انفتح الإمام محمّد بن عليّ الجواد (ع) على خطِّ الإمامة مبكراً، بحيث يمكن أن يَصْدُق عليه ما صدق على يحيى (ع) في نبوّته {وآتَيْناهُ الحُكْمَ صبيّاً}[مريم: 12]، وعاش بعد وفاة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا (ع) مسؤوليَّة الإمامة، حيث يمكننا أن نسمّيه بـ"الإمام المعجزة"، لأنَّ إمامته انفتحت على كلِّ الواقع وهو بعدُ في سنِّ الصِّبا، حيث حيّر العقول بعلمه الوافر، وإجاباته عن أعقد المسائل، وقدرته على تبيان حكم الله في شريعته.
وقد استطاع (ع) منذ حداثة سنِّه، أن يُظهر ثبات الإمامة وصلابتها1...، ما دفع المأمون العباسي - وهو خليفة ذلك الوقت - لشدَّة إعجابه به وبعلمه وفضله، بالرّغم من صغر سنّه، إلى أن يزوّجه - بمبادرة منه لا من الإمام الجواد - ابنته "أمّ الفضل"، وهرع إليه العباسيون مخافة أن يولّيه ولاية العهد من بعده، كما ولّى أباه عليّ بن موسى الرضا (ع)، فتنتقل الخلافة من بني العبَّاس إلى أهل البيت (ع).
ولكنَّ المأمون صدّهم، وعبّر لهم عن تقديره له، بعدما اختبره ورأى أنَّه غزير العلم وصاحب فضل كبير، فأشاروا إلى أنَّه صغير السنّ، وقالوا: اتركه حتى يأخذ العلم كما يأخذه من كان في سنّه، فقال لهم: امتحنوه واختبروه، فعند الامتحان يُكرَم المرء أو يهان. فذهبوا إلى قاضي القضاة وهو "يحيى بن أكثم"، وطلبوا منه أن يختار من مسائله أصعب المسائل، حتى يُفحموا الإمام الجواد (ع)، فيقتنع المأمون بأنَّه يحتاج إلى المزيد من العلم قبل أن يُعطَى هذا الموقع الكبير.
وعقد المأمون اجتماعاً عامّاً، وأجلس الإمام في صدر المجلس، وجاء قاضي القضاة، ووجَّه إليه سؤالاً، في محرِم قَتَل صيداً، وبدأ الإمام (ع) يفرّع له السؤال، فتحوّل إلى عشرين مسألة، حتى حار قاضي القضاة ولم يعطِ جواباً، وبدأ الإمام يفصِّل تفصيلاً فقهيّاً كأفضل ما يتحدَّث به الفقهاء، حتى خشع قاضي القضاة له، ولم يستطع أن يجيب عن أسئلته، واقتنع الجمهور بأنَّ أهل هذا البيت زُقّوا العلم زقّاً، وأنَّ علمهم ليس من خلال مدرسة، كما قال ذلك الشَّاعر:
ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرائيل عن الباري
ويروي الرواة أنَّه أجاب، على صغر سنّه، عن ثلاثين ألف مسألة من المسائل الَّتي كانت تُقدَّم إليه، حتَّى قيل إنَّ عمّ أبيه، وهو "عليّ بن جعفر"، وكان كبير السنّ يبلغ الثَّمانين أو أكثر، كان يتواضع له، وقالوا له: إنَّك عمّ أبيه؟ فقال لهم: كيف أصنع، إنَّ الله لم يجعل لي هذه الشيبة - وأشار إلى شيبته - وجعلها لهذا الغلام، فتواضعي له إنما لأنَّ الله تعالى اختصَّه بالإمامة، ووهبه أعلى الصّفات التي تميّز الإنسان، و"قيمة كلّ امرئ ما يحسنه".
وعاش الإمام الجواد (ع) محلَّ تقدير المجتمع الإسلامي كله، ولا سيَّما بعد هذه المناظرة التي جُمعت فيها شخصيَّات الدولة، وواجه التحدّي بما أعطاه الله تعالى من العلم.
ونحن في إيماننا بأئمَّة أهل البيت (ع) الذين هم حجج الله على خلقه، نحتاج دائماً إلى أن نتعلَّم منهم، أن تكون علاقتنا بهم علاقة اقتداء واتّباع ووعي وثقافة، حتى نعيش في إمامتهم بعد وفاتهم كما عاش الأوَّلون إمامتهم في حياتهم .2
[1]من كتاب "في رحاب أهل البيت (ع)"، ج 2.
[2]من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 8 رجب 1421 هـ/ الموافق: ٦/١٠/٢٠٠٠ م.