حديثُ عليٍّ (ع): دعوةٌ إلى نبذِ العصبيَّةِ واجتنابِ الفرقة

حديثُ عليٍّ (ع): دعوةٌ إلى نبذِ العصبيَّةِ واجتنابِ الفرقة

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهۥ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا}[الفتح: 26].
في هذه الآية، يتحدَّث الله سبحانه وتعالى عن الفرق بين الجاهليّين وبين المؤمنين، كيف يتصرَّف الجاهليّون في الأمور عندما تتحرَّك الأوضاع والخلافات، وكيف يتصرَّف المؤمنون.
عصبيَّة الجاهليّين
الجاهليّون هم الَّذين يتحركون في تصرّفاتهم في الحميّة، والحميّة الجاهليَة هي القوّة الغضبيَّة التي تتعاظم وتتزايد في نفس الإنسان، بحيث يتحرَّك الشَّخص من موقع العصبيَّة والانفعال لما هو عليه، لا من موقع التَّفكير والعقل والهدوء. الحميَّة الجاهليَّة هي الَّتي يقولون عنها إنّها حميَّة التكبّر والتعنّت والقسوة والعصبيَّة. وكان الجاهليّون، كما يحدِّثنا تأريخهم، وكما نستوحي من القرآن الكريم، يتعصَّبون للعشيرة، فإذا اختلفَتْ عشيرتهم مع عشيرةٍ أخرى، وقفوا صفّاً واحداً مع عشيرتهم ضدَّ العشيرة الأخرى، من دون دراسة المسألة؛ هل إنَّ عشيرتهم على الحقّ، أو إنَّ العشيرة الأخرى على الحقّ، لأنَّ القضيَّة عندهم هي التعصّب للعشيرة وليس التعصّب للحقّ، لأنَّهم يرون أنَّ العشيرة دائماً على حقّ، وأنَّ كلَّ شيء يختلف عمَّا تسير عليه العشيرة، لا بدَّ أن يكون على باطل، ولهذا يتَّخذون الموقف على هذا الأساس. وقد امتدَّ موقفهم هذا حتَّى ترك تأثيره على الجانب العقيديّ، فكانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزّخرف: 22]، وكان النَّبيّ يقول لهم كما قال الله: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}[الزّخرف: 24] {أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170].
هذه الحميَّة الَّتي تنطلق من الدَّائرة المغلقة؛ من العقل المغلق الَّذي ليس مستعدّاً أن يناقش الأمور بعقلانيَّة، من القلب المغلق الَّذي ليس مستعدّاً أن ينفتح على الآخر، من الحركة المغلقة الَّتي ليست مستعدَّة لأن تتحرَّك مع الآخر. هذه هي الحميَّة الجاهليَّة.
سكينةُ المؤمنين
وأمَّا المؤمنون، فهم الَّذين يعيشون السَّكينة، والسَّكينة هي الطَّمأنينة النَّفسيَّة، هي الهدوء، فالعقل هادئ، والقلب هادئ، والحركة مدروسة، ولذا يقول الله: {فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَى}. وقد ورد في التَّفسير عن أهل البيت (ع)، في تفسير كلمة التَّقوى، أنّها الإيمان، أو روح الإيمان، لأنَّ الإيمانَ عندما يحلُّ في قلبِ مؤمنٍ، فإنَّه يعطي القلب حالة من العقلانيَّة والموضوعيَّة، وحالةً من الدِّراسة العلميَّة الهادئة للأشياء، فالمؤمن لا يتحرَّك في الأمور إلَّا بعدَ أن يدرسها دراسةً دقيقةً عميقةً، ليتَّخذ منها موقفاً، ليرفضَ هذا إذا كان الرَّفض هو نتيجة الدّراسة العقليَّة، وليقبل ذاك إذا كان القبول نتيجة الدّراسة.
فالمؤمن لا يتحرَّك بردِّ فعل، ولا يمكن لأحدٍ أن يثيره، لأنَّه بمجرَّد أن يأتيَ الفعلُ من الآخر، يبدأ بالتَّفكير فيه، ودراسة الأمور وتركيزها على القاعدة؛ يفكِّر كيف يمكن أن أتصرَّف مع هذا الإنسان بما ينسجم مع قناعاتي ومع إيماني؛ قد يكون هذا الشَّخص عدوّاً، وعليَّ أن آخذ منه موقف العدوّ، وقد يكون صديقاً مخطئاً، قد يكون خاضعاً لنقطة ضعف، والله يقول: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ}، قال الله لرسوله وللمؤمنين، كونوا في كلِّ حركتكم في الحياة، فيما تتحركون وتفكّرون، وفيما تتعاطفون، كونوا المؤمنين الَّذين يلزمون كلمة التَّقوى، بحيث يدرسون كلَّ كلمة وكلَّ حركة؛ هل الله راض عنها أو أنَّه ليسَ راضياً عنها؟ كما وردَ في الحديثِ عن المؤمن: "لم يقدِّم رِجْلاً، ولم يؤخِّر رِجْلاً، حتَّى يعلم أنَّ ذلك لله رضا أو سخط".
إنَّ عظمةَ كلمةِ التَّقوى، إذاً، أنَّها تمتصُّ كلَّ الغضب وتُعقِّله، تمتصُّ كلَّ الانفعال وتركِّزه، وتجعل المؤمنَ لا يتحرَّك بردِّ فعل، بل بفعلٍ مدروس.
وهذا هو الَّذي ينبغي للمؤمنين أن ينطلقوا به، وقد قال الإمام الباقر (ع) وهو يحدِّثنا عن الغضب: "أيُّ شيءٍ أشدُّ من الغضبِ؟! إنَّ الرَّجلَ ليغضبُ فيقتلُ النَّفسَ الَّتي حرَّم الله، ويقذفُ المحصنة".
فالإنسانُ في لحظةِ غضبٍ يمكن أن يقتلَ، ويمكن أن يقذفَ المحصنات، ولو كان عاقلاً لما فعل هذا، ولكنَّه يفكِّر بغريزته.
السَّير في خطِّ التَّقوى
لهذا، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن لا نعيش حميَّة الجاهليَّة في كلِّ ما يحدث بيننا، بل لا بدَّ أن نعتمدَ على كلمة التَّقوى الَّتي تجعلنا نفكِّر تفكيراً عقلانيّاً إيمانيّاً هادئاً، حتَّى تنطلق الكلمة من موقع عقلٍ وتفكيرٍ، حتَّى لا يغلبنا الشَّيطان على إيماننا، ولا يغلبنا الآخرون على مبادئنا.
وقد عالجَ عليٌّ (ع) في "نهج البلاغة" مسألة العصبيَّة والحميَّة، فتعالوا في وقفةٍ قصيرةٍ سريعةٍ نقرأ ماذا قال عليٌّ (ع)، لأنَّ عليّاً هو إمامنا عندما عاش مرحلته، وهو إمامنا في الزَّمن كلّه، فإمامة عليّ (ع) عندنا هي الإمامة الَّتي لا تحجبها أيّ إمامة أخرى، وإمامة عليّ (ع) هي خطّ الإمامة في أولاده، وهي سبيلنا، لأنَّ عليّاً مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار، وعليكم أن تأخذوا الإسلام من القرآن، ومن رسول الله، ومن عليّ الَّذي يملك علم القرآن كلَّه، وعلمَ رسولِ الله في ذلك كلّه.
حديثُ عليٍّ (ع) عن العصبيَّة
كيف يتحدَّث عليّ (ع)؟ يتحدَّث عليّ (ع) وكأنَّه يخاطبنا الآن فيما نتحرَّك به من عصبيَّات في الهوامش من أمورنا، لأنَّنا نلتقي على القواعد الأصيلة في هذا.
يقول (ع): "ولقد نظرْتُ، فما وجدْتُ أحداً منَ العالَمين يتعصَّبُ لشيءٍ منَ الأشياءِ إلَّا عن علَّةٍ تحتملُ تمويهَ الجهلاءِ، أوْ حجَّةٍ تليقُ بعقولِ السُّفهاءِ، غَيْرَكُمْ". فكلُّ من يتعصَّب، يكونُ تعصّبه على أساس شبهةٍ هنا، أو نتيجة وضع معيَّن يبرِّر به تعصّبه.. وحتَّى العقلاء المنحرفون، عندما يتعصَّبون، يكون هناك أساسٌ للعصبيَّة عندهم، وإن كان الأساس خاطئاً. أمَّا أنتم، فلا يُعرَف سببٌ لتعصّبكم، "فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ"، وليس لديكم حجَّة، لأنَّ ما تتعصَّبون له، لا ينطلقُ من أساسٍ يمكن أن يحرِّك الإنسانُ العصبيَّةَ من أجله.
"أَمَّا إِبْلِيسُ، فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ"، {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[الأعراف: 12].
أمَّا أنتم، فعلى ماذا العصبيَّة؟ فالمفروض أنَّكم متَّفقون؛ كلُّكم مسلمون، كلُّكم مؤمنون، الخطُّ واحد، قد تحصل خلافات بسيطة من هنا أو هناك، ولكن ما دمتم قد التقيتم على الإسلام الَّذي يفرض منكم أن تكونوا قوَّة له، فلماذا يتعصَّب بعضكم على بعض؟
"وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}"[سبأ: 35].
التعصُّبُ لمكارم الخصال
"فَإنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ"، فالعصبيَّة لا يمكن أن تكون أساساً لأيِّ شيء، لأنَّ العصبيَّة انغلاق، والإنسان الَّذي ينغلق على الآخر، هو إنسانٌ لا يستطيع أن يحاور الآخر أو يهديه. فإذا كان قلبك مغلقاً عن النَّاس، وكنت تتصوَّر أنَّ النَّاس الَّذين يخالفونك هم أعداؤك، فلن تستطيع أن تهديَ أحداً، وإنّما استطاعَ الأنبياءُ أن يهدوا النَّاس، لأنَّ قلوبهم كانت مفتوحةً لكلِّ النَّاس، مفتوحة للمؤمنين وللكافرين، لأنَّهم كانوا يريدون للكافرين أن يأتوا إليهم ليهدوهم ويُسمِعوهم كلمةَ الحقّ بقلوبٍ مفتوحةٍ.
لكن، إذا كنتم تعيشون حالةَ التَّعصّب، فاختاروا ما تتعصَّبون له، "فَإنْ كَانَ لا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الْأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الْأُمُورِ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ، وَيَعَاسِيبِ الْقَبَائِلِ، بِالْأَخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ، وَالْأَحْلاَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ، وَالْآثَارِ الَمحْمُودَةِ.
فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ؛ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالْأَخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَالْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ، والْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ، وَذَمِيمِ الْأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ"
، حتّى لا ينزل بكم ما نزل بهم.
اجتنابُ الفرقة
"فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ - في حالَتي الخيرِ والشّرّ - فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ، وَزَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ – الزموا ما استطاعوا أن يهزموا به أعداءهم - وَمُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الْاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ - فهم استطاعوا أن يحصلوا على العزَّة والقوَّة، لأنّهم اجتنبوا الفرقة في وحدتهم - وَاللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ، وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، وَالتَّوَاصِي بِهَا.
وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ، مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وَتَخَاذُلِ الْأَيْدِي، وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمحِيصِ وَالْبَلاَءِ
- الاختبار- أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً؟ - كانت مسؤوليَّاتهم كبيرة - وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً؟
اتَّخَذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عَبِيداً
- كما يتَّخذنا المستكبرون الآنَ عبيداً - فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ – كناية عن المشاكل - فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ - لأنَّهم استسلموا للمستكبرين، ولم يأخذوا بأسباب القوَّة - لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ، ولا سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ - كما يحدث لنا الآن عندما نواجه التحدّيات الاستكباريّة - حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ – من هؤلاء النَّاس المستضعفين - جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ - رآهم يصبرون على الأذى - وَالْاحْتِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}[الطّلاق: 2] - فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَالْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ.
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً
– أي القوم المجتمعون المتكاتفون- والْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً – يأتلفون فيما يتحركون به في مقاصدهم - وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَالْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، والسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً - ينصر بعضها بعضاً - والْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً، أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً - يعني ملوكاً - فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟! فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالْأَفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ، وَبَقّى قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ" {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي ٱلْأَلْبَابِ}[يوسف: 111].
الاختلافُ ضمنَ الوحدة
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الإيمان هو الَّذي يمنحنا الكثيرَ من استخدام العقل واستخدام الحكمة والتفكير، فإذا تنازعنا في شيء، فعلينا أن نردَّه إلى الله وإلى الرَّسول، وعلينا أن نفكِّر في أنَّ أيَّ خلاف وأيَّ نزاع ينطلق من اختلافٍ في اجتهاد، أو اختلافٍ في النَّظرة إلى الأمور، لا بدَّ أن لا يسيء إلى وحدة الكلمة؛ فالأمَّة واحدة، والاجتهادات متنوّعة، والأمَّة واحدة والآراء مختلفة، وحدة في التنوّع، وتنوّع في الوحدة.
قلتها أكثر من مرّة، علينا كما نتعلَّم كيف نتَّحد، أن نتعلَّم كيف نختلف، أن ندير خلافاتنا بالطَّريقة الَّتي لا تهدم الأرض، ولا تسقط المحبَّة، ولا تفرِّق الجمع.. ليعذر بعضنا بعضاً، ولينفتح بعضنا على بعض، الدِّين محبَّة، والإيمان محبَّة؛ محبَّة في العقل، ومحبَّة في القلب، ومحبَّة في حركة الإنسان، وذلك قول رسول الله (ص) الَّذي ينظر إلينا من وراء الغيب، ويريدنا متَّحدين متعاونين: "لا يؤمنُ أحدُكُم حتَّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِهِ، ويكرهَ له ما يكرهُ لها".
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
أقولها من كلِّ قلب ينبضُ بالمحبَّة، وأقولها من كلِّ عقلٍ يرصدُ واقعنا، ليقول لكم بكلِّ حزن وبكلِّ ألم: يا أيُّها المسلمون، يا أيُّها المؤمنون، اتَّقوا الله في الإسلام كلِّه، واتَّقوا الله في المسلمين. لذلك، ينبغي أن لا نتكلَّم بكلمة، ولا نتحرَّك بحركة، إلَّا بأن ندرس ما هو رضا الله في ذلك، وما هو تقوى الله في ذلك.
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في الأوقات الصَّعبة، واتَّقوا الله في التحدّيات الكبرى، حيث ينطلق المستكبرونَ من أجلِ أن يخلطوا الأمور، وأن يربكوا القضايا، وأن يرسلوا التحدّيات، وأن يجعلونا مزقاً متناثرةً يحارب بعضنا بعضاً، ويقف بعضنا ضدَّ بعض. علينا أن نلتفت إلى أنَّ أعداء الله يحاولون أن يستفيدوا من كلِّ نقطة ضعف، إنَّهم يحاولون أن ينتجوا بيننا الحقدَ بدلاً من المحبَّة، والعداوة بدلاً من الصَّداقة، والفرقةَ بدلاً من الاجتماع، إنّهم يحاولون أن يستغلّوا كلَّ نقاط الضّعف فينا، وكلَّ ما نختلف فيه من الآراء والأفكار، سواء كانت أفكاراً دينيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة، أو كانت أوضاعاً اقتصاديَّة أو أمنيَّة، من أجل أن يدخلوا في ذلك ويتحركوا في ذلك، وهذا هو قول الله سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: 53].
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّنا في ساحة يتحرَّك فيها المستكبرون، من أجل أن ينهشوا هذا الجسد الإسلاميَّ، فهناك من ينهش يده، وهناك من ينهش قلبه، وهناك من ينهش رأسه... لذلك، علينا أن لا نستغرقَ في داخلِ خلافاتنا ومشاكلنا بحيث تحجبنا عن وضوح الرّؤية فيما يخطِّط لنا الآخرون، وفيما يدبِّر لنا الآخرون، أن لا نكون كالنَّعامة تدفن رأسها في الرّمال، كما ندفن رؤوسنا وعقولنا وقلوبنا في القضايا الهامشيَّة فيما بيننا، ونعمى عن الاستراتيجيَّات الاستكباريَّة الَّتي تريد أن تحطِّمنا، وأنْ تثيرَ الفرقةَ والعدواةَ فيما بيننا هنا وهناك.
أيُّها الأحبَّة، لا يجوزُ لمؤمنٍ أن يتكلَّمَ عن مؤمنٍ بأنَّه عدوُّه، وإلَّا كان مخالفاً لقول الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، ولا يجوزُ لمؤمنٍ أن يثير العداوة بين المؤمنين، وإلَّا كان مخالفاً لقول الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10].
إنَّنا نرى أعداء الله يتحركون من أجل أن يسقطوا الإسلام في عقيدته وفي أمَّته، فتعالوا لنرى ماذا هناك.
التّدخُّلُ الأمريكيُّ في العراق
في القضيَّة العراقيَّة الأمريكيَّة، لقد دخلَ كلينتون من جديدٍ على السَّاحة العراقيَّة، ليتمنَّى تحسّناً قريباً للظّروف المعيشيَّة للشَّعب العراقي، وليعلن دعمه لبعض قوى المعارضة العراقيَّة لإطاحة النظام العراقيّ، لأنَّ هذه القوى، كما يقول، ملتزمة بالقيم الديمقراطيَّة – ويقصد الأمريكيَّة - وحقوق الإنسان، ووحدة أراضي العراق مع جيرانه.
إنَّنا نتصوَّر أنَّ أمريكا ليست هي الَّتي تحدِّد هويَّة القوى الرافضة للنِّظام هناك، بل إنَّ الشَّعب هو الّذي يحدِّد القوى الصَّادقة المخلصة الَّتي قدَّمت عشرات الآلاف من الشّهداء في سبيل تحرير الشَّعب من النِّظام الطَّاغية، بل إنَّ حديث أمريكا عن أيِّ قوَّة معارضة، يدفع بالشّكّ في الخلفيَّة الأمريكيَّة الكامنة خلفها، وقد لا يكون ذلك صحيحاً.
إنَّ المشكلةَ في السياسةِ الأمريكيّة، بقدر ما يتَّصل الأمر بالعراق، هي أنَّها كانت وراء حمايةِ حاكمِ العراقِ ونظامِه عند الانتفاضة الشعبيَّة البطلة، وما زالت تهيّئ له سبل الحماية بطريقة وبأخرى، لأنَّ لها حاجةً في بقاء هذا النّظام للاستمرار في سياستها في المنطقة. ونحن نحذِّر الشَّعب العراقيّ والمعارضة العراقيَّة من هذا التدخّل الأمريكيّ الَّذي لم يرَ منه العراق إلَّا الدَّمار والخسارة والعذاب، وندعو الجميع إلى الالتفاف حول القيادة الإسلاميَّة المخلصة الَّتي أعطت العراق كلَّ تضحية وإخلاص.
كما أنّنا نتخوَّف من إمساك أمريكا بالملفِّ العراقيِّ، تماماً كما فعلت في فلسطين المحتلَّة، عندما جعلت المسألة بإشراف المخابرات المركزيّة الأمريكيّة، وأنتم تعرفون كيف تتحرَّك المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة لتدمير كلّ الشعوب المستضعفة، ونأمل أن تتحرَّك المعارضة لإعداد برنامج واقعيّ لإسقاط النّظام، وإبعاد البلاد عن الخطَّة الأمريكيَّة الجديدة القديمة في زيادة عذاب الشَّعب العراقي.
تنازلاتُ السُّلطةِ الفلسطينيَّة
وننتقلُ إلى فلسطين، لنستمعَ إلى رئيس سلطة الحكم الذّاتي، وهو يعرض تأخير إعلان الدَّولة الفلسطينيَّة، في مقابل وعدٍ أمريكيٍّ بالاعتراف بها في المستقبل.
ونحن نعرف أنَّ هذه السّلطة، ما زالت تقدِّم التَّنازلات من دون جدوى، لأنَّ اللُّعبة الأمريكيَّة الصهيونيّة، لا تزال تضغط لتحقيق الاستراتيجيّة الإسرائيليَّة في الاستيلاء على أكثر الأراضي الفلسطينيّة، فلا يبقى للفلسطينيّين إلَّا القليل تحت حكم الكيان الصهيوني، وعند ذلك، قد يسمح بإعلان الدولة الفلسطينيَّة الَّتي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، ليبقى للفلسطينيّين الاسم، ولليهود الأرض والمصير.
إنَّنا نعتقد أنَّ وحدةَ الشَّعب الفلسطيني وقدرته واندفاعه في خطِّ الانتفاضة، والدّفاع عن حقوقه في الأرض، هو الَّذي يمثِّل الولادة الحقيقيَّة للدَّولة، حتَّى من دون إعلان، بدلاً من أن يظلَّ الإعلان مجرَّد ورقةٍ في لعبةِ القمارِ السياسيّ كلّها.
هجمةٌ استكباريّةٌ على إيران
وليس بعيداً من ذلك، تتواصل اللُّعبة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة في الضَّغط على روسيا، لمنعها من تقديم أيِّ مساعدة تكنولوجيَّة إلى إيران، تحت التَّهديد بمنع المساعدات عنها.. وها هو شارون، وزير خارجيَّة العدوّ، يزور روسيا، ليطالبها بوقف مساعداتها لإيران في تكنولوجيا الأسلحة النَّوويَّة والصَّاروخيَّة، وقد حصل على نفيٍ شديدٍ من نظيره الروسيّ لهذه المساعدة.
إنَّ على العرب والمسلمين أن يتابعوا هذا الدّخول الإسرائيليّ بعد أمريكا على خطِّ العلاقات بينَ إيران وجوارها، وإقناع روسيا بأنَّ مصلحتها الحقيقيَّة هي في إيجاد علاقات وثيقة مع إيران، الدَّولة الكبرى في المنطقة، ومع الدّول الإسلاميَّة هناك.
وبهذه المناسبة، فإنَّنا ندعو الشَّعب الإيراني المسلم، الَّذي يقف على أبواب الذكرى العشرين لانتصار الثَّورة، أن يتطلَّع إلى ما يحاك ضدَّه في الخارج، من الحصار الاقتصادي، ولا سيَّما في إسقاط سعر النّفط، والحصار السياسيّ، والحرب الإعلاميَّة والمخابراتيَّة، فيعمل على تأكيد وحدته وتضامنه مع قيادته، لأنَّ المرحلة لا تسمح بأيّ اهتزاز، ما يفرض على جميع القوى الشعبيّة والسياسيّة، أن ترتفع إلى مستوى التحدّيات الكبرى في هذه المرحلة. إنَّنا عندما ندرس حركة الإعلام الاستخباريّ في أيِّ مكان في العالم، فإنَّنا نرى أنهم يستغلّون بعض الثَّغرات الَّتي تحدث في أيِّ مكان في العالم، ولكنَّها عندما تحدث في إيران، فإنهم يضخِّمونها ويكبّرونها، من أجل أن يُشعِروا النّاس بأنَّ هناك اهتزازاً في إيران، وأنَّ هناك خطراً.
إنَّنا نعتقد أنَّ إيران وصلت إلى مرحلة من الرّشد والثَّبات، بحيث تحوَّلت إلى دولة مؤسَّسات، ولكنَّنا عندما نرى هجمة الاستكبار العالميّ عليها، فإنَّنا نريد للشَّعب قيادةً ومؤسَّسات، أن يعملوا على اليقظة والحذر من كلِّ هذه اللّعبة الاستكباريّة الجهنميَّة الَّتي سوف تفشل بإذن الله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}[الأنفال: 30].
مأساةُ كوسوفو
وننتقل إلى كوسوفو، هذا الجرح النَّازف الَّذي يعيش فيه المسلمون تحت تأثير حرب الإبادة الصربيَّة، في ظلِّ ظروف اللّعبة الدَّوليّة الَّتي لا تزال تدير المسألة من خلال مصالح أوروبَّا وأمريكا، لا من خلال مصلحة الشَّعب المعذَّب هناك.
إنَّ على المسلمين، ولا سيَّما منظَّمة المؤتمر الإسلامي، أن يتدخَّلوا بقوَّة في سبيل مساعدة المسلمين هناك.
الدّاخل اللّبنانيّ
ونأتي إلى الدَّاخل اللَّبناني، الَّذي تراجع فيه الجدل التقليديّ في التجاذبات السياسيّة الداخليّة، فندعو إلى أن يتكامل الجميع للتَّفكير في أفضل الحلول للمشاكل الاقتصادية والمعيشيّة للشعب، وأن يقف اللّبنانيّون صفّاً واحداً من أجل إنجاح التجربة الجديدة، وإبعاد الحساسيات عن العلاقات السياسيَّة، لتكون اللّعبة، كما يعبِّرون، لمصلحة الوطن لا لمصلحة الأشخاص أو لمصلحة هذه الطَّائفة أو تلك، ويبقى الاحتلال الصّهيوني الهمَّ الكبير الَّذي ينبغي للجميع أن يرتفعوا إلى مستوى العمل في سبيل إزالته، وذلك بدعم المجاهدين في ضغطهم المستمرِّ على الاحتلال، لإجباره على الانسحاب من دون قيدٍ أو شرط.
 
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 22/ 1/ 1999م.
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهۥ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمًا}[الفتح: 26].
في هذه الآية، يتحدَّث الله سبحانه وتعالى عن الفرق بين الجاهليّين وبين المؤمنين، كيف يتصرَّف الجاهليّون في الأمور عندما تتحرَّك الأوضاع والخلافات، وكيف يتصرَّف المؤمنون.
عصبيَّة الجاهليّين
الجاهليّون هم الَّذين يتحركون في تصرّفاتهم في الحميّة، والحميّة الجاهليَة هي القوّة الغضبيَّة التي تتعاظم وتتزايد في نفس الإنسان، بحيث يتحرَّك الشَّخص من موقع العصبيَّة والانفعال لما هو عليه، لا من موقع التَّفكير والعقل والهدوء. الحميَّة الجاهليَّة هي الَّتي يقولون عنها إنّها حميَّة التكبّر والتعنّت والقسوة والعصبيَّة. وكان الجاهليّون، كما يحدِّثنا تأريخهم، وكما نستوحي من القرآن الكريم، يتعصَّبون للعشيرة، فإذا اختلفَتْ عشيرتهم مع عشيرةٍ أخرى، وقفوا صفّاً واحداً مع عشيرتهم ضدَّ العشيرة الأخرى، من دون دراسة المسألة؛ هل إنَّ عشيرتهم على الحقّ، أو إنَّ العشيرة الأخرى على الحقّ، لأنَّ القضيَّة عندهم هي التعصّب للعشيرة وليس التعصّب للحقّ، لأنَّهم يرون أنَّ العشيرة دائماً على حقّ، وأنَّ كلَّ شيء يختلف عمَّا تسير عليه العشيرة، لا بدَّ أن يكون على باطل، ولهذا يتَّخذون الموقف على هذا الأساس. وقد امتدَّ موقفهم هذا حتَّى ترك تأثيره على الجانب العقيديّ، فكانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ}[الزّخرف: 22]، وكان النَّبيّ يقول لهم كما قال الله: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ}[الزّخرف: 24] {أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْـًٔا وَلَا يَهْتَدُونَ}[البقرة: 170].
هذه الحميَّة الَّتي تنطلق من الدَّائرة المغلقة؛ من العقل المغلق الَّذي ليس مستعدّاً أن يناقش الأمور بعقلانيَّة، من القلب المغلق الَّذي ليس مستعدّاً أن ينفتح على الآخر، من الحركة المغلقة الَّتي ليست مستعدَّة لأن تتحرَّك مع الآخر. هذه هي الحميَّة الجاهليَّة.
سكينةُ المؤمنين
وأمَّا المؤمنون، فهم الَّذين يعيشون السَّكينة، والسَّكينة هي الطَّمأنينة النَّفسيَّة، هي الهدوء، فالعقل هادئ، والقلب هادئ، والحركة مدروسة، ولذا يقول الله: {فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَى}. وقد ورد في التَّفسير عن أهل البيت (ع)، في تفسير كلمة التَّقوى، أنّها الإيمان، أو روح الإيمان، لأنَّ الإيمانَ عندما يحلُّ في قلبِ مؤمنٍ، فإنَّه يعطي القلب حالة من العقلانيَّة والموضوعيَّة، وحالةً من الدِّراسة العلميَّة الهادئة للأشياء، فالمؤمن لا يتحرَّك في الأمور إلَّا بعدَ أن يدرسها دراسةً دقيقةً عميقةً، ليتَّخذ منها موقفاً، ليرفضَ هذا إذا كان الرَّفض هو نتيجة الدّراسة العقليَّة، وليقبل ذاك إذا كان القبول نتيجة الدّراسة.
فالمؤمن لا يتحرَّك بردِّ فعل، ولا يمكن لأحدٍ أن يثيره، لأنَّه بمجرَّد أن يأتيَ الفعلُ من الآخر، يبدأ بالتَّفكير فيه، ودراسة الأمور وتركيزها على القاعدة؛ يفكِّر كيف يمكن أن أتصرَّف مع هذا الإنسان بما ينسجم مع قناعاتي ومع إيماني؛ قد يكون هذا الشَّخص عدوّاً، وعليَّ أن آخذ منه موقف العدوّ، وقد يكون صديقاً مخطئاً، قد يكون خاضعاً لنقطة ضعف، والله يقول: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ}، قال الله لرسوله وللمؤمنين، كونوا في كلِّ حركتكم في الحياة، فيما تتحركون وتفكّرون، وفيما تتعاطفون، كونوا المؤمنين الَّذين يلزمون كلمة التَّقوى، بحيث يدرسون كلَّ كلمة وكلَّ حركة؛ هل الله راض عنها أو أنَّه ليسَ راضياً عنها؟ كما وردَ في الحديثِ عن المؤمن: "لم يقدِّم رِجْلاً، ولم يؤخِّر رِجْلاً، حتَّى يعلم أنَّ ذلك لله رضا أو سخط".
إنَّ عظمةَ كلمةِ التَّقوى، إذاً، أنَّها تمتصُّ كلَّ الغضب وتُعقِّله، تمتصُّ كلَّ الانفعال وتركِّزه، وتجعل المؤمنَ لا يتحرَّك بردِّ فعل، بل بفعلٍ مدروس.
وهذا هو الَّذي ينبغي للمؤمنين أن ينطلقوا به، وقد قال الإمام الباقر (ع) وهو يحدِّثنا عن الغضب: "أيُّ شيءٍ أشدُّ من الغضبِ؟! إنَّ الرَّجلَ ليغضبُ فيقتلُ النَّفسَ الَّتي حرَّم الله، ويقذفُ المحصنة".
فالإنسانُ في لحظةِ غضبٍ يمكن أن يقتلَ، ويمكن أن يقذفَ المحصنات، ولو كان عاقلاً لما فعل هذا، ولكنَّه يفكِّر بغريزته.
السَّير في خطِّ التَّقوى
لهذا، لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، أن لا نعيش حميَّة الجاهليَّة في كلِّ ما يحدث بيننا، بل لا بدَّ أن نعتمدَ على كلمة التَّقوى الَّتي تجعلنا نفكِّر تفكيراً عقلانيّاً إيمانيّاً هادئاً، حتَّى تنطلق الكلمة من موقع عقلٍ وتفكيرٍ، حتَّى لا يغلبنا الشَّيطان على إيماننا، ولا يغلبنا الآخرون على مبادئنا.
وقد عالجَ عليٌّ (ع) في "نهج البلاغة" مسألة العصبيَّة والحميَّة، فتعالوا في وقفةٍ قصيرةٍ سريعةٍ نقرأ ماذا قال عليٌّ (ع)، لأنَّ عليّاً هو إمامنا عندما عاش مرحلته، وهو إمامنا في الزَّمن كلّه، فإمامة عليّ (ع) عندنا هي الإمامة الَّتي لا تحجبها أيّ إمامة أخرى، وإمامة عليّ (ع) هي خطّ الإمامة في أولاده، وهي سبيلنا، لأنَّ عليّاً مع الحقّ، والحقّ مع عليّ، يدور معه حيثما دار، وعليكم أن تأخذوا الإسلام من القرآن، ومن رسول الله، ومن عليّ الَّذي يملك علم القرآن كلَّه، وعلمَ رسولِ الله في ذلك كلّه.
حديثُ عليٍّ (ع) عن العصبيَّة
كيف يتحدَّث عليّ (ع)؟ يتحدَّث عليّ (ع) وكأنَّه يخاطبنا الآن فيما نتحرَّك به من عصبيَّات في الهوامش من أمورنا، لأنَّنا نلتقي على القواعد الأصيلة في هذا.
يقول (ع): "ولقد نظرْتُ، فما وجدْتُ أحداً منَ العالَمين يتعصَّبُ لشيءٍ منَ الأشياءِ إلَّا عن علَّةٍ تحتملُ تمويهَ الجهلاءِ، أوْ حجَّةٍ تليقُ بعقولِ السُّفهاءِ، غَيْرَكُمْ". فكلُّ من يتعصَّب، يكونُ تعصّبه على أساس شبهةٍ هنا، أو نتيجة وضع معيَّن يبرِّر به تعصّبه.. وحتَّى العقلاء المنحرفون، عندما يتعصَّبون، يكون هناك أساسٌ للعصبيَّة عندهم، وإن كان الأساس خاطئاً. أمَّا أنتم، فلا يُعرَف سببٌ لتعصّبكم، "فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَلاَ عِلَّةٌ"، وليس لديكم حجَّة، لأنَّ ما تتعصَّبون له، لا ينطلقُ من أساسٍ يمكن أن يحرِّك الإنسانُ العصبيَّةَ من أجله.
"أَمَّا إِبْلِيسُ، فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ، وَطَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ، فَقَالَ: أَنَا نَارِيٌّ وَأَنْتَ طِينِيٌّ"، {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}[الأعراف: 12].
أمَّا أنتم، فعلى ماذا العصبيَّة؟ فالمفروض أنَّكم متَّفقون؛ كلُّكم مسلمون، كلُّكم مؤمنون، الخطُّ واحد، قد تحصل خلافات بسيطة من هنا أو هناك، ولكن ما دمتم قد التقيتم على الإسلام الَّذي يفرض منكم أن تكونوا قوَّة له، فلماذا يتعصَّب بعضكم على بعض؟
"وَأَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ، فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ: {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}"[سبأ: 35].
التعصُّبُ لمكارم الخصال
"فَإنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ"، فالعصبيَّة لا يمكن أن تكون أساساً لأيِّ شيء، لأنَّ العصبيَّة انغلاق، والإنسان الَّذي ينغلق على الآخر، هو إنسانٌ لا يستطيع أن يحاور الآخر أو يهديه. فإذا كان قلبك مغلقاً عن النَّاس، وكنت تتصوَّر أنَّ النَّاس الَّذين يخالفونك هم أعداؤك، فلن تستطيع أن تهديَ أحداً، وإنّما استطاعَ الأنبياءُ أن يهدوا النَّاس، لأنَّ قلوبهم كانت مفتوحةً لكلِّ النَّاس، مفتوحة للمؤمنين وللكافرين، لأنَّهم كانوا يريدون للكافرين أن يأتوا إليهم ليهدوهم ويُسمِعوهم كلمةَ الحقّ بقلوبٍ مفتوحةٍ.
لكن، إذا كنتم تعيشون حالةَ التَّعصّب، فاختاروا ما تتعصَّبون له، "فَإنْ كَانَ لا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ، فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ، وَمَحَامِدِ الْأَفْعَالِ، وَمَحَاسِنِ الْأُمُورِ، الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَالنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ، وَيَعَاسِيبِ الْقَبَائِلِ، بِالْأَخْلاَقِ الرَّغِيبَةِ، وَالْأَحْلاَمِ الْعَظِيمَةِ، وَالْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ، وَالْآثَارِ الَمحْمُودَةِ.
فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ؛ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ، وَالْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ، وَالطَّاعَةِ لِلْبِرِّ، وَالْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ، وَالْأَخْذِ بِالْفَضْلِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ، وَالْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ، والْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ، وَالْكَظْمِ لِلْغَيْظِ، وَاجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. واحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ، وَذَمِيمِ الْأَعْمَالِ، فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ"
، حتّى لا ينزل بكم ما نزل بهم.
اجتنابُ الفرقة
"فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ - في حالَتي الخيرِ والشّرّ - فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ حَالَهُمْ، وَزَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ – الزموا ما استطاعوا أن يهزموا به أعداءهم - وَمُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ، وَوَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الْاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ - فهم استطاعوا أن يحصلوا على العزَّة والقوَّة، لأنّهم اجتنبوا الفرقة في وحدتهم - وَاللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ، وَالتَّحَاضِّ عَلَيْهَا، وَالتَّوَاصِي بِهَا.
وَاجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ، وَأَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ، مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ، وَتَشَاحُنِ الصُّدُورِ، وتَدَابُرِ النُّفُوسِ، وَتَخَاذُلِ الْأَيْدِي، وَتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤمِنِينَ قَبْلَكُمْ، كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمحِيصِ وَالْبَلاَءِ
- الاختبار- أَلَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلاَئِقِ أَعْبَاءً؟ - كانت مسؤوليَّاتهم كبيرة - وَأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاَءً، وَأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالاً؟
اتَّخَذَتْهُمُ الْفَراعِنَةُ عَبِيداً
- كما يتَّخذنا المستكبرون الآنَ عبيداً - فَسَامُوهُم سُوءَ الْعَذَابِ، وَجَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ – كناية عن المشاكل - فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَقَهْرِ الْغَلَبَةِ - لأنَّهم استسلموا للمستكبرين، ولم يأخذوا بأسباب القوَّة - لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ، ولا سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ - كما يحدث لنا الآن عندما نواجه التحدّيات الاستكباريّة - حَتَّى إِذَا رَأَى اللهُ – من هؤلاء النَّاس المستضعفين - جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ - رآهم يصبرون على الأذى - وَالْاحْتِمالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ، جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلاَءِ فَرَجاً{وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}[الطّلاق: 2] - فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ، وَالْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ، فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً، وأَئِمَّةً أَعْلاَماً، وَبَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ.
فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً
– أي القوم المجتمعون المتكاتفون- والْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً – يأتلفون فيما يتحركون به في مقاصدهم - وَالْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً، وَالْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً، والسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً - ينصر بعضها بعضاً - والْبَصَائِرُ نَافِذَةً، وَالْعَزَائِمُ وَاحِدَةً، أَلَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً - يعني ملوكاً - فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ، وَمُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ؟! فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ، حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَتَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ، وَاخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَالْأَفْئِدَةُ، وَتَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ، وَتَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ، قَدْ خَلَعَ اللهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ، وَسَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ، وَبَقّى قَصَصَ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ" {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي ٱلْأَلْبَابِ}[يوسف: 111].
الاختلافُ ضمنَ الوحدة
أيُّها الأحبَّة، إنَّ الإيمان هو الَّذي يمنحنا الكثيرَ من استخدام العقل واستخدام الحكمة والتفكير، فإذا تنازعنا في شيء، فعلينا أن نردَّه إلى الله وإلى الرَّسول، وعلينا أن نفكِّر في أنَّ أيَّ خلاف وأيَّ نزاع ينطلق من اختلافٍ في اجتهاد، أو اختلافٍ في النَّظرة إلى الأمور، لا بدَّ أن لا يسيء إلى وحدة الكلمة؛ فالأمَّة واحدة، والاجتهادات متنوّعة، والأمَّة واحدة والآراء مختلفة، وحدة في التنوّع، وتنوّع في الوحدة.
قلتها أكثر من مرّة، علينا كما نتعلَّم كيف نتَّحد، أن نتعلَّم كيف نختلف، أن ندير خلافاتنا بالطَّريقة الَّتي لا تهدم الأرض، ولا تسقط المحبَّة، ولا تفرِّق الجمع.. ليعذر بعضنا بعضاً، ولينفتح بعضنا على بعض، الدِّين محبَّة، والإيمان محبَّة؛ محبَّة في العقل، ومحبَّة في القلب، ومحبَّة في حركة الإنسان، وذلك قول رسول الله (ص) الَّذي ينظر إلينا من وراء الغيب، ويريدنا متَّحدين متعاونين: "لا يؤمنُ أحدُكُم حتَّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسِهِ، ويكرهَ له ما يكرهُ لها".
{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران: 103].
أقولها من كلِّ قلب ينبضُ بالمحبَّة، وأقولها من كلِّ عقلٍ يرصدُ واقعنا، ليقول لكم بكلِّ حزن وبكلِّ ألم: يا أيُّها المسلمون، يا أيُّها المؤمنون، اتَّقوا الله في الإسلام كلِّه، واتَّقوا الله في المسلمين. لذلك، ينبغي أن لا نتكلَّم بكلمة، ولا نتحرَّك بحركة، إلَّا بأن ندرس ما هو رضا الله في ذلك، وما هو تقوى الله في ذلك.
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في الأوقات الصَّعبة، واتَّقوا الله في التحدّيات الكبرى، حيث ينطلق المستكبرونَ من أجلِ أن يخلطوا الأمور، وأن يربكوا القضايا، وأن يرسلوا التحدّيات، وأن يجعلونا مزقاً متناثرةً يحارب بعضنا بعضاً، ويقف بعضنا ضدَّ بعض. علينا أن نلتفت إلى أنَّ أعداء الله يحاولون أن يستفيدوا من كلِّ نقطة ضعف، إنَّهم يحاولون أن ينتجوا بيننا الحقدَ بدلاً من المحبَّة، والعداوة بدلاً من الصَّداقة، والفرقةَ بدلاً من الاجتماع، إنّهم يحاولون أن يستغلّوا كلَّ نقاط الضّعف فينا، وكلَّ ما نختلف فيه من الآراء والأفكار، سواء كانت أفكاراً دينيّة أو سياسيّة أو اجتماعيّة، أو كانت أوضاعاً اقتصاديَّة أو أمنيَّة، من أجل أن يدخلوا في ذلك ويتحركوا في ذلك، وهذا هو قول الله سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: 53].
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّنا في ساحة يتحرَّك فيها المستكبرون، من أجل أن ينهشوا هذا الجسد الإسلاميَّ، فهناك من ينهش يده، وهناك من ينهش قلبه، وهناك من ينهش رأسه... لذلك، علينا أن لا نستغرقَ في داخلِ خلافاتنا ومشاكلنا بحيث تحجبنا عن وضوح الرّؤية فيما يخطِّط لنا الآخرون، وفيما يدبِّر لنا الآخرون، أن لا نكون كالنَّعامة تدفن رأسها في الرّمال، كما ندفن رؤوسنا وعقولنا وقلوبنا في القضايا الهامشيَّة فيما بيننا، ونعمى عن الاستراتيجيَّات الاستكباريَّة الَّتي تريد أن تحطِّمنا، وأنْ تثيرَ الفرقةَ والعدواةَ فيما بيننا هنا وهناك.
أيُّها الأحبَّة، لا يجوزُ لمؤمنٍ أن يتكلَّمَ عن مؤمنٍ بأنَّه عدوُّه، وإلَّا كان مخالفاً لقول الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، ولا يجوزُ لمؤمنٍ أن يثير العداوة بين المؤمنين، وإلَّا كان مخالفاً لقول الله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}[الحجرات: 10].
إنَّنا نرى أعداء الله يتحركون من أجل أن يسقطوا الإسلام في عقيدته وفي أمَّته، فتعالوا لنرى ماذا هناك.
التّدخُّلُ الأمريكيُّ في العراق
في القضيَّة العراقيَّة الأمريكيَّة، لقد دخلَ كلينتون من جديدٍ على السَّاحة العراقيَّة، ليتمنَّى تحسّناً قريباً للظّروف المعيشيَّة للشَّعب العراقي، وليعلن دعمه لبعض قوى المعارضة العراقيَّة لإطاحة النظام العراقيّ، لأنَّ هذه القوى، كما يقول، ملتزمة بالقيم الديمقراطيَّة – ويقصد الأمريكيَّة - وحقوق الإنسان، ووحدة أراضي العراق مع جيرانه.
إنَّنا نتصوَّر أنَّ أمريكا ليست هي الَّتي تحدِّد هويَّة القوى الرافضة للنِّظام هناك، بل إنَّ الشَّعب هو الّذي يحدِّد القوى الصَّادقة المخلصة الَّتي قدَّمت عشرات الآلاف من الشّهداء في سبيل تحرير الشَّعب من النِّظام الطَّاغية، بل إنَّ حديث أمريكا عن أيِّ قوَّة معارضة، يدفع بالشّكّ في الخلفيَّة الأمريكيَّة الكامنة خلفها، وقد لا يكون ذلك صحيحاً.
إنَّ المشكلةَ في السياسةِ الأمريكيّة، بقدر ما يتَّصل الأمر بالعراق، هي أنَّها كانت وراء حمايةِ حاكمِ العراقِ ونظامِه عند الانتفاضة الشعبيَّة البطلة، وما زالت تهيّئ له سبل الحماية بطريقة وبأخرى، لأنَّ لها حاجةً في بقاء هذا النّظام للاستمرار في سياستها في المنطقة. ونحن نحذِّر الشَّعب العراقيّ والمعارضة العراقيَّة من هذا التدخّل الأمريكيّ الَّذي لم يرَ منه العراق إلَّا الدَّمار والخسارة والعذاب، وندعو الجميع إلى الالتفاف حول القيادة الإسلاميَّة المخلصة الَّتي أعطت العراق كلَّ تضحية وإخلاص.
كما أنّنا نتخوَّف من إمساك أمريكا بالملفِّ العراقيِّ، تماماً كما فعلت في فلسطين المحتلَّة، عندما جعلت المسألة بإشراف المخابرات المركزيّة الأمريكيّة، وأنتم تعرفون كيف تتحرَّك المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة لتدمير كلّ الشعوب المستضعفة، ونأمل أن تتحرَّك المعارضة لإعداد برنامج واقعيّ لإسقاط النّظام، وإبعاد البلاد عن الخطَّة الأمريكيَّة الجديدة القديمة في زيادة عذاب الشَّعب العراقي.
تنازلاتُ السُّلطةِ الفلسطينيَّة
وننتقلُ إلى فلسطين، لنستمعَ إلى رئيس سلطة الحكم الذّاتي، وهو يعرض تأخير إعلان الدَّولة الفلسطينيَّة، في مقابل وعدٍ أمريكيٍّ بالاعتراف بها في المستقبل.
ونحن نعرف أنَّ هذه السّلطة، ما زالت تقدِّم التَّنازلات من دون جدوى، لأنَّ اللُّعبة الأمريكيَّة الصهيونيّة، لا تزال تضغط لتحقيق الاستراتيجيّة الإسرائيليَّة في الاستيلاء على أكثر الأراضي الفلسطينيّة، فلا يبقى للفلسطينيّين إلَّا القليل تحت حكم الكيان الصهيوني، وعند ذلك، قد يسمح بإعلان الدولة الفلسطينيَّة الَّتي لا لون لها ولا طعم ولا رائحة، ليبقى للفلسطينيّين الاسم، ولليهود الأرض والمصير.
إنَّنا نعتقد أنَّ وحدةَ الشَّعب الفلسطيني وقدرته واندفاعه في خطِّ الانتفاضة، والدّفاع عن حقوقه في الأرض، هو الَّذي يمثِّل الولادة الحقيقيَّة للدَّولة، حتَّى من دون إعلان، بدلاً من أن يظلَّ الإعلان مجرَّد ورقةٍ في لعبةِ القمارِ السياسيّ كلّها.
هجمةٌ استكباريّةٌ على إيران
وليس بعيداً من ذلك، تتواصل اللُّعبة الأمريكيَّة الإسرائيليَّة في الضَّغط على روسيا، لمنعها من تقديم أيِّ مساعدة تكنولوجيَّة إلى إيران، تحت التَّهديد بمنع المساعدات عنها.. وها هو شارون، وزير خارجيَّة العدوّ، يزور روسيا، ليطالبها بوقف مساعداتها لإيران في تكنولوجيا الأسلحة النَّوويَّة والصَّاروخيَّة، وقد حصل على نفيٍ شديدٍ من نظيره الروسيّ لهذه المساعدة.
إنَّ على العرب والمسلمين أن يتابعوا هذا الدّخول الإسرائيليّ بعد أمريكا على خطِّ العلاقات بينَ إيران وجوارها، وإقناع روسيا بأنَّ مصلحتها الحقيقيَّة هي في إيجاد علاقات وثيقة مع إيران، الدَّولة الكبرى في المنطقة، ومع الدّول الإسلاميَّة هناك.
وبهذه المناسبة، فإنَّنا ندعو الشَّعب الإيراني المسلم، الَّذي يقف على أبواب الذكرى العشرين لانتصار الثَّورة، أن يتطلَّع إلى ما يحاك ضدَّه في الخارج، من الحصار الاقتصادي، ولا سيَّما في إسقاط سعر النّفط، والحصار السياسيّ، والحرب الإعلاميَّة والمخابراتيَّة، فيعمل على تأكيد وحدته وتضامنه مع قيادته، لأنَّ المرحلة لا تسمح بأيّ اهتزاز، ما يفرض على جميع القوى الشعبيّة والسياسيّة، أن ترتفع إلى مستوى التحدّيات الكبرى في هذه المرحلة. إنَّنا عندما ندرس حركة الإعلام الاستخباريّ في أيِّ مكان في العالم، فإنَّنا نرى أنهم يستغلّون بعض الثَّغرات الَّتي تحدث في أيِّ مكان في العالم، ولكنَّها عندما تحدث في إيران، فإنهم يضخِّمونها ويكبّرونها، من أجل أن يُشعِروا النّاس بأنَّ هناك اهتزازاً في إيران، وأنَّ هناك خطراً.
إنَّنا نعتقد أنَّ إيران وصلت إلى مرحلة من الرّشد والثَّبات، بحيث تحوَّلت إلى دولة مؤسَّسات، ولكنَّنا عندما نرى هجمة الاستكبار العالميّ عليها، فإنَّنا نريد للشَّعب قيادةً ومؤسَّسات، أن يعملوا على اليقظة والحذر من كلِّ هذه اللّعبة الاستكباريّة الجهنميَّة الَّتي سوف تفشل بإذن الله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ}[الأنفال: 30].
مأساةُ كوسوفو
وننتقل إلى كوسوفو، هذا الجرح النَّازف الَّذي يعيش فيه المسلمون تحت تأثير حرب الإبادة الصربيَّة، في ظلِّ ظروف اللّعبة الدَّوليّة الَّتي لا تزال تدير المسألة من خلال مصالح أوروبَّا وأمريكا، لا من خلال مصلحة الشَّعب المعذَّب هناك.
إنَّ على المسلمين، ولا سيَّما منظَّمة المؤتمر الإسلامي، أن يتدخَّلوا بقوَّة في سبيل مساعدة المسلمين هناك.
الدّاخل اللّبنانيّ
ونأتي إلى الدَّاخل اللَّبناني، الَّذي تراجع فيه الجدل التقليديّ في التجاذبات السياسيّة الداخليّة، فندعو إلى أن يتكامل الجميع للتَّفكير في أفضل الحلول للمشاكل الاقتصادية والمعيشيّة للشعب، وأن يقف اللّبنانيّون صفّاً واحداً من أجل إنجاح التجربة الجديدة، وإبعاد الحساسيات عن العلاقات السياسيَّة، لتكون اللّعبة، كما يعبِّرون، لمصلحة الوطن لا لمصلحة الأشخاص أو لمصلحة هذه الطَّائفة أو تلك، ويبقى الاحتلال الصّهيوني الهمَّ الكبير الَّذي ينبغي للجميع أن يرتفعوا إلى مستوى العمل في سبيل إزالته، وذلك بدعم المجاهدين في ضغطهم المستمرِّ على الاحتلال، لإجباره على الانسحاب من دون قيدٍ أو شرط.
 
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 22/ 1/ 1999م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية