حديث الفرقة الناجية، حديثٌ مشهور ومعروف ومرويٌّ من طرُق الفريقيْن، السنّة والشيعة. وإليك نصّ الحديث كما رواه الترمذي في سُنَنِه، بإسناده عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله(ص): "ليأتيَنّ على أمّتي ما أتى على بني إسرائيل حذوَ النّعل بالنّعل... وإنّ بني إسرائيل تفرّقت على اثنتين وسبعين ملّة، وتفترق أمّتي على ثلاثٍ وسبعين ملّة، كلّهم في النّار إلا ملّةٌ واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي"[1].
ويعتبر هذا الحديث المرتكز والأساس لانطلاق ما يُعرف بعلم الملل والنحل. وقد ألّف العلماء كُتباً كثيرة في شرحه وتفسيره، وتحديد المقصود بالفرقة النّاجية والفِرق الهالكة.
كما أنّ لحديث الفرقة الناجية تأثيراً سلبياً بالغَ الخطورة في وحدة الأمّة وتماسك أبنائها، فهو يعمّق الهوّة، ويزيد الشقّة، ويحول دون التقارب والتلاقي، إذ كيف يتقارب شخص مع شخص آخر هو في نظره من أهل النّار؟! والخطورة هنا، أن يُتّخذ كلام النبيّ(ص) ستاراً للتّفرقة، فكلام النبي(ص) عند الآخذين بحديث الفرقة النّاجية، يقرّ التفرقة ويشجّع عليها، حتى لو جاء ذلك في سياق إدانة غالبيّة تلك الفرق.
التراث وحاجته إلى الغربلة
وقبل أن نضع الحديث على طاولة النّقد، لا بدّ لنا من أن نمهّد ببيان مقدّمة ضروريّة حول كيفيّة التعامل مع التراث الروائي، فتراثنا الإسلامي الذي نعتزّ به، ولا نبالغ بالقول إنه أنقى تراث إنساني ورثته أمّةٌ من الأمم، جمع الغثّ إلى جانب السّمين، والسقيم بجوار الصحيح، والمُبين والمحكم إلى جانب المجمل والمضطرب... ومن هنا، انبثقت الحاجة إلى غربلته ونقده وتصفيته. وعملية الغربلة هذه هي جهدنا نحن، بل هي مسؤوليّتنا إزاءه، فإنّ التراث في نفسه صامت، لا يُفصح ولا يعلن لنا عن صحيحه وضعيفه، فهذه الوظيفة، أعني الغربلة، هي من مسؤوليّاتنا نحن المنتمين إلى هذا التراث.
إنّ محاكمة التراث الصّامت وغربلته، هي وظيفة الإنسان النّاطق. وإنّنا على قناعة تامّة بأنّ المشكلة لا تكمن في التّراث نفسه، بل في كيفيّة تعاملنا معه، ونظرتنا التقديسيّة له، والتي أعاقت عمليّة الإفادة المتواصلة من هذا التّراث...
ويمكن أن نسجّل على الحديث المذكور مجموعة من الملاحظات في سنده ومتنه، وهي بمجموعها ترسم علامة استفهامٍ كبيرة حوله، وتثير الرّيبة والشكّ بشأنه.
1 ـ ضعف الإسناد
بالنّسبة إلى سند الحديث، فقد تبيّن لنا مما سبق أنّه غير نقيّ، سواء من طُرق السنّة أو طُرق الشّيعة. أمّا من طرق السنّة، فلاشتماله ـ على ما قيل ـ على الضّعاف بحسب موازينهم الحديثيّة[2]، وأمّا من طرق الشّيعة، فهو أيضاً غير نقيّ السند، سواء في رواية الكليني، أو الصّدوق، أو القمي، أو المفيد.
على أنَّ ثمّة ملاحظة أساسيّة هنا لا بدّ من التوجّه إليها، وهي أنّ المورد هو من أمّهات القضايا العقديّة التي يتحدّد بموجبها المصير الأخروي لغالبيّة الفرق الإسلاميّة، حيث ينصّ الحديث على أنهم من أهل النار، ومن المعلوم أنّ قضايا الاعتقاد لا يمكن إثباتها والاستدلال عليها بأخبار الآحاد[3]، حتى لو كانت صحيحة السند، فضلاً عن الضّعيف منها.
ودعوة تواتر الحديث مجازفة، لأنّ أسانيده لا ترقى إلى التواتر... وأما أن يقول قائل، إنّه بعد تضافر الروايات من طُرق الفريقين على مضمونٍ واحد، فإن ذلك يوجب حصول الوثوق والاطمئنان بصدور الحديث عنه(ص)، لأنّ هذه الأسانيد المتعددة يشدّ بعضها بعضاً، ويعضد أحدُها الآخر، فردّاً على ذلك نقول: إنّ الملاحظات الآتية على دلالة الحديث ومضمونه، تحول دون حصول الاطمئنان بصدوره، فهي من المضعفات الكيفيّة المانعة من حصول الوثوق به، فضلاً عن القطع بصدوره عنه(ص)، ولهذا، فإمّا أن يُطرح الحديث ويُرفض، أو يُردّ علمه إلى أهله.
وخلاصة القول: إنّ الحديث ليس متواتراً، ولا هو مُحْتفٌّ بما يبعث على الوثوق والاطمئنان، وكون الرواية مرويّة من طُرق الفريقيْن، لا يوجب حصول اليقين بها، ولا سيّما بملاحظة الإشكالات الآتية.
2 ـ علامات الوضع والاضطراب
أمّا متن الحديث، فهو مضطرب جدّاً، بل إنّ علامات الوضع لائحةٌ عليه، وعلى الأقلّ، على بعض فقراته. وإليك بعض وجوه الاضطراب والاختلاف في روايته:
أ ـ الاختلاف في عدد فرق أمّته(ص): ففي بعض طُرق الحديث، ورد أنّ أمّته(ص) ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة[4]، وفي بعضها أنها ستفترق على ثلاثٍ وسبعين فرقة[5]، وبعضها تشير إلى افتراقها إلى ثلاث فرقٍ أو أربع[6].
ب ـ الاختلاف في عدد الفِرق الناجية أو الهالكة، فبينما تحدّد غالب الروايات الفِرق الهالكة بـ(72) أو(71) فرقة، تبعاً للاختلاف الآنف في عددها، نجد بعضها يعكس الأمر، فيذكر أنّ الهالك منها هو فرقة واحدة والباقي في الجنة[7]، كما أنّ بعضها يذكر أنّ الناجي ممّن كان قبلكم هو ثلاث والباقي هالك[8]. وأمّا أبو هريرة، فإنّه يروي الحديث دون أن يرِدَ فيه أيّة إشارة بشأن الناجي والهالك من الفِرق[9].
ج ـ الاختلاف إلى حدّ التّباين في توصيف الفرقة النّاجية والفِرق الهالكة وتحديدها، بحيث نلاحظ أنّ كلّ فرقة "أعطت لختام الحديث الرّواية التي تناسبها، فأهل السنّة جعلوا الفرقة النّاجية هي أهل السنّة، والمعتزلة جعلوها فرقة المعتزلة، وهكذا"[10]، فبعضها يقول في وصف الفرقة الناجية إنها "الجماعة"[11]، أو "ما أنا عليه وأصحابي"[12]، أو "الإسلام وجماعتهم"[13]. وفي المقابل، يُروى عن الإمام عليّ(ع) تفسيره للفرقة الناجية بأنها "شيعته"[14]، إلى غير ذلك من تحديدات متناقضة أو تعبيرات شكّلت مصطلحات تكوّنت في وقتٍ لاحق على عصر النبي(ص).
هذا بالنّسبة إلى الفرقة الناجية، والأمر عينه نجده في تحديد الفِرق الهالكة أو بعضها، ففي بعض الأخبار، ترد جملة "من أعظمها ـ أي الفِرق الهالكة ـ فتنة على أمّتي، قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيُحلّون الحرام ويحرّمون الحلال"[15]، في إشارة إلى أتباع أبي حنيفة، وبعضها يستثني من الناجين الزنادقة[16].
ويُنقل أن بعضهم تلاعب في متن الحديث، فذكر في آخره "من أخبثها الشيعة"[17]، إلى غير ذلك من وجوه التعارض التي تثير الريبة في الحديث، وتقوّي احتمال كونه موضوعاً بداعي الانتصار المذهبي، كما تشهد له التعبيرات الآنفة.
ومن المحتمل أنّ يد السياسة كان لها دور في نسج هذا الحديث، بهدف إلهاء الأمّة وإشغالها بالانقسامات الداخلية التي سوف تنشأ على خلفية انحصار النجاة في فرقة واحدة من نيّفٍ وسبعين فرقة.
ويؤيّد ذلك، تلاعب الأهواء في تفسير "الجماعة"، فقد سأل يزيد الرقاشي أنس: أين الجماعة؟ فأجابه: "مع أمرائكم، مع أمرائكم"[18]، وهذا ما نلمسه في حديث آخر يتّجه إلى الإشادة بالشّام عموماً، ودمشق ـ عاصمة الأمويّين ـ خصوصاً، وأنها ستكون الحصن والملجأ من هول الفتن والانقسامات عند تفرّق الأمّة إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة[19].
3 ـ موجبات العذاب
ثمّ إنّ الحكم على طائفة بالضّلال والعذاب بالنّار، لا يكون لمجرّد الاختلاف في القضايا النظرية التي يُؤجَر فيها المجتهد إن أصاب، ويُعذَر إن أخطأ، بل يكون في القضايا الضّروريّة والمفصليّة والمتّصلة بالعقيدة. ومن المعلوم أنّ عدد المذاهب الإسلاميّة التي تختلف في القضايا الجوهريّة، بما يبرّر عدّها طوائف متعدّدة، لا يتجاوز عدد أصابع اليد، من قبيل: الشيعة والمعتزلة والخوارج والأشاعرة والمرجئة.
هذا كلّه لو أخذنا في تعداد المذاهب والفرق معيار الاختلاف في الأصول الأساسيّة، وأما لو توسّعنا في ذلك المعيار المسبِّب للاختلاف، وأدخلنا الاختلافات العقديّة التفصيليّة، وأخذناها بعين الاعتبار، فسوف يزيد عدد الفرق عن الرّقم المذكور، فربما بلغت المئات، ولو أدخلنا الاختلافات الفقهيّة، لزاد العدد عن ذلك بكثير كما لا يخفى.
وربما يُقال: "إنّ المقصود هو افتراقها في العقائد، وهي وإن زادت على العدد المذكور كما هو مضبوط في محلّه، لكن بعد ردّ بعضها إلى بعض، يتمّ العدد المذكور، إذ لا شبهة في أنّ معتقد بعض الفرق لا يوجب الخروج عن مذهب الأخرى، وإن خالفت عقائدها، بخلاف بعض الفرق الأخرى، فإنها توجب الخروج عنها.. على أنّه يجوز أن يكون بين الأصول مخالفة تبلغ العدد، أو أنها بلغت في وقت من الأوقات ثم زادت أو نقصت، أو أنّ البعض أخفى أصل مذهبه لقيام الضّرورة من الدين على خلافه"[20].
ويلاحظ عليه، أنّ حديث افتراق الأمّة بسياقه المذكور ـ وعلى فرض صحّته ـ لا يخلو من إعجاز نبويّ، كما في سائر تنبّؤاته وإخباراته المستقبلية، الأمر الذي يحتّم أن يكون الافتراق واضحاً وجليّاً ليتحقّق الإعجاز، أما إذا كان قابلاً للتأويل والتكلّف، واحتجنا إلى ردّ بعض الفرق إلى البعض الآخر، أو إلى افتراض أنها زادت ثم نقصت، أو إلى أنّ بعضها قد أخفى مذهبه، فهذا يتنافى واللّسان الإعجازيّ المذكور.
4 ـ الخلود في النّار أو الدّخول إليها
ثمّ ما المقصود بكَون اثنتين وسبعين فرقة في النّار؟ هل المقصود خلودهم فيها أو مجرّد الدخول إليها؟
إنْ أُريد الخلود، فهو مخالف للإجماع على أنّه لا يُخلد في النار إلا المشركون والكافرون[21]، وقد نصّت على ذلك روايات الفريقين أيضاً، كما لاحظنا في ثنايا الفصول السابقة، وإن أُريد مجرّد الدخول، فهو "مشترك بين الفِرق كلّها، إذ ما مِن فرقةٍ إلا وبعضها عُصاة، والقول إنّ معصية الفرقة الناجية مطلقاً مغفور، بعيدٌ جدّاً"، كما نُقل عن الدواني[22]، ومخالفٌ للقرآن الكريم، قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ...}[23]، وأبعد منه، دعوى أنّ الفِرق غير الناجية لا يدخل منها أحد إلى الجنّة.
5 ـ الحديث في ميزان العدل الإلهي
ومع غضّ النظر عما تقدّم، فإنّ الحكم على اثنتين وسبعين فرقة من فِرَق المسلمين ومن أبناء أمّته(ص) بدخول النار، كما هو مفاد الحديث، لا يخلو من غرابة، بل إنه يتنافى وأصول العدل الإلهي. وبيان ذلك:
إنّ لفظ الفرقة يضمّ ويشمل كلّ من ينتسب إليها، صغيراً كان أو كبيراً، عاقلاً أو مجنوناً، عالماً أو جاهلاً، قاصراً أو مقصّراً. ومعلومٌ أنّ منطق العدل يقتضي ألا يعذَّب ولا يعاقَب سوى البالغ العاقل العالِم بالحقّ الجاحد له، وهذا الفرد نادر الوجود في كلّ الفِرق والأديان. أما الغالبية العظمى، فهم إمّا صغارٌ غير بالغين، أو كبارٌ بالغون لكنهم جازمون بصحة ما هم عليه، ولا يحتملون صحة المذاهب أو الأديان الأخرى، والصغير كما هو واضح، يَقْبُحُ عقابه، وكذلك المجنون، لعدم التكليف بالنسبة إليهما، بسبب فقد العقل أو التّمييز، كما أنّ الكبير الجازم بصحّة معتقده معذورٌ، ولا تصحّ معاقبته ومؤاخذته حتى لو كان كافراً، لأنّ قطعه يشكّل عذراً له، وإذا كان غالب الكفّار معذورين بسبب جهلهم القصوريّ، كما تقدّم عن بعض العلماء، فإنّ المسلمين ليسوا أسوأ حالاً من الكفار.
وربما يُقال: إنّ الحديث عامٌّ، وما من عامٍّ إلا وقد خُصَّ، فلا بدّ من استثناء الصغار والمجانين والكبار القاصرين من العقوبة، هذا إن لم ندّعِ أنّ بعضهم خارجٌ تخصّصاً، كما هو الحال في المجانين والأطفال.
والجواب: إنّه لو استثنينا هؤلاء وأخرجناهم عن منطوق الحديث، فلا يبقى داخلاً تحته إلا القلّة القليلة، مما لا يبرّر إطلاق لفظ الفرقة عليهم، بل إنّ لازم ذلك تخصيص الأكثر، وهو قبيح ومستهجن عند العقلاء.
وانطلاقاً من هذه الملاحظة، فقد طعن بعض العلماء في الحديث كلّه، أو في خصوص زيادة "كلّها في النّار إلا واحدة"، وربما اعتبر ذلك مرجّحاً للرّوايات التي خلت من الزّيادة المذكورة.
6 ـ مخالفة الحديث للكتاب والسنّة
وسجّل بعضهم[24] ملاحظةً أخرى على الحديث، وهي مخالفته للقرآن الكريم، في قوله تعالى بشأن هذه الأمّة: {كُنتُم خيرَ أمَّةٍ أُخرِجَت للنّاس}[25]، وقوله تعالى: {وكذلِكَ جعَلْناكُم أُمَّةً وسَطاً...}[26]، فهذه الآيات تقرّر أنّ هذه الأمّة هي خير الأمم، وأنها أوسطها، أي أعدلها وأفضلها. وأمّا الحديث المذكور، فيقرّر أنّ هذه الأمّة شرّ الأمم، وأكثرها فتنةً وفساداً وافتراقاً، فاليهود افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، ثم جاء النّصارى فكانوا، وفق منطق الحديث، شرّاً من ذلك وأسوأ، حيث افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة، ثم جاءت هذه الأمّة، فكانت أسوأ وأسوأ، حيث افترقت على ثلاثٍ وسبعين فرقة، فمعنى الحديث باطلٌ بصريح القرآن الكريم الّذي يقرّر أنّ هذه الأمّة خير الأمم وأفضلها.
ولقائلٍ أن يقول: إنّ خيريّة هذه الأمّة على سائر الأمم ليست مطلقة، وإنما هي مشروطة ـ بنصّ الآية الكريمة ـ بأمرين: وهما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإيمان بالله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...}[27].
وأمّا مخالفة الحديث للسنّة، فباعتبار أنّه بلحاظ زيادة "كلّها في النار إلا واحدة"، معارض للأخبار المتواترة معنىً، الّتي تنصّ على أنّ من شهِد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، وجبت له الجنّة ولو بعد عذاب، ومنها ما رواه البخاري: "إنّ الله حرّم على النار من قال أن لا إله إلا الله يبغي بذلك وجه الله"[28]. وفي لفظ مسلم: "لا يشهد أحدٌ أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً رسول الله، فيدخل النار أو تطعمه"[29].
وقد يلاحظ على ذلك، أن مرجع هذا الكلام إلى ما تقدّم، من أنّه لو كان المقصود بدخول النار في الحديث الخلود فيها، فهذا منافٍ لِما قام عليه الإجماع والنصّ من أنّ المسلم لا يخلد في النار.
7 ـ ما المقصود بالجماعة؟
وثمّة ملاحظة أخرى ترتبط بتوصيف الفرقة الناجية وتحديدها بوصف "الجماعة"، أو وصف "ما أنا عليه وأصحابي". وحاصل هذه الملاحظة، أنّ من المفهوم والواضح توقّف النجاة على اتّباع سنة النبيّ(ص)، إضافةً إلى كتاب الله. لكن كيف يكون ما عليه الأصحاب سبباً للنّجاة؟ فإنّ الصحابة إن كانوا متّبِعين لسنّته(ص) كان اتّباعهم اتّباعاً للسنّة، وإن كانوا غير متّبِعين لها، فلا يكون في اتّباعهم نجاة بل هلاك.
ثم ما المقصود بالجماعة؟ إنْ أُريد بها الأمّة بأجمعها، فهذا خلاف المفروض في الحديث من افتراقها وتعدّدها، وإن أُريد بهم السّواد الأعظم والأكثرية، فهذا لا يشكّل ضابطاً، لأن الأكثرية المذهبية كانت ولا تزال عُرضةً للتبدّل من زمنٍ إلى آخر، ومن مرحلةٍ لأخرى، فرُبّ أكثريةٍ في مرحلة أصبحت أقلية في مرحلة أخرى، على أنّ الحقّ والباطل في المجال العقديّ، لا يوزن أو يُقال بالأقليّة والأكثريّة، وإلا لم يكن المسلمون أنفسهم على حقّ، لأنهم أقليّة بالقياس إلى غيرهم في العالم.
8 ـ التفرّق في الزّمن القريب أو البعيد
وسجّل بعضهم على الحديث ملاحظةً أخرى تتصل بمتنه، من جهة أنّ قوله(ص): "ستفترق" استخدم فيها حرف (السّين) الدالّة على قرب وقوع مدخولها، والخلاف والتفرّق إنما حصل بعد مدّة طويلة[30].
وردّ هذا الاعتراض بأنّ كلّ آتٍ قريب إذا كان محقّق الحصول. على أنّ من نظر بعين البصيرة إلى العالم الدنيوي، وقاسه إلى العالم الأخروي،لم يكن جميع عمر الدّنيا من أوّله إلى آخره، إلا بمنزلة اللّحظة أو أقصر"[31].
9 ـ مصداقيّة العدد
والملاحظة الأخيرة، هي أنّ الفِرق الإسلاميّة رغم تشعّبها وتعدّدها، لم تبلغ العدد المذكور في الحديث، رغم ما بذله الكثيرون من العلماء المؤلّفين في "الملل والنّحل"، من جهود تمزيقيّة تعمل على تكثير كلّ طائفة إلى عشرات الطوائف، لمجرّد اختلافٍ بسيطٍ بينها في بعض التفاصيل العقديّة أو الفقهيّة، في محاولة تهدف إلى إثبات صدقيّة الحديث ومطابقته للواقع، بل ربما عدّه بعضهم من معاجز الرّسول وإخباراته الصّادقة. وبلغت همّة البعض، أن يكثّر عدد فرق الشيعة الإماميّة إلى أربع وعشرين فرقة، والمعتزلة إلى اثنتي عشرة فرقة.
وذكر بعضهم في توزيع الفرق الهالكة ـ بعد استثناء أهل السنّة والجماعة باعتبارهم الفرقة النّاجية ـ: أنّ أصناف الخوارج اثنا عشر.. وأصناف الرّوافض اثنا عشر.. وأصناف القدريّة اثنا عشر.. وأصناف الجبريّة اثنا عشر.. وأصناف الجهميّة اثنا عشر.. وأصناف المرجئة اثنا عشر...[32] هذا مع أنّ الاختلاف البسيط بين عالم وآخر، أو بين مدرسة وأخرى، لا يبرّر عدّ كلّ منهم صاحب مذهب كما هو واضح، وإلا للزم تعدّد فِرَق المسلمين بعدد علمائهم وفقهائهم ومدارسهم، لأنّه ما من فقيهٍ إلا ويختلف مع الآخر في بعض الآراء والأفكار، وما من مدرسةٍ فكريّة إلا وتُبايِن المدارس الأخرى في كثيرٍ من وجهات النّظر، كما هو الحال في المدرستَيْن: الإخباريّة والأصوليّة لدى الشيعة مثلاً.
على أنّنا لو اعتمدنا هذا النّهج في تعداد الفِرَق، فإنها بالتّأكيد ستبلغ المئات، ولا سيّما بملاحظة الفِرق التي نشأت في القرون الأخيرة، من قبيل البهائيّة والشيخيّة والقاديانيّة وغيرها. ثم لماذا تمّ استثناء الفرق السنيّة من التعداد، والحال أنها فرقٌ متعدّدة، وما بقي منها هو الأربعة المشهورة في الفقه، ويضاف إليها فرقتا الأشاعرة والمعتزلة في العقائد؟!
محاولةٌ تصحيحيّةٌ
وهروباً مما تقدّم، حاول بعضهم تصحيح الحديث بطريقةٍ أخرى، وهي الادّعاء بأنّ العدد (72) أو (73) لا يُراد به حقيقته، بل يراد به المبالغة في الكثرة، كما في قوله تعالى: {إن تستَغْفِر لهم سبعينَ مرّةً فلَن يغفِر الله لهم}[33]، إلا أنّ هذه المحاولة لا تستقيم، لأنّ ظاهر الحديث، أنّ واقع العدد مقصود ومراد لقائله، لأنّه يؤكّد افتراق اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة، والنّصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمين إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، وهذا اللّسان لا ينسجم مع المبالغة، كما لا يخفى، وإنما هو لسان تحديد وتعيين.
وقد حاول البعض الآخر الدّفاع عن الحديث، رافضاً دعوى عدم انطباق العدد المذكور فيه على الواقع، وذلك بادّعاء أنّ افتراق المسلمين لم ينتهِ بعد، فربما تنشأ فِرقٌ جديدة في المستقبل، ويصل الرّقم إلى العدد المذكور في كلامه(ص).
ولكن يُلاحظ على ذلك: أنّ ما ذُكِر، يحتّم علينا الإقلاع عن رمي الفِرق الموجودة بأنها خارج إطار الفرقة النّاجية، لأنّ من الممكن أنّ الفِرق الهالكة، أو بعضها على الأقلّ، لم تتشكّل بعد، وإنما ستوجد في مستقبل الزمان.
على أنّ ما ذُكِر لا ينسجم مع بعض الرّوايات، ومنها رواية الكليني في الكافي المرويّة عن الإمام الباقر(ع)، والّتي افترض فيها افتراق الأمّة الإسلاميّة بالفعل إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة، كما هو ظاهر قوله: "وتفرّقت هذه الأمّة بعد نبيّها(ص)..."، وهذا الأمر تُشعر به روايات أخرى، كالّتي تحدّثت عن فِرق تكوّنت بعد عصر النبي(ص) وذُكرت بالاسم، ما يوحي بأنّ هذا الانقسام هو قريب عهد منه، لا أنّه سيحدث بعد مضيّ آلاف السنين من وفاته أو في آخر الزّمان.
ثم إنّه تبقى ملاحظةٌ أخيرة، وهي أنّ الحديث يفترض افتراق اليهود على سبعين فرقة، والنّصارى على إحدى وسبعين فرقة، كأمرٍ مفروغ منه، وقد تمّ تحقّقه، فهل إنّ الأمر كذلك؟ هذا ما لم يتسنَّ لنا التأكّد منه، وهو بحاجة إلى مزيد من المتابعة والملاحظة.
* من كتاب: هل الجنّة للمسلمين وحدهم؟!
[1] الترمذي، محمد بن عيسى (ت279 هـ)، سنن الترمذي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، ط2، 1993م، ج4، ص:134.
[2] قال الشيخ عبد المتعال الصعيدي: "ومما طعن به في سند الحديث أن فيه محمد بن عمرو الليثي، وهو ممن أخرج له الشيخان في المتابعات فقط، ومثله لا يُحتجّ بحديثه إذا لم يتابع، وقد قال فيه الذهنبي: محمد بن عمرو الليثي لم يُحتجّ به منفرداً ولكن مقروناً بغيره، وكذلك في بعض سنده عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، وفي بعضه كثير بن عبدالله، وفي بعضه عبّاد بن يوسف وراشد بن سعد، وفي بعضه الوليد بن مسلم، وفي بعض مجاهيل، كما يظهر من كتب الحديث" (رسالة الإسلام مصدر سابق، ص:182)، وممن أشار إلى ضعف سنده بحسب موازين أهل السنة؛ الشيخ حسن السقّاف في مجلة المعارج، مصدر سابق، العدد:43، ص:101.
[3] قسم المختصون في علم الحديث الخبر من حيث رواته إلى متواتر وآحاد، وقد عدّوا كل حديث لا تتوفر فيه شروط التواتر من نوع الآحاد، سواء كان الراوي له واحداً أو أكثر.
[4] كما في مسند أحمد من رواية أنس، مصدر سابق، ج3، ص:120، وقد أوردها الشيخ الصدوق في الخصال، مصدر سابق، ص:584.
[5] كما في رواية ابن ماجة في سننه، مصدر سابق، ج2، ص:1322، وكما في الرواية الأخرى للصدوق في الخصال أيضاً، مصدر سابق، ص:585.
[6] بحار الأنوار، مصدر سابق، ج28، ص:9 و10.
[7] كشف الخفاء، مصدر سابق، ص:150.
[8] كتاب السنة لعمرو بن أبي عاصم الضحاك (ت287هـ)، مصدر سابق، ص:35 و36.
[9] سنن ابن ماجة، مصدر سابق، ج2، ص:1332.
[10] البدوي، عبد الرحمن، مذاهب الإسلاميين، دار العلم للملايين، بيروت ـ لبنان، 1997م، ج1، ص:34.
[11] مسند أحمد، مصدر سابق، ج3، ص:145 من رواية أنس بن مالك.
[12] المستدرك، مصدر سابق، ج1، ص:129.
[13] المصدر نفسه، ج1، ص:128.
[14] بحار الأنوار، مصدر سابق، ج26، ص:186، وج24، ص:146.
[15] المستدرك، مصدر سابق، ج3، ص:547، وج4، ص:430.
[16] كشف الخفاء، مصدر سابق، ج1، ص:150.
[17] المعارج، مصدر سابق، العدد43، ص:103.
[18] مجمع الزوائد، مصدر سابق، ج6، ص:226.
[19] المصدر نفسه، ج7، ص:324.
[20] انظر: آل صاحب الجواهر، الشيخ محسن شريف، مجلة تراثنا: مجلة متخصصة بالتراث، صادرة عن مؤسسة آل البيت(ع) لإحياء التراث، قم ـ إيران، ج42، ص:277.
[21] ادّعى الإجماع المذكور، جمْعٌ من علماء السّنّة وعلماء الشيعة، راجع أوائل المقالات، مصدر سابق، ص:14، ونظم المتناثر من الحديث المتواتر، مصدر سابق، ص:236، والعيني (ت 855 هـ)، عمدة القاري، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، لا.ط، لا.ت، ج1، ص:261، والقطيفي، الشيخ إبراهيم (القرن العاشر الهجري)، الفرقة الناجية، دار الملاك، بيروت ـ لبنان، ط1، 2000م، ص:8.
[22] نور البراهين للسيد نعمة الله الجزائري، مصدر سابق، ج1، ص:63.
[23] [النساء:123].
[24] مجلة المعارج، مصدر سابق، العدد:43، ص:102.
[25] [آل عمران:110].
[26] [البقرة:143].
[27] [آل عمران:110].
[28] صحيح البخاري، مصدر سابق، ج3، ص:61.
[29] صحيح مسلم، مصدر سابق، ج1، ص:63.
[30] تراثنا، ج42، ص:297.
[31] المصدر نفسه.
[32] انظر: ابن عابدين، محمد علاء الدين (ت 1306 هـ)، تكملة حاشية ردّ المحتار، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت ـ لبنان، لا.ط، 1405هـ، ج1، ص:522.
[33] [التوبة:80].
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .