الإمام الجواد (ع).. الذي سبق أهل العلم يافعاً

الإمام الجواد (ع).. الذي سبق أهل العلم يافعاً

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

من أئمة أهل هذا البيت، الإمام التاسع محمد بن علي الجواد (ع)، الذي يُصادف هذا اليوم - الثامن من رجب - يوم مولده. والإمام الجواد (ع) هو الإمام المعجزة، تسلّم الإمامة بعد وفاة أبيه علي بن موسى الرضا (ع) وهو لم يبلغ سنّ البلوغ، ولكن الإمام استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع الإسلامي، ما دفع المأمون العباسي - وهو خليفة ذلك الوقت - لشدّة إعجابه به وبعلمه وفضله بالرّغم من صغر سنه، إلى أن يزوّجه - بمبادرة منه لا من الإمام الجواد - ابنته "أمّ الفضل"، وهرع إليه العباسيون مخافة أن يولّيه ولاية العهد من بعده، كما ولّى أباه عليّ بن موسى الرضا (ع)، فتنتقل الخلافة من بني العباس إلى أهل البيت (ع).

ولكنّ المأمون صدّهم وعبّر لهم عن تقديره له، بعدما اختبره ورأى أنّه غزير العلم وصاحب فضل كبير، فأشاروا إلى أنّه صغير السنّ، وقالوا: اتركه حتى يأخذ العلم كما يأخذه من كان في سنّه، فقال لهم: امتحنوه واختبروه، فعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان، فذهبوا إلى قاضي القضاة وهو "يحيى بن أكثم"، وطلبوا منه أن يختار من مسائله أصعب المسائل حتى يُفحموا الإمام الجواد (ع)، فيقتنع المأمون بأنّه يحتاج إلى المزيد من العلم قبل أن يُعطى هذا الموقع الكبير.

وعقد المأمون اجتماعاً عامّاً وأجلس الإمام في صدر المجلس، وجاء قاضي القضاة ووجّه إليه سؤالاً، في محرِم قَتَل صيداً، وبدأ الإمام (ع) يفرِّع له السؤال، فتحوّل إلى عشرين مسألة، حتى حار قاضي القضاة ولم يعطِ جواباً، وبدأ الإمام يفصّل تفصيلاً فقهيّاً كأفضل ما يتحدّث به الفقهاء، حتى خشع قاضي القضاة له، ولم يستطع أن يجيب عن أسئلته، واقتنع الجمهور بأنّ أهل هذا البيت زُقّوا العلم زقّاً، وأنّ علمهم ليس من خلال مدرسة، كما قال ذلك الشّاعر:

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرائيل عن الباري

ويروي الرّواة أنّه أجاب على صغر سنّه عن ثلاثين ألف مسألة من المسائل التي كانت تُقدّم إليه، حتى قيل إنّ عمّ أبيه، وهو "عليّ بن جعفر"، وكان كبير السنّ يبلغ الثّمانين أو أكثر، كان يتواضع له، وقالوا له: إنّك عمّ أبيه؟ فقال لهم: كيف أصنع، إنّ الله لم يجعل لي هذه الشّيبة - وأشار إلى شيبته - وجعلها لهذا الغلام، فتواضعي له إنما لأنّ الله تعالى اختصه بالإمامة، ووهبه أعلى الصفات التي تميّز الإنسان، و"قيمة كلّ امرئ ما يحسنه".

وعاش الإمام الجواد (ع) محلّ تقدير المجتمع الإسلامي كلّه، ولا سيّما بعد هذه المناظرة التي جُمعت فيها شخصيّات الدّولة، وواجه التحدّي بما أعطاه الله تعالى من العلم. ونحن في إيماننا بأئمّة أهل البيت (ع) الذين هم حجج الله على خلقه، نحتاج دائماً إلى أن نتعلّم منهم، أن تكون علاقتنا بهم علاقة اقتداء واتّباع ووعي وثقافة، حتى نعيش في إمامتهم بعد وفاتهم، كما عاش الأوّلون إمامتهم في حياتهم.

فلنستمع إلى بعض ما قاله الإمام الجواد (ع) من بعض الحكم والوصايا، وقد نجد بعض كلماته في كلمات آبائه (ع)، وذلك لأنّ الجوهر واحد.

يقول الإمام الجواد (ع): "من أصغى إلى ناطق - بحيث استغرق في الاستماع إليه، فيدخل كلامه عقله وينفذ إلى قلبه، ويتحوَّل إلى موقف في مواقفه، هذا النّوع من الإصغاء الذي يؤدّي إلى الاستغراق في الكلمات، بحيث تدخل الكلمة إلى كيان الإنسان ووجوده - فقد عبده - لأن العبادة هي غاية الخضوع - فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله - إذا كان الناطق يحدّث عن كتاب الله وسنّة نبيّه وأوليائه، فإن الإنسان إذا اتجه إليه بهذه الروح العبادية، فإنّه يعبد الله، لأنه لا يستمع إليه من خلال ذاته وشخصه، ولكنه يستمع إليه من خلال كلمته، وإذا كانت كلمته كلمة الله، فإنه يعبد الله من خلال استغراقه فيه - وإن كان يؤدّي عن لسان الشيطان - كما في كثير من خطباء الشياطين الذين يضلّلون الناس ويبعدونهم عن الله - فقد عبد الشيطان". وكأن الإمام (ع) يريد أن يقول لك: حدِّد موقفك في الإصغاء إلى أيّ خطيب أو متكلّم بأن تدرس خلفياته؛ هل هو من أولياء الله أو من أولياء الشّيطان، فإن كان من أولياء الله فأقبل عليه بعقلك وقلبك، لأن الإقبال سوف يكون لله، وإن كان من أولياء الشيطان فإنك بذلك تعبد الشيطان.

ويقول (ع): "المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله - بأن يجعله الله موضع رعايته ومحلّ لطفه، ليوفّقه في الانفتاح على الخطّ المستقيم - وواعظ من نفسه - أن يأخذ الموعظة من نفسه فيما تواجه نفسه من العبر التي تمرّ بها في الحياة من خلال أكثر من تجربة وعبرة، وقد ورد: "من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ" - وقبول ممن ينصحه". فعلى المؤمن أن يستمع إلى النصيحة من الناصح بكلّ عقله وقلبه، ولا يعيش كبرياء الذات، كالذين يفكّرون دائماً أنهم هم الذين ينصحون الناس، وليس من حق أحد أن ينصحهم، بل ينبغي للإنسان أن يستنصح الناس، وإذا جاءه من ينصحه، فعليه أن يستمع إليه بعقله وقلبه، فقد يكون في النصيحة كل الخير له في الدنيا والآخرة.

وفي الحديث عن الإمام الجواد (ع) أنّه قال: "من أطاع هواه، أعطى عدوّه مناه". والعدو هو الشيطان الذي يزيّن للإنسان الهوى، ويعزله عن عقله وإيمانه، والله تعالى حدَّثنا أن طريق الجنة هي في مخالفة الهوى المحرَّم الذي لا يرضاه الله: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}. أمّا الشخص الذي يتبع هواه، فإذا الريح مالت مال حيث تميل: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}.. وقد حدّثنا الله تعالى عن بعض النّاس الذين يعبدون هوى أنفسهم من دون الله، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، وذلك بأن يعبد هوى نفسه ويستغرق فيه ويطيعه على حساب طاعة الله..

ويقول الإمام الجواد (ع): "كيف يضيع من الله كافله - والله تعالى قد تكفّل بمن توكّل عليه وأرجع أمره إليه ومن يخلص له، ولذلك لا بدّ أن نثق بالله - وكيف ينجو من الله طالبه"، فالشخص الذي يريده الله أين يذهب؟ هل يصعد إلى السماء أو ينزل إلى الأرض؟ ويقول الإمام زين العابدين (ع) في دعاء ليلة عرفة والجمعة: "وقد علمت أنّه ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، إنما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضعيف". ويقول تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}، { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.

ويقول (ع): "من انقطع إلى غير الله، وكله الله إليه". فهذه دروس روحيّة تجعل الإنسان متوازناً في حياته. ألم يقل الكثير من النّاس في زماننا، أنا متوكّل على فلان، على الحزب الفلاني، على المنظّمة الفلانية، والبعض الآخر يجعلها في سياق أنيق ومرتّب، كأن يقول: أنا أتّكل على الله وعليك؟! يعني أنّه جعل لله شريكاً، حيث لا بدّ أن تتوكّل على الله، لأنه وحده سبحانه وتعالى من يسخّر الناس لبعضهم البعض.

يجب أن نتعلّم التوحيد، أيّها الأحبة، فلا ندعو مع الله أحداً، فالأنبياء والأولياء هم عباد الله، وكذلك الأئمّة (ع)، ولذلك نرى أنّ الإمام زين العابدين (ع) يقول: "اللّهُمَّ إنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْـكَ، وَصَـرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأيِهِ، وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ، فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَـا إلهِيْ مِنْ أُناس طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا، فَصحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِياره".

وهكذا يتحدث الإمام (ع) عن حالة موجودة في المجتمع، قد تكون إنساناً أصيلاً، قد تكون إنساناً حراً، قد تكون إنساناً مؤمناً، ولكنّ ذلك لا يعجب الظالمين، ولا يرضون عنك، سواء كانوا من الظّالمين الكبار أو الصّغار. وفي هذه الحال، عليك أن تسأل: هل هؤلاء من العادلين أم من الظالمين؟ فالإمام (ع) يقول إنّ هذا الإنسان غير الراضي عليك، إذا كان من أهل الجور والظلم فلا يضرّك، ولا يضرّك سخط من رضاه الجور، من يرضى بالظلم ولا يرضى بالعدل، لا يرتاح إذا كنت عادلاً مع الله وعادلاً مع نفسك وعادلاً مع الناس.

ثم يقول الإمام (ع): "لا تكن وليّاً لله في العلانية، وعدواً له في السّرّ". في الظاهر تدخل المساجد وتذهب إلى الحجّ، وتصوم شهر رمضان، ولكن إذا انفتح لك باب من الحرام سراً، فإنّك تسرق وتخون وتزني وما إلى ذلك، فالحساب مع الله غير الحساب مع النّاس، حيث {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، كما يحدّثنا الله أن الناس يوم القيامة يحلفون له كما يحلفون لكم، لهذا نريد دائماً أن ننظر إلى الله سبحانه وتعالى.

وفي هذا الإطار، نتعرّض لقضيتين: الأولى، عندما تزوّج الإمام (ع) أمّ الفضل بنت المأمون، جاء أحد أصحابه، وهو أبو هاشم الجعفري، قال: "يا مولاي، عظمت علينا بركات هذا اليوم"، أي أنّ منـزلة هذا اليوم رفيعة، حيث كرّمك المأمون وأعطاك ابنته بمبادرة منه.

الإمام (ع) هنا أراد أن ينبّهه إلى أن البركة لا تأتي من اليوم، وإنما تأتي من الله في هذا اليوم، فقال الإمام: "يا أبا هاشم، ليس بركة اليوم، عظمت بركة الله علينا فيه"، اليوم هو قطعة زمنيّة لا تعطي البركة، لكن الله سبحانه وتعالى هو الّذي يعطي في هذا اليوم بركاته، وقد يعطي هذه البركات في يوم آخر.

فإذا أردت أن تتحدّث عن البركة، فلا تتحدّث عن بركة اليوم، فيما حصلت عليه من خير، ولكن تحدّث عن بركة الله عليك في ذلك. "قلت: نعم يا مولاي، فما أقول في اليوم؟ قال: قل فيه خيراً"، الله أعطاني كذا، اطلب من الله أن يعطيك في هذا اليوم فإنّه يصيبك.

"فقلت يا مولاي، أفعل هذا ولا أخالف"، لقد تعلمت منك درساً، قال: "إذاً ترشد ولا ترى إلا خيراً".

والقضيّة الثّانية هي أنه جاء في رواية ثانية تنقل عن الإمام الجواد (ع)، أنه أرسل إليه قماش له قيمة كبيرة من قبل بعض النّاس، فسلب في الطريق، فكتب إليه الذي حمل القماش يعرّفه الخبر، وهنا أراد الإمام (ع) أن يعطيه درساً يحسن التصرّف فيه، فوقّع (ع) بخطه، "فإنّ أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة - الله أعطانا أنفسنا، وأعطانا أموالنا - وعواريه المستودعة، يمتّع بما متّع منها في سرور وغبطة، ويأخذ ما أخذ منها في أجر وحسبة - الله يؤجرنا على ما خسرناه - فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره"، أي لا ينبغي للإنسان أن يجزع على مال أو رزق، لا ينبغي القيام بأيّ عمل غير طبيعي في هذه الحالة، كأن ينتحر نفسياً أو جسدياً، أو ما إلى ذلك.

يقول الإمام (ع): تقبّل الخسارة بصدر رحب، واعتبر أنّه مثلما وهبنا الله هذه النّعمة، فقد أخذها منا، ولا مشكلة في هذا الموضوع.

وفي ختام الحديث، هناك كلمة للإمام الجواد (ع): "كفى للمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة"، يعني أنت الآن ما يجعلك في الموقع الكبير من الخيانة، أن تعرف أناساً خونة يسرقون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل، ويخونونهم في كلّ قضاياهم، وتكون أميناً لهم تدافع عنهم وتحفظ سرهم وما إلى ذلك، ربما لم تخن، ولكنّك كنت أمين الخونة، والله لا يريد لنا أن نكون أمناء للخونة وللظالمين وللمجرمين.

أيها الأحبّة، هؤلاء أئمة أهل البيت (ع)، هؤلاء الذين يرفعوننا إلى المستوى الأعلى في إنسانيّتنا، وفي التزامنا، وفي إيماننا، لذلك تمسّكوا بهم، "إني تارك فيكم الثّقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

تعالوا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه (ص) وتراث أوليائه، حتى نعيش حياتنا في طريق الله، ونحصل على السّعادة بين يديه.

*من أرشيف خطب الجمعة / الخطبة الدينيّة 6-10-2000.

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.

من أئمة أهل هذا البيت، الإمام التاسع محمد بن علي الجواد (ع)، الذي يُصادف هذا اليوم - الثامن من رجب - يوم مولده. والإمام الجواد (ع) هو الإمام المعجزة، تسلّم الإمامة بعد وفاة أبيه علي بن موسى الرضا (ع) وهو لم يبلغ سنّ البلوغ، ولكن الإمام استطاع أن يفرض نفسه على المجتمع الإسلامي، ما دفع المأمون العباسي - وهو خليفة ذلك الوقت - لشدّة إعجابه به وبعلمه وفضله بالرّغم من صغر سنه، إلى أن يزوّجه - بمبادرة منه لا من الإمام الجواد - ابنته "أمّ الفضل"، وهرع إليه العباسيون مخافة أن يولّيه ولاية العهد من بعده، كما ولّى أباه عليّ بن موسى الرضا (ع)، فتنتقل الخلافة من بني العباس إلى أهل البيت (ع).

ولكنّ المأمون صدّهم وعبّر لهم عن تقديره له، بعدما اختبره ورأى أنّه غزير العلم وصاحب فضل كبير، فأشاروا إلى أنّه صغير السنّ، وقالوا: اتركه حتى يأخذ العلم كما يأخذه من كان في سنّه، فقال لهم: امتحنوه واختبروه، فعند الامتحان يُكرم المرء أو يهان، فذهبوا إلى قاضي القضاة وهو "يحيى بن أكثم"، وطلبوا منه أن يختار من مسائله أصعب المسائل حتى يُفحموا الإمام الجواد (ع)، فيقتنع المأمون بأنّه يحتاج إلى المزيد من العلم قبل أن يُعطى هذا الموقع الكبير.

وعقد المأمون اجتماعاً عامّاً وأجلس الإمام في صدر المجلس، وجاء قاضي القضاة ووجّه إليه سؤالاً، في محرِم قَتَل صيداً، وبدأ الإمام (ع) يفرِّع له السؤال، فتحوّل إلى عشرين مسألة، حتى حار قاضي القضاة ولم يعطِ جواباً، وبدأ الإمام يفصّل تفصيلاً فقهيّاً كأفضل ما يتحدّث به الفقهاء، حتى خشع قاضي القضاة له، ولم يستطع أن يجيب عن أسئلته، واقتنع الجمهور بأنّ أهل هذا البيت زُقّوا العلم زقّاً، وأنّ علمهم ليس من خلال مدرسة، كما قال ذلك الشّاعر:

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم روى جدّنا عن جبرائيل عن الباري

ويروي الرّواة أنّه أجاب على صغر سنّه عن ثلاثين ألف مسألة من المسائل التي كانت تُقدّم إليه، حتى قيل إنّ عمّ أبيه، وهو "عليّ بن جعفر"، وكان كبير السنّ يبلغ الثّمانين أو أكثر، كان يتواضع له، وقالوا له: إنّك عمّ أبيه؟ فقال لهم: كيف أصنع، إنّ الله لم يجعل لي هذه الشّيبة - وأشار إلى شيبته - وجعلها لهذا الغلام، فتواضعي له إنما لأنّ الله تعالى اختصه بالإمامة، ووهبه أعلى الصفات التي تميّز الإنسان، و"قيمة كلّ امرئ ما يحسنه".

وعاش الإمام الجواد (ع) محلّ تقدير المجتمع الإسلامي كلّه، ولا سيّما بعد هذه المناظرة التي جُمعت فيها شخصيّات الدّولة، وواجه التحدّي بما أعطاه الله تعالى من العلم. ونحن في إيماننا بأئمّة أهل البيت (ع) الذين هم حجج الله على خلقه، نحتاج دائماً إلى أن نتعلّم منهم، أن تكون علاقتنا بهم علاقة اقتداء واتّباع ووعي وثقافة، حتى نعيش في إمامتهم بعد وفاتهم، كما عاش الأوّلون إمامتهم في حياتهم.

فلنستمع إلى بعض ما قاله الإمام الجواد (ع) من بعض الحكم والوصايا، وقد نجد بعض كلماته في كلمات آبائه (ع)، وذلك لأنّ الجوهر واحد.

يقول الإمام الجواد (ع): "من أصغى إلى ناطق - بحيث استغرق في الاستماع إليه، فيدخل كلامه عقله وينفذ إلى قلبه، ويتحوَّل إلى موقف في مواقفه، هذا النّوع من الإصغاء الذي يؤدّي إلى الاستغراق في الكلمات، بحيث تدخل الكلمة إلى كيان الإنسان ووجوده - فقد عبده - لأن العبادة هي غاية الخضوع - فإن كان الناطق يؤدي عن الله فقد عبد الله - إذا كان الناطق يحدّث عن كتاب الله وسنّة نبيّه وأوليائه، فإن الإنسان إذا اتجه إليه بهذه الروح العبادية، فإنّه يعبد الله، لأنه لا يستمع إليه من خلال ذاته وشخصه، ولكنه يستمع إليه من خلال كلمته، وإذا كانت كلمته كلمة الله، فإنه يعبد الله من خلال استغراقه فيه - وإن كان يؤدّي عن لسان الشيطان - كما في كثير من خطباء الشياطين الذين يضلّلون الناس ويبعدونهم عن الله - فقد عبد الشيطان". وكأن الإمام (ع) يريد أن يقول لك: حدِّد موقفك في الإصغاء إلى أيّ خطيب أو متكلّم بأن تدرس خلفياته؛ هل هو من أولياء الله أو من أولياء الشّيطان، فإن كان من أولياء الله فأقبل عليه بعقلك وقلبك، لأن الإقبال سوف يكون لله، وإن كان من أولياء الشيطان فإنك بذلك تعبد الشيطان.

ويقول (ع): "المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله - بأن يجعله الله موضع رعايته ومحلّ لطفه، ليوفّقه في الانفتاح على الخطّ المستقيم - وواعظ من نفسه - أن يأخذ الموعظة من نفسه فيما تواجه نفسه من العبر التي تمرّ بها في الحياة من خلال أكثر من تجربة وعبرة، وقد ورد: "من لم يكن له من نفسه واعظ، لم تنفعه المواعظ" - وقبول ممن ينصحه". فعلى المؤمن أن يستمع إلى النصيحة من الناصح بكلّ عقله وقلبه، ولا يعيش كبرياء الذات، كالذين يفكّرون دائماً أنهم هم الذين ينصحون الناس، وليس من حق أحد أن ينصحهم، بل ينبغي للإنسان أن يستنصح الناس، وإذا جاءه من ينصحه، فعليه أن يستمع إليه بعقله وقلبه، فقد يكون في النصيحة كل الخير له في الدنيا والآخرة.

وفي الحديث عن الإمام الجواد (ع) أنّه قال: "من أطاع هواه، أعطى عدوّه مناه". والعدو هو الشيطان الذي يزيّن للإنسان الهوى، ويعزله عن عقله وإيمانه، والله تعالى حدَّثنا أن طريق الجنة هي في مخالفة الهوى المحرَّم الذي لا يرضاه الله: { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}. أمّا الشخص الذي يتبع هواه، فإذا الريح مالت مال حيث تميل: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}.. وقد حدّثنا الله تعالى عن بعض النّاس الذين يعبدون هوى أنفسهم من دون الله، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ}، وذلك بأن يعبد هوى نفسه ويستغرق فيه ويطيعه على حساب طاعة الله..

ويقول الإمام الجواد (ع): "كيف يضيع من الله كافله - والله تعالى قد تكفّل بمن توكّل عليه وأرجع أمره إليه ومن يخلص له، ولذلك لا بدّ أن نثق بالله - وكيف ينجو من الله طالبه"، فالشخص الذي يريده الله أين يذهب؟ هل يصعد إلى السماء أو ينزل إلى الأرض؟ ويقول الإمام زين العابدين (ع) في دعاء ليلة عرفة والجمعة: "وقد علمت أنّه ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، إنما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضعيف". ويقول تعالى: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}، { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.

ويقول (ع): "من انقطع إلى غير الله، وكله الله إليه". فهذه دروس روحيّة تجعل الإنسان متوازناً في حياته. ألم يقل الكثير من النّاس في زماننا، أنا متوكّل على فلان، على الحزب الفلاني، على المنظّمة الفلانية، والبعض الآخر يجعلها في سياق أنيق ومرتّب، كأن يقول: أنا أتّكل على الله وعليك؟! يعني أنّه جعل لله شريكاً، حيث لا بدّ أن تتوكّل على الله، لأنه وحده سبحانه وتعالى من يسخّر الناس لبعضهم البعض.

يجب أن نتعلّم التوحيد، أيّها الأحبة، فلا ندعو مع الله أحداً، فالأنبياء والأولياء هم عباد الله، وكذلك الأئمّة (ع)، ولذلك نرى أنّ الإمام زين العابدين (ع) يقول: "اللّهُمَّ إنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْـكَ، وَصَـرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأيِهِ، وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ، فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَـا إلهِيْ مِنْ أُناس طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا، فَصحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِياره".

وهكذا يتحدث الإمام (ع) عن حالة موجودة في المجتمع، قد تكون إنساناً أصيلاً، قد تكون إنساناً حراً، قد تكون إنساناً مؤمناً، ولكنّ ذلك لا يعجب الظالمين، ولا يرضون عنك، سواء كانوا من الظّالمين الكبار أو الصّغار. وفي هذه الحال، عليك أن تسأل: هل هؤلاء من العادلين أم من الظالمين؟ فالإمام (ع) يقول إنّ هذا الإنسان غير الراضي عليك، إذا كان من أهل الجور والظلم فلا يضرّك، ولا يضرّك سخط من رضاه الجور، من يرضى بالظلم ولا يرضى بالعدل، لا يرتاح إذا كنت عادلاً مع الله وعادلاً مع نفسك وعادلاً مع الناس.

ثم يقول الإمام (ع): "لا تكن وليّاً لله في العلانية، وعدواً له في السّرّ". في الظاهر تدخل المساجد وتذهب إلى الحجّ، وتصوم شهر رمضان، ولكن إذا انفتح لك باب من الحرام سراً، فإنّك تسرق وتخون وتزني وما إلى ذلك، فالحساب مع الله غير الحساب مع النّاس، حيث {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}، كما يحدّثنا الله أن الناس يوم القيامة يحلفون له كما يحلفون لكم، لهذا نريد دائماً أن ننظر إلى الله سبحانه وتعالى.

وفي هذا الإطار، نتعرّض لقضيتين: الأولى، عندما تزوّج الإمام (ع) أمّ الفضل بنت المأمون، جاء أحد أصحابه، وهو أبو هاشم الجعفري، قال: "يا مولاي، عظمت علينا بركات هذا اليوم"، أي أنّ منـزلة هذا اليوم رفيعة، حيث كرّمك المأمون وأعطاك ابنته بمبادرة منه.

الإمام (ع) هنا أراد أن ينبّهه إلى أن البركة لا تأتي من اليوم، وإنما تأتي من الله في هذا اليوم، فقال الإمام: "يا أبا هاشم، ليس بركة اليوم، عظمت بركة الله علينا فيه"، اليوم هو قطعة زمنيّة لا تعطي البركة، لكن الله سبحانه وتعالى هو الّذي يعطي في هذا اليوم بركاته، وقد يعطي هذه البركات في يوم آخر.

فإذا أردت أن تتحدّث عن البركة، فلا تتحدّث عن بركة اليوم، فيما حصلت عليه من خير، ولكن تحدّث عن بركة الله عليك في ذلك. "قلت: نعم يا مولاي، فما أقول في اليوم؟ قال: قل فيه خيراً"، الله أعطاني كذا، اطلب من الله أن يعطيك في هذا اليوم فإنّه يصيبك.

"فقلت يا مولاي، أفعل هذا ولا أخالف"، لقد تعلمت منك درساً، قال: "إذاً ترشد ولا ترى إلا خيراً".

والقضيّة الثّانية هي أنه جاء في رواية ثانية تنقل عن الإمام الجواد (ع)، أنه أرسل إليه قماش له قيمة كبيرة من قبل بعض النّاس، فسلب في الطريق، فكتب إليه الذي حمل القماش يعرّفه الخبر، وهنا أراد الإمام (ع) أن يعطيه درساً يحسن التصرّف فيه، فوقّع (ع) بخطه، "فإنّ أنفسنا وأموالنا من مواهب الله الهنيئة - الله أعطانا أنفسنا، وأعطانا أموالنا - وعواريه المستودعة، يمتّع بما متّع منها في سرور وغبطة، ويأخذ ما أخذ منها في أجر وحسبة - الله يؤجرنا على ما خسرناه - فمن غلب جزعه على صبره حبط أجره"، أي لا ينبغي للإنسان أن يجزع على مال أو رزق، لا ينبغي القيام بأيّ عمل غير طبيعي في هذه الحالة، كأن ينتحر نفسياً أو جسدياً، أو ما إلى ذلك.

يقول الإمام (ع): تقبّل الخسارة بصدر رحب، واعتبر أنّه مثلما وهبنا الله هذه النّعمة، فقد أخذها منا، ولا مشكلة في هذا الموضوع.

وفي ختام الحديث، هناك كلمة للإمام الجواد (ع): "كفى للمرء خيانةً أن يكون أميناً للخونة"، يعني أنت الآن ما يجعلك في الموقع الكبير من الخيانة، أن تعرف أناساً خونة يسرقون الناس ويأكلون أموالهم بالباطل، ويخونونهم في كلّ قضاياهم، وتكون أميناً لهم تدافع عنهم وتحفظ سرهم وما إلى ذلك، ربما لم تخن، ولكنّك كنت أمين الخونة، والله لا يريد لنا أن نكون أمناء للخونة وللظالمين وللمجرمين.

أيها الأحبّة، هؤلاء أئمة أهل البيت (ع)، هؤلاء الذين يرفعوننا إلى المستوى الأعلى في إنسانيّتنا، وفي التزامنا، وفي إيماننا، لذلك تمسّكوا بهم، "إني تارك فيكم الثّقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً؛ كتاب الله حبل ممدود من السّماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض".

تعالوا إلى كتاب الله وسنّة نبيّه (ص) وتراث أوليائه، حتى نعيش حياتنا في طريق الله، ونحصل على السّعادة بين يديه.

*من أرشيف خطب الجمعة / الخطبة الدينيّة 6-10-2000.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية