وفيه مسائل:
ـ يجب على الولد الذكر الإنفاق على والديه، ويجب على الوالد الإنفاق على أولاده الذكور والإناث، وهذا المقدار من حق الإنفاق على الأقارب لا إشكال في ثبوته بالشروط التي ستأتي، غير أن الأقرب ثبوت النفقة لغير هؤلاء من الأقارب ممن نذكرهم على النحو التالي:
أولاً: كما يجب على الولد الذكر الإنفـاق على أبويـه فإنـه ـ أيضـاً ـ يجب على الولد الأنثى أن تنفق على أبويها.
ثانياً: كما يجب على الولـد المباشـر ـ ذكـراً كـان أو أنثى ـ الإنفاق على الأبوين فإنه ـ أيضاً ـ يجب على الأحفاد والأسباط ذكوراً وإناثاً أن ينفقوا على الأجداد والجدات مهما علوا، من جانب الأب كانوا أو من جانب الأم، وذلك عند فقد الولد المباشر أو إعساره وعجزه عن الإنفاق.
ثالثاً: كما يجب على الوالد الإنفاق على أولاده الذكور والإناث فإنه يجب ـ أيضاً ـ على الجد للأب وإن علا أن ينفق على أحفاده وأسباطه ذكوراً وإناثاً مع فقد الوالد المباشر أو عجزه عن الإنفاق، فإن فُقد الأجداد للأب أو أعسروا وجب على الأم، ثم وجب على أبيها ثم على أمها، ثم على أبي أبيها، ثم على أم أبيها، وهكذا يُلحظ الأقرب منهم فالأقرب، بما في ذلك ما لو اجتمعت الأصول مع الفروع، فلو اجتمع واحد من الأصول كجده لأمه مع واحد من الفروع كابن إبنه، كان حفيدُه أقربَ من جده وأولى بالإنفاق عليه.
هذا، ولا يثبت حق الإنفاق بالقرابة لغير الآباء والأبناء من الأقرباء، كالإخوة والأخوات والأعمام والعمات، والأخوال والخالات، ولا لغيرهم من أبنائهم وبناتهم، وإن كان الإنفاق عليهم من خالص المال أمراً حسناً لما فيه من الوَصْلِ لهم والبرِّ بهم.
ـ إذا تعدد من يثبت عليه حق الإنفاق، كأن يكون للشخص المستحق للنفقة والد وولد، أو عدة أولاد، وجب على كل واحد منهم القيام بنفقته، فإن تصدى أحدهم وحقق له تمام كفايته سقط الوجوب عن الآخرين ما دام مكفياً، وإن حقق بعض كفايته، وجب على الجميع إكمال ما نقص عنه، بمن فيهم ذلك المتصدي.
ـ يشترط في وجوب الإنفاق على القريب فقره، بمعنى عدم وجدانه لما يحتاج إليه في معيشته فعلاً من طعام وكسوة وفراش وغطاء ومسكن ونحو ذلك، فلا يجب الإنفاق على الواجد لنفقته فعلاً وإن كان فقيراً شرعاً، أي: لا يملك مؤنة سنته؛ وأما غير الواجد لها فإن كان متمكناً من تحصيلها بالاستعطاء أو السؤال لم يمنع ذلك من وجوب الإنفاق عليه بلا إشكال، نعم لو استعطى فأُعطي مقدار نفقته الفعلية لم يجب على قريبه الإنفاق عليه، وهكذا الحال لو كان متمكناً من تحصيلها بالأخذ من حقوق الفقراء من الأخماس والزكوات والصدقات وغيرها، أو كان متمكناً من الاقتراض ولكن بحرج ومشقة أو مع احتمال عدم التمكن من وفائه فيما بعد احتمالاً معتدّاً به، فإن ذلك ـ أيضاً ـ لا يمنع من وجوب الإنفاق عليه إلا أن يجد ما ينفقه بإحدى هاتين الوسيلتين، وأما مع عدم المشقة في الاقتراض وتوفُّر فُرص الإيفاء فالظاهر عدم وجوب الإنفاق عليه.
ولو كان متمكناً من تحصيل نفقته بالإكتساب، فإن كان ذلك بالقدرة على تعلّم صنعة أو حرفة يفي مدخولها بنفقته ولكنه ترك التعلّم فبقي بلا نفقة، وجب على قريبه الإنفاق عليه ما لم يتعلّم، وهكذا الحال لو أمكنه الإكتساب بما يشق عليه تحمّله، كحمل الأثقال، أو بما لا يناسب شأنه، كبعض الأشغال التي لا تناسب بعض الأشخاص، ولم يكتسب لذلك، فإنه يجب على قريبه الإنفاق عليه.
وإن كان قادراً على الإكتساب بما يناسب حاله وشأنه، كالقوي القادر على حمل الأثقال، والوضيع اللائق بشأنه بعض الأشغال، ومن كان كسوباً وله بعض الأشغال والصنائع، وقد ترك ذلك طلباً للراحة، فالظاهر عدم وجوب الإنفاق عليه، نعم إذا مرت عليه أيام قد فاته فيها الإكتساب لو رَغِبَهُ، بحيث صار محتاجاً فيها فعلاً، وجب الإنفاق عليه فيها بخصوصها؛ كما يجب الإنفاق عليه في صورة ما لو ترك التكسب لاشتغاله بأمر يتنافى مع التكسب، كالمرابطة أو طلب العلم أو نحو ذلك.
ـ لا فرق فيما ذكرنا من عدم وجوب الإنفاق على القادر على التكسب بين الرجل والمرأة، فلو كانت المرأة قادرة على تحصيل نفقتها بالتكسب اللائق بها لم يجب على والدها أو ولدها الإنفاق عليها؛ نعم، لا يعد من القدرة على النفقة ما لو كانت قادرة على الزواج ممن يكفيها نفقتها، فلو لم تتزوج مَنْ هذه حالُها مع توفر الزواج اللائق بها لم تسقط نفقتها بامتناعها، ووجب على أقاربها الإنفاق عليها.
ـ لا يعتبر في المُنْفَق عليه من الأقرباء أن يكون مسلماً، ولا عادلاً، ولا ممن به علة كالعمى والشلل المُقعِد ونحوهما، نعم يعتبر في من عدا الأبوين أن لا يكون كافراً حربياً، والكافر الحربي هو: من يكون في حالة حرب مع المسلمين بالنحو المذكور في باب الجهاد.
ـ يعتبر في المُنْفِق توفر القدرة على الإنفاق على قريبه، وذلك بعد قيامه بنفقة نفسه وزوجته الدائمة بالنحو المناسب لاحتياجاته واللائق بشأنه، بما في ذلك ما يلزمه بذله في زواج نفسه ولو مع عدم اضطراره إليه، أو في إكرام ضيوفه وقضاء حوائج قاصديه، ونحو ذلك مما يعد من نفقته، ثم يَنْظُر ما يفضل عنه فيجب عليه إنفاقه في العاجز من أقربائه بقدر ما يسع منهم، فإن وسع جميع من تجب نفقته عليه منهم كان خيراً، وإن وسع بعضَهم قُدِّم الأقربُ فالأقرب، كالولد ـ مثلاً ـ فإنه مقدم على ولد الولد، فإن تساووا في درجة القرابة وزع الموجود عليهم بالسوية إن كان مما يقبل التوزيع ويبقى صالحاً للانتفاع، وإلا تخير في دفعه لمن يشاء منهم.
هذا، ولا يشترط في ثبوت النفقة كمال المُنْفِق بالبلوغ والعقل، فلو كان للصبي أو المجنون مال زائد عن نفقة نفسه وزوجته وجب على الولي بذله لمن تجب نفقته على ذلك الصبي أو المجنون.
ـ إذا لم يكن عنده ما ينفقه على قريبه، وكان متمكناً من تحصيله بالاكتساب اللائق بشأنه، وجب عليه ذلك، وإلا أخذ من الحقوق الشرعية من الخمس والزكاة وغيرهما لفقره، وإلا استدان مع القدرة، وذلك على نحو ما تقدم تفصيله في مبحث نفقة الزوجة. (أنظر المسألة: 738).
ـ يقتصر في النفة الواجبة على الأقارب على نفقة القريب نفسه، فلا تشمل نفقة من يعوله من أفراد أسرته، كزوجته وأولاده، إلا أن يجب على المنفق من جهة أخرى، فيجب ـ مثلاً ـ على الوالد أن ينفق على ولده دون زوجته، في حين يجب عليه ـ أيضاً ـ الإنفاق على أولاد ولده هذا، وذلك بناءً على ما تقدم من وجوب الإنفاق عليهم من حيث أنهم أحفاده، وبنحو مستقل عن إنفاقه على أبيهم أو عدم إنفاقه؛ كذلك فإن على الولد أن ينفق على والده دون أولاده، لأنهم إخوته، وهكذا.
ـ لا تقدير لنفقة القريب الواجب بذلها له، فيكفي بذل ما يقيم حياته من طعام وكسوة ومسكن وغيرها بالنحو المناسب لحاله وشأنه، كخادمه ودابة ركوبه ونفقات علاجه وسفره ونحو ذلك مما مر ذكره في نفقة الزوجة في المسألة (731)؛ نعم، لا يعد من النفقة الواجبة أداء ديونه، ولا دفع ما ثبت عليه من فدية أو كفارة أو دية جناية أو نحو ذلك، بل ولا بذل مصاريف زواجه من مهر وغيره، وإن كان ذلك هو الأحوط استحباباً، ولا سيما في الأب مع حاجته إلى الزواج وعدم قدرته على نفقاته.
ـ لا يجب في نفقة الأقارب تمليك القريب ما يحتاج إليه من أعيان تذهب بالاستعمال، كالطعام والشراب، ولا الأعيان التي لا تذهب بالاستعمال كالمسكن والأثاث واللباس، بل يكفي توفيرها عنده وبذلها له على نحو الانتفاع، كما أنه يكفي في مثل الطعام بذله في دار المنفِق إلا مع وجود عذر يمنع المُنفَق عليه من تناوله في دار المنفِق، كبعد المسافة، أو وجود من يتأذى منه، أو نحو ذلك، فيجب ـ حينئذ ـ حمله إليه.
ـ تسقط نفقة القريب المستحقة له الآن إذا أسقطها عن المنفق، وتبرأ ذمته منها ولا يحق للمنفق عليه المطالبة بها بعد ذلك، فيما لا تسقط نفقته المستقبلية لو أسقطها، فتبقى ذمة المنفق مشغولة بها، وللمنفَق عليه أن يطلبها منه بعد الإبراء.
ـ إذا عجز المنفق عن الإنفاق لم يجب عليه تدارك ما فات منه، وكذا لو امتنع عنه مع قدرته عليه، وإن أثم بذلك، وذلك بخلاف ما مر في نفقة الزوجة في المسألة (740)؛ غير أنَّ لمن له الحق إجبارَه عند امتناعه، ولو باللجوء إلى الحاكم وإن كان جائراً؛ فإن لم يمكن إجباره جاز له أن يأخذ من ماله بمقدار نفقته مقاصَّةً، ولكن بعد استئذان الحاكم الشرعي على الأحوط وجوباً، فإن لم يمكنه ذلك جاز له أن يستدين على ذمته بإذن الحاكم الشرعي، فتشتغل ذمته بما استدانه ويَلزَمُ الممتنعَ قضاؤه، فإن تعذر الحاكم الشرعي كفاه استئذان بعض عدول المؤمنين بالاستدانة على ذمته.
تتمة في الإنفاق على المضطر:
ـ إذا اضطر شخص إلى أكل طعام غيره لإنقاذ نفسه من الهلاك أو ما يشبهه كالعمى والشلل ونحوهما، فإن كان المالك حاضراً، ولم يكن مضطراً إليه لإنقاذ نفسه، وجب عليه بذله له وتمكينه منه، لكن يسوغ له طلب العوض دون أن يشترط عليه ما يعجز عنه، وإلا عد ممتنعاً؛ وأما إذا كان المالك غائباً حين اضطراره إليه، ولم يمكنه الإتصال به أو بوكيله لاستئذانه، جاز للمضطر ـ بل وجب عليه ـ أن يرفع اضطراره بالأكل من طعامه بعد تقدير ثمنه وجعله في ذمته، على أن لا يكون أقل من ثمن المثل.
هذا، ولا فرق في الحكم المتقدم بين ما لو كان المضطر مسلماً أو غير مسلم، فيشمل كل ذي نفس محترمة.
ـ إذا اضطر شخص لغير الطعام من أموال الغير، كالدواء أو السلاح أو الثياب أو نحو ذلك مما يتوقف عليه حفظ نفسه أو عرضه، وجب على المالك ـ مع حضوره ـ بذله لـه بعوض أو بدونـه، وجـاز للمضطـر ـ مع غياب المالك ـ التصرف في مال الغير بمقدار الضرورة مع ضمان العوض.