وفيه مسائل:
ـ الولاية: (حق، يقتضي أولوية الأب أو الجد للأب أو من يقوم مقامهما، برعاية القاصر لصباً أو جنون أو سفه في العديد من أموره، حتى يبلغ درجة الأهلية)، وهي التي ذكرنا تفاصيلها في مباحث المدخل من الجزء الثاني من هذا الكتاب (فقه الشريعة)، والتي يظهر لمن يراجعها عناية الشريعة بكفالة القاصر وتعيين من يرعاه ويتولى تدبير شؤونه في صحته النفسية والجسدية وفي شتى أموره الدينية والدنيوية، وذلك حتى يبلغ عاقلاً رشيداً، وإلا استمرت ولايتهما عليه ما دام غير كامل العقل بالخلو من الجنون والسفه. وهذه الولاية الشاملة حق واجب للولد على أبيه أو جده لأبيه، لمكان تولده منهما وعيشه بينهما ولزوم قيامهما بمقتضيات حفظه التي لا تقف عند حدود طعامه ولباسه وسكنه، بل تشمل لزوم العناية به بشتى احتياجاته.
أما «الحَضانة» فهي في المصطلح الفقهي: (حق، يقتضي أولوية شخص بعينه، بأن يتواجد الولد عنده ويكون معه وفي «حضنه»، ليدبره في أموره العادية، من طعامه ولباسه ونومه ودفع الأذى عنه، ونحو ذلك من الأمور التي ترجع إلى «شخصه» بخاصة)، وهي نفسها بعض الأمور التي يتولاها الولي بحكم إشرافه على «جميـع» شـؤون الولـد، والتـي تتميـز بكونهـا ـ غالبـاً ـ في مرحلة الطفولة الأولى التي يحتاج الولد فيها إلى «حضن» يسكن فيه ويطمئن له. إن حق الحضانة هذا قد أعطته الشريعة للأم بكيفية خاصة، ربما لأنها أليق وأجدر بكفالة الولد ورعايته في فترة خاصة، هي مدة رضاعه وفترة صباه الأولى، في حين يبقى الولد في الدائرة العامة لولاية الولي خلال مدة الحضانة بتمامها، وبنحو لا يتعارض مع حق الأم في حضانته؛ كما أن الشريعة ميزت حق الحضانة عن حق الولاية، إذ إنه في بعض الموارد التي ستأتي تعطى الأم حق الحضانة لفترة أطول بسبب اختلال بعض الشروط المعتبرة في الحاضن رغم كونه ولياً، كما سيأتي. إن جميع ما يتعلق بالولاية قد بحثناه سابقاً في الجزء الثاني من فقه الشريعة في ص: 24، وما بعدها، فيما لا بد من تفصيل الأحكام المتعلقة بالحضانة ـ كحقٍ للولد على أبويه ـ في المسائل التالية، بما في ذلك ما يمكن أن يتقاطع منها مع حق الولاية.
ـ حيث يعيش الوالد والوالدة معاً في مسكن واحد فلا غرو أن الولد سيكون معهما وفي رعايتهما دون إشكال فيه، وأما حيث يفترقان بطلاق أو فسخ، مع اجتماع شروط الحضانة الآتية فيهما فإن الولد الذي لم يبلغ السنة السابعة هلالية يبقى مع والدته وفي حضانتها حتى يتم السنة السابعة من عمره على الأقرب، تسكنه حيث تسكن، وترعاه في أموره العادية التي ذكرناها في المسألة السابقة، دون أن ينازعها الوالد ـ ولا غيره ـ فيه من هذه الجهة، ذكراً كان الولد أو أنثى، ما لم تتزوج. فإنْ انقضت هذه المدة، أو تزوجت الأم خلالها، صارت الحضانة للوالد، وحينئذ يجوز له فصل الولد عن أمه أو إبقاؤه معها.
هذا إذا افترق الوالدان بطلاق أو فسخ خلال فترة السنوات السبع من عمر الولد، أي: خلال فترة الحضانة التي هي حق الأم، أما إذا حدث الفراق بموت الزوج خلال هذه الفترة ـ أو بعدها وبعد انتقال الحضانـة إلى الوالد ـ فإن الأم حينئذ أحق بحضانة الولد إلى أن يبلغ رشيداً، من وصي أبيه ومن جده أو جدته لأبيه أو غيرهما من أقاربه، سواءً تزوجت الأم بعد ذلك أو بقيت دون زواج؛ كذلك فإن الوالد أحق بالولد من سائر أقارب الأم ـ فضلاً عن وصيها ـ إذا ماتت الأم خلال فترة أحقيتها بالحضانة؛ وأما إذا ماتت الأم بعد موت الأب وبعد استقلالها بحضانة الولد فالحضانة لجد الولد لأبيه، فإن فقد فالحضانة لوصي الأب أو الجد للأب، فإن وجد الوصيان وتراضيا على أحدهما كان خيراً، وإن تنازعا أقرع بينهما؛ فإن فقد الوصيان، كانت الحضانة لسائر أقرباء الولد يترتبون في الأولوية حسب مراتبهم في الميراث، ومع التعدد والتساوي في المرتبة والتنازع على حضانته يقرع بينهم.
ـ يعتبر في من تكون له الحضانة من الأبوين وغيرهما توفر أمور:
الأول: العقل، فلا حضانة للمجنون خلال فترة جنونه.
الثاني: أن يكون مأموناً على القيام بشؤون الحضانة بالنحو الذي يحقق السلامة للولد في نفسه وفي جسده وفي دينه.
الثالث: أن يكون الحاضن مسلماً إذا كان الولد مسلماً، فإن كان أحد الأبوين مسلماً دون الآخر ألحق الولد بالمسلـم، وكانت الحضانـة لـه ـ مطلقـاً ـ دون الكافر، وكذا حكم الولد المحكوم بإسلامه في صورة ما لو كانت الحضانة لأحد أقربائه بعد فقد الأبوين.
الرابع: أن تكون الأم خلال مدة استقلالها بالحضانة ـ بعد طلاقها وحياة زوجها ـ غير متزوجة، فإن تزوجت سقط حقها في حضانته.
فإذا فقدت الأم شيئاً من هذه الصفات خلال فترة ثبوت حق الحضانة لها سقط حقها فيها، وانتقلت الحضانة إلى من بعدها حسب أولويته؛ وكذا لو فقدها الأب أو الجد للأب، فإن حقهما بالحضانة يسقط وينتقل إلى الأولى بها بعدهما، وذلك من دون أن تسقط ولايتهما على الولد فيما هما وليان عليه إن بقيت أهليتهما للولاية، ومثال ذلك ما لو سقطت حضانة الجد للأب لعدم كونه مأموناً على الولد بسبب كبر سنه وعجزه عن القيام بشؤونه، فإنه مع بقاء أهليته للولاية بالعقل والإسلام يبقى ولياً عليه رغم عدم حضانته له.
ـ لا يعتبر لثبوت الحضانة للأم كونها هي التي ترضعه، فلو لم تكن قادرة على إرضاعه، أو كانت قادرة فطلبت أجرة مع تبرع غيرها به، فاسترضع الوالد غيرها، بقي حقها في الحضانة كما لو كانت هي التي ترضعه، وذلك لعدم المنافاة بين ارتضاعه من امرأة وبين حضانة امرأة أخرى له إذا أمكن حمله إلى المرضعة أو احضار المرضعة عنده، فإن لم يمكن ذلك ـ لتباعد الأماكن أو حيلولة الموانع ـ قُدِّم ما يقتضيه الإرتضاع بمقدار الضرورة، وبقي حقُّ الأم في الحضانة قائماً، وكان لها العمل به بعد زوال المانع.
ـ إذا فقد الحاضن شيئاً من شروط الأهلية المعتبرة فيه، وسقط حقه في الحضانة، ثم وَجَدَ ما فَقَدَ وتَمَّتْ فيه الشروطُ، عادَ حقُّه فيها، وذلك كالأم المطلقة إذا تزوجت ثم فارقت زوجها الثاني وعادت خليَّة خلال السنين السبعة من عمر الولد؛ أو: كالأب يعرض عليه الجنون ثم يعقل بعد ذلك، أو يرتد ثم يتوب، أو نحو ذلك من الموانع الموجبة لسقوط حق الحضانة.
ـ لا يجب على من له حق الحضانة مباشرة الحضانة بنفسه، بل يجوز له إيكالها إلى غيره مع وثوقه بقيامه بها على الوجه المطلوب.
ـ الحضانة كما هي حق للوالدين أو غيرهما بالنحو الذي ذكرناه، فإنها حق للولد عليهم، فإذا امتنعوا عنها أجبروا عليها؛ غير أنه يحق لغير الولي ممن له حق الحضانة، كالأم وأبيها وأمها ونحوهم من أقارب الولد ـ ما عدا وليه، وهو أبوه وجده لأبيه ـ أن يأخذ أجرة على الحضانة من مال الولد إن كان له مال ولم يكن ثمة متبرع بها، فإن لم يكن له مال بَذَلَ الأجرة وليُّه من ماله، فإن لم يكن له ولي وجب على الأم ونحوها ممن تجب نفقته عليه حَضانَتُه مجاناً أو بذل الأجرة لمن يحضنه إن كان الحاضن غيرها؛ فإن وُجد متبرع سقط حق الحضانة عن طالب الأجرة، بل وكذا يسقط مع طلبه أجرة أزيد من غيره.
ـ حق الحضانة من الحقوق التي تقبل الإسقاط، فيسوغ لمن له الحق أن يتنازل عنه لغيره ممن يليه في سلسلة مراتب الأولوية من أقارب الطفل إذا كان جامعاً للشروط، دون الأجنبي، بعوضٍ كان تنازله عنه أو بدون عوض، فإذا قبل الآخرُ ثبت الحق له دون المتنازِل عنه، ولم يكن له الرجوع عنه، وإذا رجع عنه لم يرجع إليه؛ فإن كان الذي تنازل له غير جامع للشروط، أو كان ثمة من هو أولى منه، لم يصح التنازل ولم يسقط عنه الحق.
ـ حق الحضانة يقتضي سكن الولد مع من له حق حضانته، فلو كانت الحضانة للأم ساغ لها أن تسكنه حيث تسكن، وليس لوليه أن يلزمها بالسكن في موضع معين، ولو فرض عدم وجود مسكن للأم الحاضنة بعد طلاقها أو ترملها فليس لها أن تطالب الولي بتأمين مسكن لها لتحضن فيه ولدها، سواءً من ماله أو من مال الولد، ويكفي في مسكن الأم أن يكون لائقاً بها ولو بتبرع الغير به أو بسكنها مع زوجها إذا تزوجت بعد ترملها، أو نحو ذلك، فإن فقدت المسكن، أو وجدته ولكن لم يكن لائقاً ولا مناسباً لطفلها، بحيث لم تعد مأمونة على الولد، سقط حقها في حضانته حتى تجد المسكن المناسب.
هذا، وكما لا يسوغ للولي أن يتدخل في سكن الطفل ولا في غيره من شؤون حضانته في إطار ما هو عمل الحاضن ووظيفته التي ذكرناها، وذلك في كل مورد يكون الحاضن فيه غير الولي، فإنه لا يسوغ ـ أيضاً ـ أن يقوم الحاضن بشيء من أعمال الولي، من قبيل حفظ أمواله واستثمارها، وشؤون تأديبه وتوجيهه، ونحو ذلك مما هو من صلاحيات الولي؛ وعلى كل حال، فإنه ينبغي أن يتفاهم الولي مع من له حق الحضانة ـ وهو الأم غالبـاً ـ على كيفية القيام بشؤون الولد، وأن ينسقا العمل بينهما في الإتجاه الذي يحفظ حق كل منهما ويحقق مصلحة الولد.
ـ لا يقتضي حق الحضانة كون نفقة الولد خلال مدة حضانته على الحاضن إذا لم يكن هو الذي تجب نفقته عليه، فقد يكون الحاضن هو المنفق وقد يكون غيره، وتفصيل ذلك سيأتي في مبحث آخر. (أنظر المسألة: 838).
ـ إذا حُرم من له حق الحضانة من حضانة الولد في تمام المدة أو بعضها ـ ولو عدواناً ـ لم يكن على من حَرمَه تدارُك ما فات من حقه بقيمة أو نحوها.
ـ تنتهي الحضانة ببلوغ الولد رشيداً، فإذا بلغ رشيداً لم يكن لأحد حق الحضانة عليه، حتى الأبوين فضلاً عن غيرهما، بل يملك أمر نفسه ويتخير في الانضمام إلى من شاء منهما أو من غيرهما، سواءً في ذلك الذكر أو الأنثى؛ نعم إذا كان انفصاله عنهما موجباً لعيشه في حالةٍ مخالفةٍ لمقتضيات السعادة والعيش الطبيعي، بحيث تستدعي إشفاق الوالدين على ولدهما منها، فأمراه بالعيش معهما إشفاقاً عليه، وجب عليه طاعتهما في ذلك براً بهما ودفعاً لتأذيهما.