نلتقي خلال هذين اليومين بذكرى مولد الإمام محمد الباقر(ع). ونحن في لقائنا بأيّ إمام من أئمّة أهل البيت(ع) في حركة التأريخ، لا بدّ لنا من أن نحرّك تاريخهم، لا من جهة أننا نريد أن نغيب في الماضي لنستغرق فيه، فنحن قوم مسؤولون عن الحاضر وعن المستقبل، بمقدار ما نستطيع أن نتحمّل مسؤوليّة ما نصنعه من المستقبل، ولكنّ قصّة أهل البيت(ع) هي قصّة الإسلام، والإسلام ليس شيئاً يتأطَّر في التاريخ، ولكنّه ينفتح على الحياة كلّها، لأنّ الإسلام هو الرسالة التي أراد الله أن يحيينا بها، وأن يعطي الحياة لكلّ جيل بحسب ما تحتاجه الحياة في عناصرها كلّها، إن في الجانب الفكري أو في الجانب العملي. ولذلك، فإنّ استعادتنا لذكرى أهل البيت(ع)، هي استعادة لحركيّة الإسلام في حركتهم، من خلال المفاهيم الّتي طرحوها، مما لا يختلف فيه زمان عن زمان، ولا مكان عن مكان.
إغناء الواقع الإسلاميّ
والإمام الباقر(ع) هو الَّذي استطاع أن يغني الواقع الإسلاميّ في العمق وفي الامتداد، ذلك أنّ الظروف السياسيّة كانت تضغط بين وقت وآخر على هذا الإمام أو ذاك، فتمنعه من أن يبلّغ رسالته كاملة غير منقوصة، بفعل الاضطهاد الجسدي، والاضطهاد المعنوي، ومصادرة الحريات، وما إلى ذلك، ما منع بعض الأئمة(ع) من أن يزيدوا في عطائهم الإسلامي، فيما يتضمَّنه الإسلام من عقائد وقضايا ومفاهيم ومناهج ووسائل وأهداف، فقد كانت مشكلتهم مع أكثر من حاكم في تلك المراحل، هي أنَّ هؤلاء الحاكمين كانوا يعرفون ما يملكه أئمَّة أهل البيت(ع) من غنى الفكر والرّوح والحركة، مما لو اطّلع النّاس عليه، لأقبلوا عليهم كما يقبل الظّامئ على الماء.
ولذلك، كانوا كالكثير من الحكّام في الماضي والحاضر، الذين يمنعون الإنسان من أن يفكّر بحريّة، ويمنعون المفكّر من أن يعلن عن فكره بحريّة، فهم يحاصرون الحريّة لأنهم يخافون منها ومن الفكر عندما يعبّر عن نفسه في مستوى قضايا الناس في العدالة والقوّة وما إلى ذلك؛ إنهم يخافون من الناس فيحاصرونهم، وهذه هي مسألة كلّ ظالم. وقد عبّر الإمام علي بن الحسين(ع) في بعض أدعيته عن هذه الحقيقة، وهي أنّ قضية الظالم ليست قضية قوّة يملكها، ولكنها قضية عقدة ضعف يعيشها، حيث يقول: "وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم، ولا في نقمتك عجلة، إنما يعجل من يخاف الفوت، ويحتاج إلى الظلم الضّعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك علوّاً كبيراً"[1]، فالظالم يخاف من المظلومين، فيظلمهم حتى لا يسقطوا موقعه في خطِّ ظلمه.
ولقد عاش الإمام الباقر(ع) في أواخر الحكم الأموي، وامتدّت حياته إلى نهايات هذا الحكم وبدايات الحكم العباسي، فكان الأمويون مشغولين عنه من أجل الحفاظ على ملكهم، كما انشغل العباسيون عن ابنه الإمام الصّادق(ع)، من أجل تأسيس ملكهم. ولذلك، اندفع الإمامان الباقر والصّادق(ع) ليغنيا الساحة الإسلاميّة بما وهبهما الله من علم. ونحن نقرأ في تراث الإمام الباقر(ع) وتراث ولده الإمام الصّادق(ع)، أنَّ علمهم هو من علم رسول الله(ص)، فالله أعطى رسوله علم ما أراد أن يبلّغه مما يحتاجه الناس، وهم قد أخذوا من رسول الله(ص) ذلك كلّه.
تراث غنيّ
وعندما ندرس التراث الواسع الذي تركه الإمام محمد الباقر(ع)، نجد أن الإمام عاش فترة الحكم الأموي الذي لا يوافق على شرعيّته لأنّه هو الشرعيّة، ولكنه لم يكن سلبياً في الحالة التي تتعرّض فيها المصلحة الإسلاميّة للخطر، فعندما هدَّد الروم عبد الملك بن مروان بأنهم يصنعون طنافس، وعليها شعارات للديانة غير الإسلاميّة، منع من استيراد هذه الطنافس من بلاد الروم. والتاريخ يذكر كذلك قضيّة ضرب العملة الإسلامية، فلقد كان المسلمون يستعملون عملة الروم، فهدَّده ملك الروم بأن يضرب عملةً يسبّ فيها رسول الله(ص)، فحار عبد الملك في أمره، وقيل له أن يستشير الإمام محمد الباقر(ع)، فأشار عليه بأن يكون للمسلمين عملة إسلاميّة تتضمّن العناصر التي توحي بالشخصيّة الإسلاميّة للعملة، وطمأنه إلى أنَّ ملك الروم لن يجرؤ على أن يضرب عملة يسيء فيها إلى الرسول(ص)، وهكذا كان.
ونقرأ في تراث الإمام الباقر(ع)، أنه جلس مع عمر بن عبد العزيز ـ الخليفة في ذلك الوقت ـ وتحدّث معه بالموعظة والنصيحة اللّتين خطَّط له من خلالهما كيف يمارس حكمه، وحدّد له الخطوط العامة لشخصيّة المؤمن في رضاه وفي غضبه ومواقع قدرته، حتى اهتزّ عمر بن عبد العزيز ـ كما تقول السيرة ـ لهذه الموعظة، وأعلن ردّ فدك إلى أهل البيت(ع).
ونجد في تراثه(ع) كيف كان يحرّك الإعلام الشعري في تلك المرحلة، من خلال شاعر معروف آنذاك، وهو (الكميت بن زيد)، فأراد له ـ وقد استمع إلى مدحه لهم ـ أن ينظم قصيدة تساعد على إسقاط الحكم الأمويّ آنذاك، وهكذا كان.
أسلوب الإمام(ع)
أمّا كيف كان أسلوب الإمام(ع)، فهو أسلوب القرآن وأسلوب النبيّ(ص) وأسلوب الأئمة(ع)، الَّذي يهدف إلى تركيز المجتمع وبنائه على القاعدة الفكريّة الإسلاميّة، بحيث لا ينحرف المجتمع عن الخطّ الإسلاميّ الأصيل في غلّو هنا أو عداوة هناك، حتى في المسألة التي تتّصل بأهل البيت(ع)، حيث رأى أنَّ فرصة تسلّمه للحكم لم تكن واقعيّة آنذاك، ولكنه كان يرى أنَّ مسؤوليّته تقع في خارج الحكم، وأنّ بناء المجتمع على قاعدة ثابتة منفتحة واسعة يوازي مسؤوليّته عندما يحكم. وهكذا كان الإمام عليّ(ع)، فلم يتوقّف عطاؤه عندما كان خارج الخلافة، لأنه كان يشعر بأنّه مسؤول عن الإسلام خارج الحكم، كما هو مسؤول عنه في داخل الحكم، لأنّ عليه أن يحفظ الإسلام: "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيّام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السّراب، أو كما يتقشّع السّحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدّين وتنهنه"[2].
مواجهة الغلوّ
كما أراد الإمام الباقر(ع) أن يركّز القاعدة الفكريّة، وأن يخطّط للخطط العمليّة التفصيليّة في حركة القيم، من خلال علاقات المجتمع بنفسه، أو علاقاته ببعضه البعض، فنقرأ في البداية كيف كان يخاطب الشّيعة، فقد كان يخاف على التشيّع من أن يدخل في دائرة الغلوّ، انطلاقاً من أنّ الحبّ عندما يزداد، فإنه قد يتجاوز الحدود، ولذلك، أراد أن يركّز القاعدة على أساس التوازن الذي أراده الإسلام. فعن أبي جعفر(ع) (أي الباقر) قال: "يا معشر الشيعة ـ شيعة آل محمد ـ كونوا النمرقة الوسطى"، وهي الوسادة الصّغيرة التي يجلس عليها الإنسان بارتياح، فلا هي عالية، ولا هي منخفضة، "يرجع إليكم الغالي"، ليجد الاعتدال عندكم، "ويلحق بكم التالي". فقال له رجل من الأنصار يقال له سعد: "جعلت فداك من الغالي؟ قال: "قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا"، فقد يرتفعون بنا إلى ما يقترب من الخالق الّذي لا يقترب منه أحد، فهم ينسبون إلينا ـ ونحن المخلوقون ـ صفات الخالق، "فليس أولئك منّا ولسنا منهم"، قال: فما التالي؟ فقال(ع): "المرتاد، يريد الخير يبلغه الخير يؤجر عليه"[3]. ثم أقبل علينا فقال: "والله ما معنا من الله براءة، ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجّة، ولا نتقرّب إلى الله إلا بالطاعة"[4].
فالطاعة هي التي يتقرّب بها الأنبياء إلى الله، لأنهم يؤدّون رسالته، ويتحرّكون في الحياة على أساس تجسيد الرسالة في أنفسهم وفي الناس. وهكذا الأولياء والأئمّة: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[5]. "فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا"، فالولاية قاعدة لقبول العمل، ولكنّها ترتكز على خطّ الإسلام والإيمان والتقوى، "ومن كان منكم عاصياً لله، لم تنفعه ولايتنا. ويحكم، لا تغترّوا! ويحكم، لا تغترّوا!" [6].
وفي حديث آخر حدّث به الإمام(ع) جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: "والله، ما شيعتنا إلا من اتّقى الله وأطاعه، وكانوا يعرفون بالتّواضع، والتخشّع، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء. أيكفي من ينتحل التّشيع أن يقول أحبّ علياً وأتولاه، ثم لا يكون فعّالاً، فرسول الله خير من عليّ، أفحسب الرّجل أن يقول أحبّ رسول الله ثم لا يعمل بسنّته؟ من كان وليّاً لله، فهو لنا وليّ، ومن كان عدوّاً لله، فهو لنا عدوّ. والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع".
هذا هو الخطّ الذي أراد الإمام الباقر(ع) أن يركّزه، بحيث يستقيم الناس عليه، حتى لا يكون التشيّع شيئاً زائداً عن الإسلام، بل ينطلق من عمقه، ويتحرّك في خطّه، وينفتح على الدعوة إلى الإسلام في كلّ ما قاله الله وما صدق الرّواة فيه عن رسول الله(ص).
ويقول(ع) في هذا السّياق لمحمد بن مسلم: "لا تذهب بكم المذاهب، فوالله، ما شيعتنا إلا من أطاع الله عزّ وجلّ"[7]، لأننا نتحرك في خطّ طاعة الله، ولا نتحرّك بعيداً عن هذا الخطّ.
العلاقة بين المؤمنين
وكان(ع) يؤكّد علاقة المؤمنين مع بعضهم البعض في المجتمع، بالدّرجة العليا الّتي يصبح فيها المجتمع كالجسد الواحد، فقد سأله بعض أصحابه، وهو سعيد بن الحسن، قال: "أيجيء أحدكم إلى أخيه، فيدخل يده في كيسه، فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقلت: ما أعرف ذلك فينا. فقال أبو جعفر(ع): فلا شيء إذاً"، أي أين إيمانكم إذاً؟ وأين الوحدة الإيمانيّة بين المؤمنين؟! وأين الجسد الواحد الّذي يمثّله المجتمع المؤمن؟! "قلت: فالهلاك إذاً. فقال: إنّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد"[8]، أي لم تكتمل عقولهم بعد، ولا يزال إيمانهم غير ناضج، فهم بحاجة إلى تعميق للإيمان أكثر، وإلى وعي لمسؤوليّة الإيمان في العلاقة بين المؤمنين أكثر.
الأخلاق صلب الإيمان
وكان(ع) يريد من المؤمنين أن يشعروا بأنّ قصّة الأخلاق تتصل بالإيمان اتصالاً وثيقاً، فمن حسنت أخلاقه كمل إيمانه، ومن ساءت أخلاقه كان إيمانه ناقصاً، فبمقدار ما تكون حسن الأخلاق أكثر، تكون مؤمناً أكثر، وهذا ما جاءت به الكلمة عن الإمام(ع): "إنّ أكمل المؤمنين إيماناً، أحسنهم خلقاً"[9]، لأنّ الله يؤكّد الأخوة الإيمانيّة بين المؤمنين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[10].
ولذلك، فإنّ المسألة تفرض أن يعيش الإنسان امتداد الأخوّة في العلاقات، بكلّ العناصر التي تتمثّل فيها الأخوّة في إيجابية تعاطي الإنسان مع الإنسان الآخر، وحتى مع غير المؤمنين، فالله يصف عظمة الرّسول(ص) في أنه على خلق عظيم، وأنّه كان رقيق القلب لطيف اللّسان، وكان الرؤوف الرحيم، وكان الإنسان الّذي يتألّم لمن حوله إذا تألموا، وكان يحرص على من حوله عندما يسيرون في خطّ الضّياع.
مقابلة النّاس بالبسمة
كان(ع) يحدّث الناس بذلك، وكان يريد للناس في المجتمع عندما يلتقون ببعضهم البعض، أن لا يكون لقاؤهم بوجه عابس أو كئيب، لأنّ وجهك في تقاطيعه الإيجابيّة أو السلبيّة، يترك تأثيراً إيجابياً أو سلبياً في الذي تلتقي به، فإذا كنت ضاحكاً، منبسطة أساريرك، فإنّ ذلك يمثّل إشراقةً تدخل قلب الذي تلتقيه، بحيث تشرق بسمته في قلبك قبل أن تشرق في عينيك. لذلك، كان من صفات رسول الله(ص)، أنّه كان لا يُرى إلا مبتسماً، وهذا ما تحدّث عنه (الفرزدق) في مدحه للإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)، الّذي عاش العبادة كما لم يعشها أحد بعد رسول الله(ص) وأمير المؤمنين(ع):
يُغضِي حياء ويُغضَى من مهابته فلا يكلَّم إلا حين يبتسم
كان المبتسم دائماً، بل كان حتى في حزنه بذكرى كربلاء، وحزنه بين يدي الله، يبتسم في قلب الحزن بكربلاء، وفي قلب الخوف بين يدي الله، لأنّه كان يشعر بأنه في العمق من طاعة الله، وفي القرب القريب منه. لذلك، قال(ع) وهو يروي عن رسول الله(ص) قال: "أتى رسول الله رجل فقال: يا رسول الله، أوصني، فكان فيما أوصاه أن قال: ألق أخاك بوجه منبسط"[11].
صدق الحديث
وكان يريد للنّاس أن يكونوا الصّادقين، كما كان يريد للمحدّثين الَّذين كانوا يقصدونه ليرووا الحديث عنه، أن يصدقوا فيما ينقلونه، وأن لا يكذّبوا، انطلاقاً من شهوة للفكرة الّتي يكذبون فيها، أو من خلال عقدة، أو أنّ الناس يرتاحون للكذب، كما يكذب البعض من المبلّغين والمرشدين عندما ينقلون أحاديث ليس لها أيّ أساس من الحقّ، لا لشيء إلا لأنّ الناس تحبّ الكذب فيما تحبّه وفيما تبغضه. ومن هنا، فقد كثر الكذّابة على رسول الله(ص)، وكثر الكذّابة على أئمَّة أهل البيت(ع). فعن عمرو بن أبي المقدام قال: "قال لي أبو جعفر(ع) في أوّل دخلة دخلت عليه: تعلّموا الصّدق قبل الحديث"[12]، فقبل أن تصبح فقيهاً، أو خطيباً، أو واعظاً، أو مبلّغاً، أو سياسياً، أو شخصيَّة اجتماعيّة في حركة المجتمع، تعلّم أن تكون صادقاً، حتى تعطي الناس الصّدق، لأنك عندما تملك موقعاً يحترمه الناس، فإن خطورتك هي عندما تكون كاذباً أكثر، لأنّ كذبك سوف يكون محترماً عندهم، فيكون الفكر الذي يأخذون به، والحياة التي يحيونها.
وعن الربيع بن سعد قال: "قال لي أبو جعفر(ع): يا ربيع، إنّ الرّجل ليصدق حتى يكتبه الله صدّيقاً"[13]، فيحشره مع الصدّيقين. وأية درجة يبلغها الإنسان أعظم من درجة الصدّيقين؟! والقضيّة تحتاج إلى أن تكون صادقاً مع نفسك ومع ربك ومع الناس فيما تتحدّث به إليهم.
كظم الغيظ
وكان(ع) يريد للناس، وهم يختلفون ويتنازعون عادةً، ويعيشون بعض النوازع النفسيّة السلبيّة ضدّ بعضهم البعض، أن لا يفجّروا غيظهم تجاه من اغتاظوا منه، وكان يريد للصّدر أن يتّسع، وأن يكون الإنسان حليماً عندما يواجه الغيظ ممن أغاضه، وكان يريد للإنسان ـ من خلال الخطّ القرآني ـ أن يسيطر على انفعالاته السلبيّة، فلا يدع انفعالاته تدفعه إلى كلمة سلبيّة قد يندم عليها، أو إلى عمل غير مسؤول قد يعيش التّأنيب عليه. وكان(ع) يقول: "من كظم غيظه وهو يقدر على إمضائه"، أي قادر على أن يفجّر بكلمة أو بضربة، أو يقوم بأيّ عمل يشفي فيه غيظه، "حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة"[14]. فلنتوازن بين هذا الانفعال الذي نعيشه عندما نكظم غيظاً، والأمن والإيمان الّذي يمنحنا إيّاه الله، ونحن في أشدّ الحاجة إليه، فعندما نريد الانحراف عن الخطّ الأخلاقيّ أو الخطّ الشرعيّ، فلنستحضر النتائج الذاتيّة التي نحصل عليها من خلال هذا الانحراف، والنتائج الكبرى التي نحصل عليها إذا امتنعنا عن ذلك. ولذلك، ترى القرآن يركّز دائماً على الآخرة وعلى يوم القيامة، حتى يدخل الإنسان في عمليّة مقارنة بين الدنيا والآخرة.
خطّ الرّفق
وكان يريد للنّاس في هذا الخطّ أن يعيشوا الرفق، ولا يعيشوا العنف، فعندما نعيش مشاكل كثيرة، ونحتاج إلى حلّ، فقد نستطيع أن نحلّها بالعنف، ونختصر الوقت في ذلك، وقد نستطيع أن نحلّها بالرفق واللّين والأسلوب السلمي، ولكنّ ذلك يحتاج إلى صبر ووقت. ولكنّ الإمام الباقر(ع) يقول: "إنّ الله عزّ وجلّ رفيق يحبّ الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف"[15]. فالرّفق صفة الله، والله يحبّ الرفق من عباده، ويحبّ الرّفقاء بالناس، وإذا كنت تريد أن تحلّ مشكلة يحبّ الله لك أن تحلّها، ويجزيك بالثواب عن حلّها، فإذا حللتها بالرفق، فإنَّ الله يعطيك من الثواب أكثر مما لو حللتها بالعنف، فعن أبي جعفر(ع) قال: "قال رسول الله(ص): إن الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولم يرفع عن شيء إلا شانه"[16].
قول الكلمة الحسنى
وكان يريد للنّاس عندما يتحدَّثون مع الناس، ويطلقون كلماتهم، أن يفكّروا في الكلمة التي يتكلّمون بها مع الآخر؛ فهل أنت مستعد لأن يتكلّم الآخر معك بكلمة مماثلة؟ فكّر في الكلمة عندما تطلقها تجاه الآخر. إنّ الإمام(ع) يستوحي ذلك من آية قرآنيّة، قال في قول الله عزّ وجلّ {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا}[17]: "قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم"[18]، فكما تحبّ أن يخاطبك الناس خاطبهم، وقل الكلمة التي تحبّ أن يقولها الناس لك.
من هو المسلم؟
وكان الإمام الباقر(ع) يوازن بين العبادة والعطاء في حلّ مشكلة كلّ بيت من بيوت المسلمين، فلو أنك حججت الحجّ الواجب، وأحببت أن تحجّ حجّة مستحبّة، ولم تكن هناك مصلحة إسلاميّة كبرى في أن تحجّ حجّة مستحبة، ولكنّك تحبّ الثواب، وسمعت أن بيتاً من المسلمين يشكون الجوع والعوز، ودار الأمر بين أن تحجّ وأن تصرف هذا المال في سدّ جوع هؤلاء، وكسوة عورتهم، وما إلى ذلك، فأيّهما تفضّل؟ استمعوا إلى الإمام الباقر(ع) يقول: "ولأن أعول أهل بيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم، وأكسو عورتهم، وأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة وحجّة، ومثلها ومثلها ـ حتى بلغ عشراً، ومثلها ومثلها ـ حتى بلغ السبعين"[19]، فأنت تعطي مصرف الحجّ للفقراء، فيكون لك ثواب سبعين حجّة. فأيهما تفضّل؟
وعن سليمان بن خالد عن أبي جعفر(ع) قال: "قال أبو جعفر: يا سليمان، أتدري من المسلم؟ قلت: جعلت فداك، أنت أعلم، قال(ع): المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، فالإسلام في العمق لا يتمثّل في الكلمة، ولكنّه يتمثل في تأثير الشهادتين في حركتك في الواقع. "وتدري من المؤمن؟ قال: المؤمن من ائتمنه المسلمون على أموالهم وأنفسهم، والمسلم حرام على المسلم أن يظلمه، أو يخذله، أو يدفعه دفعة تعنته"[20]. أي توقعه في المشقّة والهلاك.
وقال في حديث عن رسول الله(ص) وهو يحدّد من هو المؤمن، وهو ما تحدّث به مع عمر بن عبد العزيز: "إنما المؤمن الّذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل". ليكن إيمانك معك عندما تحبّ، فلا ترفع من تحبّ إلى درجة لا يستحقّها، فتبالغ في مدحه، بحيث تظلم الحقيقة عندما تمدحه، "وإذا سخط لم يخرجه سخطه من قول الحقّ"[21]، فلا تظلم عدوّك وخصمك في حديثك عنه عندما تتكلّم، بل تكلّم بالحقّ، حتى لو كان الحقّ على خلاف مزاجك، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[22]، وقل الحقّ حتى لو كان مع عدوّك، فهذا هو الخلق الإسلامي الأساسي الّذي يحكم مسيرتنا الإسلاميّة، ونحن نريد أن نجسّد عدالة الإسلام حتّى مع أعدائنا. وإني لأقول دائماً لإخواني وأخواتي، اقرأوا أدعية الإمام زين العابدين(ع)، فهي برامج تثقيفيّة للخطوط الأخلاقيّة الإسلاميّة: "اللّهمّ وارزقني التحفّظ من الخطايا، والاحتراس من الزّلل، في حال الرّضا والغضب، حتى أكون بما يرد عليّ منهما بمنزلة سواء، عاملاً بطاعتك، مؤثراً لرضاك على ما سواها في الأولياء والأعداء، حتى يأمن عدوّي من ظلمي وجوري، وييأس وليّي من ميلي وانحطاط هواي"[23].
ثم يقول الإمام الباقر(ع) في تتمّة الحديث عن المؤمن: "إذا قدر لم تخرجه قدرته إلى التعدّي وإلى ما ليس له بحقّ"[24].
أنواع الظلم
ويقول الباقر(ع): "الظّلم ثلاثة" ـ ونحن قوم نعيش الظلم لله وللنّاس ولأنفسنا ـ "ظلم يغفره الله، وظلم لا يغفره الله، وظلم لا يدعه الله، فأمّا الظلم الذي لا يغفره فالشّرك، وأما الظلم الذي يغفره، فظلم الرجل نفسه فيما بينه وبين الله، وأمّا الظلم الذي لا يدعه الله، فالمداينة بين العباد"[25]، أي حقوقهم.
هكذا، كان الإمام الباقر(ع) يريد أن ينظّم للمجتمع علاقاته على أساس الإسلام، وينظّم للفرد أخلاقه على أساس الإسلام. فهل تستمعون إليه؟! يقول أمير المؤمنين(ع): "ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى ـ والإمام عليّ(ع) هو أبوهم وسيّدهم، وخطّهم خطّه ـ من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد"[26].
*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 3، ص 1914.
[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 3، ص 120.
[3] ميزان الحكمة، ج 2، ص 1544.
[4] المصدر نفسه، ج 1، ص 519.
[5] [الأنبياء: 26، 27].
[6] ميزان الحكمة، ج 1، ص 519.
[7] المصدر نفسه، ج 2، ص 1539.
[8] المصدر نفسه، ج 1، ص 49.
[9] المصدر نفسه، ج 1، ص 800.
[10] [الحجرات: 10].
[11] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 71، ص 171.
[12] المصدر نفسه، ج 68، ص 4.
[13] المصدر نفسه، ج 68، ص 6.
[14] ميزان الحكمة، ج 3، ص 2267.
[15] المصدر نفسه، ج 2، ص 1103.
[16] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج 12، ص 78.
[17] [البقرة: 83].
[18] بحار الأنوار، ج 68، ص 310.
[19] المصدر نفسه، ج 71، ص 329.
[20] المصدر نفسه، ج 64، ص 345.
[21] المصدر نفسه، ج 68، ص 359.
[22] [المائدة: 8].
[23] الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين، دعاؤه إذا سأل العافية وشكرها.
[24] بحار الأنوار، ج 68، ص 359.
[25] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 331.
[26] نهج البلاغة، ج 3، ص 71.