لا يخفى أنّ تفنيد دليل المحقّق الأردبيلي أو غيره، من الرافضين لمبدأ الاستخارة، لا يكفي لإثبات شرعيّتها، فيبقى على القائلين بشرعيّتها أن يُقيموا الدَّليل على ذلك، فما هو دليلهم؟
دليل الشّرعية
والجواب: إنّ ما يمكن أن يُستدلَّ به لإثبات شرعيّة الاستخارة بالمعنى الثاني هو عدّة أمور:
1- التمسّك ببعض الروايات الواردة في القرعة عن أئمّة أهل البيت(ع)[1].
ولكنّ الظاهر أنّ الروايات المشار إليها، تفتقر إلى السَّند الصحيح، سواء فيما ورد في شأن خيرة ذات الرِّقاع أو الاستخارة بالسُّبحة[2]، الأمر الَّذي يمنع من الاعتماد عليها في إثبات الشرعيّة.
2- إنّ الاستخارة هي نوع من الاقتراع.
فيدلّ على شرعيّتها ما دلّ على شرعيّة القرعة[3]، من قبيل صحيحة محمّد بن حكيم عن أبي الحسن(ع): "كلّ مجهولٍ ففيه القرعة"[4]، وفي صحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله(ع): "ليس من قومٍ تَقَارعُوا، ثم فوّضوا أمرهم إلى الله، إلا خرج سهمُ المُحِقّ"[5].
وهذا الدَّليل غير تامّ أيضاً، لأنَّ عمومات القرعة يُشَكّ في شمولها لما نحن فيه، ويمكنك القول: إنّها منصرفة عرفاً عمَّا نحن فيه، فالقرعة منتشرة في حياة العقلاء، وموردها هو الحالات الَّتي يحتاج فيها الإنسان إلى حسم الموقف، مع أنَّ من الضَّروري حسمه لدوران الأمر بين طرفين لا بدَّ من اختيار أحدهما، ولا يستخدم العقلاء القرعة لاستعلام المغيّبات أو معرفة ما إذا كان هناك مصلحة في الإقدام على هذا العمل أو ذاك، وأمَّا عموم صحيحة محمّد بن حكيم، فهو غير مراد حتماً، ولم يلتزم به أحد من الفقهاء، وصحيحة أبي بصير موردها حالات التّنازع، ولا يمكن إلغاء الخصوصيَّة عنها.
3- وقد استدلّ بعضهم على شرعيّة الاستخارة بأدلّة الدّعاء.
"فإنّ المستخير إنّما يدعو الله ويلحّ عليه، طالباً منه أن يُظهر له وجه الخير فيما يريد فعله أو تركه، من خلال السُّبحة مثلاً، وأيّ محذورٍ في تشخيص الواقع المجهول له من خلال السُّبحة وغيرها؟"[6]، ويؤيّد ذلك أنّ الاستخارة من المجرّبات التي ثبتت فاعليّتها.
ولكن لنا أن نتأمّل في هذا الاستدلال، لجهة أنّه وإن لم يكن هناك محذور أو مانع في حالة إقبال الإنسان على الله تعالى واستخارته أن يرشده إلى ما هو الأصلح له، إلا أنَّ الكلام ليس في الإمكان، ولم يدَّع وجود محذور يمنع من أن يكشف الله الواقع لعبده من خلال السُّبحة، وإنّما الكلام في الإثبات وفي دليل الشرعيّة، ومن الواضح أنَّ مجرّد الإمكان لا يُثبت شرعيّة القرعة وكاشفيّتها عن الواقع.
أضف إلى ذلك، أنَّ للمرء أن يتساءل: إذا كانت للاستخارة هذه الأهميَّة كوسيلة لاستكشاف الواقع المجهول، فلِمَ لَمْ يتمّ العمل بها من قِبَلِ النبيّ(ص) والأئمّة(ع)، ولا عمل بها أصحابهم، وإلاّ لبلغنا ذلك من خلال الأخبار المستفيضة، ولَنُقِلَ ذلك إلينا، مع أنّنا لم نجد في الروايات شيئاً من ذلك، بل إنّ بعض أخبار الاستخارة ـ كأخبار الاستخارة بالسُّبحة ـ لم تُذكر في المصادر الحديثيّة الأساسيّة، وإنّما أوردها السيّد ابن طاووس في كتابه في الاستخارات، مُرْسَلَةً عن صاحب الزمان(عج).
فلا يبقى في مقام إثبات شرعيَّة الاستخارة إلا أن يُقال: إنّه قد حصل لنا الاطمئنان بشرعيّتها، استناداً إلى الروايات المشار إليها، فإنّه قد يحصل الوثوق بصدور بعضها نتيجة تضافرها، وإن كانت ضعيفة السّند، ولا سيّما أنّها مؤيّدة بالتّجربة وعمل الأصحاب، والله العالم.
هل تُستحبّ الاستخارة؟
ثمّ إنّ ثمّة بحثاً يُطرح في هذا المقام، وحاصله: إنّه وبناءً على شرعيّة الاستخارة، فهل هي مستحبّة أم لا؟
يمكن القول باستحباب الاستخارة بالمعنى الأوّل، لورود الروايات الكثيرة فيها، وبعض هذه الروايات صحيحة السَّند[7]، وأمّا الاستخارة بالمعنى الثاني، فلم يثبت استحبابها، كما صرّح به بعض الفقهاء[8]، وإن ذهب إلى الاستحباب فقهاء آخرون[9].
الخيرة في ميزان العقل
يبقى هنا تساؤلٌ يطرح نفسه في هذا المقام بشأن موقف العقل من الاستخارة، وما قد يُدَّعى ويقال إنَّ الاستخارة هي تعبير عن تعطيل الفكر واستقالة العقل، وربّما عدّها بعض النّاس مؤشّراً على تخلّف الَّذين يلجأون إلى الاستخارة في كشف المغيَّبات، أو يتَّكلون عليها في اتّخاذ القرارات أو تحديد المسارات، في حين أنَّ المنطق يدعوهم إلى استخدام العقول والاستنارة بهديها.
ويمكننا القول: إنّه في حال لم تتمّ عندنا أدلّة القرعة، ولم تثبت شرعيَّتها، فلا داعي عندها لمحاولة تبريرها وتوجيهها توجيهاً منطقيّاً، وأمَّا لو أنّنا ارتضينا بعض الأدلّة المتقدِّمة لإثبات شرعيّة الاستخارة، فهنا يكون التّوجيه مُلِحّاً وضروريّاً، وذلك لعلمنا بأنَّ أحكام الإسلام ليست اعتباطيّة، ولا تجافي المنطق، ولا تدعو إلى استقالة العقل.
وفي ضوء ذلك، يمكن لنا توجيه الاستخارة بأحد توجيهين:
التّوجيه الأوَّل: أن نؤمن بها إيماناً تعبّديّاً منطلقاً من إيماننا الدّينيّ العامّ، وهذا الإيمان، كما يُثبت شرعيّة الاستخارة، فإنّه سيجعل منها عملاً مفهوماً وكاشفاً عن الواقع، وذلك على قاعدة اللّطف الإلهيّ واستجابة الله دعاء عبده، وهو القادر على كلّ شيء، وهذا التّوجيه ينبغي أن يكون مقبولاً عند المؤمنين بشرعيَّة الاستخارة، وعند كلّ مَنْ يؤمِن بمرجعيّة النّصّ الدينيّ، بناءً على ثبوت روايات الاستخارة.
التّوجيه الثّاني: أن نتعامل مع الاستخارة وننظر إليها باعتبارها طريقةً لحسم الموقف عند التحيّر وضبابيّة الصّورة، الأمر الذي يُسبِّب إرباكاً، وربّما عجزاً عن اتّخاد القرار المناسب بسبب تعارض الوجوه المرجِّحة للفعل مع الوجوه المرجِّحة للترك، وكثيراً ما يصل المرء إلى مثل هذه الحالة من التردّد، لا بسبب ضعفه عن اتخاد القرار الحاسم، أو تهرّبه من تحمّل المسؤوليَّة، وإنّما لأنَّ الموقف قد تشابكت فيه الوجوه، وتساوت مُرجِّحات الفعل والترك، فيحار الشّخص، ويحتاج إلى أدنى دافعٍ أو مرجِّح، ولو كان غير منطقيّ، للأخذ بأحد الوجوه، فعلاً أو تركاً، وإذا سألته لِمَ اخترت هذا الطّريق دون سواه، فلن يجد جواباً مقنعاً أفضل من القول: هذا ما جرى، ولم أجد مرجِّحاً لسبيلٍ على آخر.
وهذا التّفسير أو التوجيه قد يكون هو الجواب الأقرب عن سؤال من يسأل عن موقف العقل من الاستخارة ـ بمعناها الثّاني ـ ومبرّرها المنطقيّ.. فإنّه إذا وضعنا الاستخارة في النطاق المشار إليه، وهو اعتبارها مرجِّح الاختيار في حالات تكافؤ المصالح والمفاسد، فسوف تكون مفهومةً عُقلائيّاً، أو على الأقلّ ليست مستنكرةً لدى العقل والعقلاء، تماماً كما لا تكون القرعة مستنكرةً عندهم، بل هي مقبولة لديهم، ويعملون بها في بعض الحالات.
قد تسأل وتعترض: إنَّ الاستخارة في نظر مَن يعمل بها من المؤمنين هي طريق إلى الواقع، فهي تكشف وجه المصلحة أو المفسدة المجهولة لهم، ولا ينظرون إليها باعتبارها مجرَّد وسيلةٍ للخروج من حالة التردّد، وإلاّ فما الفرق بينها وبين أيّ وسيلةٍ أخرى لا تعتمد الدّعاء والتوجّه إلى الله؟ فلِمَ لا يُعتمَد بديلاً من الاستخارة أو بموازاتها، أسلوب القرعة المتداولة مثلاً؟ فإنّها ـ أعني القرعة ـ على ما هو المعروف، تُعتمَد من العقلاء، باعتبارها وسيلةً لحسم الموقف ورفع التردّد.
والجواب: إنَّ كشف الاستخارة عن الواقع صحيح عند من يؤمن بمشروعيَّتها ويرى تماميّة أدلّتها، وأمَّا من لا يؤمن بها ولا يقتنع بكاشفيَّتها عن الواقع ـ مع أنَّ الكاشفيَّة ممكنة[10] بعد لجوء الإنسان إلى الله وطلبه إليه أن يُظهر له وجه الخير فيما يريد أن يُقدم عليه من فعلٍ أو ترك ـ فإنّ ما نتحدّث به معه، أنّه ليس من حقّه أن يُسفِّه الآخذين بها، أو ينعتهم بالتخلّف أو غيره من النّعوت، وذلك لثبوت مشروعيَّتها عندهم، ولأنَّ بالإمكان تفهّمها ـ عقلاً ـ باعتبارها وسيلةً لحسم الموقف في حالات التردّد، وعدم وجود المرجِّح لخيارٍ على آخر، لكن دون أن يتمَّ إسنادها إلى الدّين حينئذٍ، حذراً من الوقوع في شرك التَّشريع والابتداع.
شروط وضوابط
ثمَّ إنَّ الالتزام بالاستخارة بعد الإقرار بشرعيَّتها، لا ينبغي أن يُفهم خطأً، أو يُمارَس خطأً، فنتوسَّع ـ كما نلاحظ في الواقع ـ في استخدامها في غير موردها، ونبادر إليها في الصَّغير والكبير، وبسببٍ أو بدون سبب، ونربط كلّ أعمالنا وحركتنا اليوميّة ونعلّقها على الاستخارة؛ إنَّ هذا مرفوض بالتّأكيد، فالاستخارة ـ بناءً على مشروعيَّتها ـ لها مواردها وظروفها وشروطها، وإليك التَّوضيح والتَّفصيل في بيان شروط العمل بالاستخارة:
الخيرة عند الحيرة
الشَّرط الأول: أن لا يتمَّ اللّجوء إلى الاستخارة إلا بعد أن تتشابك الأمور عند الإنسان، وتتشابه عليه الخيارات، ولا يتَّضح له وجه المصلحة من المفسدة، فيظلّ محتاراً متردِّداً لا يهتدي سبيلاً، ولا يعرف ماذا يفعل. ففي هذه الحالة، يكون للاستخارة مجال واسع، أمَّا مع اتضاح الصّورة لديه وتشخيصه ـ ولو بمشورة الآخرين ـ بأنَّ في الإقدام على هذا العمل أو ذاك مصلحةً بيِّنة، أو مفسدة بيِّنة، فلا مجال للاستخارة حينئذٍ، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[11].
وعلى سبيل المثال: لو أنَّ بعض المؤمنين اْبتُلِيَ هو أو أحد أطفاله بمرض، فلجأ إلى الاستخارة، ليحدِّد على ضوئها إذا كان ثمّة مصلحة في أن يذهب إلى الطبيب أم لا، فإنّه بذلك يرتكب خطأً فادحاً، لأنَّ هذا ليس مورداً للاستخارة، إذ إنَّ الموقف في هذه الحالة واضح وبيّن، وهو أنَّ عليه أن يذهب إلى الطّبيب بهدف العلاج، لأنَّ الّذي خلق الدّاء خلق الدّواء، والرجوع إلى أهل الخبرة يمثّل قاعدة عُقلائيّة وشرعيّة، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[12]. نعم، لو أنّه عزم على مراجعة الطبيب، لكنّه تردّد بين طبيبين ماهرين من أهل الاختصاص عينه، فهنا لا مانع من الرجوع إلى الاستخارة لحسم الموقف وترجيح أحد الطبيبين على الآخر.
الاستخارة ليست بديلاً من التّفكير
الشّرط الثاني: أن يستنفد المرء التفكير في المسألة ودراستها من جميع جوانبها، بهدف التعرّف إلى ما فيه مصلحته أو مفسدتهُ، ليقْدِم على الفعل أو الترك، وهو على بصيرة من أمره. إنَّ مدارسة الأمر لا بدّ منها، لأنّ الاستخارة ليست بديلاً من التفكير، ولا ترمي إلى تجميد العقل، أو إقالته من مهامه، والله سبحانه وتعالى أراد لنا أن نتحرّك وفق منطق السُّنن، وأن ندرس قضايانا برويّة وتدبّر.
وبناءً عليه، فما يفعله بعض المؤمنين من المبادرة إلى استخدام الاستخارة قبل أن يُكَلِّف نفسه عناء البحث ودراسة الأمور، في سبيل التعرّف إلى ما هو الأصلح له، هو بالتّأكيد عمل غير مَرْضِيّ من النّاحية الدينيّة، وربّما مثّل نوعَ انحرافٍ عن المسار العقلائيّ العام الّذي أرادنا الله أن نتحرَّك على أساسه في حياتنا، كما أنَّ ذلك يسهم في بناء شخصيّة اتكاليّة متردّدة، لا تملك الثّقة بالنفس، وليس لديها جرأة اتخاذ القرار، ولذا تلجأ إلى الاستخارة، تهرّباً من تحمّل المسؤوليّة.
الاستشارة قبل الاستخارة
الشّرط الثّالث: وكما أنّ التّفكير العقلائيّ الجادّ لا بدَّ من أن يسبق اللّجوء إلى الاستخارة، فإنّه لا بدَّ من أن تسبقها المشورة أيضاً، فبعد أن تتمَّ دراسة المسألة من جميع وجوهها، ولا يصل المرء إلى نتيجة مُرْضِيَة، أو يبقى حائراً، فيجدر به ـ وقبل الاندفاع نحو الأخذ بالاستخارة ـ أن يلجأ إلى أهل الرأي والخبرة والتجربة، ليستشيرهم ويستنير بآرائهم.
ومن هنا، فقد قال أمير المؤمنين عليّ(ع): "من استبدَّ برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها"[13]، وإذا بقي المرء محتاراً ومتردِّداً حتّى بعد مشاورة الآخرين من ذوي الرأي والتجربة، فبإمكانه ـ آنذاك ـ أن يلجأ إلى الاستخارة.
لا خيرة في أحكام الله
الشَّرط الرابع: أن نبتعد عن العمل بالاستخارة في ما يكون حكمه الشّرعيّ واضحاً، فالاستخارة ليس لها مجال في أحكام الله، ولا في إثبات موضوعات الأحكام الشَّرعيّة، فحينما يستخير شخص على ترك الصَّلاة، أو على شرب الخمر، أو على ارتياد نادٍ للقمار، أو على قطيعة الأرحام، أو على الفرار من الزحف والجهاد، فهو بذلك يرتكب خطأً كبيراً، وينحرف عن الصّراط السّويّ، لأنّ الله سبحانه وتعالى لم يُعلِّق امتثال أحكامه الشرعيّة على إذن أحد، ولا رَبَطها بتحقّق شرط أو قيد، باستثناء الشّروط العامّة للتّكليف، من البلوغ والعقل والقدرة، أو الشروط الخاصة، والتي تختلف من مورد إلى آخر، أمّا ما سوى ذلك، كمشورة الآخرين أو الاستخارة ـ مثلاً ـ فلا تُناط بها أحكام الشّرع، لا جعلاً ولا ثبوتاً، ولا امتثالاً وسقوطاً، تماماً كما لم تُعلَّقُ أحكام الله على القرعة.
وما قلناه في الأحكام الشرعيّة، نقوله أيضاً في موضوعات الأحكام، فلا تشرّع الاستخارة لتحديد وتعيين الطاهر من النجس في الثياب أو الأواني أو غيرهما، ولا لتحديد أنّ هذا اليوم هو من رمضان أو من شوّال مثلاً، أو لتحديد أنّ هذا السّائل خمر أم عصير عنبيّ، إلى غير ذلك من الموضوعات.
الخيرة والتنبّؤ بالمستقبل
الشَّرط الخامس: أن نتجنّب استخدام الاستخارة بهدف استطلاع المغيَّبات أو التعرّف إلى مآلات الأمور وما سيحدث في مستقبل الأيّام، وما تخبّئه للإنسان من أفراحٍ أو أتراح، أو استخدامها لأجل تحديد جنس المولود الّذي سيُرزق به، وأنّه ذكر أو أنثى، أو أنَّ الطالب سينجح في الامتحان أو لا، فإنَّ هذا أيضاً ونظائره يمثّل استخداماً خاطئاً للاستخارة، ولا تساعد عليه أدلّتها، وهو أقرب إلى التَّنجيم المرفوض شرعاً، ولم يلتزم بهذا النَّحو من الاستخارة أحدٌ من الفقهاء، وبكلمة مختصرة: إنَّ هذا ليس مورداً سليماً للاستخارة.
تكرار الاستخارة
الشّرط السّادس: الابتعاد عن العبث في استخدامها. ومن موارد العبث هذه، تكرار الاستخارة على الأمر الواحد لمرّات عديدة، كما يحصل مع بعض الأشخاص، فإنّ هذا لا مبرّر له ولا وجه، فإنّ الاستخارة في كلّ أمر تكون مرّة واحدة[14]، اللّهمّ إلاّ إذا تغيّرت الظروف وتبدّل الموضوع، وقد يكون دَفْعُ الصّدقةِ عاملاً مؤثّراً في تبدّل الموضوع، لأنَّ الصَّدقة تدفع البلاء[15]، وعلى سبيل المثال: لو أنَّ شخصاً استخار على السَّفر فخرجت نهياً، فعاود الاستخارة في الوقت عينه على السّفر نفسه، فإنَّ عمله هذا يُعتبر لعباً وعبثاً غير مقبول، وعليه في هذه الحالة أن يأخذ بالاستخارة الأولى دون الثّانية، كما يرى بعض الفقهاء.
الابتعاد عن مخالفة الخيرة
إنّنا وإن كنّا لا نستطيع تبنّي حرمة مخالفة الخيرة شرعاً، لعدم الدَّليل على الحرمة، ولكن ينبغي للمُستخير عدم مخالفتها، لأنَّ من استخار أحداً من الناس أو استشاره، فأشار عليه بأمرٍ، لكنّه خالفه دون مبرِّر، فإنّ فِعْلَه هذا مستقبَح بنظر العقلاء، فكيف إذا كان المستشار هو الله تعالى! فإنّه من سوء الأدب أن يستخير العبد ربّه، ثم لا يرضى بما اختار الله له؟! وإذا كنّا نفترض ونؤمن بأنّ الشخص المستخير في حال توجّهه إلى الله طالباً منه إرشاده إلى ما فيه صلاحه، فإنّ الاستخارة والحال هذه تكشف الواقع، فإنّ ذلك يعني ببساطة أنَّ المصلحة في اتّباعها، وأنّ مخالفتها قد تجرّ عليه المتاعب، أو تبعث على الندم، وفي ضوء ذلك نستطيع القول: إنّ مخالفة الاستخارة هي من قبيل مخالفة الأمر الإرشادي لا المولوي.
عندما تتحوَّل الاستخارة إلى مشكلة!
ونلاحظ في بعض الحالات، أنّ مخالفة الاستخارة تُوقع الإنسان ببعض المشاكل مع نفسه أو الآخرين، لا لشيء سوى أنّ هاجس مخالفتها قد تملّكه وظلّ يلاحقه، ما يدفعه إلى أنْ يفسِّر أيَّ مشكلة تواجهه، ولو كانت صغيرة، على أنّها ناشئة عن عدم عمله بالخيرة، وبذلك تتحوّل الاستخارة نفسها إلى مشكلة للإنسان، مع أنّ هدف استخدامها هو إخراج الإنسان من المشكلة، ومثال ذلك: ما يحصل أحياناً من أنّ شخصاً يعزم على الزواج بفتاة معيّنة، لأنّه قد رآها مناسبة له، واستشار في أمرها، ونُصح باختيارها زوجةً له، لكنّه ـ مع ذلك ـ وبدون مبرّر، يُقدم على الاستخارة، ويُصادف أنّ نتيجة الخيرة لا تكون جيّدة، فهنا لو أنّه أعرض عن الزواج بهذه الفتاة لأراح نفسه، إلاّ أنّ البعض، ولأسباب عديدة، يُقدم على الزواج منها مخالفاً الاستخارة، والَّذي يحصل في مثل هذه الحالة، أنّ هاجس مخالفة الخيرة يبقى مصاحباً له، وربّما يتفاقم مع الوقت بسبب ظروف الحياة ومعاناتها، وما قد تستولده من خلافات بينه وبين زوجته، فيربط كلّ ذلك بمخالفة الخيرة، بدلاً من أن يندفع إلى معالجة هذه الخلافات وإيجاد المخارج لها، كما يحصل في الحالات الطبيعية.
[1] أورد أخبارها الحرّ العامليّ في وسائل الشّيعة، ج 8، ص 68 وما بعدها، أبواب الاستخارة وما يناسبها، والمجلسي في بحار الأنوار، ج 88، ص 247، والبروجردي في جامع أحاديث الشّيعة، ج 8، ص 234.
[2] وقد أشار بعض الأعلام، وهو الشيخ آصف محسني، إلى ضعف هذه الأخبار، انظر: الأحاديث المعتبرة في جامع أحاديث الشيعة، ص 164، 165، فقد أكّد أنّ أخبار الاستخارة على أنواعها ضعيفة، ولذا فقد ترك هو ـ كما يقول ـ منذ زمن الاستخارة بالسبحة.
[3] انظر: القواعد الفقهية للسيد البجنوردي، ج 1، ص 70، والقواعد الفقهية للأيرواني، ج 2، ص 31.
[4] وسائل الشيعة، ج 27، ص 260، الباب 13 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 11.
[5] المصدر السابق، الحديث 6.
[6] القواعد الفقهيّة، مصدر سابق، ج 2، ص 31. وتجدر الإشارة إلى أنّه على هذا، لا خصوصية للسُّبحة، فيمكن الاستخارة بكلِّ طريقة، ولو بقبض عددٍ من الحصى أو نحوها، ومن الطّريف ما يحكى عن الشّيخ جعفر كاشف الغطاء (رحمه الله) في هذا الصّدد، من أنّه "إذا لم يكن عندك مسبحة وتريد الاستخارة، فخذْ قدراً من شعر اللّحية استخر بها". (قصص العلماء، ص 334).
[7] وهي رواية مرازم المتقدّمة، فضلاً عن الكافي، ج 3، ص 472.
[8] انظر: صراط النجاة، ج 1، ص 553، ولذا ذهب بعضهم إلى أنّه يؤتى بها رجاءً أن تكون مطلوبة، أنظر: الفقه للمغتربين، ص 327.
[9] الحدائق الناضرة للشيخ يوسف البحراني، ج 10، ص 531.
[10] كما هو الحال في القرعة، بناءً على بعض الآراء، وذلك طبقاً لما دلّت عليه بعض الرّوايات، كصحيحة أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) عن رسول الله(ص): "ليس من قومٍ تقارعوا ثمّ فوّضوا أمرهم إلى الله إلاّ خرج سهم المحقّ"، أنظر: وسائل الشّيعة، ج 21، ص 172، الباب 57 من أبواب نكاح العبيد والإماء، الحديث 4.
[11] [آل عمران: 159].
[12] [الأنبياء: 7].
[13] نهج البلاغة، ج 4، ص 41.
[14] كما يذكر السيد الخوئي(رحمه الله)، انظر: صراط النجاة، ج 2، ص 418.
[15] كما نصَّت على ذلك الأحاديث الشّريفة. أنظر: الكافي، ج 4، ص 5، باب "إنّ الصّدقة تدفع البلاء".