة. وأكَّد اليزدي ضرورة التقليد من جانب المكلّف للمجتهد الأعلم، واستحالة معرفة أحكام الدّين من دون التقليد. وكان هذا التّأكيد على ضروة التقليد ظاهرة جديدة في المذهب الاثني عشري في العصر القاجاري؛ إذ كان مجتهدو العصر المغولي، مثل: ابن المطهّر والشّهيد الثاني، قد اكتفوا بالحديث عن ضرورة المجتهد، وبخاصّة الشّيخ حسن العاملي (1111هـ ــ 1601م)([6]).
لكنّ الشّيخ محمد إبراهيم جناتي يزعم أنَّ بحوثاً قام بها تثبت أنَّ مسألة لزوم تقليد الأعلم قد طرحت بعد زمن التّشريع، أي عصر رسول الله والأئمّة، وعلى امتداد مراحل الفقه([7]).
الدّور التّاريخيّ للمرجعيّة
لعبت المرجعيّة الدينيّة لدى الشّيعة الاثني عشرية دوراً دينياً واجتماعياً وسياسياً متميّزاً منذ بداية الغيبة الكبرى، فقد أمّنت العلاقة المباشرة بين الفقيه مرجع التّقليد وبين أتباعه ومقلّديه، استقلاليةً للمرجعيّة عن المؤسّسة السياسيّة الحاكمة، سياسياً ومالياً؛ نتيجة اعتماد مراجع التقليد على أموال الخُمس والزكاة، والّتي يدفعها لهم مقلِّدوهم ليصرفوها في مواردها الشّرعيّة، ومنها: سهم الإمام المهدي الغائب، الّذي يصرف منه على معيشة الفقهاء وعوائلهم وطلاب العلوم الدينيّة، فضلاً عن رعاية اليتامى والمحتاجين وأبناء السبيل.
وقد مارست المرجعيّة الدينيّة أدوراً خطيرة في تاريخ الأمَّة الإسلاميَّة، عبر فتاواها الَّتي أصدرتها في أوقات حسّاسة في التاريخ الحديث، فكان لها تأثيرها الكبير في مجريات الأحداث، كما حدث ـ مثلاً ـ في فتوى الجهاد ضدّ الاستعمار البريطاني، التي صدرت عن مراجع التقليد في العراق العام 1919م، والتي نصّت على قتال الإنكليز وحرمة التعامل معهم. وكذلك فتوى السيد حسن الشيرازي من سامراء، التي حرّم فيها التّنباك في إيران العام 1891م، وذلك احتجاجاً على اتّفاقية احتكار التبغ الموقّعة بين الشّاه ناصر الدين وبريطانيا، ما اضطرّ الشاه إلى إلغاء هذه الاتفاقيّة، وكانت ثورة الدّستور أو المشروطة للعام 1905م، والتي تزعّمها اثنان من كبار الفقهاء في إيران، هما: السيّد محمد الطباطبائي، والسيد عبد الله البهبهاني، والتي دعمها كبار مراجع التقليد، وبخاصّة الشيخ كاظم الخراساني، والشيخ عبد الله المازندراني، والشيخ محمد حسين النّائيني، وكذلك فتوى الملاّ الخراساني بالجهاد ضدّ الغزو الروسي لإيران العام 1909م، مروراً بالفتوى الشّهيرة للميرزا محمد تقي الشّيرازي في 23 كانون الثّاني 1919م، والتي حرّمت المشاركة في استفتاءٍ يهدف إلى قيام إدارة بريطانية في العراق، وثورة العشرين في 30 حزيران 1920م ضدّ الاحتلال البريطاني للعراق، وصولاً إلى الثورة الإسلامية في إيران العام 1979م بقيادة الإمام الخميني.
وقد لعب المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي دوراً بارزاً في العراق، من خلال تصدّيه السلمي لنظام صدّام حسين، وحفظه للحوزة العلميَّة في النجف الأشرف، على الرغم من إجرام هذا النظام ومحاولاته الحثيثة على مدى ثلاثة عقود لطمس دور المرجعية الدينيَّة والحوزة العلميَّة، وقمعه للحركة الإسلاميَّة في العراق، وقتله وسجنه للعلماء والمفكِّرين والمعارضين، وتقييده الممارسات الدينيَّة للمسلمين الشيعة في بلاد الرّافدين، وارتكابه الكثير من المجازر الجماعيّة ضد الشعب العراقي بمختلف طوائفه وأعراقه وأطيافه. وكان لافتاً موقف المرجع السيد علي السيستاني، بعد الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003م، الذي رفض قيام حكم عسكريّ أميركيّ في البلاد، وأرغم موقفه قوات الاحتلال الأميركيَّة على إنشاء مجلس حكمٍ انتقاليٍّ عراقيّ، ومن ثم إجراء انتخابات تشريعيَّة ديمقراطيَّة أسفرت عن قيام حكومة عراقيَّة منتخبة.
وعلى الرغم من القاعدة الجماهيرية الواسعة والموقع السياسيّ والدينيّ الّذي تتمتَّع بهما المرجعية الشيعيّة، إلاّ أنها بقيت على شكلها التقليدي القائم على الدور المركزي للمرجع الفرد، واستمرّت في الغالب في تبنّي الأطر التنظيمية التقليدية نفسها في مسائل تحصيل الأموال الشّرعيّة وصرفها، وفي إدارة الحوزة العلميّة ومناهجها العلميّة، إلى استمرار تعدّد مراجع التقليد، وبروز انقسامات وخلافات حول المرجع الأعلم، وكيفيّة تعيينه أو اختياره وتقليده من قبل المكلّفين. كلّ ذلك جعل بعض العلماء والفقهاء يطرحون أفكاراً ونظريّات عدة لتطوير المرجعيّة الدينيّة، وجعلها مؤسَّسةً قائمةً بذاتها، ومكوّنةً من أجهزة ومستشارين وخبراء متخصِّصين، وذلك على غرار وزارات الأوقاف في الحكومات الإسلاميَّة الّتي تتبع المذاهب السنّية، ومؤسَّسة الفاتيكان لدى المسيحيّين الكاثوليك.
الجدل حول تطوير المرجعيَّة
ولعلّ أبرز المناقشات حول تطوير المرجعيَّة ومأسستها، تعود إلى خريف العام 1960م وشتاء العام 1961م، حيث انطلقت نقاشات بين الفقهاء والعلماء في إيران حول اختيار مرجع التّقليد ووظائفه، وذلك إثر وفاة المرجع السيّد البروجردي في آذار 1960م، وطرح فكرة خلافته، والخشية من تدخّل حكومة شاه إيران في اختيار مراجع التقليد وتحديد وظائفهم. وكان من أبرز الذين طرحوا هذه الفكرة، وكتبوا أبحاثاً حول تطوير مرجعية التقليد، وآليّة اختيارها، ووظائفها، وتحويلها إلى مؤسَّسة، السيد محمود الطالقاني (1979م)([8])، والسيد مرتضى الجزائري، والشيخ مرتضى مطهَّري (1979م)، والشيخ محمد مهدي بهشتي (1980م)، ومهدي بازرگان(1989م). وقد صدرت هذه الآراء في كتاب يحمل عنوان "دراسة حول المرجعيَّة والمؤسَّسة الدّينيّة". وقد لاقى الكتاب نجاحاً هائلاً، واعتبر أهمّ كتاب يصدر في إيران منذ صدور كتاب النائيني المعنون "تنبيه الأمّة وتنزيه الملّة"([9]).
وقد ناقش السيد مرتضى الجزائري آليَّة نشوء مرجعيَّة التقليد لدى الشيعة الاثني عشرية، وأشار إلى أنّ مسألة تقليد الأعلم، أي اتّباع عامّة الناس للمجتهد الأعلم من بين المجتهدين الآخرين، هي مسألة حديثة نسبيّاً في التاريخ الفقهيّ الشيعيّ، تعود فقط إلى ثلاثة أو أربعة قرون؛ إذ لم تكن مطروحة قبل ذلك.
وخلص الجزائري إلى أنَّ تحديد مَنْ هو الأعلم بين الفقهاء مهمَّة مستحيلة؛ إذ قد يتساوى فقيه مع آخر، أو أنّه لا يمكن لفقيهٍ أن يكون الأعلم في جميع أبواب الفقه. وبناءً عليه، اقترح الجزائريّ قيام مجلس (شورى الفقهاء)، يتألَّف من كبار الفقهاء المعاصرين، بحيث يبحث المجلس جميع المسائل والمشكلات، ويتمّ اعتماد رأي الأكثريّة بعد المناقشة الكاملة للمسألة([10]).
وذكّر الجزائري بأنَّ الاجتهاد (لدى الاثني عشرية) هو تطوّر حديث نسبيّاً، إذ لم يتمّ اعتماد الاجتهاد في زمن الأئمة المعصومين، وحتى بعد قرن أو قرنين لاحقاً، إذ استند الفقه الشيعيّ آنذاك إلى العمل بالروايات المنقولة عن الرسول وآل البيت. واعتبر الجزائري أنّ قيام مجلس شورى الفقهاء يعتبر خطوةً أولى في تحوّل المرجعية إلى مؤسسة، ويمنح المرجعية الدينيَّة قوَّةً واستقلاليَّةً أمام الدولة، كما يمنح الفقهاء الأفراد حريَّةً أوسع، ويقوّي موقعهم، ويشجّعهم على اتّخاذ مواقف أكثر إيجابيّة وشورويّة([11]).
كما ناقش السيّد محمود الطالقاني مسألة تمركز مرجعيَّة التقليد، ورأى أنّه لا يجب حصرها في شخصٍ واحد، وذلك انسجاماً مع التطوّرات السياسيَّة والاجتماعيَّة والعلميَّة الحديثة في العالم، بحيث لا يمكن لأحد من الفقهاء أن يكون الأعلم في جميع أبواب الفقه. وقد برّر رأيه بأنَّ الحاجة إلى اتّخاذ قراراتٍ في مشكلاتٍ تتعلّق بأنواعٍ مختلفةٍ من المساواة والمشكلات في الحياة العصريّة، تدفع إلى عدم تركّز المرجعيّة الدينيّة، وإلى حاجة مرجعيّة التقليد إلى التوسّع في العلوم والتعمّق والتخصُّص فيها. وأشار إلى حاجة مرجع التقليد إلى مستشارين ذوي علم ومعرفة غير عاديين. لكنّ الطالقاني نبّه إلى مساوئ تعدّد مراجع التّقليد، وعدم مركزيَّة المرجعيّة الدينيّة، وعدم تعاون الفقهاء فيما بينهم، فاقترح إنشاء لجنة مكوَّنة من علماء المحافظات وفقهائها، تلتقي لمناقشة المشكلات المطروحة، ومن ثم إعلان النتائج التي تتوصّل إليها([12]).
لذلك، اقترح الجزائري أيضاً قيام مجلس شورى فقهاء، برئاسة أحد كبار الفقهاء في إحدى الحوزات العلميَّة الرئيسة، وأن يبحث هذا المجلس كلّ شهرٍ أو كلّ بضعة أشهرٍ المشكلات الراهنة، وأن يدعو كذلك فقهاء المحافظات إلى التعبير عن آرائهم، وأن يناقش أعضاء هذا المجلس هذه المسائل الدينيَّة والفقهيَّة مع تلاميذهم، على أن يتمّ إعلان القرارات التي يتم التوصّل إليها. لكنّ الطالقاني لم يسهب في تحديد سلطات كلٍّ من هاتين الهيئتين، أي مجلس شورى الفقهاء ولجنة العلماء، والعلاقة بينهما([13]).
بدوره، بحث الشّيخ مرتضى مطهّري مسألة مرجعيّة التقليد، وذلك في الإطار العام للاجتهاد والتقليد، وقارن رؤية الشيعة للاجتهاد والدّولة برؤية أهل السنّة لهما، إذ كان الشّيعة الاثنا عشرية قد رفضوا الاجتهاد (القياسي) الذي استخدمه السنّة، ولكنّهم عادوا وقبلوا به لأوّل مرة في القرن الخامس هجري، باعتبار أنه استنباط للحكم الشّرعيّ استناداً إلى أدلَّة الشريعة المعتبرة. وأشار مطهّري إلى التطوّر التّدريجيّ لعلم أصول الفقه لدى الاثني عشريَّة، وتطوّر مفهوم الاجتهاد، الذي يتطلّب معرفةً لعددٍ من العلوم الأخرى غير الفقه وأصوله، بحيث يطلق على العالم بهذه العلوم تسمية مجتهد. وذكر أنّ أوّل مَنْ استخدم تعبير اجتهاد ومجتهد بين الشّيعة بهذا المعنى، كان ـ على الأرجح ـ الحلّي([14]).
ورأى مطهَّري أن ليس على الفقيه المجتهد الحقيقي التمتّع بالقدرة على استنباط الحكم الشّرعيّ، والمعرفة بعلوم الفقه والحديث والتفسير واللغة وما إلى ذلك من العلوم الدينيَّة التقليديَّة فقط، بل عليه أن يكون على صلة بالشّؤون العامّة المعاصرة في مواجهة المشكلات الجديدة والظروف المتغيّرة في العالم. وعليه، فإنَّ مطهّري الذي يعتقد أنَّ الإنسان له قدرات محدودة، قد ذهب إلى ما ذهب إليه الفقيه عبد الكريم اليزدي من الدَّعوة إلى التخصّص في الدراسات الفقهيّة، بحيث يتخصَّص كلّ مجتهد في أحد أبواب الفقه، ويتمّ تقليده في هذا الباب. كما دعا إلى التّعاون بين الفقهاء والعلماء، الذي كانت تفتقده الحوزات الدينيّة الشيعيّة([15]).
كما بحث مطهّري في دراسةٍ أخرى مسألة المؤسَّسة الدينيّة الشيعيّة ونقاط ضعفها، فدعا إلى جعل المرجعيّة الدينية مؤسَّسةً، بحيث يتمّ تنظيم مدارسها الدينيّة، وإدارة أحوالها الشرعيّة وأوقافها، وصرف هذه الأموال، بطريقة مؤسّساتيّة حديثة، حيث يتمّ الصّرف على الطلاب والعلماء والمحتاجين من خلال هذه الأموال بطريقةٍ لا يمكن معها سوء استغلال هذه الأموال أو سوء صرفها([16]). كما طالب مطهَّري بالاستقلاليّة الماليَّة للمرجعيّة الشيعيّة، إذ رأى في تسلّط الجماهير على المرجعيّة مشكلةً كبيرة، وأشار إلى التأثير السلبيّ لأموال تجار البازار وكبار الملاّك وعامّة الناس في المجتهدين، حيث إنّ إعتماد المراجع على هؤلاء جميعاً، يجعل اجتهاداتهم تحت رحمة ميولهم المتخوّفة من التّجديد والتّغيير([17]).
بدوره، دعا السيد محمد بهشتي، الَّذي اغتيل في بدايات انتصار الثّورة الإسلاميّة العام 1980م، إلى قيام مؤسَّسة دينيَّة تقوم بالاهتمام بالتّعليم الدينيّ، وتخريج العلماء والمجتهدين، وتقوم بالصَّرف عليهم ودفع رواتبهم من بيت المال، وكذلك بالإجابة عن المسائل الدينيَّة وحلّ المشكلات الفقهيّة للناس([18]).
أمّا أبرز الطروحات الجدّيّة والمنهجيّة لتطوير المرجعية الدينيّة ومأسستها، فهما: أطروحة السيد محمد باقر الصدر، التي أطلق عليها تسمية "المرجعية الصالحة أو الرشيدة"، وأطروحة السيد محمد حسين فضل الله(2010م)، اللتان سنعرضهما بشكل مفصّل في الصفحات التالية.
السيد محمد باقر الصدر و"المرجعية الرشيدة"
قدم السيّد محمد باقر الصَّدر أطروحة لتطوير المرجعيَّة الدينيّة لدى الشيعة الاثني عشريَّة، أطلق عليها تسمية "المرجعية الرشيدة"، تميّزت بتحديد تصوّر واضح للأهداف الحقيقيّة التي يجب أن تسير عليها المرجعية في سبيل خدمة الإسلام وقيادة الأمة.
ويمكن تلخيص أهداف هذه "المرجعية الرشيدة"، كما يراها الصدر، على الشكل التالي([19]):
1 ــ نشر أحكام الإسلام بين المسلمين، والعمل لتربية كلّ فرد منهم تربية دينيَّة تضمن التزامه بتلك الأحكام.
2 ــ إيجاد تيار فكريّ واسع في الأمّة يلتزم المفاهيم الإسلاميَّة الواعية، من قبيل: المفهوم السياسيّ الّذي يؤكِّد أنَّ الإسلام نظام كامل شامل لشتّى جوانب الحياة.
3 ــ القيمومة على العمل الإسلاميّ والإشراف عليه في مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ.
وتبنِّي هذه الأهداف للمرجعيَّة هو الذي يحدِّد صلاحيّة المرجعيَّة، ويحدث تغييراً كبيراً على سياستها ونظرتها إلى الأمور، وطبيعة تعاملها مع الأمّة، إضافةً إلى وجوب العمل على إدخال تطويرات على أسلوب المرجعيّة ووضعها العمليّ.
أمّا فكرة تطوير أساليب عمل المرجعيّة وواقعها العمليّ، فهي تتطلَّب في رأي الصّدر:
أوّلاً: إيجاد جهازٍ عمليٍّ تخطيطيٍّ وتنفيذيٍّ للمرجعيّة، يقوم على أساس الكفاءة والتخصُّص وتقسيم العمل واستيعاب كلّ مجالات العمل المرجعيّ الرَّشيد في ضوء الأهداف المحدَّدة. ويقوم هذا الجهاز بالعمل بدلاً من الحاشية، التي تعبِّر عن جهاز عفويّ مرتجل يتكوَّن من أشخاص جمعتهم الصّدفة والظروف الطبيعيَّة لتغطية الحاجات الآنيّة بذهنيّة تجزيئيّة وبدون أهداف محدَّدة وواضحة.
ويشتمل هذا الجهاز ــ أي جهاز المرجعيّة الصَّالحة المطلوب توفيره ــ على لجان متعدّدة، تتكامل وتنمو بالتدريج، إلى أن تستوعب كلّ إمكانات العمل المرجعيّ. وأبرز هذه اللجان هي:
1 ـ لجنة أو لجان لتسيير الوضع الدّراسي في الحوزة العلميَّة، وهي تمارس تنظيم دراسة ما قبل الخارج([20])، والإشراف على دراسة الخارج، وتحدِّد الموادّ الدّراسيَّة، وتضع الكتب الدراسيّة، وتجعل بالتدريج الدّراسة الحوزويّة بالمستوى الّذي يتيح للحوزة المساهمة في تحقيق أهداف المرجعيّة الصّالحة، وتستحصل على معلومات عن الانتسابات الجغرافيّة للطلبة، وتسعى في تكميل الفراغات وتنمية العدد.
2 ـ لجنة الإنتاج العملي. ووظائفها إيجاد دوائر علميَّة لممارسة البحوث ومتابعة سيرها، والإشراف على الإنتاج الحوزويّ الصّالح وتشجيعه، ومتابعة الفكر العالميّ بما يتّصل بالإسلام.
3 ـ لجنة أو لجان مسؤولة عن شؤون علماء المناطق المرتبطة، وضبط أسمائهم وأماكنهم ووكالاتهم، وتتبُّع سيرتهم وسلوكهم واتّصالاتهم، والاطّلاع على النّقائص والحاجات والفراغات، وكتابة تقريرٍ إجماليٍّ في وقتٍ رتيبٍ أو عند طلب المرجع.
4 ـ لجنة الاتصالات. وهي تسعى إلى إيجاد صلات مع المرجعيّة في المناطق التي لم تتّصل مع المركز. ويدخل في مسؤوليّتها إحصاء المناطق، ودراسة إمكانات الاتصال بها، وإيجاد سفرات تفقّدية، إمّا على مستوى تمثيل المرجع أو على مستوى آخر، وترشيح المناطق التي أصبحت مستعدّة لتقبّل العالِم، وتوالي متابعة السَّير بعد ذلك. كما يدخل في صلاحيّتها الاتصال في الحدود الصَّحيحة مع المفكِّرين والعلماء في مختلف أنحاء العالم الإسلاميّ، وتزويدهم بالكتب، والاستفادة من المناسبات، كفرصة الحجّ.
5ـ لجنة رعاية العمل الإسلاميّ، والتعرّف إلى مصاديقه في العالم الإسلامي، وتكوين فكرة عن كلِّ مصداق، وبذل النّصح والمعونة عند الحاجة.
6ـ اللّجنة الماليَّة الّتي تعنى بتسجيل المال وضبط موارده، وإيجاد وكلاء ماليّين، والسعي في تنمية الموارد الطبيعيّة لبيت المال، وتسديد النفقات اللازمة للجهاز، مع التَّسجيل والضّبط([21]).
وثانياً: إيجاد امتدادٍ أفقيٍّ حقيقيّ للمرجعيّة يجعل منها محوراً قوياً تصبّ فيه كلّ قوى ممثّلي المرجعيّة والمنتسبين إليها في العالم، لأنَّ المرجعيّة حينما تتبنّى أهدافاً كبيرة، وتمارس عملاً تغييريّاً وواعياً في الأمّة، لا بدَّ لها من أن تستقطب أكبر قدر ممكن من النّفوذ، لتستعين به في ذلك، وتفرض ـ بالتّدريج، وبشكلٍ آخر ـ السَّير في طريق تلك الأهداف على كلّ ممثِّليها في العالم.
وعلاج ذلك يكون عن طريق تطوير شكل الممارسة للعمل المرجعيّ، فالمرجع تاريخياً يمارس عمله المرجعي كلّه ممارسة فردية، بحيث لا تشعر كلّ القوى المنتسبة إليه بالمشاركة الحقيقية معه في المسؤولية والتضامن الجادّ معه في الموقف. وأما إذا مارس المرجع عمله من خلال مجلس يضمّ علماء الشّيعة والقوى الممثلة له دينياً، وربط المرجع نفسه بهذا المجلس، فسوف يكون العمل المرجعيّ موضوعياً، وإن كانت المرجعيَّة نفسها، بوصفها نيابةً عن الإمام، قائمةً بشخص المرجع، وإن كانت هذه النيابة القائمة بشخصه لم تحدِّد له أسلوب الممارسة، وإنما يتحدَّد هذا الأسلوب في ضوء الأهداف والمصالح العامة.
وبهذا الأسلوب الموضوعيّ من الممارسة، يصون المرجع عمله المرجعيّ من التأثّر بانفعالات شخصه، ويعطيه بُعداً وامتداداً واقعياً كبيراً، إذ يشعر كلّ ممثّلي المرجع بالتَّضامن والمشاركة في تحمّل مسؤوليّات العمل المرجعيّ، وتنفيذ سياسة المرجعيّة الصّالحة الَّتي تقرّر من خلال ذلك المجلس. وسوف يضمّ هذا المجلس تلك اللّجان التي يتكوّن منها الجهاز العملي للمرجعيّة، وبهذا تلتقي النقطة السابقة مع هذه النّقطة([22]).
ويطلق السيد محمد باقر الصدر على المرجعيّة ذات الأسلوب الفرديّ في الممارسة اسم "المرجعية الذاتية"، وعلى المرجعية ذات الأسلوب المشترك والموضوعي في الممارسة اسم "المرجعية الموضوعية". ويرى أنّ تطوير المرجعيّة يتطلّب "امتداداً زمنياً للمرجعيّة الصّالحة لا تتَّسع له حياة الفرد الواحد".
يقول الصَّدر: "فلا بدَّ من ضمانٍ نسبيّ لتسلسل المرجعيَّة في الإنسان الصّالح المؤمن بأهداف المرجعيَّة الصالحة، لئلا ينتكس العمل بانتقال المرجعيّة إلى مَنْ لا يؤمن بأهدافها الواعية. ولا بدَّ أيضاً من أن يهيّأ المجال للمرجع الجديد ليبدأ ممارسة مسؤوليّاته من حيث انتهى المرجع السّابق، بدلاً من أن يبدأ من الصفر، ويتحمّل مشاقّ هذه البداية وما تتطلّبه من جهود جانبية، وبهذا يُتاح للمرجعيّة الاحتفاظ بهذه الجهود للأهداف، وممارسة ألوان من التخطيط طويل المدى. ويتمّ ذلك عن طريق إطار المرجعية الموضوعيّة، إذ لا يوجد المرجع فقط، بل يوجد المرجع كذات، ويوجد الموضوع وهو المجلس، بما يضمّ من جهازٍ يمارس العمل المرجعيّ الرّشيد. وشخص المرجع هو العنصر الّذي يموت، وأمّا الموضوع فهو ثابت، ويكون ضماناً نسبيّاً إلى درجة معقولة بترشيح المرجع الصّالح في حالة خلوّ المركز، وللمجلس وللجهاز ـ بحكم ممارسته للعمل المرجعيّ ونفوذه وصلاته وثقة الأمّة به ـ القدرة دائماً على إسناد مرشحه، وكسب ثقة الأمّة إلى جانبه"([23]).
فالسيّد الصّدر يرى في نظريّته أنَّ الولاية هي للأمَّة، لكنْ في ظلِّ حكم الطّاغوت، على الفقيه المرجع التصدي للولاية، وقيادة الأمّة، والإشراف على مسيرتها في خلافة الله.
السيّد محمّد حسين فضل الله و"المرجعيّة ـ المؤسَّسة"
طرح المرجع اللّبناني السيّد محمّد حسين فضل الله نظريّة "المرجعيّة ـ المؤسَّسة"، في مسعى لتطوير المرجعيّة الدّينيّة الشّيعيّة إلى مؤسَّسة. وكان مشروعه هذا ذا منهجيَّة متكاملة، اختلفت مع الصّيغة التقليديّة للمرجعيّة الّتي سار عليها التّاريخ الشّيعيّ على امتداد فتراته وحقبه المتلاحقة، إذ "إنَّ طبيعة الظروف السّياسيّة والاجتماعيّة الّتي تحيط بعالم المسلمين، وضخامة التّحدّيات التي تواجه المجتمعات الإسلاميَّة، تفرض إحداث نقلة أساسية في الواقع المرجعي كجهازٍ يحيط بشخص المرجع، وتشكيل مفرداته في صيغةٍ جديدة لها صفة العمل المؤسّسي المنظّم"([24]).
ولا شكَّ في أنَّ السيّد فضل الله كان متأثّراً في أطروحته حول "المرجعية ـ المؤسّسة" بنظرية السيّد محمد باقر الصدر "خلافة الأمة وإشراف الفقهاء"، وكذلك بأطروحته "المرجعية الصالحة"، التي عرضناها في ما سبق.
وقد حدّد السيد فضل الله منهجيَّة العمل للمؤسَّسة المرجعيَّة على أساس دائرتين رئيستين:
الأولى: إبعاد المرجعيَّة عن الصفة الشخصيَّة، فلا تكون معبّرة عن الوجود الشخصي لمرجع معيّن، بحيث تموت بموته، وتأخذ خصوصياته الفرديّة، لأنَّ في ذلك ضياعاً لجهود كبيرة وعطاءات متميّزة قام بها المراجع في فترات مختلفة.
إنّ ما أراده السيد فضل الله هو إنهاء هذه الحالة الفرديَّة المرجعيَّة، وجعلها مؤسَّسة متكاملة موحَّدة لا تعيش الفواصل في شخصيات المراجع، ولا يتحدَّد امتدادها الزّمنيّ بحياة المرجع، وإنّما تمثّل حالة ثابتة، لها مقوّمات الاستمرار على خطّ استراتيجيّ واضح، حتى مع تغيّر المراجع وتعاقب أدوارهم الحياتيّة.
يقول السيد فضل الله: "تكون المرجعيَّة مؤسَّسة، بحيث إنّ المرجع عندما يأتي، يأتي إلى مؤسَّسة تختزن تجارب المراجع السّابقين، بحيث تكون كلّ الوثائق التي تمثّل علاقات المرجع بالعالم وتجاربها، وخصوصيّات القضايا التي عالجتها، حتى في مسألة الاستفتاءات والأسئلة والأجوبة، متوفّرةً للمرجع الجديد الَّذي يجد كلّ هذه التجارب جاهزة في مؤسَّسة المرجعيّة، ليبدأ من حيث انتهى المرجع السابق، لا ليبدأ بعيداً عن كلّ التجارب السابقة"([25]).
أمّا الدائرة الثانيّة، فهي تخلّي المرجعية عن حالتها التقليديّة في الميل إلى الوسط الحوزويّ، بعيداً عن الاهتمامات العامّة في حياة المسلمين وفي الواقع الدّولي بشكلٍ عام، فيجب أن يتّسع الاهتمام المرجعيّ بسعة القضايا الّتي تتَّصل بالإسلام والمسلمين، ما يعني أن ترصد المرجعيَّة مجمل الأحداث والتحركات، من خلال كونها مؤسَّسةً قياديّةً في الوسط الشيعيّ والإسلاميّ.
يقول السيّد فضل الله في هذا الخصوص: "لا بدَّ للمرجعيَّة من أن تطلّ على قضايا العالم، ولو من ناحية اتّخاذ المواقف السياسيَّة أو المواقف الثقافيَّة أو الاجتماعيَّة الَّتي تطلّ على كلّ مواقع المرجعيَّة، أو ما تمتدّ إلى أبعد من هذه المواقع وتؤثّر فيها سلباً أو إيجاباً. إنّ هذا هو الذي يمكن أن يحقِّق للمرجعيّة حيويّتها وحركيّتها، التي تكون بها عنصراً فاعلاً في حياة كلّ النّاس الذين ينتمون إليها، ويتّبعونها، ويتَّخذون المواقف منها. ومن الطبيعيّ أنَّ الجوانب التنظيميّة في هذه المؤسَّسة، لا بدَّ من أن تخضع لتخطيط معيّن، بحيث تتكامل كلّ المواقع داخل الموقع الكبير"([26]).
إنّ هذه الهيكليَّة التي تصوّرها فضل الله، لا يمكن لها أن تتحقَّق إلا من خلال شخص المرجع، فهو الذي يمكنه أن يضع الأسس المنهجيَّة لبناء المؤسَّسة المرجعيَّة، وهذا ما يحتاج ـ إلى جانب المؤهِّلات الشخصيّة ـ إلى خبرة عمليّة حصل عليها الفقيه في حياته، من خلال انفتاحه على قضايا العالم، وحضوره الفاعل في الساحات الثقافية والسياسية والاجتماعية العامة([27]).
الدمج بين المرجعيّة والولاية
لم يطرح السيّد فضل الله "المرجعيَّة ـ المؤسَّسة" كمحاولة لتطوير المرجعيَّة الدينيَّة ومأسستها فحسب، وإنّما كمشروعٍ لتوحيد المرجعية الدينيَّة وولاية الفقيه. ويقول في هذا الصدد: "إن أطروحة المرجعية ـــ المؤسسة توحّد ما بين المرجعيّة والولاية، بحيث ترى في المرجع وليّاً، أو ترى أن يكون الوليّ هو المرجع". ورأى أنّ هذا الطرح "من شأنه أن يواجه اعتراضات، ولا سيَّما من قبل الاتجاه الفقهيّ الَّذي لا يقول بالولاية العامَّة للفقيه، وبالتالي لا يقول بولاية المرجعيَّة العامّة من جهة. وكذلك الأمر من قبل الاتجاه الفقهيّ الّذي يؤسِّس المرجعيّة على شرطي الأعلميّة والعدالة، بينما لا يرى ضرورة تحقّق شرط الأعلميّة في الولاية، ممّا من شأنه أن يقيم حاجزاً بين الاثنين، بحيث يحول دون رفع الولاية إلى حدود المرجعيّة، أو العكس"([28]).
ويوضح السيّد فضل الله رؤيته بقوله: "عندما تكون هناك مرجعيّة وولاية، قد تحصل بعض المشاكل، كالتصدّي لموضوعات مشتركة... عندما يكون المرجع شخصاً، ويكون الوليّ الفقيه شخصاً آخر، فإنّه من الطّبيعيّ أن تكون هذه التعدّدية سبباً لأكثر من مشكلة، لأنَّ هناك قضايا قد يختلف فيها المرجع في فتواه عن رأي الوليّ في حركته. مثلاً: ربما يرى بعض المراجع أنَّ الجهاد غير مشروع في غيبة الإمام، أو يرى أنّ العمل من أجل إقامة دولة إسلاميّة في بلدٍ ما محرّم، لأنّه يؤدّي إلى سفك الدماء، وإرباك الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ للأمّة، ولكنَّ الولي الفقيه يرى ضرورة الجهاد، أو يرى ضرورة إقامة الدّولة الإسلاميّة في هذا البلد الإسلاميّ أو ذاك، ويحضّ الناس على ذلك. في مثل هذه الحالة، قد يعيش الناس الذين يلتزمون بهذا المرجع ويلتزمون بولاية هذا الوليّ، مشكلة الازدواجيّة بين الانتماء إلى المرجع فتوائيّاً والانتماء إلى الوليّ حركيّاً. في مثل هذه الحالة، ربما يرى هذا المرجع في مسألة الولاية ولايةً مطلقةً للفقيه المتصدّي، فإذا لم يكن متصدّياً، فمن الطّبيعيّ أن يدعم ولاية الفقيه إذا توفَّرت فيه شروط الولاية من وجهة نظره، انسجاماً مع رأيه، ولا بدَّ من أن يدفع النّاس إلى طاعته، وبذلك يكون تحرّك الوليّ في خطّ الولاية نافذاً شرعاً، لا من النّاحية الفتوائيّة، بل من ناحية أنَّ حكم الوليّ نافذٌ وتحرّكه شرعيٌّ، تماماً كما هي فتوى المجتهد الّذي يختلف مع مجتهدٍ آخر في النظريّة الفقهيّة الّتي يقضي بها المجتهد الآخر في مسألة دعوى بين اثنين، فإنّ اختلافه معه في الفتوى، لا يجيز له أن يرفض حكمه في القضاء. في هذه الحالة، تكون مسألة حركة الوليّ في ولايته كحركة القاضي في قضائه، ممّا يجب على مَنْ يرى ولاية الفقيه أن يطيعه"([29]).
أمّا إذا كان هذا المرجع "لا يرى ولاية الفقيه، ولكنّه يرى أن حكم الحاكم في الموضوعات وفي الأمور العامة المتعلِّقة بالموضوعات نافذ، فإنه في مثل هذه الحالة، لا بدَّ من إمضاء حكمه في هذا الموضوع أو ذاك، حتى لو لم يتّفق معه في هذا الحكم، لا من باب الولاية، ولكن من باب أن المجتهد إذا حكم بحكم، فلا بدَّ لمجتهد آخر من تنفيذ حكمه، اللّهمّ إلاّ إذا كان المرجع يرى أنَّ الوليّ يرتكب حراماً، وأنّ حكمه في هذا المجال تماماً كما لو حكم في أمر حرام، فإنه في هذه الحالة لا ينفذ حكم الحاكم، لأنّ حكم الحاكم إنما ينفّذ إذا كان مشروعاً، أمّا إذا كان متعلّقه حراماً فلا ينفذ"([30]).
ويعتقد السيِّد فضل الله أنه في هذه الحالة، لا بدَّ من دراسة العناوين العامة التي يمكن تطبيقها على حركة الوليّ الفقيه، بالبحث عن عناوين ثانويَّة تجعل هذا الأمر الذي حكم به الولي واجباً أو جائزاً بالعنوان الثانوي، إذا لم يكن جائزاً بالعنوان الأوّلي، ما يعني وجوب إطاعة الفقيه، لكن ليس من باب الولاية، ولا من باب حكمه، ولكن من باب أنّ ما أمر به يمثّل مصلحة إسلاميّة عليا، التي لو أدركها المرجع لحكم بها، لأنّ العناوين الثانوية تُغيّر الموضوعات، فتتغيّر الأحكام الثابتة لها بعناوين أوليّة([31]).
أمّا إذا كان المرجع لا يرى ولاية الفقيه العامَّة، ولا يرى أنّ حكم الحاكم في الموضوعات نافذ، على غرار السيد أبي القاسم الخوئي، الذي كان لا يرى ولاية الفقيه عامة، كما كان لا يرى أن حكم الحاكم نافذ في الموضوعات، "في هذه الحالة، يتوقّف الانسجام الشعبي لمن يقلّد هذا المرجع مع ولاية الولي على البحث عن عناوين عامة يمكن أن تنطبق على الموضوعات التي حكم فيها الولي الفقيه الحكم، ليكون سير التديّن للمرجع مع خطّ ولاية الفقيه من ناحية عملية منسجماً مع الحكم الشرعي"([32]).
ويعتبر السيّد فضل الله أن الحلّ الجذري يكمن في وحدة المرجعيّة والولاية، لكنه يعتقد أن ذلك أمر صعبٌ مناله، ما جعل "شخصيّة تاريخيّة إسلاميّة عظيمة كالإمام الخميني، يشعر بمسؤوليّته أن يؤكِّد ـ وهو الّذي أعطى المرجعية معنى الولاية، وأعطى الولاية حركيّة المرجعيّة ـ على الفصل بين المرجعيّة والولاية. تلك هي النّظرية التي تحبس المرجعية في دائرة قد لا تجعلها تنفتح على الولاية، وتجعل الولاية في موقع قد لا يمنحها الصعود إلى مستوى المرجعية"([33]).
ويرى السيّد فضل الله أنّ الطّموح يكمن في وحدة المرجعيّة والولاية، لكنّه لا بدّ من توفّر عناصر حقيقية للشروط الفقهية للولاية وللمرجعية. فإذا رأينا أنّ المرجع لا بدّ من أن يكون أعلم، كما هو المشهور بين الفقهاء، "ولم يكن هذا الإنسان الأعلم قادراً على إدارة شؤون الأمة، لأنّه لا يملك وعي الواقع الشامل لحركة الأمة في قضاياها المتنوّعة الواسعة، فإنّه قد يكون مشروع وليّ فيما هي مسألة موقع المجتهد في الولاية، ولكنه لا يملك مشروعية فعلية للولاية، لأنه لا يملك الخبرة في إدارة مسألتها. وقد نجد هناك شخصاً مجتهداً يملك الخبرة في شؤون الأمة، ولكنّه لا يملك الأعلمية، لأنّ الولاية لا يشترط فيها الأعلمية، بل يكفي الاجتهاد مع العدالة والخبرة. ونحن في هذه الحالة، لا نستطيع أن نوحّد بين الوليّ والمرجع، أو بين الولاية والمرجعيّة؛ لأنَّ الوليّ لا يملك عنصر المرجعيّة، وهو الأعلميّة، ولأنَّ المرجع لا يملك عناصر الولاية، وهي الخبرة والقدرة على الإدارة، فلا بدَّ من الفصل بينهما"([34]).
وينطبق هذا التّوصيف على حال مرشد الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة السيّد علي الخامنئي، الذي لم يكن المجتهد الأعلم أو مرجعاً دينيّاً عندما توفي الإمام الخميني العام 1989م، وتمّ انتخابه وليّاً للفقيه، لا بصفته المرجع أو المجتهد الأعلم، بل لكونه المجتهد الأنسب لمنصب الولاية؛ بسبب خبرته السياسيّة ودرايته بالشؤون العامّة، فضلاً عن صفاته القياديّة، وتصدّيه للولاية.
أمّا مع القول بعدم وجوب تقليد الأعلم، كما كان يرى السيّد فضل الله في اجتهاده الفقهيّ، فإنّ من الممكن توحيد مسألة الولاية والمرجعيَّة، إذا توفّرت العناصر الفقهيّة الكافية في المرجعيّة في شخص مَنْ يملك القدرة على إدارة المجتمع والدولة. وبذلك يمكن انتخاب المرجع الذي يملك الخبرة، فتتّحد الولاية والمرجعية([35]). وكذلك يذهب السيّد كاظم الحائري إلى نظريّة الوحدة بين المرجعيّة والولاية([36]).
وقد جرت محاولة من النظام الإسلاميّ في إيران لتوحيد المرجعيّة الدينيَّة وولاية الفقيه([37])، وذلك بعد وفاة الإمام الخميني وتولّي السيّد الخامنئي منصب الوليّ الفقيه، ومن ثمّ وفاة كبار المراجع الدينيّين في إيران والعراق في أوائل التسعينات، وأبرزهم السيّد الكلبايكاني، والشّيخ الأراكي، والسيّد أبو القاسم الخوئي، لكن هذه المحاولات فشلت، ما جعل النظام الإسلامي في إيران يتراجع عنها.
وكان السيّد فضل الله يعتقد أنّ "الحاكم الشّرعيّ في نظرية ولاية الفقيه، الّتي قد لا تبتعد عنها ــ في العمق ــ نظريّة الشّورى، لا بدّ من أن يتوفر فيه الاجتهاد، والعـدالة، والخبرة في الأمور العامة". ويـقول: "قد يكون من الأفضل للوليّ الفقيه أن يضع إلى جانبه مجلساً فقهياً يتذاكر فيه القضايا الفقهيّة في أوضاع الأمّة في ساحاتها العامة، لأنَّ ذلك قد يكون أقرب إلى الوصول إلى الحقّ من انفراده بنفسه، الأمر الَّذي يؤكِّد الاحتياط في إدارة الشّؤون العامّة، لأنّ مسألة الولاية أكثر تعقيداً وأشدّ خطورةً من مسألة الفتيا. أمّا في الموضوعات المتّصلة بالأمن والاقتصاد والسّياسة والإدارة والحرب والسّلم والعلاقات الداخليّة والخارجيّة على مستوى الدّول والجماعات والأفراد ونحوها، فلا بدَّ له من الرجوع إلى أهل الخبرة الذين يملكون المعرفة الواسعة الدَّقيقة في هذا الأمر أو ذلك، بالمستوى الّذي يستطيعون فيه إعطاء الرّأي المرتكز على قناعة علميّة تبعث على الثّقة النّوعية"([38]).
ويستدلّ فضل الله على ذلك بقوله تعالى في القرآن الكريم: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}[39]. كما يستند في حجّيّة قول أهل الخبرة إلى ما قاله المحقّق النّائيني: "إنَّ الرّجوع إلى أهل الخبرة والاعتماد على قولهم، مما قد استقرّت عليه طريقة العقلاء، واستمرّت عليه السيرة، ولم يردع عنها الشّارع".
وعليه، لا بدَّ للفقيه الولي في رأي السيّد فضل الله من "مجلس خبراء في مختلف الشّؤون العامّة المتّصلة بمواقع ولايته، ممَّن تتوفّر فيهم شروط الثّقة العمليّة من حيث ثقافتهم، إضافةً إلى الصّدق والأمانة، من دون فرقٍ بين المسلمين وغيرهم، لأنّ الإسلام ليس شرطاً في المعرفة، فيمكن الرجوع إلى الكفّار إذا توفَّرت فيهم عناصر الأمانة الفكرية والعملية". ولكنه لا يرى من الضروري "انتخاب أهل الخبرة من قِبَل الشّعب، بل يمكن للفقيه اختيارهم بحسب معرفته المنطلقة من الاستقراء والاستشارة والخبرة من خلال الرجوع إلى أهل المعرفة في ذلك". ومع أنه قد يكون للاستفتاء الشّعبيّ "دورٌ في إبعاد المسألة عن الفوضى، لتكون أقرب إلى التركيز والثّبات، ولكنّ ذلك لن يكون ملزماً من النّاحية الفقهيّة، لأنَّ مسألة الاستفتاء لا تخضع لقاعدة شرعيّة ملزمة بالعنوان الأوّلي، بل هي خاضعة للمصالح التنظيميّة التي قد تفرض وضعاً معيّناً في بعض القضايا، مما لا يتنافى مع الجوّ الشّرعيّ"([40]).
وفي بحثه عن مجالات الشّورى عند الفقيه، يرى السيّد فضل الله أنه إذا أراد الفقيه البتّ في شأنٍ ذي اختصاص، فينبغي أن يكون القرار الّذي يريد أن يتّخذه الفقيه العادل قراراً ينطلق من خلال دراسته للواقع. مثلاً: يريد الفقيه أن يتَّخذ قراراً اقتصادياً، مثل: فرض الضّرائب، منع الاستيراد، إقرار معاهدات واتفاقات اقتصاديّة، إلى غير ذلك من الأمور التي تحتاج إلى دراسة اقتصادية معمّقة، وإلى إحصائيّات في طبيعة الإمكانات المتوفّرة لدى الأمّة، فلا يجوز للفقيه البتّ إلاّ بعد الرجوع إلى أهل الخبرة والاختصاص، حتى يكون محيطاً بكلِّ جوانب المشكلة، بالشَّكل الَّذي تقوم الحجَّة فيه عليه، إمّا بطريقة قطعيَّة أو حجّة شرعيّة([41]).
ويؤكِّد السيّد فضل الله حاجة الوليّ الفقيه إلى لجان استشاريّة في كلّ الموارد التي يحتاج إليها الحكم، وذلك لأنّ خطّ الإسلام العام ينطلق من الآية القرآنية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[42]. و"حتى لو كنّا لا نقول بالشورى في تعيين الحاكم، فإنّنا نقولها في إدارة شؤون الحكم"([43]). ولهذا خاطب الله تعالى رسوله بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ}[44].
إذاً تتمحور نظريّة "المرجعيّة ــ المؤسّسة" حول مرجعٍ واحدٍ محاطٍ بمجلس من الفقهاء والخبراء والمستشارين، بحيث تكون المرجعيّة مؤسَّسة، لها أجهزتها وامتداداتها وعلاقاتها وإطلالاتها على الواقع، وليس مجرَّد مرجعيّة الفقيه الفرد.
وتنطلق هذه النظريّة من عدم وجوب شرط الأعلميَّة في المرجع، بل هي قائمة على شرط الأصلح. ويتمّ اختيار المرجع من قبل الأمّة بصورة غير مباشرة، أي أن يلتقي أهل الخبرة من الفقهاء والخبراء لينتخبوا مرجع التقليد، استناداً إلى كونه الأصلح، لا الأعلم، وبحيث يجد المرجع الجديد أنَّ كلّ الدراسات جاهزة، وكلّ التاريخ الذي كان يتحرّك فيه المرجع السابق بين يديه، لا أن يحتفظ المرجع بكلّ ما تحرّك فيه من اجتهاد وتجربة لنفسه أو عائلته، كإرث شخصي لا يملك المرجع الجديد أو الأمة شيئاً منه([45]).
وكان السيد فضل الله يتصوّر "المرجعية ــ المؤسّسة" كحركةٍ يمكن أن تحتضن الفقهاء الآخرين، فيلعبوا دوراً فيها، كمستشارين ومعاونين للمرجع في مسائل علميَّة وتنظيميَّة، على غرار ما يحصل في تجربة المرجعية التقليدية، ولكن بصورة ممأسسة ومنظمة([46]).
وأعتقد أنّ نظرية السيد فضل الله تحتاج إلى الكثير من البحث والمراجعة، فهي على الرغم من دعوتها إلى المأسسة والبعد عن الشّخصانيّة في المرجعية الدينيّة، تعود لتؤكِّد محورية المرجع الواحد، بحيث يكون الفقهاء والخبراء والأجهزة في هذه المؤسّسة مجرَّد مساعدين للمرجع، يوفّرون له المعطيات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الّتي تساعده في التوصُّل إلى الفتوى المناسبة أو الحكم الشّرعي الأفضل. ولا شكَّ في أنّ هذه النظرية متأثِّرة بمؤسَّسة البابويّة في الفاتيكان، حيث يحاط البابا ـ الزّعيم الروحي للمسيحيّين الكاثوليك ـ بعدد كبير من الكرادلة والبطاركة والأساقفة الّذين يعاونونه في مهامه الروحية والدينية.
واللافت أنّ السيّد فضل الله ينتقد فكرة المجلس الفقهيّ الّذي طرحه بعض العلماء، لكونها مسألة غير واقعية وغير عملية وغير شرعية، لجهة عدم وجود أدلة شرعية فقهية على حجّية رأي الأكثرية في حال تصويت المجلس على رأي فقهيٍّ ما، وكذلك لجهة عدم تحديد الجهة التي تعيّن أو تنتخب هذا المجلس، وشرعية ذلك. ولعلّ فكرة المجلس الفقهي هذه هي أقرب إلى مفهوم المأسسة للمرجعية الدينيَّة ومفهوم الشورى الإسلامي، لكن فضل الله لا يرى حجية الشورى والانتخاب في اختيار المرجع أو الولي الفقيه، وكذلك في التوصّل إلى الحكم الشرعيّ الدينيّ الذي يخضع للأدلّة الشرعية الأربعة: القرآن والسنّة والعقل والإجماع، ولا يخضع لرأي الأكثرية([47]).
والمفارقة أنّ السيد فضل الله كان يرى أنّ الحلّ الجذريّ والأنسب لمشكلة تعدّد المرجعيّة هو في وحدة المرجعية والولاية؛ لما يمكن أن يشكِّل ذلك التعدّد من انقسامٍ بين المسلمين، وخصوصاً إذا حصلت خلافات بين المرجع والوليّ الفقيه، وذلك على الرغم من أنه كان لا يؤمن بولاية الفقيه العامّة كما كان يؤمن بها الإمام الخميني، الّذي ذهب في آخر حياته إلى الفصل بين المرجعيّة والولاية. فالسيّد فضل الله لا يؤمن بولاية الفقيه العامّة أصلاً، لكنّه يرى ولايته محدودةً في الأمور الحسبيّة التي قد تتوسّع لتشمل الشؤون العامَّة، إذا اقتضى ذلك حفظ النظام العام([48]).
فالفقيه ـ في رأيه ـ "يملك من السّلطات ما يملكه الإمام المعصوم، إلاّ ما ثبت اختصاصه بالإمام. فله حقّ الفتيا في القضايا الشرعيّة، وحقّ القضاء بين الناس، وحقّ الولاية على الناس في شؤونهم العامّة والخاصّة التي تتحرّك في دائرة النظام العامّ الخاضع للحاجة إلى السّلطة الحاكمة التي تدير شؤون البلاد والعباد".
فهو يرى أنَّ هذا الاتجاه، أي الولاية العامة للفقيه، "هو الاتجاه الوحيد الذي يجعل من الفقيه مرجعاً إسلامياً عاماً، إذا كان مؤهَّلاً للتقليد، جامعاً لشروطه، لأنه يمثّل القيادة الإسلاميّة التي تملك سلطة القرار في الشؤون العامة للمسلمين، كما تملك سلطة التنفيذ، سواء كان ذلك في حدود النظريّة التي تجعل ولاية الفقيه متّسعةً لكلّ ما تتَّسع له ولاية النبي والإمام في صفة الحاكميّة، أو التي تجعل لها حدوداً ضيّقةً تختلف عنهما في بعض المواقع، فيما قد يكون لخصوصيّة النبوّة والإمامة بعض المميّزات في ذلك، كما يذكره بعض الفقهاء في الجهاد الابتدائي"([49]).
فضل الله وولاية الفقيه
في مقابلةٍ مع صاحب هذا المقال، في 15 أيّار 2002م، أكَّد السيّد فضل الله أنّه يؤمن بولاية الفقيه في الأمور الحسبيَّة فقط، وليس بولاية الفقيه العامّة والمطلقة([50])، لكنه كان اعتبر في بحثٍ له بعنوان "المرجعية: الواقع والمرتجى"، نُشر ضمن كتاب "آراء في المرجعية الشيعية" في العام 1994، أنّ ولاية الفقيه العامة "قد تفرضها المصلحة العامة في حال وجود فراغ قيادي، بحيث ترتبط المسألة بالقضايا المصيرية التي لا يمكن أن تترك في منطقة الفراغ القيادي، فيدور الأمر بين قيادة الفقيه العادل الذي يملك تقوى القرار، كما يملك تقوى التّنفيذ من خلال معرفته بحدود الله، وخوفه من الله، ولا سيّما في مسائل الدّماء والأموال والأعراض، وبين قيادة غيره الذي لا يملك ما يملكه الفقيه من ذلك، وحينئذٍ يطرح الأصوليّون حكم العقل القطعي بتعيين الفقيه للقيادة، لدوران الأمر بين التّعيين والتّخيير، لأنّ الضرورة التي تفرض وجود القيادة، تفرض براءة الذمّة بالسير مع الفقيه في قيادته، لأنه طرف في دائرة التّخيير، ومتعيّن في احتمالات التعيين"([51]).
ولعلّ هذا التخريج للمسألة "يطرح الحلّ في قيادة الفقيه للدولة بعد قيامها، حتى لو لم يجد لنفسه الولاية على الناس بالنظرة الأولية في ما هو الحكم الشرعي الأولي، لأنه يجد نفسه ملزماً بالقيام بهذه المهمة في نطاق الظروف التي تتحرّك في حجم الضرورة بالنظرة الثانوية في ما هو الحكم الشرعي الثانوي"([52]).
يبرّر السيد فضل الله ذلك بأنه لم تثبت لديه دلالة الأدلة الفقهية التي أقامها الفقهاء الآخرون على ولاية الفقيه، "فالفقيه لا يملك الولاية المطلقة على العالم، بل يملك الولاية انطلاقاً من ضرورة حفظ النظام، فإذا توقّف حفظ النظام على ولاية الفقيه، كان الفقيه وليّاً، أمّا إذا لم يتوقّف حفظ النّظام على ذلك، وأقامت الأمّة حكماً إسلامياً يملك الخبرة والعدالة، ويقوم الفقهاء بدور الإشراف والرقابة، فلا إشكال في خصوصه"([53]).
وعليه، لا يعارض السيّد فضل الله النظام الديمقراطي في الحكم واختيار الحاكم من خلال الانتخابات، وكذلك اتخاذ القرارات عبر الشورى والتصويت، لكنه لا يرى دليلاً شرعيّاً على نظرية الشورى وولاية الأمّة على نفسها، إذ ليس هناك نصّ على شرعيّة الشورى وحكم الأكثرية([54]).
ويبدو أنّ السيّد فضل الله الذي يرى شرعيّة لولاية الفقيه إذا توقَّف عليها حفظ النظام، يمنح كذلك الشرعيّة لولاية الأمّة على نفسها أو لنظرية الشورى إذا توقَّف عليها حفظ النظام، فكلاهما ــ بحسب فضل الله ــ لا أدلة نصيَّة على شرعيّتهما، فهما متساويان في الشرعيّة، وعليه ينبغي أن يتساويا من حيث الأولويَّة.
ويعتبر السيد فضل الله أنّ النظام الإسلامي في إيران كان عبارةً عن مزاوجةٍ بين ولاية الفقيه والشّورى، ولكن تبقى للفقيه السلطة التي تُلغي نتائج الانتخابات أو الاستفتاءات أو تمنحها الشرعيّة، لأنّ هذه الانتخابات أو الاستفتاءات في نظريّة ولاية الفقيه المطلقة، تملك شرعيَّتها من الفقيه، ولا تملك شرعيّتها من نفسها، فهي تنتظر إمضاء الفقيه لها، ويكون دور الأمّة في هذه النظريّة هو تعيين الوليّ الفقيه من خلال انتخابه([55]).
ويؤمن المرجع فضل الله بتعدّد الفقهاء الولاة بحسب القطر أو الدّولة، بسبب عدم واقعيّة ولاية الفقيه على العالم كلّه ــ على الأقلّ في الوقت الحاضر ـ وذلك نظراً إلى تجذُّر التوجّه العام نحو القطرية أو الإقليمية في الواقع. فلا مانع في رأيه من أن يكون لكلّ دولة أو قطر إسلاميّ وليّ فقيه يقوم بشؤونه، بالتنسيق مع الفقهاء الآخرين، وخصوصاً أنّ ولاية الفقيه في النظرية الشيعيَّة تنطلق من كونه نائباً للإمام، فيكون كلّ الفقهاء نوّاباً للإمام، ولا مانع من تعدّد نوّاب الإمام في غيبته، كما تعدَّد النوّاب في حضوره([56]).
أما نظرية ولاية شورى الفقهاء، فيرى السيّد فضل الله أنها لا تصلح أساساً للولاية، ولكنّها تصلح أساساً للمرجعية، عبر "المرجعيّة ـ المؤسّسة"، بحيث يلتقي الفقهاء على رئاسة شخص يتولى هذه المؤسَّسة بكلِّ ما تحتاجه من خبراء ووكلاء. ويؤمن السيّد فضل الله بإمكان الدّمج بين المرجعيّة والولاية، لأنه لا يشترط الأعلميّة في المرجعيّة، كما هو حال بعض الفقهاء القائلين بالأعلميّة، الذين ينبغي عليهم الفصل بين المرجعيّة والولاية، كما فعل السيّد الخميني، ثم السيّد الخامنئي، مع المرجع الشيخ محمد علي الأراكي، ثم مع حوزة قُمّ، بحيث ترك لأهل الخبرة تحديد المرجع الأعلم الذي ينبغي أن يقلِّده النّاس، دون أن يُفرَض عليهم تقليد الوليّ الفقيه([57]).
ولا يرى السيّد فضل الله مانعاً في أن تكون المرأة فقيهاً، أو مرجع تقليد جائزاً تقليدُها، لأنها مسألة علمية كأيّ تخصُّص علمي، قد تبرع فيه المرأة كما الرجل. أمّا حول ولاية المرأة، فيقول: إنّ هناك تحفّظات إسلاميّة عامة عند السنّة والشيعة على أن تتولّى المرأة موقع القيادة السياسية، إذ يشترطون الذكورة في الإمام([58]). والجدير بالذّكر هنا، أنّ الشيخ محمد مهدي شمس الدين لم يعارض ولاية المرأة، لعدم وجود الدّليل على عدم جوازه.
المصدر: مجلة الاجتهاد والتّقليد، العددان العشرون والواحد والعشرون، السـنتان الخامسة والسادسة، خريف وشتاء 2012م، 1433هـ.
[1] أحمد كاظمي موسوي، ظهور مرجعية التقليد في المذهب الشيعي الاثني عشري، مجلة الاجتهاد، العدد 14: 205، صيف 1989م.
[2] المصدر نفسه: 205.
[3] المصدر نفسه: 205.
[4] محمد إبراهيم جناتي، المسار التاريخي لأطروحة لزوم تقليد الأعلم، مقالة ضمن كتاب «آراء في المرجعية الشيعية»: 87، بيروت: دار الروضة، ط1، 1994م.
[5] ظهور مرجعية التقليد في المذهب الشيعي الاثني عشري: 205.
[6] المصدر نفسه: 205.
[7] محمد إبراهيم جناتي، المصدر السابق: 88.
[8] Ann K.S Lambton, "A Reconsideration of the position of the Marja'' Al - taqlid and the Religious Institution, In Studica Islamica", vol.xx, 1965, pp.119-135.
[9] محمد رضا وصيفي، الفكر الإسلامي المعاصر في إيران، جدليات التقليد والتجديد: 129 ـ 130 ط1، بيروت، دار الجديد، 2000.
[10]Lambton, op. cit, pp124-125.
[11]Ibid, p.125.
[12]Lambton, op. cit, p.126.
[13]Ibid, p.126.
[14]Ibid, p. 130.
[15]Lambton,p.127. ؛ مرتضى مطهري، الاجتهاد في الإسلام: 32 ـ 38، دار التّعارف للمطبوعات، بيروت.
[16] Lambton,pp.132-133. ؛ انظر أيضاً: مطهّري، المصدر السابق: 52 ـ 72؛ وصيفي، المصدر السابق: 131 ـ 132.
[17]Lambton, p.133.
[18]Lambton p.134.
[19] انظر: محمد باقر الصّدر، "المرجعيّة الصّالحة"، منشوراً في كتاب سليم الحسيني "المعالم الجديدة للمرجعيّة الشيعيّة" (دراسة وحوار مع آية الله محمد حسين فضل الله): 166 ـ 168، دار الملاك، بيروت، ط 2، 1993م.
[20] دراسة الخارج هي مرحلة الدراسات العليا في الفقه وأصوله، والتي تؤهّل العالم الدّيني لبلوغ مرحلة الاجتهاد.
[21] الصدر، "المرجعيّة الصالحة"، المصدر السابق: 169 ـ 171.
[22] المصدر السابق: 172.
[23] المصدر السابق: 171 ـ 173.
[24] سليم الحسيني، المعالم الجديدة للمرجعيّة الشيعيّة، (دراسة وحوار مع آية الله محمد حسين فضل الله): 64 ـ 65.
[25] المصدر السابق: 64 ـ 65.
[26] المصدر السابق: 66.
[27] المصدر السابق: 66 ــ 67.
[28] محمد حسين فضل الله، "المرجعية: الواقع والمرتجى"، مقالة في كتاب "آراء في المرجعية الشيعية": 148، بيروت، دار الروضة، ط1، 1995م.
[29] المصدر السابق: 148 ـ 149.
[30] المصدر السابق: 150.
[31] المصدر السابق: 150.
[32] المصدر السابق: 152.
[33] المصدر السابق: 150.
[34] المصدر السابق: 154.
[35] المصدر السابق: 153.
[36] كاظم الحائري، "نقد لنظريّة الفصل بين المرجعيّة والقيادة"، في كتاب "آراء في المرجعيّة الشيعيّة": 495 ـ 476.
[37] Saskia Gieling، "The Marja'iya in Iran and the Nomination of khameneii in December 1994"، Middle Eastern Studies، vol.33، No: 4، October 1997، pp.777-779.
[38] فضل الله، المرجعية: الواقع والمرتجى: 180 ــ 181.
[39] (الإسراء: 36).
[40] المصدر السابق: 182 ــ 183.
[41] المصدر السابق: 183ـ 184.
[42] [الشورى: 38].
[43] المصدر السابق: 183 ــ 184.
[44] [آل عمران: 159].
[45] محمد حسين فضل الله، المرجعية وحركة الواقع (ندوة حول المرجعية بتاريخ 17/1/1994): 12 ـ 14، بيروت، دار الملاك للطباعة والنشر والتوزيع، 1994م.
[46] المصدر السابق: 32 ــ 33.
[47] فضل الله، "المرجعية: الواقع والمرتجى": 120 ــ 127، 138 ــ 139.
[48] مقابلة خاصّة للباحث صاحب المقال مع آية الله محمد حسين فضل الله في منـزله في حارة حريك، في 15 أيار (مايو) 2002م.
[49] فضل الله، المرجعية: الواقع والمرتجى: 139 ـ 143.
[50] مقابلة خاصة للباحث صاحب المقال مع آية الله محمد حسين فضل الله، في منـزله في حارة حريك، في 15 أيار 2002م.
[51] فضل الله، المرجعية: الواقع والمرتجى: 159.
[52] المصدر السابق: 144.
[53] المصدر نفسه.
[54] مقابلة خاصة مع السيد محمد حسين فضل الله، في 21 أيار 2003م.
[55] المصدر نفسه.
[56] المصدر نفسه.
[57] المصدر نفسه.
[58] المصدر نفسه.