إنَّ الشَّخصيّة التَّكفيريَّة هي شخصيَّة تتَّصف بعدّة مواصفات تميّزها عن غيرها؛ فهي شخصيّة قِشرية ظاهريَّة سطحيَّة، تهتمّ بالمظاهر والظَّواهر، وتُهمل المقاصد، وتنحو نحو التّشدّد واتّخاذ المواقف القاسية ضدّ الآخر، وتعمل على إلغائه بكلِّ ما أُوتِيَت من قوَّة، ويغلب عليها سوء الظنّ بالآخرين وسوء الفهم للنّصوص، إلى غير ذلك من الصّفات التي تُعتبر في حقيقتها أسباباً وبواعث تدفعها نحو المصادمة مع الآخر وتكفيره. وقد وفَّقنا الله تعالى وبحثنا هذه الصّفات في كتاب مستقلّ
[1].
وما نرمي إليه في هذه المقالة، الحديث عن صفات أساسيَّة أخرى تتَّسم بها الشَّخصيّة التكفيريّة، بما يساهم في تفكيك ظاهرة الإرهاب التكفيريّ ومحاصرتها، والحدّ من عدوانيَّتها واستهانتها بالأرواح وسفكها للدّماء.
أوّلاً: الغرور الدّينيّ
وأولى تلك المزايا والخصائص البارزة لدى الشخصيّة التكفيريّة، أنّها شخصيّة يتحكّم بها مرض الاستعلاء والغرور الدّينيّ، وهو غرور "مقدَّس" في نظر صاحبه، ينطلق من جهلٍ مركّب لدى الإنسان. ومن الطّبيعي، أنّ الإنسان الجاهل كلّما ازداد نسكاً، ازداد غروراً وإعجاباً بنفسه وبدينه. والغرور الدّينيّ من أخطر أنواع الغرور، لأنَّ المغترّ بالدنيا قد توقظه المواعظ، وأمّا المغترّ بدينه، فلا تنفعه المواعظ لأنّه لا يتقبّلها، وكيف يتقبّلها وهو يرى نفسه في موضع الواعظ لا المتّعظ، والناصح لا المنتصح! بل ربّما تذمَّر من النصيحة وتبرّم، كما يحدّثنا الله في كتابه عن بعض الناس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[2]. إنّه يُخيّل إلى نفسه أنّه يمتلك الحقيقة من ناصيتها، وأنّه على هدى من أمره، والحال أنّه يعيش في وهمٍ كبير، وربّما كان مصداقاً بارزاً لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}[3]. وقد رُوِيَ أنَّ عبد الله بن الكواء سأل عليّاً(ع) عن قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً}[4] قال: "أنتم يا أهل حروراء"[5].
وقد رأينا أنَّ الإمام عليّاً(ع)، على عَظَمته وجلالة قدره وقربه من الله تعالى، يطلب من الله أن يُعينه على تقبّل الموعظة من الآخر، ففي جواب رسالة له إلى معاوية يقول: "فأمّا أمرك لي بالتقوى، فأرجو أن أكون من أهلها، وأستعيذ بالله من أن أكون من الّذين إذا أُمروا بها أخذتهم العزّةبالإثم"[6].
إنَّ الغرور الدّينيّ قد يجعل صاحبه مقداماً، لكنّه قد يدفعه نحو التّهوّر أيضاً، كما أنّ استحكام الغرور عنده، قد يحوّله إلى فردٍ عدوانيّ صداميّ، وربّما دفعه إلى المزايدة حتى على أولياء الله وأنبيائه. وهذا ما يحدِّثنا عنه التاريخ، إذ إنَّ بعض الأشخاص الجَهَلَة، والذي التحق بالخوارج فيما بعد، وقف ذات يومٍ في وجه رسول الله(ص) يعظه ويأمره بالعدل في تقسيم الغنائم! ففي الكتب الموسومة بالصّحّة والمتّفق عليها عند المسلمين السُّنّة، نقلاً عن أبي سعيد الخدري، قال: "بينا نحن عند رسول الله(ص) وهو يقسّم، إذ أتاه ذو الخويصرة ـ "رجل من بني تميم" ـ فقال: يا رسول الله، اعدلْ! فقال رسول الله(ص): ويلك، من يعدل إنْ أنا لم أعدل، وقد خبتُ وخسرتُ إن أنا لم أعدل. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، ائذن لي فيه أضرب عنقه، فقال رسول الله(ص): دَعْه، فإنَّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلامكما يمرق السَّهم من الرمية.."[7].
القرآن يفنِّد الغرور الدّينيّ
وقد واجه القرآن الكريم حالة الاستعلاء الديني الملازمة لأصحاب الذهنية المتشدّدة من أتباع الأديان كافة، بطريقة نقدية لاذعة تفنّد أباطيلهم وتدحض حججهم الواهية، فقد حدَّثنا عن اليهود ودعواهم أنَّ الهداية لا تكون لغيرهم، وأنَّ الجنّة حكر عليهم، وأنّهم بمنأى عن العذاب الأُخروي، وكأنَّ النّار خُلقت لسواهم، والجنَّة لم تُخلق إلاّ لهم، يقول تعالى حكاية عنهم: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[8]، وادّعوا أنّهم أحبّاء الله وأبناؤه المدلَّلون، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء الله وَأَحِبَّاؤُهُ}[9] وجاءهم الردّ القرآنيّ الحاسم: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[10].
وتتواصل سلسلة الادّعاءات الفارغة عندهم: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى}[11]، ويتواصل الردّ الإلهيّ الّذي يبطل مزاعمهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[12].
وإذ دفعهم الغرور إلى ادّعاء أنَّ الجنّة هي لهم دون سواهم، فمن الطبيعي أن تكون النار للآخرين، وأمّا هم، فلا يدخلونها ولا يذوقون حميمها. نعم، قد يمرّون عليها مرور الكرام: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً}[13]، ويجيبهم الله تعالى قائلاً: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً فَلَن يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[14].
وتمتدّ الآثار السَّلبيَّة لحالة الغرور والاستعلاء الدّينيّ إلى داخل أهل الكتاب أنفسهم، فيهاجم بعضهم البعض الآخر، ويدّعي كلّ طرفٍ أنّه على الهدى والصواب، وأنّ الآخرين ليس لهم من الهداية حظّ ولا نصيب، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[15].
وهكذا يمتدّ الأمر إلى داخل الدين الواحد، ولا يسلم من ذلك المسلمون أنفسهم، فكلّ طائفة تدّعي أنّها على الهدى، وأنّها الفرقة الناجية، وأنّ الجنّة لأتباعها فقط، والنار لغيرهم، ولكنّ الله وهو أصدق القائلين، يدحض كلّ هذه الادّعاءات والأماني الفارغة بالقول: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً}[16]، فليس بين الله وأحد من خلقه قرابة، {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}[17].
الغرور الدّينيّ والاستهانة بالآخرين
إنّنا لا ننكر على صاحب العقيدة والقناعة الدينيَّة أو غير الدينيَّة الاعتزاز بعقيدته، والدّفاع عن قناعته والتمسّك بها، لكن ما ننكره، هو أن يتحوّل هذا الاعتزاز إلى نوع من تضخّم الشخصيَّة وتورّمها دون محتوى، بحيث يتملّكها الغرور والاستعلاء، وهو ما يقود حتماً إلى الاستهانة بالآخرين واستباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم. وهذا ما نطق به القرآن الكريم، فإنّه بعد أن حدّثنا أنّ قسماً من أهل الكتاب، وهم النصارى، إذا ائتمنتَ بعضهم على قنطار من المال، فإنّه يحفظ الأمانة ويُرجعها إليك كاملة غير منقوصة، أشار إلى أنّ قسماً آخر ـ وأراد بهم اليهود ـ إن ائتمنتَ بعضهم على دينارٍ واحدٍ فلا يؤدّيه إليك، لأنّه لا يرى لك حرمة ولا ذمَّة، قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[18].
وفي نهاية المطاف، فإنَّ المغترّ بدينه سيقضي عليه غروره، ويتحكَّم به هوى النفس، ويصبح الدّين ألعوبةً في يديه، وجسراً يعبره للوصول إلى أهدافه وإشباع رغباته، فيحلّل ويحرّم وفق هواه وميوله، ويتمرّد على تعاليم الدين على الرغم ممّا يوحي به ظاهره المخادع من التزمّت الديني. وهذا ما نبّه إليه الرسول الكريم في حديثه الآنف عن الخوارج بأنّهم "يمرقون من الإسلام كما يمرق السَّهم من الرّمية"، وتقدّم أيضاً حديث الإمام زين العابدين(ع) عن عدم الاغترار بظاهر الرّجل؛ لأنّ "من النّاس من خسر الدنيا والآخرة يترك الدّنيا للدنيا، ويرى أنَّ لذَّة الرئاسة الباطلة أفضل من لذّةالأموال والنّعم المباحة المحلَّلة، فيترك ذلك أجمع طلباً للرئاسة حتى {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ الله أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ}[19]، فهو يخبط خبط عشواء، يقوده أوّل باطل إلى أبعد غايات الخسارة، ويمدّه ربّه بعد طلبه لما لا يقدر عليه في طغيانه، فهو يُحِلُّ ما حرَّم الله،ويحرِّم ما أحلَّ الله، لا يبالي بما فات من دينه إذا سلمت له رئاسته الّتي قد يتّقي من أجلها، فأولئك الَّذين {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ}[20]"[21].
ثانياً: الانشغال بالهوامش
السِّمة الثّانية الَّتي تميِّز الشَّخصيّة التكفيريَّة ـ بعد صفة الغرور الدّينيّ ـ أنّها تستغرق في الصَّغائر، وتنشغل في التّفاصيل، وتخوض الكثير من المعارك الجانبيَّة والهامشيَّة. وهذا الأمر ناتج من افتقادها الميزان الصَّحيح في تشخيص الأمور وتحديد الأولويَّات؛ ولذا نرى أتباع هذه الجماعات يُكثرون الجدال والسّؤال والقيل والقال في توافه الأمور ونوافلها، على حساب القضايا الكبرى في العقيدة والشَّريعة والحياة.
مع أنَّ القرآن الكريم رسم لنا منهجاً واضحاً، ودعانا إلى تجنّب الخوض في الصّغائر والهوامش، وإلى التركيز على المتون والأصول النّافعة في الدّنيا والآخرة، وهذا ما نلحظه بوضوح في قصَّة أهل الكهف، وما حكاه لنا الله تعالى عن اختلاف النّاس في عددهم. قال عزَّ من قائل: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}، ويأتي التّوجيه الإلهيّ بضرورة تجنّب هذا النّوع من الجدال لعدم جدواه: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً}[22].
وهكذا، يلاحظ المتأمّل والمتتبّع لظاهرة السّؤال في القرآن (يسألونك، يسألك، وإذا سألك...)، أنَّ الله سبحانه يوجّه عباده في بعض الحالات إلى ترك السّؤال عن بعض الأشياء، ممّا يكون الخوض فيها مضرّاً أو غير ذي جدوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}[23]، أو أنَّ ذلك ممّا لا يتَّصل بمسؤوليَّاتهم، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ}[24].
النّبيّ وترشيد أسئلة الأمَّة
وفي حالاتٍ أخرى، نجد أنَّ الله تعالى يدعو رسوله إلى ضرورة ترشيد أسئلة الأُمّة، وذلك من خلال الإجابة عن أسئلتهم بجوابٍ لا يتطابق مع السّؤال، تنبيهاً لهم إلى ما ينبغي أن يسألوا عنه، كما في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}[25]، فقد كان سؤالهم ـ كما يظهر من الآية وتؤكّده أسباب النّزول ـ عن حالات اختلاف القمر، فإنّه يبدو صغيراً ثم يكبر ثم يصغر بعد ذلك، فأرادوا أن يفهموا سرَّ ذلك، لكنّ الجواب لم يكن على وفق السّؤال، بل اتّجه اتجاهاً آخر، وهو الحديث عن فوائد هذا الاختلاف بين منازل القمر؛ لأنّه يحدِّد للنّاس مواقيتهم ومواعيدهم فيما يحتاجون إليه من تحديد الوقت في قضاياهم العامّة والخاصَّة[26]، على أنّهم لم يكونوا في المستوى الّذي يؤهِّلهم للاستفادة من المعرفة الفلكيَّة، ما يجعل الدّخول معهم في ذلك غير ذي جدوى، بل إقحاماً لهم في عمليَّةٍ لا تتَّسع لها أفكارهم وعقولهم.
ويتكرَّر الأسلوب والمنهج نفسه في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}[27]، حيث نلاحظ أنَّ الجواب اتَّجه بعيداً عن النصّ الحرفيّ للسّؤال، ترشيداً وتوجيهاً للنّاس إلى ما ينبغي أن يسألوا عنه، ولذا وبدل أن يجيبهم بالتّفصيل عمّا يلزمهم الإنفاق منه، وهو مورد سؤالهم، فإنّه مرَّ على ذلك مرور الكرام بعبارةٍ موجزة: {مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ}، من دون أن يدخل في تفاصيل هذا الخير، لأنَّ إنفاق الخير جيّد على كلِّ حال، لكنّه توقّف مليّاً عند مَنْ ينبغي الإنفاق عليهم، مع أنَّ ذلك لم يكن مورداً للسّؤال، ليبيّن لهم أنَّ هذا هو المهمّ، فليس مهمّاً نوع الإنفاق ما دام خيراً ونافعاً، بل المهمّ أن تعرف أين تضع مالك وأين تُنْفقه، هذا هو منهج القرآن، فأين المسلمون، ولا سيَّما الجماعات التكفيريّة، منه؟!
إنّنا عندما نلاحظ إقدامهم على عظائم الأمور، وتَوَقُّفهم وتورّعهم في الصَّغائر، نستذكر موقف البعض من أهالي الكوفة، ممّن تجرأوا على قتل الحسين(ع) وانتهاك حرمته، ثم جاؤوا يستفتون في حكم قتل البعوض والذباب.
فقد رُوِي أنّ رجلاً سأل ابن عمر عن دم البعوض، فقال: ممّن أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبيّ(ص)! وسمعت النبيّ(ص) يقول: "هما ريحانتاي من الدّنيا"، ورُوِيَ أنّه سأله عن المُحْرِم يقتل الذّباب؟ فقال: "يا أهل العراق، تسألوني عن قتل الذّباب وقد قتلتم ابن رسول الله(ص)!"[28].
ثالثاً: العنف والاستهانة بالأرواح
والصّفة الثّالثة اللّصيقة بالجماعات التكفيريَّة، هي اعتمادها طريق العنف والقسوة في مواجهة الآخر، فهي لا ترى له حرمة، ولا تجد غضاضة في لعنه وشتمه وضربه والتعدّي عليه وانتهاك حرمته وسفك دمه، وليس في قاموسها مكان للرّأفة والرّفق إلاّ في حالات خاصَّة، وكأنّ الأساس في الشَّخصيَّة الإيمانيَّة، الشدَّة والغلظة، وأمَّا الرّفق والمحبّة والرّحمة، فهي استثناء! وتلك هي حالهم في الماضي والحاضر.
قتل دجاجة هو أمر عظيم عند الله!
فلو عدنا إلى الماضي، لرأينا أنَّ أوَّل حركة تكفيريَّة وهي حركة الخوارج، قد اشتُهرت بالقسوة والجرأة على انتهاك الحرمات، وكفَّرت المؤمنين، واستحلَّت دماءهم، وعاثت في الأرض فساداً، قبل أن ينهض الإمام عليّ(ع) ليضع حدّاً لتمرّدهم وإخلالهم بالأمن الاجتماعيّ والنظام العام. وإنَّ الحادثة التي ينقلها لنا الطبري وغيره من المؤرّخين، عن قَتْلهم عبد الله نجل الصّحابي خباب بن الأرت، وبَقْر بطن زوجته وهي حامل مُقْرِب، خير شاهد على مدى الوحشيَّة التي بلغوها.
إنَّ اعتراض هذه الجماعة على قتل صاحبهم خنزير رجلٍ "ذمّي"، واعتبارهم أنَّ ذلك يشكّل فساداً في الأرض، وفي المقابل، جرأتهم على قتل رجلٍ مسلمٍ وبقر بطن زوجته دون أن يرمش لهم جفن، إنَّ هذا إن دلّ على شيء، فإنّه يدلّ على حالةٍ من التخبُّط والضّياع لديهم، وافتقارهم إلى الميزان الدّينيّ والأخلاقيّ الّذي يمنح الإنسان توازن الشخصيّة، وهذا ما جعلهم يعظِّمون الصّغائر ويستهينون بالعظائم.
وقد وعظهم أمير المؤمنين(ع)، وحذَّرهم من عاقبة أعمالهم قائلاً: "فبيّنوا لنا بماذا تستحلّون قتالنا والخروج من جماعتنا إن اختار النّاس رجلين، أن تضعوا أسيافكم على عواتقكم ثم تستعرضوا النّاس، تضربون رقابهم وتسفكون دماءهم، إنَّ هذا لهو الخسران المبين، والله، لو قتلتم على هذادجاجة لعظم عند الله قتلها، فكيف بالنَّفس التي حرَّم الله!"[29].
وأمّا في عصرنا الحاضر، فقد رأينا الحركات التكفيريَّة والإرهابيَّة تمارس العنف بأشكالٍ مختلفة في العديد من بلدان العالم الإسلاميّ؛ من إيران الإسلاميّة، إلى الجزائر، إلى أفغانستان والعراق وسوريا وسواها من الدّول التي سُفكت ولا تزال تُسفك فيها الدّماء بدمٍ بارد، وهذا ما ساهم في تقديم صورة قاتمة سوداويّة عن الإسلام والمسلمين.
من الجهاد إلى اللّصوصيَّة
ومن النقاط المشتركة التي تتلاقى عليها الجماعات التكفيريَّة في الماضي والحاضر، أنّها إذا ما ضُيّق عليها الخناق وحوصرت، تكون عاقبتها أن يتحوَّل أفرادها إلى لصوص وقطّاع طرق. وبذلك، ينتقلون من موقع الجهاد إلى موقع اللّصوصيَّة، وقد تنبّأ بهذا المصير أمير المؤمنين(ع) بشأن الخوارج، فإنّه بعد أن حاربهم وقضى عليهم، قيل له: يا أمير المؤمنين، هلك القوم بأجمعهم؟ فقال(ع): "كلا والله، إنَّهم نطف في أصلاب الرّجال وقرارات النّساء، وكلَّما نجم منهم قرن قُطع، حتى يكون آخرهم لصوصاً سلابين"[30].
وهكذا، يلاحظ أنَّ الجماعات المذكورة تختلط عليها الأمور، وتضيع الأولويّات، فيأخذون البريء بجريرة المذنب، ولا يفرّقون بين مدنيّ مسالم أو مقاتل، وبين صغيرٍ أو كبير، وبين عدوٍّ أو صديق. وهذه صفة تلاقى عليها مكفِّرة الماضي والحاضر؛ أمّا مكفِّرة الماضي، فكانوا كما وصفهم الإمام عليّ(ع): "سيوفكم على عواتقكم، تضعونها مواضع البرء والسّقم، وتخلطون مَن أذنَب بمَن لم يُذنِب"[31]. وأمّا مكفِّرة زماننا، فهم كذلك، بل أشدّ سوءاً، كما يُنبِئ شعارهم القائل: "إن قتلنا مجرماً عجَّلنا به إلى النار، وإن قتلنا بريئاً عجَّلنا به إلى الجنّة!".
العنف ممارسة خاطئة أم منهجٌ خاطئ؟!
ولو فتَّشنا عن السَّبب في جنوح هذه الحركات إلى العنف، واعتمادها نهجاً وطريقاً في مواجهة الآخر ممّن لا تتَّفق معهم في الرأي، مسلماً كان أو كتابيّاً أو مشركاً، لما وجدنا مبرّراً لذلك سوى سوء فهم أتباع هذه الحركات للدّين، وجهلهم بأهدافه ومقاصده وتطلّعاته، وتمسّكهم بنصوصه بشكلٍ مجتزئ وانتقائيّ، وعدم إحاطتهم به من جميع جوانبه.
وساهم في ذلك عوامل أخرى، منها: هوى النّفس، وحبّ الدّنيا والأطماع، والعُقَد النفسيّة الخاصَّة. وعزّز ذلك أساليب القمع والوحشيّة التي لجأت إليها بعض السّلطات الجائرة في مواجهتهم، ومحاولة استئصالهم، وهو ما زادهم شراسةً وعنفاً وقسوةً. وفي هذا الجوّ، نشأت وترعرعت الأفكار التكفيريَّة، وتشكّل ما بات يُعرف "بثقافة العنف"، لأنَّ المشكلة لا تكمن في مجرّد ممارسات عنيفة وقاسية تُرتكب هنا أو هناك، بل في ثقافة مشوَّهة وتعبئة خاطئة تنتج التطرّف، وتنتهج العنف، وتسفك الدّماء، وتصنع أفراداً وجماعات أشدّاءَ غلاظاً قساةً على المؤمنين والكافرين على السَّواء.
وفي ضوء ذلك، غدا علاج المشكلة معقَّداً وبمكان من الصّعوبة، فهو لا يتمّ بواسطة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، أو تنبيهٍ هنا أو توجيهٍ هناك؛ لأنَّ هؤلاء لا يرون أنفسهم فاعلين لمنكرٍ أو تاركين لمعروف، بل يعتقدون أنّهم يقومون بواجبهم الدّينيّ والرّساليّ. وإنّما العلاج باعتماد عمليّة توعية وتثقيف شاملة تعمل على غرس ثقافة الرّفق في النفوس، وتعميمها في كلّ الأوساط، وتربية الجيل الصَّاعد عليها. إنَّ علينا أن نعمل على مواجهة العنف من خلال تفكيك البنى التحتيَّة التي يرتكز عليها وتفنيدها، وهي الثّقافة الّتي تنتج العنف وتضفي عليه بعض التبريرات الدينيَّة الموهومة.
وهذا المنهج إذا عمل العلماء والمفكِّرون على التَّنظير له وتأصيله، ومن ثَمَّ إشاعته في مختلف الأوساط، وتربية الأُمَّة عليه، فإنّه كفيل بالتَّخفيف من وطأة التَّكفيريّين ونزع سلاح الشّرعيَّة من أيديهم، بخلاف ما لو كان الأسلوب المتّبع معهم هو أسلوب القمع والشدَّة فقط، فإنَّ ذلك لن يزيدهم إلا شراسةً وعدوانيَّة، وربّما أوجب تعاطف الكثيرين معهم لما يرون من مظلوميَّتهم. ولهذا، وجدنا أنَّ أمير المؤمنين(ع) تريّث كثيراً قبل أن يفكِّر في مواجهة مكفّرة زمانه، أعني الخوارج، بل ناظَرهم وحاورهم وأرسل إليهم عبد الله بن عباس لمحاججتهم وتفنيد ادّعاءاتهم، وأرشده إلى الأسلوب الأنجح في إبطال حججهم، قائلاً: "لا تخاصمهم بالقرآن، فإنّ القرآن حمّالٌ ذو وجوه، تقول ويقولون، ولكن حاججهم بالسُّنّة، فإنّهم لن يجدوا عنها محيصاً"[32]، إنّ في ذلك درساً لنا بأن نفكّر في أسلوب الحوار مع الآخر قبل أن نفكّر في الحوار نفسه.
الإسلام والرّفق
وبناءً على ما تقدَّم، يكون من الضَّروري أن نطلّ على نظرة الإسلام إلى مفهومَي العنف والرّفق، لنحدِّد موقعهما في الحياة وفق الرّؤية الإسلاميَّة. وغير خفيّ أنَّ الرّفق قيمة كبرى يريدنا الإسلام أن نحملها في قلوبنا ونجسِّدها على أرض الواقع، ففي الحديث عن رسول الله(ص): "إنَّ الله رفيق يحبّالرّفق ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف"[33]، وعنه(ص) أيضاً: "الرّفق لم يُوضَع على شيءٍ إلاّ زانَه، ولم يُنْزَع من شيءٍ إلاّ شانَه"، وفي حديث الإمام الباقر(ع): "إنَّ لكلّ شيءٍ قفلاً، وقفل الإيمان الرّفق"[34].
ولن يستطيع الإنسان بلوغ غاياته بدون انتهاج سبيل الرّفق، يقول عليّ(ع): "الرّفق مفتاح النّجاح"[35]، ويقول الصَّادق(ع): "من كان رفيقاً في أمره، نال ما يريد من الناس"[36]، وهل انتشر الإسلام إلاّ بثقافة الرّفق ولغة المحبّة؟ وهل تربّع رسول الله(ص) على عرش القلوب لو لم يكن رحمة شاملة ومهداة للنّاس جميعاً؟!
وقد غدا الحديث عن رحابة الإسلام، وأنّه دين المحبة والرّفق، حديثاً استهلاكياً، وآن الأوان لأن نخرج من لغة التَّعميمات وطوباويَّة الكلمات وضبابيّتها، وندخل في التّفاصيل والجزئيّات، وننزل إلى أرض الواقع، وننشر ثقافة الرّحمة، ونبرهن أنَّ الرّفق ليس مجرّد قيمة متسامية وشعار عريض نزيّن به ساحاتنا ونردِّده في البروج العاجية، بل إنّه سلوك ومنهج حياة ينبغي أن يحكم كلّ مرافق الحياة ومختلف الدوائر الإنسانيَّة العامَّة والخاصَّة، وأنّه من جهة أخرى، محميّ بتشريعات وقوانين تكفل تطبيقه وتمنع تجاوزه. آن الأوان لكي ننقذ الرّحمة نفسها من نصال العنف وأنيابه المتوحّشة، لأنّ الضّحيّة الكبرى لمنطق العنف، هو غياب قيمة الرّحمة نفسها وتلاشيها.
الرّفق منهج حياة
أمّا الجانب الأول: وهو أنّ الرفق ليس مجرّد شعارات عامّة نُطلِقُها، بل هو سلوك يفترض أن يحكم كلّ الدَّوائر الإنسانيَّة، فهذا ما تسعفنا النّصوص والتعاليم الإسلاميَّة لإثباته بشكلٍ واضح، حيث نجدها تؤكّد أنّ العلاقات الإنسانيّة برمّتها لا بدّ من أن تتحرّك على أساس الرفق لا العنف، فالعلاقة بين الرجل وزوجته عمادها المحبّة والرّحمة، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً...}[37] ، وكذلك العلاقة بين الولد ووالديه، قال عزَّ وجلّ: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}[38].
ولو خرجنا من دائرة الأسرة إلى دائرة الأرحام والجيران والإخوان، سنجد الدَّعوة واضحة إلى أن يكون الرّفق منهاج حياتنا، فعن رسول الله(ص): "الراحمون يرحمهم الرّحمن، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السّماء"[39]، وقد وصف الله تعالى عباده المؤمنين بأنّهم {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}[40].
والحاكم المسؤول لا بدَّ من أن ينتهج أسلوب الرّفق في تعامله مع الأُمّة، قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[41]، وعن الإمام عليّ(ع) في عهده لمالك الأشتر: "وأَشْعِرْ قلبك الرّحمة للرّعيّة والمحبّة لهم واللّطف بهم، ولا تكونَنَّعليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أُكُلَهم، فإنَّهم صنفان، إمَّا أخٌ لك في الدّين، أو نظيرٌ لك في الخلق".[42]
ولا بدّ من أن تمتدَّ حبال المودّة وسياسة الرفق إلى الآخر الَّذي يختلف معنا في الدّين، كما أكَّد الإمام(ع) في كلامه الآنف، لأنّه إنْ لم يكن أخاً لك في الدّين، فإنّه أخٌ لك في الإنسانيَّة، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}[43].
وهكذا يريد لنا الله تعالى أن نرفق ونرحم حتى الحيوان، فعن رسول الله(ص): "ينادي منادٍ في النّار: يا حنّان يا منّان، نجِّني من النّار، فيأمر الله ملكاً فيخرجه حتى يقف بين يديه، فيقول الله عزَّ وجلَّ: هل رحمت عصفوراً؟"[44].
حماية المجتمع
وأمّا الجانب الثاني: وهو الآليّات القانونيَّة الكفيلة بحماية المجتمع من النتائج السلبيَّة لنزعة العنف والعدوانيَّة، الَّتي قد لا تستطيع كلّ أساليب التربية أن تروّضها، فيمكننا القول إزاءه: إنّ التشريع الإسلاميّ وَضَعَ مجموعة من الضَّوابط القانونيّة الكفيلة بتحقيق الهدف المذكور، والحدّ من كلِّ أشكال العنف والعدوان على الآخر، ابتداءً من العنف الزوجيّ الذي غالباً ما تكون النّساء ضحاياه، أو العنف الأسري الذي يكون الأطفال أوّل ضحاياه، أو العنف مع الجيران أو مع النّاس جميعاً. والضّوابط المذكورة تنتظم في النّظام الجنائيّ الإسلاميّ الّذي يُعطي للمعتدَى عليه حقّ الدِّفاع عن النفس، وحقّ القِصاص أو الِدّيَة، على قاعدة: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ}[45]، ويعطيه أيضاً حقَّ التّعويض الماليّ على قاعدة: "مَن أتلف مال غيره فهو له ضامن"، وقاعدة: "على اليد ما أخذت حتى تؤدّي"[46]، وفوق ذلك كلّه، مُنِحَ الحاكم سلطة منع الظّلم والتعدّيات بأشكالها كافّةً، ولذا ورد في الحديث: "الإمامة نظام الأُمة"[47].
هذا على نحو العموم، أمَّا في التفاصيل، فيمكننا الإشارة إلى بعض النماذج:
1 ـ إذا اعتدى الزوج على زوجته، فعلى الحاكم منعه بسلطة القانون، وإذا بقي مصرّاً على ذلك، وكانت الحياة الزوجيّة عسراً وحرجاً على المرأة، فيمكن للحاكم الشّرعيّ أن يفرّق بينهما، كما يرى جَمْعٌ من الفقهاء[48].
2 ـ ولو أنّ الأب ضرب ابنه، فأثّر الضّرب فيه اسوداداً أو احمراراً، عُوقِب من قبل الحاكم الشّرعيّ وأُلزم بدفع الدّية، كما هو مقرّر في محلّه. وإذا كان الضَّرب سلوكاً مستمرّاً له، فعلى الحاكم أن يعزله عن الولاية وينتزع الولد منه، لأنّ الولاية تعني سدّ نقص المولى عليه وتكميله، وهي تقتضي القيام بشؤونه وتربيته ورعايته، لا ضربه والاعتداء عليه، باستثناء الضرب الخفيف الذي قد تقتضيه ضرورة التربية أحياناً، ويتحرّك في الإطار التربوي، لا ما ينطلق بداعي الانتقام أو شفاء الغيظ[49].
3 ـ ويمنع الإسلام كذلك من الإضرار بالآخرين وأذيّتهم، ولو اقتضى الأمر أن يحدَّ من سلطة الإنسان ويقيّد حريّته، وقد اشتهرت قصّة سمرة بن جندب الذي كان يملك نخلةً في دار رجل من الأنصار، وكان مصرّاً على الدخول إليها بدون استئذان، ممّا يؤذي الأنصاري وعياله، فشكاه الأنصاري إلى الرسول، فاستدعاه(ص) وقدّم له بعض الحلول. ولمّا رفض كلّ الحلول والعروضات التي قدّمها له النبيّ(ص)، بما في ذلك أن يأخذ عوضاً عن نخلته عشر نخلات في الجنّة بضمانة رسول الله(ص)، أمر النّبيّ الأنصاري بقلع الشّجرة ورميها في وجه سمرة، معلِّلاً ذلك بقوله: "لا ضرر ولا ضرارفي الإسلام"[50].
4 ـ وهكذا، لا يسمح القانون الإسلامي بالاعتداء على غير المسلم، أو انتهاك حرمته، أو سرقة ماله، بل إنّه يحميه ويحترم خصوصيَّته، ويعطيه حقَّ ممارسة عباداته وغيرها من الحقوق. ولو أنَّ مسلماً اعتدى عليه عُوقِب وضُمِّن، حتى لو أنَّ مسلماً قتل خنزيراً لرجلٍ ذميِّ فهو ضامن، كما فعل أمير المؤمنين(ع)، مع أنَّ الخنزير لا ماليّة له في الإسلام[51].
عنف الجهاد والقانون
إنَّ الرفق هو الأصل في الإسلام، لكن ذلك لا يمنع من وجود بعض الاستثناءات المنطقيَّة، وأولى تلك الاستثناءات، حالة الدِّفاع عن النفس، والجهاد في سبيل التحرّر والتخلّص من نير الظّلم والعدوان والاحتلال. فهنا يختلف الأمر ويتبدّل الموقف، ويصبح المنطق الطّبيعيّ هو منطق: {أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ}[52]، واللّغة السّائدة هي لغة: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[53].
والاستثناء الآخر هو عنف القانون، بهدف تجسيد العدل وإحقاق الحقّ، ومحاسبة المجرمين والمعتدين والمخلّين بالأمن الاجتماعي. فهنا لا يكون الموقف هو العفو بشكلٍ مطلق؛ لأنَّ العفو قد يكون مضرّاً. يقول الإمام زين العابدين(ع) فيما عُرِف برسالة الحقوق: "وحقّ مَن ساءَك أن تعفو عنه، وإنعلمت أنّ العفو يضرّه انتصرت"[54]، والإسلام لا يؤمن بقاعدة: "مَنْ لطمك على خدِّك الأيمن فحوِّل له الأيسر"[55]، إلاّ على المستوى الشّخصيّ والحقّ الخاصّ.
وأعتقد أنّ كلام السيّد المسيح المذكور ناظر إلى هذه الدائرة الأخلاقيَّة، وليس في مقام إلغاء القانون أو إلغاء حقّ الدّفاع عن النّفس، خلافاً لما فهمه الشّاعر القرويّ منه، ولذا قال بلغة المعترض عليه:
إذا حاولت رفع الضّيم فاضرب بسيف محمّدٍ واهجر يسوعا
فيا حملاً وديعاً لم يخلّف سوانا في الورى حملاً وديعا
أَجِرْنا من عذاب النّير لا من عذاب النّار إنْ تك مستطيعا
إنَّ محمداً(ص) والمسيح(ع) يدعوان إلى التّسامح والعفو على المستوى الفرديّ، باعتبار أنّ العفو سجيَّة أخلاقيَّة ممدوحة وحسنة، وقد قال تعالى في هذا الشّأن: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[56]. ولكن على المستوى الاجتماعيّ والحقّ العام، لا يجوز أن تكون القاعدة، لا عند محمّد(ص)، ولا عند عيسى(ع)، هي التّسامح والعفو؛ لأنَّ معنى ذلك نسف فكرة القانون من أصلها، وسيادة شريعة الغاب وانتشار الفوضى في المجتمع. ومن هنا، لمّا سئل عليّ(ع): أيّهما أفضل؛ العدل أم الجود (العفو)؟ قال: "العدل يضع الأمور في مواضعها، والجود يخرجها من جهتها، العدل سائس عام،والجود عارض خاصّ، فالعدل أشرفهما وأفضلهما"[57]. إنّ علياً(ع) يريد أن يقول لنا: إنَّ العدل هو القاعدة والقانون العام، لأنّه يضع الأمور في مواضعها. أمَّا العفو، فهو استثناء وحالة خاصَّة، وربّما كان مضرّاً بالمعفوّ عنه، كما أسلفنا، ولذا قال(ع) في كلمةٍ أخرى: "إذا كان الرّفق خرقاًكان الخرق رفقاً"[58]، وقد أجاد المتنبّي في التّعبير عن هذا المعنى عندما قال:
ووضع النّدى في موضع السّيف بالعلا مضرٌّ كوضع السّيف في موضع النّدى
وما ذكرناه حول استثناء عنف القانون، نقوله مع عِلْمِنا وإدراكنا بأنَّ الكثير من الحكّام المستبدّين والظّلمة قد يسيئون استغلال القانون، وينحرون الحرّيات، ويصادرون الحقوق، ويقمعون الشّعوب باسم سلطة القانون وتحت رايته.
* كلمة في مؤتمر "شهداء الإرهاب" في إيران
[1] راجع: كتاب العقل التّكفيري قراءة في المنهج الإقصائي.
[2] [البقرة: 206].
[3] [الكهف: 103، 104].
[4] [الكهف: 103].
[5] جامع البيان لابن جرير الطبري، ج 16، ص 43، وأهل حروراء هم الخوارج.
[6] شرح نهج البلاغة لابن أبي حديد، ج 14، ص 41.
[7] شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 265، تاريخ الطّبري، ج 5، ص 185.
[8] [البقرة: 135].
[9] [المائدة: 18.
[10] [المائدة: 18].
[11] [البقرة: 111] .
[12] [البقرة: 111، 112].
[13] [البقرة: 80].
[14] [البقرة: 80 ـ 82].
[15] [البقرة: 113].
[16] [النساء: 123].
[17] [الزلزلة: 7، 8].
[18] [آل عمران: 75].
[19] [البقرة: 206].
[20] [الفتح: 6].
[21] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 2، ص 84.
[22] [الكهف: 22].
[23] [المائدة: 101].
[24] [الأعراف: 187].
[25] [البقرة: 189].
[26] من وحي القرآن، السيد فضل الله(رض)، ج 4، ص 66، 67، دار الملاك، بيروت، ط 2.
[27] [البقرة: 215].
[28] كشف الغمة، ج 2، ص 10.
[29] تاريخ الطبري، ج 4، ص 63.
[30] نهج البلاغة، ج 1، ص 108.
[31] المصدر نفسه، ج 2، ص 7، وعنه بحار الأنوار، ج 33، ص 373.
[32] نهج البلاغة، ج 3، ص 136.
[33] مسند أحمد، ج 1، ص 112، وصحيح مسلم، ج 8، ص 22.
[34] الكافي، ج 2، ص 118، 119.
[35] تصنيف غرر الحِكَم، ص 294.
[36] الكافي، ج 2، ص 120.
[37] [الروم: 21].
[38] [الإسراء: 24].
[39] سنن أبي داوود، ج 2، ص 465، وسنن الترمذي، ج 3، ص 317، وعوالي اللئالي لابن أبي جمهور الأحسائي، ج 1، ص 362.
[40] [الفتح: 29].
[41] [آل عمران: 159].
[42] نهج البلاغة، ج 3، ص 83.
[43] [الممتحنة: 8].
[44] كنز العمال، ج 3، ص 167.
[45] [البقرة: 179].
[46] وهذا نصّ حديث شريف مرويّ عن رسول الله(ص)، انظر: السنن الكبرى للبيهقي، ج 3، ص 411.
[47] تصنيف غرر الحكم، ص 339.
[48] راجع أقوال الفقهاء في كتاب الفقه على المذاهب الخمسة، ص 415.
[49] انظر للتعرّف إلى الموقف الإسلامي من ضرب الأطفال ما ذكرناه في كتاب "حقوق الطفل في الإسلام".
[50] الكافي، ج 5، ص 294، وحديث نفي الضرر مرويّ من طرق السُّنّة أيضاً، انظر: سنن ابن ماجة، ج 2، ص 784.
[51][51] راجع وسائل الشيعة، ج 29، ص 262، الباب 26 من أبواب موجبات الضمان.
[52] [الفتح: 29].
[53] [التوبة: 73].
[54] أمالي الصدوق، ص 456.
[55] إنجيل متّى، الإصحاح الخامس، ص 38.
[56] [البقرة: 237].
[57] نهج البلاغة، ج 4، ص 102.
[58] المصدر نفسه، ج 3، ص 52.