لا ريب في أنَّ الزمان والمكان يدخلان في حسابات المشرِّع، أيّاً كان ـ دينياً أو وضعياً ـ أثناء عمليّة التّقنين والتّشريع، فهو يلاحظ الزّمان (التاريخ)، والمكان (الجغرافيا)، وما يصاحب ذلك من نموٍّ معرفيّ وتقدّم حضاريّ، أو ما يصاحبه من تخلّف وتأخّر على صعيد تمدّن الإنسان.
ولا زال السّؤال يطرح نفسه عن دور الزَّمان والمكان في عمليَّة استنباط الحكم الشّرعيّ، وهل إنَّ لهما تأثيرًا في الحكم الشَّرعي نفسه، أو في موضوعه ومتعلّقه؟ وما هو دورهما في خلق عناوين ثانويَّة حاكمة على العناوين الأوليّة؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا بدَّ لعلم الأصول من أن يتولّى تقديم إجابات وافية عليها، ليطلّ بذلك على هذا الحقل الخصب، والّذي يظهر مرونة الشّريعة وقدرتها على مواكبة الحياة بكلِّ مستجدّاتها([1]).
وفي هذا البحث، يدور الكلام ـ وانطلاقاً من رأيٍ فقهيٍّ للشَّهيد السيّد محمد باقر الصّدر(رض) ـ حول الظَّرف الزماني والمكاني لحدّ الردّة؛ فهل إنّ هذا الحدّ ثابت في كلّ الأزمنة والأمكنة، أم لا؟ وهل إنَّ لأدلَّة هذا الحدّ إطلاقاً أزمانياً وأحوالياً([2])؟
ودخالة الزَّمان أو المكان في هذا المقام، يمكن تصوّرها بأشكالٍ عدَّة:
الأوّل: أن يكون للزَّمن دخالة أو تأثيرٌ مباشرٌ في الحكم الشّرعي نفسه، على اعتبار أنَّ ثمة أحكاماً قد أناطها المشرّع بفترةٍ زمنيّةٍ محدّدة، وهي فترة حضور المعصوم، كما في الجهاد الابتدائيّ، على رأي مشهور فقهاء الإماميّة([3]) مثلاً، أو فترة وجود السّلطان العادل([4]) ـ قيام الدّولة الإسلاميّة ـ كما في مسألة إقامة صلاة الجمعة؛ فهل إنَّ إقامة الحدود منوطة بزمان معيَّن أم لا؟ وهل يمكن أن يكون لتغيّر الزّمان والمكان دور في تغيير مقدار العقوبة أو طبيعتها؟
الثّاني: أن يكون للزَّمن دخالة أو تأثيرٌ بنحوٍ غير مباشر في الحكم الشّرعيّ، وذلك بالتأثير في موضوع الحكم وتغييره. فإنَّ من المعلوم أنّ الحكم تابع للموضوع، فمع تغيّر الموضوع يتغيّر الحكم. وقد يُدَّعى أنّ طروء بعض العناصر المتغيّرة مع مرور الزّمن، يوجب تغيّر الموضوع، الأمر الَّذي يوجب سقوط الحدّ. كما لو لم تتوفّر سُبُلُ الهداية وعناصر إقامة الحجَّة في زمنٍ معيّن، ما يؤدِّي إلى انتشار الشّبهات، فيكون ذلك موجباً لسقوط الحدّ، كما سيأتي توضيحه.
الثَّالث: أن يكون للزَّمان والمكان دورٌ في تجميد العقوبة، لا في إلغائها، وذلك بلحاظ بعض العناوين الثّانويّة الّتي قد تبرّر هذا التّجميد.
وفيما يلي، نتناول بحث المسألة ضمن ثلاثة محاور، نتناول في كلّ محورٍ منها شكلاً من الأشكال المتقدِّمة:
المحور الأوَّل: دور الزَّمان والمكان في تغيير حكم العقوبة
في المحور الأوَّل، علينا تركيز النَّظر على دور الزَّمان أو المكان في تغيير طبيعة العقوبة أو مقدارها، بعد الفراغ من أنَّ تغيّر الزّمان أو المكان لا يمكن أن يسقط نظام العقوبات من أصله؛ وذلك لأنَّ الحدود والعقوبات إنّما شرّعت للمصلحة العامَّة، ودفعاً للفساد وانتشار الفجور والطّغيان بين النّاس، وهذا ينافي اختصاصها بزمانٍ دون زمان، وليس لحضور الإمام(ع) دخلٌ في ذلك قطعاً، فالحكمة المقتضية لتشريع الحدود، تقضي بإقامتها في زمان الغيبة، كما تقضي بها في زمان الحضور.
أمّا دور الزَّمان والمكان في تغيير مقدار العقوبة شدّةً وضعفاً، أو تغيير كيفيّتها أو نوعيّتها، فهذا أمر ممكن ولا ينكر، وليس مستغرباً، بل هو أمر مبرَّر وله مقتضياته العقلائيَّة، فربّما اقتضته حكمة التدرّج في التّشريع والتأديب، وهي حكمة تربويّة منطقيّة، وقد اعتمدتها الشّرائع السماويّة كافّة، سواء فيما يتَّصل بتغيّر الحكم بين شريعةٍ وأخرى، أو بتغيّره داخل الشّريعة الواحدة، ومن هنا نشأت ظاهرة النَّسخ بين الشَّرائع أو داخلها. وتغيّر الأحكام والعقوبات من شريعةٍ لأخرى معروف ومشهور، ولا يكاد يخفى على المتأمّل في الشّريعتين اليهوديّة والمسيحيّة، وما بينهما وبين الشَّريعة الإسلاميَّة من اختلافٍ في الأحكام، بما في ذلك نظام العقوبات([5]). وأمَّا تغيّر الأحكام داخل الشَّريعة الإسلاميَّة، فهو أيضاً معروف، وقد أُلّفت فيه كتبٌ عديدة تطرَّقت إلى ظاهرة نسخ الأحكام في الشَّريعة الإسلاميَّة. ونكتفي بذكر مثالٍ واحدٍ على حصول التدرّج في حكم بعض العقوبات داخلها، وهو عقوبة المرأة الَّتي ترتكب الفاحشة، فقد كانت عقوبتها في بداية التَّشريع هي الحبس في البيت إلى حين وفاتها، قال تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}[6]، ثم نُسخ هذا الحكم لاحقاً بآية جلد الزّاني والزّانية، وهي قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ}[7].
لكن يبقى الكلام أنَّ الالتزام بالتغيّر في حكمٍ أقرّته الشريعة، محتاجٌ إلى دليلٍ يدلّ عليه، وبعبارةٍ أخرى: إنّ المسألة لا غبار عليها ثبوتاً، ولكنَّها بحاجةٍ إلى ما يدلّ عليها إثباتاً.
المحور الثّاني: دخالة الزَّمان والمكان في تغيير موضوع العقوبة
أمَّا المحور الثّاني الجدير بالبحث والتأمّل، وهو الأكثر أهميّةً في هذا المقام، فهو ملاحظة ما إذا كان لتغيّر الزمان وتبدّل المكان دور في تغيّر الحكم الشّرعيّ، القاضي بإقامة الحدّ على المرتدّ، من خلال تأثيره في موضوع الحكم. وليس المقصود بالزّمان في المقام هو الزّمان في مقاطعه المعروفة من ليلٍ أو نهارٍ أو صبحٍ أو مساء، وإنّما المقصود هو ما يصاحب تغيّر الزّمان والمكان من تغيّرٍ في شبكة العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.. ومن تغيّرٍ في منظومة المعرفة الإنسانيّة رقيّاً أو تخلّفاً، الأمر الّذي قد تُدَّعى دخالته في الموضوع، وينعكس على نظام العقوبات.
وتوضيح ذلك: إنَّ ثمة تغيّراً ملحوظاً وجليّاً قد يطرأ على موضوع الحكم، كانقلاب الخمر خلاًّ أو بالعكس، أو استحالة الخشب رماداً، أو الكلب ملحاً. وهذا التغيّر ينعكس على الحكم حتماً ودون خلاف. فمع صيرورة الخمر خلاً، تترتَّب عليه أحكام الخلّ، وترتفع أحكام الخمريّة من حرمة الشّرب وسواها. ومع تحوّل الكلب إلى ملح، يحكم بطهارة هذا الملح وحليَّة أكله، وتسقط أحكام الكلب من النّجاسة وحرمة الأكل. وهكذا في نظائر ذلك من الموارد، والوجه في ذلك كلّه، أنَّ الأحكام تابعة لموضوعاتها وعناوينها، فبانتفائها ينتفي الحكم. وعليه، فإذا كان تغيّر الزَّمان وتبدّل المكان سبباً في تغيّر الموضوع المعهود، فلا إشكال حينئذٍ في تأثيره في تغيّر الحكم. وأمَّا إن كان ذلك سبباً في تغيّر العلاقات الاجتماعيَّة أو السياسيَّة أو الاقتصاديّةالمحيطة بالموضوع، فهل إنّ هذا التغيّر سيؤثّر في الحكم أم لا؟
قد يدَّعى أنّ تغير العلاقات المشار إليها، هو نوع من تغيّر الموضوع الموجب لتغيّر الحكم أيضاً، وإن كان تغيّراً خفيّاً في الموضوع. وهذا ما يظهر من كلام السيّد الخميني (رحمه الله) فيما طرحه في أواخر عمره الشّريف.
قال (رحمه الله): "أمَّا فيما يخصّ الدّروس والتَّحصيل والتَّحقيق في الحوزات، فإنّي أعتقد بالفقه التقليديّ والاجتهاد الجواهريّ، ولا أجيز التخلّف عنهما؛ فالاجتهاد بذات الأسلوب يعتبر صحيحاً، وهذا لا يعني أنَّ الفقه الإسلامي ليس مرناً، فالزّمان والمكان عنصران مصيريان ومهمّان في الاجتهاد. والمسألة الَّتي كان لها حكم معيّن في السّابق، قد يكون لها حكم جديد بعد تغيّر العلاقات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة الحاكمة في نظامٍ ما. وهذا يعني أنّه بالمعرفة الدَّقيقة للعلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة المحيطة بالموضوع الأوَّل الّذي يبدو ظاهرياً أنّه لم يتغيّر عن السّابق، فإنّ ذلك الموضوع أصبح في الواقع موضوعاً جديداً يتطلَّب حكماً جديداً"([8]).
وهذا الكلام، إذا تمّ تبنّيه، فإنّه سيشكِّل انعطافةً جوهريَّةً في تاريخ الاجتهاد الفقهيّ، وسوف تكون له نتائج مهمَّة وثمار كبيرة في مجال الاستنباط. ويبدو لي أنّه لم يتسنَّ للإمام الخميني نفسه، أن يستثمر هذا المبنى الهامّ في حركة استنباطه الفقهيّ، باستثناء بعض الموارد القليلة جدّاً([9]).
وأعتقد أنّه، وفي ضوء هذا المبنى الَّذي يوسِّع من دائرة تغيّر الموضوع، بما يشمل تغيّر شبكة العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة المحيطة بموضوعات الأحكام الشرعيَّة، سوف تنحلّ الكثير من الإشكالات الّتي تواجه الفقيه ويصعب عليه وفق آليّات الاجتهاد التّقليديّ أن يجد لها حلولاً، كما أنّه سيمنح التَّشريع الإسلاميّ مرونةً وقدرةً على التغيّر الذاتي، إضافةً إلى قدرته على استيعاب المستجدَّات ومواكبتها.
والسّؤال: هل يمكن الالتزام بهذا المبنى مع ما قد يترتّب عليه من نتائج كبيرة، أقلّ ما سوف توصف به أنّها أقرب إلى الاستحسانات، أو أنّه يلزم من اعتماد هذا المنهج في الاستدلال، تأسيس فقه جديد؟ وهل إنّه ناظر إليها مع أنّه متقيِّد باعتماد آليّات الفقه الجواهري([10])؟
من الواضح أنّه يصعب هضم هذا الكلام في الأوساط الفقهيَّة التقليديَّة، لما ذكرناه من أنّه يمثّل انقلاباً على وسائل الاستنباط المألوفة وآليّاته المعهودة.
إلا أنّ رفض هذا الطرح "الثّوريّ" على صعيد حركة الفقه، لا يعفينا من ضرورة دراسته بدقَّة، فإن ساعد عليه الدّليل قبلناه، وإلاّ رفضناه؛ ويمكنني القول: إنَّ الحاجة ملحّة إلى دراسة هذا الكلام الّذي أصبح مطروحاً ولو بشكل خجول في داخل بعض الأوساط الحوزويّة، فضلاً عن سائر الفضاءات الفكريّة، وليس صحيحاً أن ندفن رؤوسنا في التراب، أو نستخفّ بهذا النّمط من التّفكير الآخذ في الانتشار يوماً بعد يوم، أو نندفع بانفعال إلى تخوين أصحابه، فالكثيرون ممن يطرحون هذه الأطروحة، يملكون إخلاصاً، ولا يعوزهم الفهم والوعي والعلم، ولكن يتملَّكهم شعور بعدم قدرة الشّريعة، بحسب الفهم الفقهيّ التّقليدي لها، على المواكبة والاستجابة لمتطلّبات الحياة. فالقصور ـ في نظر هؤلاء ـ ليس في الشّريعة نفسها، بل في الفقه، باعتباره اجتهاداً في فهم الشّريعة. ويبدو أنَّ هذا الإحساس بعدم قدرة الفقه الإسلاميّ بحسب وضعيّته الحالية على المواكبة، هي الَّتي دفعت الإمام الخميني(رحمه الله) إلى تقديم هذا الطّرح الجريء جدّاً حول دور الزمان والمكان. فالسيّد الخميني ـ فيما نرجّح ـ وبعد تجربته المباشرة في الحكم، واختباره عن قرب لمسألة الدّولة المعاصرة، وصل إلى هذه الخلاصة الّتي مفادها أنَّ الفقه بوضعيّته الراهنة، والتي يسيطر عليها البعد الفرديّ في قراءة النصّ، ليس قادراً على بناء دولة نموذجيَّة، بل إنّه قد يكبّل حركة السّلطة في إحداث عملية التغيير المطلوبة. وقد رأى أنَّ المخرج من ذلك هو في توسيع صلاحيّات الحاكم العادل، وهو الوليّ الفقيه، بما يجعل له الحقّ شرعاً في نقض كافّة الأحكام الشرعيّة الأوليّة([11]).
والمعنيّ ببحث هذا الأمر هو علم الأصول، حيث عليه أن يجيب عن الأسئلة الّتي تُطرح في المقام، وأهمّها: ما هو الدّور الّذي يتركه تغيّر الزّمان والمكان في التأثير في متعلّق الحكم الشّرعيّ أو موضوعه أو الحكم نفسه؟ وهل إنَّ تغيّر شبكة العلاقة الاجتماعيَّة والسياسيّة والاقتصاديّة المحيطة بالموضوعات السَّابقة، يمكن إدراجه في تغيّر الموضوع؟
وبعبارةٍ أخرى: هل يمكن التمسّك بالإطلاق الأزماني للأخبار، حتى مع تغيّر شبكة العلاقات المشار إليها؟
وهذه النظريّة التي طرحها السيّد الخميني تحتاج إلى دراسةٍ دقيقة ومتأنّية، وليس من الصواب في شيءٍ إعطاء أجوبة سريعة عن هذه الأسئلة.
هذا، ولو أنّنا أخذنا بالمنهج المذكور في عمليّة الاستنباط الفقهيّ، فإنّه يمكن الإفادة منه في تقديم رأيٍ جديدٍ في قضيّة الردّة، وذلك بأن يُدَّعى أنَّ حكم قتل المرتدّ إنّما كان له وجه في المجتمعات الّتي كانت علاقة الفرد بالدَّولة قائمةً على أساس انتمائه الدّينيّ، لأنَّ الدّولة هي في بنيتها ونظامها دولة دينيّة، وفي دولةٍ كهذه، لا يمكن التّفكيك بين الانتماء إلى الدّين والانتماء إلى الدَّولة، فالخروج من الدّين هو خروج على الدّولة وأساسها. أمَّا اليوم، وحيث لم يعد الانتماء الدّيني هو الّذي يحكم علاقة الفرد بالدّولة، بل إنَّ الناس جميعاً مواطنون، وليس الانتماء الدّيني هو الّذي ينظّم علاقاتهم بالدّولة، بل مواطنيّتهم هي الأساس في هذا المجال. فيبقى اختيار الدّين حقّاً للأفراد، وكذا تبديل دينٍ بدين، ولا يؤثّر التّبديل المذكور في علاقة الفرد بالدّولة، ولن يجعله معادياً لها، لأنَّ الدَّولة لا دين لها أساساً.
ولو صُرف النّظر عن ذلك، فإنَّ بالإمكان مقاربة المسألة بطريقةٍ تلائم التفكير الفقهي السَّائد، ولا تبتعد في الوقت عينه عن أخذ تبدّل الزّمان والمكان بنظر الاعتبار، مع ما يصاحبه هذا التبدّل من تغيّرٍ في شبكة العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة.
الردّة في زمن الشّبهة
وخلاصة هذه المقاربة، الّتي تعود في جذورها إلى كلامٍ منقولٍ عن الشَّهيد الصَّدر (سيأتي)، أنّ الردّة في زماننا ينطبق عليها عنوان "الردّة في زمن الشّبهات". فهل الحكم بالارتداد وترتيب آثار الرّدّة، ومنها الحكم بالقتل ـ إن تمَّ دليله ـ يشمل عصر الشّبهات أو يختصّ بالزّمن الاعتياديّ؟
ونقصد بعصر الشّبهات، الظرف الّذي تكثر فيه الشّبهات على الإسلام، وتنتشر التّشكيكات في أوساط المسلمين، بسبب قوّة الكفر ودعايته، مع ضعف في التصدّي الإسلاميّ لها، إنْ على مستوى الوسائل والأدوات، أو على مستوى المعالجة والطّرح، ما يجعل المسلم أسير هذه التّشكيكات والشّبهات، دون أن يجد لها جواباً مقنعاً. ولعلَّ المثال البارز لذلك، هو مسلمو "الاتحاد السوفياتي" السّابق، حيث كان الإلحاد يحاصرهم ويسدّ عليهم ينابيع المعرفة الإسلاميّة.
ولا ينحصر الأمر بهذا المثال، فهناك أكثر من مثالٍ أو مصداقٍ لما نتحدّث عنه، حيث إنّه وإلى يومنا هذا، وعلى الرغم من انتشار وسائل المعرفة الحديثة التي أمَّنت التّواصل الفكريّ بين المسلمين ومرجعيّاتهم الدينيّة، فإنّه لا يزال الكثير من المسلمين يواجهون سيلاً من الشّبهات المتنوّعة فيما يرتبط ببعض جوانب العقيدة أو الأحكام والتَّشريعات الإسلاميَّة، مما لا يجدون له جواباً مقنعاً وردّاً شافياً. ولا يخفى أنَّ الحملات التشكيكيّة المذكورة في حجم انتشارها وتنوّعها، لم يعرف لها التّاريخ([12]) الإسلاميّ نظيراً، الأمر الّذي يبعث على احتمال اختلاف حكم المرتدّ في هذا العصر، عنه في الظروف الاعتياديّة.
ويمكن القول: إنَّ ثمة مجالا ًللتّشكيك في إطلاقات الرّوايات الواردة في الحدود، ومنها حدّ الردّة. والوجه في ذلك، أنَّ نظام العقوبات ليس نظاماً اعتباطيّاً، والحدّ ليس انتقاماً ولا تشفّياً، وإنّما يهدف إلى حماية الأمن والاستقرار على المستوى الحياتيّ والأخلاقيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ. فعلى سبيل المثال: إنَّ معاقبة الزاني، إنّما ترمي إلى حماية النظام الأخلاقي في المجتمع. وعليه، لو كان هناك نظام حكم إسلاميّ، قد وفّر شروط العفَّة، ومنع الدَّعارة والتعري والجنس التجاريّ، وهيَّأ أجواء العفّة والطهارة الأخلاقيّة والروحيّة، ووفّر أيضاً فرص الزّواج أمام الرجال والنّساء، ثم أقدم بعضهم على ممارسة الفاحشة، فيكون تطبيق حدّ الزنا عليه منطقياً ومقبولاً. أمّا لو لم تقم دولة إسلاميّة، أو لم يتوفّر مناخ إسلاميّ يعمل على تهيئة كلّ تلك الأجواء والشّروط، بل سادت وعمَّت أجواء الانحراف والإغراء الّتي تعمل على محاصرة الرجال والنّساء واستثارة غرائزهم، وخصوصاً عنصر الشّباب منهم، أو تعقّدت شروط الزّواج، من غلاء المهور إلى التكلفة الباهظة لشراء المنازل أو إجارتها أو غير ذلك، ولم يتيسّر للكثيرين تحصين أنفسهم حتى من خلال العقد المنقطع، ثم وقع البعض ـ تحت ضغط الغريزة ـ في ارتكاب الحرام، فهل يقام عليه الحدّ أيضاً؟ وهل لأدلّة الحدِّ إطلاق لهذه الحالة؟
وهكذا يرد التّساؤل في حدّ السّرقة، فيقال: إنّ حدّ السّرقة إنّما يهدف إلى منع التعدّي على أملاك الناس وأموالهم، وحماية الاستقرار الاجتماعيّ. وعليه، لو وجد نظام إسلاميّ أو غيره، يعمل على أن يوفّر للناس فرص العيش الكريم، ويرفع عنهم شبح المجاعة، ثم أقدم البعض على السّرقة، فلا يكون تصرّفه مبرّراً إطلاقاً، وتكون معاقبته وإدانته مقبولة. أمَّا لو لم يتوفّر ذلك النظام، وعاش إنسان ما في أجواء المجاعة وحصار الفقر، فأقدم على السّرقة، فهل تقطع يده؟ مع الأخذ بعين الاعتبار، ما ورد في الرّوايات من أنّه لا تقطع يد السّارق في عام المجاعة، كما سنلاحظ.
ولو جئنا إلى حدّ الردّة، فإنّه ـ بناءً على ثبوته ـ يهدف إلى حماية عقيدة المسلم، وعليه، فلنا أن نتساءل: لو كنّا في ظلِّ نظامٍ إسلاميٍّ يعمل على نشر الهداية، وتوفير وسائل الإقناع وإقامة الحجَّة، من خلال الدّعاة والوعّاظ والكُتّاب والمفكّرين، معتمدين على مختلف الوسائل التي تدحض الباطل بالمنطق والبرهان، وتحاصر فكر الإلحاد والكفر، فيكون تطبيق حدّ الردّة، والحال هذه، معقولاً ومقبولاً ومفهوماً. أمّا إذا لم يكن الأمر على هذه الصّورة، كما هو الحال في أيّامنا، حيث نفتقد في الكثير من بلدان المسلمين نظاماً إسلاميّاً يعمل على تبليغ الإسلام والذّبّ عنه، بل إنَّ سيل التّشكيكات ينهال باستمرار على الإسلام، في عقائده ومبادئه وشريعته، ولا تنفكّ وسائل الإعلام والدّعاية غير الإسلاميّة، تقتحم على المسلمين بيوتهم ونواديهم بالكثير من الإشكالات، الّتي تسمِّم عقولهم وتبعثهم على التّشكيك في دينهم؛ فهل يَلْزَمُ أو يُشرَّع، والحال هذه، تطبيق حدّ الردّة؟
موقف الشَّهيد الصَّدر
الّذي يلوح من كلمات بعض الفقهاء، التّشكيك في تعميم أحكام المرتدّ ـ ولا سيّما القتل منها ـ لمن ارتدّ في عصر الشّبهة، ومن هؤلاء السيّد الصّدر (رحمه الله)، فقد كان واضحاً في موقفه، حيث ذهب ـ على ما نسب إليه فيما كتبه من "أسس الحكومة الإسلاميّة"، هذه الأسس التي شكّلت مادّةً تثقيفيّةً لأبناء الحركة الإسلاميّة في العراق ـ إلى أنَّ المرتدّ الفطريّ تقبل توبته في زمن الشّبهة([13]). جاء في الأساس، رقم 2 من تلك الأسس: "كما ينبغي أن يُعلم، أنَّ المرتدّ عن الإسلام، سواء كان ملّياً أو فطرياً، إذا تاب وأناب، فإنَّ الدّولة تقبل إسلامه ظاهراً، وتعامله كبقيَّة المسلمين، وذلك استناداً إلى رأيٍ فقهيٍّ تتبنَّاه الدّعوة".
وانتساب الأسس المذكورة إلى الشَّهيد الصَّدر ثابت، بل ذُكر أنّه (رحمه الله) كتب لها شرحاً([14]).
وقد عرض (رحمه الله) هذه الأسس على أستاذه السيّد الخوئيّ (رحمه الله)، طالباً منه إبداء رأيه وملاحظاته عليها، فكان من جملة ملاحظاته، ما سجّله على ما جاء في الأساس الثّاني المتقدّم، مما يرتبط بقبول توبة المرتدّ الفطريّ، وهو مخالفٌ لإجماع فقهاء الشّيعة، يقول السيّد الشّهيد على ما نُقل: فبدأت أناقش السيّد الخوئي في إشكاله، وكان النّقاش ينصبّ حول إلحاد الشيوعيّين، وهؤلاء ـ حسب العرف السَّائد ـ مرتدّون فطريّون، فلو أقمنا الدّولة الإسلاميّة هل نعتقلهم؟ وإذا شهد عليهم الشّهود بالردّة، هل نقيم عليهم الحدّ ونقتلهم؟ الحلّ غير عمليّ. ويضيف النّاقل لكلام الشّهيد الصّدر: بعد ذلك، أخذ النّقاش بين السيّدين منحىً فقهيّاً، خَلُصَ فيه السيّد الصّدر إلى اعتبار هذا الزّمن زمن شبهةٍ بالاصطلاح الفقهيّ فيما إذا أقيمت الدولة الإسلاميّة، وبذلك يمكن أن تُقبل توبة المرتدّ الفطري. فوافق السيّد الخوئي السيّد الصّدر فيما ذهب إليه من حكم شرعيّ"([15]).
مقاربة أخرى
من الواضح أنَّ السيّد الشّهيد (رحمه الله)، بحسب ما جاء في "الأسس الإسلاميّة"، وما نقل عن حواره مع السيّد الخوئي (رحمه الله)، قد طرح المسألة من زاوية قبول توبة المرتدّ الفطريّ أو عدمها، بيد أنَّ بالإمكان مقاربة المسألة من زاويةٍ أخرى، وهي أنّه هل يمكن ترتيب أحكام المرتدّ ـ ومنها القتل ـ على من ارتدّ في عصر الشّبهات؟ مع الأخذ بعين الاعتبار الفارق الكبير بين عصرنا وعصر النّبيّ(ص) والأئمَّة(ع)، لجهة كثافة الشّبهات، وسعة انتشارها، وضآلة الجهود العلميَّة في التصدّي لها. ففي السّابق، كانت الشبهات معدودةً ومتفرّقة، وسرعان ما يتصدّى علماء الإسلام وقادته لإبطالها ودحضها ومحاصرتها، ما يُبقي الحجَّة قائمة، ولا سيَّما أنَّ وسائل النَّشر والإعلام لم تكن متوفّرةً بنحو كبيرٍ وخطير، مما يسهِّل السَّيطرة على الشّبهات وإخمادها في مهدها، قبل أن تستولي على عقول المسلمين أو تنتشر في أوساطهم. وهذا بخلاف ما عليه الحال في زماننا هذا، فقد تنوَّعت الشّبهات وتعدَّدت، وأصبح من الصّعب السّيطرة عليها ومنع انتشارها، كما أنَّ التصدّي لها ليس شاملاً، ولا كافياً ـ في معظم الأحيان ـ بتبديد الهواجس ورفع الإبهام، بعكس ما كان عليه الحال في زمن المعصومين، الّذين يملكون الحجّة المقنعة والبرهان السّاطع. ولذا، لا نكون مبالغين لو اصطلحنا على زماننا بأنّه "زمن الشّبهات"، الذي يصعب معه صدقُ قيام الحجّة التامّة في كثيرٍ من الحالات، الأمر الذي يبعث على التّشكيك في وجوب ترتيب أحكام المرتدّ شرعاً، لاحتمال أنَّ تطبيقها منوط بتوفّر أجواء قيام الحجّة وانقطاع الشّبهة، أو هو ـ على الأقلّ ـ منوط بعدم انتشار الشّبهات بالنّحو المذكور.
قد يقال: إنَّ استيلاء الشّبهة على الأذهان، لا يوجب رفع اليد عن أصل الحكم في قتل المرتدّ رأساً، وإنّما يوجب ـ وعلى قاعدة "الضّرورات تقدَّر بقدرها" ـ رفع اليد عن ضرورة المبادرة إلى قتله، ما يعني إعطاءه فرصةً جديدةً وقبول توبته، فإن لم يتب يُقتَل حينها، وهذا ما ذهب إليه الشّهيد الصّدر في كلامه السّابق المنقول عنه.
والجواب: إنَّ المرتد إذا كان ملّياً، فلا حاجة ـ في إعطائه فرصةً جديدة، وقبول توبته ـ إلى وجود شبهة في البين. فإنَّ المرتدّ الملّيّ ـ طبقاً لمشهور فقهاء الإماميّة ـ يستتاب على كلّ حال، ولو لم يكن هناك شبهة. وأمَّا إذا كان المرتدّ فطريّاً، فإنْ التزمنا بما هو المعروف من أنّ حكمه هو القتل من دون استتابة، فحينئذٍ إن أوجبت الشّبهة تغيّراً في الحكم، فهي توجب إسقاط الحدّ عن المرتدّ. أمَّا أن توجب قبول توبته، ليغدو حالُه حالَ المرتدّ الملّيّ، فهذا لا دليل عليه. بعبارةٍ أخرى: إنَّ الشّبهة تبعث على التّشكيك في مطلقات الردَّة وشمولها لزمن الشّبهة، وهذه المطلقات كما هو معلوم، إنّما حكمت بقتل المرتدّ الفطريّ دون استتابة، فالشّبهة تُسقط حكم القتل، ولا دليل على أنّها تفتح باب التَّوبة. هذا كلّه لو أخذنا بما هو المشهور من قتل المرتدّ الفطريّ. وأمّا إذا شكّكنا في ذلك، كما هو رأي بعض الفقهاء ممّا سيأتي الحديث عنه مفصَّلاً، فهذا أمر آخر، ولا علاقة للشّبهة فيه أيضاً.
قد يقال: إنَّنا لا نزعم أنَّ الشّبهة تستوجب قبول توبته، ليقال: إنَّه لا وجه لذلك ولا دليل عليه، بل إنَّ ما نقوله هو أنَّ حكم المرتدّ الفطريّ عند مشهور فقهاء الإماميّة، هو القتل فوراً دون استتابة، والشّبهة إنْ أوجبت تبدّلاً في حكمه، فإنَّ غاية ما تقتضيه، هو رفع اليد عن ضرورة المبادرة أو المسارعة إلى قتله إلى حين ارتفاع موجبها، فإذا تمّ تفنيد شبهته، وظلَّ مصرّاً على الارتداد، فلا موجب لسقوط الحكم بالقتل من رأس، وهذا ما يعني فتح التّوبة أمامه، تماماً كما هو الحال في المرتدّ عن ملّة.
والجواب: هذا تفسير جيّد ومقبول، إلاّ أنّه يحتاج إلى توجيه، وليس له من توجيه إلاّ ما ذكرناه من أنَّ مطلقات قتل المرتدّ الفطريّ فوراً ودون استتابة، يشكّ في شمولها لزماننا، والشكّ كافٍ لإسقاط الاستدلال عموماً، وفي مقامنا خصوصاً. ووجه الخصوصيّة فيما نحن فيه، أنَّ المورد من موارد الدّماء، وهي موردٌ لأصالة الاحتياط بناءً على تماميّتها، مضافاً إلى ما ورد من ضرورة درء الحدود بالشّبهات، وسيأتي بيان هاتين القاعدتين لاحقاً.
هل مطلقات حدّ الردَّة شاملة لزماننا؟
ويبقى أنَّه ما هو الوجه للتَّشكيك في شمول مطلقات حدِّ الردَّة تحديداً لمثل زماننا، مع أنَّ الشَّريعة لم تأتِ لزمانٍ دون زمان؟
والجواب: إنَّ إطلاق النَّصّ وشموله لفردٍ غير معروف زمن صدوره ـ أي النصّ ـ وإن كان هو المشهور والمعروف بين الفقهاء، إلاَّ أنَّ ذلك فيما لو كانت القضيَّة المستجدَّة من سنخ القضايا المطروحة في زمن صدور النَّصّ. أمَّا لو لم تتَّحد القضيَّتان سنخاً، أو على الأقلّ لم تثبت وحدتهما السنخيَّة، فيشكِّل التمسّك بالإطلاق، وما نحن فيه ـ أعني الردَّة في عصر الشّبهات ـ إن لم يُدَّع تغايره سنخاً مع الردّة في زمن سطوع الحجَّة، فلا أقلّ من أنّه يشكّ في وحدتهما السنخيّة، ومع الشّكّ في اندراج فردٍ تحت الإطلاق أو العموم، لا يبقى مجال للتمسّك بالإطلاق، لأنّه من التمسّك بالعام في الشّبهة المصداقيّة؛ وما يشكّل فارقاً بين الردّة في زماننا والردّة في الزمن السّابق هو أحد أمور:
الأوّل: إنَّ الارتداد آنذاك كان مجرَّد حالات فرديّة، ولم يشكِّل ظاهرةً عامّة، باستثناء ما حصل بعد وفاته(ص) من حركة الردّة المعروفة، بيد أنَّ تلك الردّة كانت ردّةً على النظام، وتمرّداً على القوانين الإسلاميّة، أكثر مما كانت ردّةً فكريّةً بحتة. ولا ريب في مشروعيَّة مواجهة حركة كهذه، بينما حديثنا عن حالات ارتدادٍ تكاد تشكِّل ما يشبه الظّاهرة، كما هو الحال في ظاهرة انتشار الإلحاد الشيوعيّ في عالمنا الإسلاميّ في العقود الماضية، أو في ظاهرة الاعتراض على الإسلام كردّة فعلٍ على ممارسات بعض رموزه وقادته، وهذا ما نلحظه في هذه الأيّام، حيث يحكى عن "ظاهرة" إلحاد في أوساط الشّباب الجامعيّ المسلم في العديد من البلدان الإسلاميّة، وربما كان في الحديث عن ذلك شيء من المبالغة، إلا أنَّ حالات الإلحاد موجودة، وهي قد نشأت كردّ فعل على بعض الممارسات الّتي تقوم لها بعض الجماعات التكفيريّة، إضافةً إلى عجز الخطاب الإسلاميّ عن مواجهة المستجدّات.
الثاني: إنَّ تلك الرّوايات الناصّة على قتل المرتدّ، صادرة في زمنٍ يتَّسم بسطوع الحجّة وقوّة البرهان، وتوفّر النبع الصّافي للثقافة الإسلاميّة، وبضعف الباطل ووسائل انتشاره، بخلاف زماننا الّذي انعكست فيه الأمور، حيث عمَّت الشّبهات وانتشر الباطل، وتعدَّدت وسائل الإضلال، كما وغاب الإمام المعصوم، طبقاً لاعتقاد الشّيعة الإماميّة. واختلاف الحالين يبعث ـ على الأقلّ ـ على التأمّل في الإطلاقات المذكورة، والتَّشكيك في شمولها لمقامنا، الأمر الَّذي يحول دون التمسّك بها، والرّجوع إلى أصالة الاحتياط في الدّماء على فرض تماميّتها، وقاعدة درء الحدود بالشّبهات.
إنَّ هذه الخصوصيّات الفارقة بين زماننا وزمن نزول النص، بضميمة ما قدّمناه من أنّ حدّ الردّة لم يُشَرَّع بهدف الانتقام من العباد، وإنّما يَسْتَهْدِفُ مصلحتهم وحماية عقيدتهم، توجبان رفع اليد عن إقامة الحدّ في مثل حالتنا المذكورة والمفترضة.
الثّالث: أنَّ روايات الارتداد قد أُخذ فيها قيد الجحود، وهو ما لا يتّصف به معظم أصحاب الشّبهات، ممن لا ينطلقون في مواقفهم أو اعتراضاتهم من عناد، بل هم في الغالب طلاّب حقيقة.
ومما يعزّز التّشكيك في الإطلاق المذكور في نصوص الرّدّة، أنَّ روايات الارتداد ـ كما سنلاحظ لاحقاً ـ كانت في غالبيّتها إجابات عن أسئلة، واستفتاءات طرحها بعض أصحاب الأئمّة(ع) عليهم، من واقع حياتهم ومعاناتهم، ولم تكن مبادرات شخصيّة من الأئمّة(ع) في إعطاء قواعد كلّيّة.
المقارنة بالسّرقة في عام المجاعة
ويمكننا القول: إنَّ حكم الارتداد في عصر الشّبهة، كحكم السّرقة في عام المجاعة. فإنَّ المعروف أنَّ المجاعة العامّة توجب سقوط حدّ السّرقة، لما ورد في الروايات عن الأئمّة(ع): "لا يقطع السارق في سنة المحل"، أو في "أيّام المجاعة"، أو "سنة مجدبة"([16]). وهذا ما أفتى به مشهور الفقهاء([17])، وإن استشكل فيه بعض الفقهاء المعاصرين([18])، وهو موجودٌ في فقه السنَّة أيضاً، وأفتى به كثير من فقهائهم، استناداً إلى ما روي عن عمر بن الخطاب أنّه قال: "لا قطع في عام المجاعة أو السنة"([19]).
أجل، هناك كلام بين الفقهاء في صورة ما لو كان العامُ عامَ مجاعةٍ، لكنَّ الطعام كان مقدوراً لبعض الناس، إمَّا لتوفّر المال لديهم للشّراء، أو لغير ذلك من الأسباب؛ فهل يُحكم بسقوط الحدّ والحال هذه، تمسّكاً بعموم النّصّ، أو أنّه لا يسقط كما نقل عن الشّافعي؟
قال الشّيخ الطّوسي: "روى أصحابنا أنَّ السّارق إذا سرق عام المجاعة لا قطع عليه، ولم يفُصِّلوا، وقال الشّافعي: إنْ كان الطّعام موجوداً مقدوراً، ولكنْ بالثّمن الغالي، فعليه القطع، وإنْ كان القوت متعذّراً لا يقدر عليه، فَسَرَق سارقٌ طعاماً فلا قطع، دليلنا: ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين(ع) أنّه قال: "لا قطع في عام مجاعة"، وروى ذلك عن عمر أنّه قال: "لا قطع في عام مجاعة، ولا قطع في عام السّنة، ولم يفصّلوا"([20]).
والاستشهاد بذلك ـ أي سقوط حدّ السَّرقة في عام المجاعة ـ لما نحن فيه، يقوم على دعوى أنَّ المجاعة العامَّة إذا أوجبت سقوط حدّ السَّرقة، فإنَّ الشّبهات العامَّة يفترض أن تكون موجبةً لسقوط حدِّ الارتداد.
والجواب التَّقليديّ الَّذي يُسجَّل على هذا الكلام: إنَّ قياس ما نحن فيه على حدّ السّرقة غير صحيح؛ لأنَّ القياس في حدّ ذاته ليس مصدراً للتَّشريع، ولا دليل على حجّيته، بل الدّليل قائم على عدم حجّيّته، وفقاً لما هو المعروف لدى مدرسة أهل البيت(ع).
وبكلمة ثانية: إنَّ ثمّة دليلاً على سقوط حدِّ القطع في عام المجاعة، بيد أنَّ هذا الدّليل غير متوفّر في مقامنا، بل إنَّ النصوص الدالّة على قتل المرتدّ مطلقة وشاملة لعصر الشبهات.
ولنا أن نعلِّق على ما جاء في آخر الجواب، من إطلاق نصوص قتل المرتدّ لعصر الشّبهة، فنقول: إنَّ دعوى الإطلاق المذكورة محلّ تأمّل، كما عرفت.
ثالثاً: تجميد إقامة الحدّ
أمّا الإجابة عن السؤال الثّالث، وهو أنّه هل يمكن ـ وبصرف النّظر عما تقدّم ـ تجميد إقامة الحدّ لبعض الظروف الاستثنائيّة أو العناوين الثانويّة؟
فلو شخّص الإمام والحاكم الشّرعيّ وجود مصلحةٍ بتجميد تطبيق الحدّ، بلحاظ بعض العناوين الثانوية الطّارئة ـ كما لو فرض أنَّ تنفيذه يستدعي تأليب النّاس ـ بما في ذلك بعض المسلمين ـ ضدّ الإسلام، وتشويه صورته، وإبرازه بشكلٍ مغايرٍ لحقيقته، أفلا يمكن، والحال هذه، أن يصار إلى تجميد الحدِّ مؤقّتاً، ريثما يتمّ تثقيف الأمّة وتهيئتها، وإقناعها ـ على نحو العموم، وليس إقناع كلّ فردٍ من أفرادها، لأنَّ ذلك بعيد الحصول، إن لم يكن محالاً بحسب العادة ـ بجدوائيَّة النّظام الجنائيّ الإسلاميّ وضرورته؟
والجواب: إنّه ربما يُستدلّ على إمكانيّة تجميد الحدود في بعض الحالات، وإيقاف تنفيذها بوجهين:
أوّلاً: ما ورد في صحيحة ضريس الكناسي عن أبي جعفر(ع)، قال: "لا يعفي عن الحدود الّتي لله دون الإمام، فأمَّا ما كان من حقّ الناس في حدٍّ، فلا بأس بأن يعفي عنه دون الإمام"([21])، فقد دلَّت الرواية على أنَّ للإمام أن يُصدر عفواً عن الحدود الّتي تمثّل انتهاكاً لحقّ الله تعالى، ومنها حدّ الردّة، دون الحدود التي تمثّل اعتداءً على الناس وتجاوزاً لحقوقهم، فهذه لا يملك الإمام أمر العفو عنها، لأنّها حقٌّ لأصحابها.
ثانياً: إنَّ الحدود إنّما شُرِّعت للمصلحة العامَّة ودفعاً للفساد ـ كما مرَّ في كلامٍ سابقاً ـ فإذا أدَّت إقامتها إلى عكس ذلك، فيكون تجميدها أجدى من تطبيقها. ولو أخذنا حدّ الرّدّة مثلاً، فإنّنا نراه يهدف ـ فيما هو معروف ـ إلى حفظ عقيدة الجماعة المسلمة، فلو كانت إقامته تستدعي ارتداد البعض عن الإسلام وشكّهم فيه، فيكون تطبيقه منافياً للغرض من تشريعه. وإننا نستوحي ذلك مما ورد في معتبرة غياث بن إبراهيم، عن الإمام الصّادق(ع) عن عليّ(ع) أنّه قال: "لا أقيم على رجلٍ حدّاً بأرض العدوّ حتى يخرج منها، مخافة أن تحمله الحَميّة فيلحق بالعدوّ"([22])، فقد دلّت على أنَّ تطبيق الحدّ، من قبيل حدّ الزّنا أو السرقة أو غيرهما من الحدود، مشروط بأن لا يخشى معه من التحاق الشّخص بالعدوّ، وهو ما يتلازم عادةً مع ارتداده عن الإسلام، ولا يبعد أن يستفاد منها قاعدة عامّة، وهي أنَّ إقامة الحدّ مشروطة بأن لا تترتّب مفسدة أكبر من مفسدة تجميده.
وفي الحديث عن رسول الله(ص): "لا تقطع الأيدي في الغزو"([23]).
وفي معتبرة أبي مريم، عن أبي جعفر(ع) قال: "قال أمير المؤمنين(ع): لا يُقام على أحد حدّ بأرض العدوّ"([24]).
وهذه الرواية ـ كسابقتها ـ مطلقة، ودلّتا على عدم إقامة الحدّ في أرض العدوّ، سواء خيف من التحاق الشّخص بالعدوّ، أو لم يُخف من ذلك. وقد يقال: بأنَّ مقتضى قواعد الجمع العرفيّ هو تقييد إطلاقهما بالرّواية الأولى، كما ذكر السيّد الخوئي([25]). وفي ضوء ذلك، أفتى (رحمه الله) بأنّه "لا تجوز إقامة الحدّ على أحد في أرض العدوّ، إذا خيف أن تأخذه الحميَّة ويلحق بالعدوّ"([26]).
إلاّ أنَّ السيّد أحمد الخونساري اعترض على التّقييد المذكور (وكأنّه ناظر في اعتراضه إلى كلام السيّد الخوئي) قال: "وقد يقال: إطلاق المعتبرة الأولى (يقصد معتبرة أبي مريم) يقيَّد بالثّانية (يقصد معتبرة غياث بن إبراهيم)، والأظهر أن يكون ما ذُكر من باب الحكمة، من جهة أنَّ المطلق لا بدَّ من بقاء الغالب فيه بعد التّقييد لا الأقلّ ولا المساوي"([27]).
وخلاصة كلامه: إنَّ قوله(ع): "مخافة أن تحمله الحميّة فيلحق بالعدوّ"، ليس علّةً ليدور الحكم مدارها، وهو الأمر الّذي يفرض تقييد الرّواية المطلقة، وإنما هو حكمة؛ والوجه في ذلك، أنه لو كان ذلك علّةً وألجأتنا إلى التّقييد، فإنّه سوف يلزم تخصيص الأكثر، أو مساواة المقيّد للمطلق، على اعتبار أنَّ غالب الأفراد الّذين يرتدّون في أرض العدوّ أو نصفهم، سوف يلجؤون إلى العدوّ ويلتحقون به في حال إقامة الحدّ عليهم هناك، وعليه، فلا يبقى تحت المطلق إلاّ الفرد النادر!
أقول: لو سلّمنا معه بأنّ الغالبيّة ستلحق بالعدوّ، أو ما يساوي العدد الّذي لن يلحق، وسلّمنا أيضاً أنَّ كلا الأمرين مستهجن عقلائيّاً، إلاّ أنَّنا نلاحظ على ما أفاده بأنَّ الأمر ليس داخلا ً في باب الإطلاق والتّقييد، لأنَّ الروايتين تحكيان كلاماً واحداً لأمير المؤمنين(ع)، ولسنا أمام كلامين، أحدهما عامّ والآخر خاصّ، أو أحدهما مطلق والآخر مقيَّد.
وبناءً على ما تقدّم، يتّضح ـ من خلال معتبرة غياث بن إبراهيم ـ أنَّ مسألة تطبيق الحدود وتنفيذها ليست مسألة تعبّديّة محضة، ليقال بضرورة الإتيان بها على كلّ حال، بل لا بدَّ من ملاحظة العناوين الثانوية، والتداعيات المترتّبة على تطبيقها. ومن الطبيعيّ أنَّ الحاكم، كما عليه أن يلاحظ جانب الشخص الذي يقيم عليه الحدّ وردود فعله، خشية أن ينحاز إلى صفّ الأعداء أو يرتدّ عن الإسلام، فإنَّ عليه أن يلحظ أيضاً جانب سائر المسلمين، وردود فعلهم السلبيّة على تطبيق الحدّ، والّتي قد تنطلق بفعل الدّعاية المضادّة للإسلام، وضعف الثقافة الإسلاميّة في نفوسهم. فإذا كانت الخشية من ارتداد شخصٍ وانحيازه إلى صفّ الأعداء في حال إقامة الحدود عليه موجبةً لتجميد إقامة الحدّ عليه، فبالأولى أن يكون الخوف من ارتداد جمع من المسلمين موجباً لتجميد تطبيق بعض الحدود، كحدّ الردّة، أو الرّجم أو غيرهما.
وخلاصة القول: إنَّ المسألة تدخل في باب التّزاحم، وتنطبق عليها أحكام ذلك الباب من تقديم الأهمّ على المهمّ.
*مدير المعهد الشّرعيّ الإسلاميّ في بيروت ـ لبنان. وتجدر الإشارة إلى أنَّ للمؤلّف كتابًا موسعًا بحث فيه موضوع الردّة وعقوبتها في الإسلام، وتوصَّل فيه إلى نتائج جديدة على هذا الصّعيد، والكتاب تحت الطّبع.
[1] تناولنا هذا الأمر بشكلٍ موجز في كتاب "الشّريعة تواكب الحياة"، ص 156، وذلك تحت عنوان "دور الزمان والمكان في العمليّة الاجتهاديَّة".
[2] الإطلاق الأزماني يعني ـ بكلمة مختصرة ـ أنَّ الحكم لا يختصّ بزمانٍ دون آخر، بل هو شامل لكلّ الأزمنة، وأمَّا الإطلاق الأحوالي، فيراد منه تعميم الحكم لكلّ حالات الموضوع.
[3] وخالف في ذلك بعض الفقهاء المتأخّرين، وعلى رأسهم السيّد الخوئي (رحمه الله). انظر: منهاج الصالحين، ج 1، ص 364.
[4] لاحظ حول هذا الشّرط كتاب: "البدر الزّاهر في صلاة الجمعة والمسافر" للشّيخ المنتظري، تقريراً لبحث أستاذه السيّد البروجردي، ص27 وما بعدها.
[5] لاحظ ما كتبناه حول هذا الموضوع في كتاب "الشّريعة تواكب الحياة"، ص 45.
[6] [النساء: 15].
[7] [النور: 2].
[8] الثقافة الإسلاميّة، العدد الثالث والأربعون، ذو القعدة ـ ذو الحجة 1412هـ، ص 44.
[9] كما في فتواه بحليّة اللّعب بالشطرنج، لأنّه لم يعد وسيلةً للتقامر، وإنما أصبح وسيلةً للترويض الذهني.
[10] نسبةً إلى كتاب "جواهر الكلام" للشّيخ محمد حسن النّجفي (ت: 1266هـ، وهو إحدى أهمّ الموسوعات الفقهيّة الاستدلاليّة في الفقه الإمامي).
[11] انظر: منهجية الثّورة الإسلاميَّة، مقتطفات من أفكار وآراء الإمام الخميني، ص 169.
[12] أجل، قد حصل في صدر الإسلام، وتحديداً بعد وفاة رسول الله(ص)، ردّة عامّة عند بعض القبائل والجماعات، إلا أنَّ ذلك لم يكن منطلقاً من شبهاتٍ أوقعت النّاس في الحيرة والشّكّ، وإنّما هو ردّة اتخذت طابع تمرّد وسعيٍ للقضاء على الإسلام، فهي تختلف جوهريّاً عما نتحدَّث عنه.
[13] راجع: الأسس المذكورة في كتاب "مقالات إسلاميّة"، من منشورات حزب الدّعوة 1978م. وكتاب "محمد باقر الصّدر حياة حافلة ــ فكر خلاق"، للسيّد محمد الحسيني، وفي كتاب "محمد باقر الصّدر السيرة والمسيرة"، ج 2، ص 267، 268.
[14] انظر: "محمد باقر الصّدر السّيرة والمسيرة"، ج 1، ص 265، السطر 1.
[15] حزب الدَّعوة الإسلاميَّة حقائق ووثائق، ص 96، وراجع: "محمد باقر الصَّدر حياة حافلة فكر خلاّق"، للسيِّد محمد الحسيني، ص 84، 85، وأيضاً "محمد باقر الصّدر السيرة والمسيرة"، ج 1، ص283.
[16] راجع: وسائل الشّيعة، ج 28، ص 290، الباب 25 من أبواب حدّ السرقة.
[17] انظر: الوسيلة لابن حمزة، ص 418، شرح اللّمعة، ج 9، ص 236، وجواهر الكلام، ج 41، ص 507، وقد أفاد السيّد الخوئي أن لا خلاف ظاهر في ذلك، انظر: مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص287.
[18] منهاج الصّالحين للشّيخ إسحاق الفيّاض، ج 3، ص 300.
[19] المجموع للنّووي، ج 20، ص 95، ولكن الألباني في إرواء الغليل قال: في قول عمر: لا قطع في عام سنة ضعيف.
[20] الخلاف، ج 5، ص 432، 433.
[21] وسائل الشّيعة، ج 28، ص 40، الباب 18، من أبواب مقدّمات الحدود وأحكامه العامّة، الحديث 1.
[22] وسائل الشّيعة، ج 28، ص 24، الباب 10 من أبواب مقدّمات الحدود، الحديث 2.
[23] سنن أبي داوود، ج 3، ص 5.
[24] وسائل الشّيعة، ج 28، ص 24، الباب 10 من أبواب مقدّمات الحدود وأحكامه العامّة، الحديث 1.
[25] مباني تكملة المنهاج، ج 1، ص 216.
[26] م. ن.
[27] جامع المدارك، ج 7، ص 44.