في هذه اللَّيلة، نلتقي بمناسبتين تنفتحان على الإنسان كلِّه في خطِّ الوعي والسَّلام والانفتاح على مسؤوليَّة الإنسان عن الإنسان الآخر، بأن لا يتحرَّك معه في موقع العقدة وفي موقع الضَّغينة، بل أن يتحرَّك معه في موقع السَّلام والمحبَّة.
المناسبة الأولى، هي بداية شهر رجب الحرام؛ هذا الشَّهر الّذي جعله الله أحد الأشهر الأربعة الحرم: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}[1]، والثّانية، مولد الإمام محمَّد الباقر(ع).
واحة سلام
وإذا أردنا أن نعبّر عن الأشهر الحرم، فإنَّها تمثِّل الواحة الزمنيَّة للسَّلام، فقد أراد الله أن تكون هناك واحة سلامٍ في المكان، وهي الحرم الَّذي يشمل مكَّة ومنى والمشعر الحرام وما يقرب منهما، فهذه المنطقة أراد الله للنّاس أن يعيشوا فيها السَّلام من حيث المبدأ، فليس لإنسانٍ أن يقاتل إنساناً في داخلها، حتى لو كان له ثأر عليه، بل إنَّ الإنسان لا يقتل الصَّيد هناك، فالصَّيد فيها حرام، والمطلوب هو أن يعيش الإنسان في سلامٍ مع نفسه ومع ربّه ومع الإنسان الآخر ومع الحياة، وربما مع البيئة، ليتنفّس الناس في هذا المكان روح السّلام، ليراجعوا حساباتهم فيما يتحركون به في الأمكنة الأخرى، فلعلَّهم يستطيعون أن يأخذوا من روحيَّة السَّلام في البلد الحرام روحيَّة السَّلام في بلدٍ آخر..
وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون هناك واحة سلام في الزّمن، فلا تكون لك الحريَّة في حركة الزّمن، بأن تنفتح على عداواتك وخصوماتك مع الآخرين، لأنَّ الله الَّذي هو السَّلام، يريد للحياة أن تعيش السَّلام في خطّه وفي لطفه، ولذلك أراد للنّاس أن يأخذوا هدنة طبيعيَّة شرعيَّة في كلِّ حروبهم ومنازعاتهم ومشاكلهم وثاراتهم، حتى يملك الإنسان نفسه، ليهدِّئ كلَّ هذه الضّراوة الدّاخليّة الّتي تدفعه إلى أن يقتل أو يقاتل، ثأراً كان أو غير ثأر، حتى فيما لك فيه حقّ طبيعيّ، لكنَّ الله استثنى حالة العدوان، فلك الحقّ إذا اعتدي عليك في البلد الحرام أو في الشَّهر الحرام، أن تدافع عن نفسك، لأنّه لا خيار لك إذا هاجمك الآخرون واخترقوا حرمة الشَّهر أو حرمة البلد، إلا أن تدافع عن نفسك وعن قضيَّتك وعن طريقك بمقدار الضَّرورة.
الإحساس بروحيَّة السَّلام
لذلك ـ أيّها الأحبّة ـ نحن نريد أن نعيش روحيَّة السَّلام في شهر السَّلام الَّذي هو الشَّهر الحرام، أن نعيشها في حياتنا الاجتماعيَّة وفي حياتنا السّياسيّة، فإذا كان الله قد أراد لنا في الدائرة الإسلاميَّة أن لا نقاتل بعضنا بعضاً على مستوى حركة السَّلام، فإنَّ الله لا يريد لنا في هذا الشَّهر الحرام أن نعيش التّعقيدات النَّفسيَّة العدوانيَّة التي تهيّئ العقل والقلب والحركة للدخول في حربٍ قد لا يأتي وقتها في الشّهر نفسه، ولكنّه يمكن أن يأتي في شهرٍ آخر.
إنَّ قضيَّة أن نعيش السَّلام في داخل الواقع الإسلاميّ، هي أن نهيِّئ للنَّاس أن يعيشوا هذه الرّوحيَّة لتتحوَّل إلى سلامٍ في الواقع، لأنَّ الخطَّة الإسلاميَّة هي أن يعيش النَّاس في سلامٍ من خلال فكر السَّلام الَّذي ينطلق على أساس الحكم الشَّرعيّ، فالله سبحانه وتعالى قد حرَّم القتال من خلال ما تحدَّثنا عنه لمصلحة السَّلام، وهذا ما نحتاج أن نعيشه في أنفسنا، لتنطلق في هذا الشّهر الذي يتميّز عن الأشهر الحرم الأخرى، بأنّه يختزن في داخله الكثير من أجواء العبادة، ومن روحيَّة العمل الذي تتقرَّب به إلى الله صلاةً وصياماً وابتهالاً ودعاءً وتسبيحاً وما إلى ذلك، مما يقوّي في روحك علاقتك بالله، فكلَّما قويت علاقة الإنسان بالله أكثر، تحسّس مسؤوليَّته عن عباد الله أكثر، وكلَّما انفتح عقله على الحقِّ أكثر، وقلبه على الخير أكثر، وحركته على العدل أكثر، كان أقرب إلى الله تعالى.
لهذا، لا بدَّ لنا من أن ندخل هذا الشَّهر دخول المسلم الواعي المنفتح الّذي يحرّم فيه الإنسان على عقله أن يكون عقل حرب، وعلى قلبه أن تكون نبضاته نبضات حقد، وعلى لسانه أن تكون كلماته كلمات عدوان، وعلى حياته أن تكون حياة حرب وقتال وما إلى ذلك. لا تدخلوا في رجب دخول النّاس الَّذين لا يتحسَّسون الزّمن فيما يمتلئ فيه من القيم التي يريد الله له أن يتمثَّلها، بل ادخلوا فيه دخول وعيٍ تتمثَّلون فيه السَّلام روحاً وفكراً وحركةً في كلّ أوضاعكم وعلاقاتكم في الحياة.
وتبقى هناك حرب واحدة هي حربنا مع الصّهيونية، لأنَّهم فرضوا الحرب علينا باحتلالهم أراضينا، وبعدوانهم علينا في شهر حرام أو في غير شهر حرام، ولذلك، فإنّنا عندما نقاتل الكيان الصّهيونيّ في هذا الشَّهر وفي غيره من الشّهور، فإنَّنا ندافع عن أنفسنا وعن أرضنا وعن قيمنا وعن مقدَّساتنا وعن حاضرنا ومستقبلنا، ونحن عندما نواجه الاستكبار العالميّ، وفي مقدَّمه الاستكبار الأميركي، فإنّنا ندافع عن شرف أمّتنا وسياستنا وأمننا واقتصادنا وكلّ قيمنا الّتي يريد الاستكبار أن يسقطها، وهذا هو ما نستوحيه من هذه المناسبة.
ثروة فكريَّة ثقافيَّة
أمَّا المناسبة الأخرى، فنحن نلتقي في هذه اللَّيلة بذكرى مولد الإمام محمَّد بن علي الباقر(ع)، ونحن عندما نلتقي أيَّ إمامٍ من أئمَّة أهل البيت(ع) في التّاريخ، فإنّنا نلتقي بالفكر الَّذي يريد أن يشيع السَّلام في العالم من خلال الإسلام، وأن يحرِّك السَّلام في عقل الإنسان وفي روحه وفي حركته من خلال علاقة الإنسان بالله فيما شرَّع الله من شرائع، وفيما ركَّز من قيم، وفيما أنزل من وحي، وفيما أطلق من مفاهيم، حتى يتحسَّس الإنسان الحياة على أساس أنها ليست الحياة التي يتحرَّك فيها الهوى، وتنطلق فيها نقاط الضّعف، ولكنَّها الحياة التي يتحرَّك فيها الخطّ الإسلاميّ في العقيدة والشَّريعة والمنهج والحركة والمفاهيم.
وعندما نلتقي بالإمام محمّد الباقر(ع)، ونطلّ على المرحلة الواسعة الَّتي عاش فيها، فملأ الواقع الإسلاميّ في عقله بما أعطاه من ثمرات العقل، وفي روحه بما انفتح عليه من سموّ الرّوح، وفي حركته من خلال كلِّ الخطوط التي تتحرَّك بالإنسان نحو الحياة المثلى، وفي منهجه من خلال ما خطَّط له من المناهج الّتي تتحرَّك مع منهج الإسلام في كلِّ مواقعه، وعندما ندرس هذا التراث الكبير الواسع الَّذي تركه الإمام الباقر(ع) وولده الإمام الصَّادق(ع)، فإنّنا نجد أنَّنا نلتقي بالآفاق الفلسفيَّة في حركة العقيدة الإسلاميّة، ونلتقي بالآفاق الفقهيَّة في كلّ ما انفتح عليه في الشّريعة الإسلاميَّة، ونلتقي بالقيم الإسلاميَّة المتحركة في السّلوك وفي العلاقات وفي المواقف وفي الأوضاع الداخليَّة الّتي يعيشها الإنسان مع ربّه ومع الإنسان الآخر.
إنَّنا نستطيع من خلال هذه الثَّروة، أن نرى في عقل هذا الإمام ثقافةً واسعةً منفتحةً على الله، من خلال الألطاف التي أغدقها الله عليه، ونرى فيه ثقافة واسعة منفتحة على كلّ الواقع الإسلاميّ في كلِّ المشاكل التي أحاطت بالواقع، وفي كلِّ التحدّيات التي قفزت لتطبق على الواقع الإسلاميّ.
لقد كانت كلمته متحركةً في كلّ المجالات، ومن هنا نأخذ الدَّرس من حياة هؤلاء الأئمَّة(ع)، أنَّهم كانوا يحدِّقون بكلِّ ما يحدث في واقع الإسلام والمسلمين من قضايا تتَّصل بالسياسة، وتتَّصل بالثقافة، وتتَّصل بالاجتماع، وتتّصل بحركة الإنسان في كلّ قضاياه الخاصّة والعامّة، لنعرف أنَّ علينا أن نسير في هذا الخطّ، وأن لا نكون معزولين عن الواقع كلّه، فأن تكون الإنسان المسلم يعني أن يكون همّك العقليّ والعاطفيّ والروحيّ والحركيّ هو همّ الإسلام والمسلمين. عن أبي عبدالله(ع) قال: "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"[2]، هذه هي الملامح العامة لما نتمثّله من حياة هذا الإمام فيما نستنطقه من مفردات هذه الحياة.
الدّنيا سوق عمل
ونريد أن ندخل في بعض التَّفاصيل، فلنستمع إليه وهو يتحدّث في مواعظه، ويخطّط لمنهج إيمان المؤمن وإسلام المسلم والعلاقات بين المسلمين مع بعضهم البعض. فنلتقي في البداية بالحديث الَّذي جرى بينه وبين "عمر بن عبد العزيز"، أحد الخلفاء الأمويين، وكان الإمام فيه واعظاً وموجّهاً.
فلنقرأ تاريخ هذه القصّة، ينقل (الصّدوق) في (الخصال) بسند مفصّل في الحديث عن "هشام بن معاذ"، قال: "كنت جليساً لعمر بن عبد العزيز، حيث دخل المدينة فأمر مناديه فنادى: من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأتِ الباب، فأتى محمّد بن علي، يعني الباقر(ع)، فدخل إليه مولاه (مزاحم)، فقال: إن محمد بن علي بالباب، فقال له: أدخله يا مزاحم، قال: فدخل وعمر يمسح عينيه من الدموع، فقال له محمد بن علي(ع): ما أبكاك يا عمر؟ فقال هشام: أبكاه كذا وكذا يا بن رسول الله، فقال محمد بن علي ـ وكأنَّه سمع منه أن ما أبكاه هو شأن من شؤون الدّنيا التي تبعث الألم في النّفس ـيا عمر، إنما الدنيا ـ وهذا الحديث لنا أيضاً ـ سوق من الأسواق ـ ولكنّنا دخلنا هذه السّوق كما ندخل السّوق العاديّة ـ منها خرج قوم بما ينفعهم، ومنها خرجوا بما يضرّهم ـ كمن يشتري الأشياء الَّتي تتَّصل بها عاداته، ولكنها تضرّه في صحَّته، أو التي تضره في عقله، كمن يدخل السّوق ليشتري الخمر أو ما إلى ذلك ـ وكم من قوم قد ضرّهم بمثل الَّذي أصبحنا فيه ـ بمثل الذي أصبحنا فيه من الغفلة ـ حتى أتاهم الموت فاستوعبوا، فخرجوا من الدّنيا ملومين لما لم يأخذوا لما أحبَّوا من الآخرة عدّةً، ولا مما كرهوا جُنّةً ـ درعاً يقيهم من النّار ـ قسّم ما جمعوا من لا يحمدهم ـ قد جمعوا المال وقسمه الورثة الّذين لا يحمدونهم، لأنهم لم يتركوا لهم شيئاً كبيراً وما إلى ذلك ـ وصالوا إلى مَن لا يعذرهم ـ صاروا إلى الله الَّذي أقام عليهم الحجّة، وكانت له الحجّة عليهم ـ فنحن والله محقوقون ـ يعني أنّ الحق علينا في ـ أن ننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نغبطهم بها فنوافقهم فيها ـ أي عندما يموتون ويذهبون، فعلينا أن ندرس واقعهم، فنوافقهم في الصالحات من الأعمال ـ وننظر إلى تلك الأعمال التي كنا نتخوّف عليهم منها، فنكفّ عنها، فاتّقِ الله، واجعل في قلبك اثنتين: تنظر الذي تحبّ أن يكون معك إذا قدّمت على ربّك بين يديك ـ أي عندما تعيش صداقاتك وانتماءاتك، أو عندما تعيش أعمالك، فكّر: من هو الَّذي تحب أن يكون معك في حشرك ليحشر معك وتحشر معه؟! وأي عمل تحبّ أن يرافقك في موقفك يوم القيامة؟ فاعمله ولا تستغرق فيما تحبّه وفيمن تحبّه في دنياك، لأنَّك قد تواجه واقعاً ليس مريحاً، فانظر الذي تحبّ أن يكون معك، فقدّمه بين يديك ـ وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك ـ فلو فرضنا أنَّ أحدهم قال لك أتحبّ أن تحشر مع فلان أم لا؟! فلا بدَّ أن تعرف أنَّ للارتباط انتماءات سياسيّة وأخرى شخصيّة، فهناك من النّاس الظّلمة ممن يعيش الإنسان الانحراف معهم، فلو قال لك هل تحبّ أن تحشر مع هذا الإنسان الظّالم المنحرف، فإنك ـ بالتأكيد ـ تكره ذلك. إذاً، عليك أن تتحفَّظ في علاقاتك ـ وتنظر الذي تكرهه أن يكون معك إذا قدمت على ربك، فابتغِ به البدل، ولا تذهبنَّ إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك ـ أي أنك لا تحاول أن تأخذ السّلعة التي بارت عند غيرك حتى تجوز عندك ـ واتّق الله عزّ وجلّ يا عمر ـ هنا تحدَّث الإمام مع عمر المسؤول، وفيما سبق تحدّث مع عمر الإنسان ـواتق الله عزّ وجلّ يا عمر، وافتح الأبواب، وسهّل الحجاب، وانصر المظلوم، وردّ المظالم ـ لأنَّ موقعك يفرض عليك أن تنفتح على الناس، وأن لا تغلق بابك عنهم، وأن تردّ ظلامة كلّ مظلوم.
عمق الإيمان بالله
ثم قال ـ وقد أراد أن يعطيه صورة عن عمق المؤمن في حركته مع الآخرين، لأنه يتحدَّث عن صفات المؤمن، حيث إنَّ هناك صفات داخليّة، وأخرى تتَّصل بعلاقته مع الآخرين وعلاقته مع عواطفه السّلبيّة والإيجابيّة، وعلاقاته مع قدراته الّتي قد تنطلق في داخل السّلب أو الإيجاب. يقول ـ ثم قال: "ثلاث من كُنّ فيه استكمل الإيمان بالله ـ بحيث تمثّل العناصر الأساسيّة في عمق الإحساس الإنسانيّ الإيمانيّ بحركة الإيمان في علاقته مع الآخرين أو مع قدراته ـ فجثا عمر على ركبتيه وقال: إيه يا أهل بيت النبوة، فقال: نعم يا عمر، مَن إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، أن تكون عواطفك مع الآخرين ممن تحبّ من أقربائك وأصدقائك أو الناس الآخرين الذين تنتمي إليهم، إذا أحببتهم أو رضيت عنهم، فليكن رضاك عنهم متوازناً، بحيث تقف عند الحقّ ولا تتجاوزه إلى الباطل، فلا تقل فيمن تحبّ أكثر مما يستحقّ، ولا تضخّم شخصيَّته، ولا تعطه الصّفات التي لا يملكها، لأنّك عندما تعطيه ذلك، فقد واجهت ثلاثة انحرافات:
الانحراف الأول؛ تُغرّه بنفسه، لأنّه قد يتصوّر نفسه من خلال ما تعطيه من ضخامة ليست موجودة فيه.
الانحراف الثاني؛ أن تغشّ الناس به، ممن يستمع إلى قولك، فيتبعوه على أساس شهادتك فيه.
والانحراف الثالث؛ أنّك تسيء إلى الحقيقة عندما تتحدّث عن إنسان بالباطل، فتقتل الحقّ في كلامك، والله يريد للإنسان أن يعيش الحقّ حتى مع من يحبّ، {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[3].
وهكذا الثاني، "وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحقّ ـ فإذا غضبت على إنسان، أو عاديت إنساناً، أو اختلفت مع إنسان، فلا تنسب إليه من السّوء ما ليس بحقّ.. تحدّث عمّا يملك من الحقّ من الإيجابيات، ولا تتحدّث عنه من خلال نظرتك السّوداء، كما لو كان شراً كلّه، {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[4] ـ ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له ـ أي إذا كان يملك طاقة يستطيع من خلالها أن يتناول كلّ شيء مما حوله، فعليه أن لا يستغلّ قدرته في أن يتناول ما ليس له بحقّ.
ولم يطلب منه الإمام شيئاً، ولكنّه بعد أن سمع هذه الموعظة وهذا التّوجيه ـ فدعا عمر بدواة وقرطاس وكتب، بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما ردّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي(ع) في فدك"[5].
أحقيّة الزّهراء بفدك
ونحن نستوحي من هذه الرواية أنَّ مسألة فدك وعلاقة الزهراء(ع) أمّ الأئمّة بها، كانت من المسائل الواضحة حتى لدى الخلفاء، وهذا ما دعا عمر بن عبد العزيز ـ على تقدير صحَّة الرواية ـ أن يكتب ليردّ على الإمام الباقر(ع) فدك، باعتباره من أبناء الزهراء(ع) ولم يطلبها منه. وهذا ما لاحظناه لدى خلفاء بني العباس، ولعلَّه المهدي أو الهادي، حينما طلب من الإمام الكاظم(ع) أن يحدّد له فدك ليردّها له، فحدَّد له الإمام آنذاك فدك في الدّولة الإسلاميّة كلّها، ليقول له ليست فدك المنطقة هي ما نستحقّ، ولكن فدك الَّتي هي الأرض الإسلاميّة كلّها هي ما نستحقه.
هذه الكلمات هي الكلمات الَّتي لا بدَّ لنا من أن نعيشها موعظةً، لنستعدّ للقاء الله سبحانه وتعالى، لنقدّم بين أيدينا ما ينفعنا وما يبعدنا عن الخطر هناك، ولننفتح على الله سبحانه وتعالى في كلّ أعمالنا وأقوالنا، من موقع أنّنا مسؤولون في ذلك كلّه أمام الله سبحانه وتعالى.
وهكذا علينا أن نوازن عواطفنا، فلا تنحرف نتيجة هوى النّفس من خلال حبّنا لشخص، فنعطيه أكثر مما يستحقّ، أو بغضنا لشخص فننسب إليه من الشرّ ما لا يستحقّ، وأن تتوازن قدراتنا فتكون متحركة في خطّ العدل، فلا تأخذ ما ليس لها، بل تقتصر على ما لها.
الرّفق أساس الإيمان
ثم نطلّ مع الإمام الباقر(ع) على ما يعيشه الناس من الجدل، ولا سيَّما فيما ينسبه الغرب إلى الإسلام والمسلمين من أنَّ الإسلام دين العنف، وأنَّ المسمين، ولا سيما الحركيين، يعتبرون العنف هو الوسيلة الوحيدة لتغيير الواقع وللتَّعامل مع الناس الآخرين.
إنَّ الإمام الباقر(ع) يريد أن يؤكِّد في هذه الكلمات الَّتي نتلوها عليكم، أنَّ الرّفق هو أساس الإيمان، وأنّه هو الأصل في حركة الإنسان المسلم على مستوى الدَّعوة والحركة والعلاقات مع الآخرين. فوحده العنف ينطلق في مواجهة العنف الّذي يتوجّه إليك بطريقة دفاعيّة في حالة الاعتداء الفعليّ، وبطريقة وقائيّة في حالة الاعتداء الشّأنيّ، الذي يمكن أن يطلّ عليك لو لم تبادر بدفعه عنك.
لقد قال الإمام الباقر(ع): "إنَّ لكلِّ شيء قفلاً، وقفل الإيمان الرّفق"[6]، والرفق، كما هو معلوم، ضد العنف ـ إنه اللين ـ وحلّ الأمور بالطرق السّلميّة. وهنا قد يبدو هذا التعبير غريباً بأن يكون الرفق قفلاً للإيمان، ولكن (الملاّ محسن الفيض)، يقول في الوافي تعقيباً على ذلك: "لأنّ من لم يرفق يعنف"، فمن الطّبيعيّ أنّ الإنسان الَّذي لا يتناول الرّفق كوسيلة، لا بدّ له من أن يكون العنف وسيلته، فيعنف على الآخرين ويغضب، فيحمله الغضب على قول أو فعل يخرج الإيمان من قلبه، فالرفق قفل للإيمان يحفظه، فإذا أنت التزمت الرفق، فالرفق يبعد عنك كل مواقع السلوك التي قد تؤدي إلى ما يغضب الله، وإلى ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
ولقد قال رسول الله(ص): "إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه ـ يعني لو وضع على الكلمات، ووضع على الأفعال وعلى العلاقات وعلى المواقف، فإنه يزيّنها ويحسّنها ويجعلها في صورة جميلة تجذب الناظر ـولا نُزع من شيء إلا شانه"[7]، يعني لو تحرك الإنسان في بيته مع زوجته وأولاده، أو مع جيرانه، أو مع الناس، أو في خطّ الدعوة إلى الله، أو في خط التعامل مع الناس بالعنف، بحيث رفع الرفق، وأعلن بدلاً عنه العنف، فإنّ ذلك مما يعيبه، لأنّه يجعله يحمل بعض المواصفات الّتي لا تتناسب مع خطّ التوازن والخير في حياة الناس الآخرين.
فإذاً، نفهم من هذا ـ أيها الأحبّة ـ أنَّكم عندما تدخلون في الجدل الَّذي يوجّهه الاستكبار الكافر والاستكبار الظالم في أنَّ الإسلام دين العنف، قولوا إنَّ الإسلام دين الرفق، وإنّ ما جاء في القرآن وفي أحاديث النّبيّ(ص) والأئمّة من أهل البيت(ع)، تؤكّد أنَّ الرفق هو الأصل، وأن العنف إنما يكون في مواجهة من يفرض العنف عليك، تماماً كمثل العمليَّة الجراحيَّة التي تقوم بها عندما يتحدّاك الخطر الصّحّي الذي يسقط حياتك أو يتهدّدها بالهلاك، وإنَّ ما يتحرّك به المسلمون في حركة المقاومة، كما في فلسطين وفي لبنان، وفي حركة التحدي، كما في أكثر من موقع، هو دفاع عن النفس ضدّ عنف الظلمة وضدّ عنف المستكبرين، فالعنف الإسلاميّ ـ إذا صحّ مثل هذا التعبير ـ هو ردّ فعل لعنف الآخرين عندما لم يستطع الإسلاميون أن يدافعوا عن أنفسهم وعن حريّتهم إلا بهذه الطريقة.
تعريف المؤمن
وفي العنوان الآخر، نقرأ تعريف المؤمن عند الإمام، وتعريف المسلم وتعريف المهاجر، وهذا مما يرويه الإمام الباقر(ع) عن رسول الله(ص)، قال، قال رسول الله(ص): "ألا أنبئكم بالمؤمن؟ من ائتمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم ـ فمن لم يكن أميناً على الناس في أنفسهم وفي أموالهم، فإنَّ الإيمان يسلب منه، لأن مسألة الأمانة هي الأساس، وقد ورد في الحديث عن النبيّ(ص) فيما روي عنه: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له، ولا صلاة لمن لا يتم ركوعها وسجودها"[8]، ـألا أنبئكم بالمسلم، من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر ـ ليس هو الذي يقطع المسافات، بل هو ـ من هجر السيِّئات وترك ما حرَّم الله، والمؤمن حرام على المؤمن أن يظلمه أو يخذله أو يغتابه أو يدفعه دفعة"[9]، بحيث يعنف معه، لأنَّ الواجب أن يرفق به.
فمعنى ذلك إذاً، هو أنّنا نستطيع التعرّف إلى هويّة المؤمن والمسلم، فهو الإنسان الّذي يعيش مع الناس، وهو أمينٌ على أموالهم وأنفسهم وكرامتهم وأوضاعهم، فلا يسيء إلى أحد في قولٍ ولا فعلٍ، ولا يخون أحداً في مالٍ أو نفسٍ أو عرض، وأنَّ الهجرة ليست هجرة الجسد من مكان إلى مكان، ولكنها هجرة العمل، وهي أن تهاجر من السيّئات إلى الحسنات، وأن تهاجر من الشّرّ إلى الخير، فتلك هي المسافة الّتي تجعلك مهاجراً تحمل روحيّة المهاجر، لأنَّ الذين هاجروا مع النبي(ص)، إنما هاجروا من الشّرك إلى الإيمان، وهاجروا من كلّ قيم الشّرك إلى قيم الإيمان، وكأنَّ السَّبيل الوحيد لذلك هو أن يهاجروا مع رسول الله(ص)، لتأكيد قيم الإيمان في الموقع الجديد، وإسقاط قيم الشّرك في الموقع القديم.
صفات الشيعة
ونختم هذه الكلمات بحديث الإمام(ع) عن صفة الشيعة فيما يريده من الشيعة، ففي الخطّ الإسلاميّ الأصيل، نجد أنَّ التشيّع ليس حالةً منفصلة عن الإسلام، بل هو الإسلام في كلِّ أخلاقيّته وفي كلّ إحساس الإنسان بالمسؤوليّة عن الإنسان الآخر. يقول الإمام(ع)، عن أبي إسماعيل قال: "قلت لأبي جعفر محمّد الباقر(ع): جعلت فداك، إن الشيعة عندنا كثير"، فقال(ع): "فهل يعطف الغنيّ على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسيء ويتواسون؟"، فقلت: لا، فقال: "ليس هؤلاء شيعة، الشّيعة من يفعل هذا"[10]، لأنّ الشّيعيّ هو الّذي يتحرَّك في خطّ أخلاقيَّة الإسلام في المسألة الاجتماعيَّة، وهو أن يعطف على الفقير، وأن يحسن إلى المسيء، وأن يواسي أخاه بنفسه وبماله، فمن لم يفعل ذلك، فإنّه ينحرف عن خطِّ الإسلام، وبذلك ينحرف عن خطِّ التشيّع.
وفي حديثٍ آخر عن شخصٍ يسمَّى "خيثمة"، قال: "دخلت على أبي جعفر أودِّعه، فقال: يا خيثمة، أبلغ من ترى من موالينا السّلام وأوصهم ـ والوصيّة لنا جميعاً ـ بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم، وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم ـ أي أن يتزاوروا ـ فإنّ لُقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرهم، رحم الله عبداً أحيا أمرنا ـ لأنّ أمرهم، كما قلنا، هو الإسلام كلّه بكلّ عقائده وشرائعه وقيمه وأخلاقه ـ يا خثيمة، أبلغ موالينا أنا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بعمل، وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع ـ فقضيّة الولاية ليست قضيّة نبضة قلب وخفقة حساس، ولكنَّ الولاية هي أن توالي الله تعالى فتطيعه، وأن توالي رسول الله(ص) فتتبعه، وأن توالي أهل البيت(ع) فتتحرَّك مع منهجهم في طاعة الله سبحانه وتعالى ومحبَّته في ذلك كله.
وإنَّ أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة، من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره"[11]، فإنكم عندما تلتزمون ولايتنا التي هي الولاية في خطّ الله ورسوله، وعندما تنتمون إلينا، ونحن نمثّل الإمامة في خطّ الإسلام، فمعنى ذلك أنّكم تتحدّثون مع الناس عن العدل الّذي تمثّله هذه الولاية، وعن الحقّ الذي تنطلق فيه، فإذا خالفتم ذلك، فستكونون أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة، لأنّكم تحدّثتم عن عدل وكنتم أول من خالفه، فدخل الناس الذين أخذوا بكلامكم في العدل الجنة، ودخلتم أنتم الذين وعظتم الناس النار، لأنَّكم لم تعملوا بالعدل الَّذي وصفتموه.
للانفتاح على علم الإمام(ع)
وهكذا ـ أيّها الأحبَّة ـ عندما نستعيد ذكرى هذا الإمام، فعلينا أن ننفتح على علمه وعلى وصاياه وعلى تعاليمه، وأن نعيش معه في حياتنا، لأنَّ ما تحدَّث به ليس حديث مرحلة مضت لتموت مع موت المرحلة، ولكنّه حديث الإسلام كلّه، والإسلام باقٍ ما بقي الإنسان في الحياة، لأنَّ "حلال محمَّد حلال أبداً إلى يوم القيامة، وحرامه حرامٌ أبداً إلى يوم القيامة"[12].
أيها المؤمنون، هذا هو الإمام الباقر(ع) في مواعظه ووصاياه وتعاليمه، فإذا أردتم أن تحتفلوا بمولده، فاحتفلوا في أنفسكم، بأن تعيشوا كلّ هذا الأفق الواسع الّذي ينفتح على الله تعالى، وكلّ هذه الروح الواسعة التي تنفتح على الإنسان، وكلّ هذا المنهج الواسع الّذي يغيّر الحياة من الشرّ إلى الخير، ومن الباطل إلى الحقّ، ومن الظلم إلى العدل.
هذا هو منهج الأئمة(ع)، فهل تسيرون في هذا المنهج؟ إنّ التحدّي ينشر في السّاحة، وعليكم أن تكونوا في مستوى هذا التحدّي.
فتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبُّه بالكرام فلاحُ
*ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة
[1] [التوبة: 36].
[2] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 164.
[3] [الأنعام: 152].
[4] [المائدة: 8].
[5] الخصال، الشيخ الصدوق، ص 105.
[6] الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 118.
[7] شرح أصول الكافي، مولى محمد صالح المازندراني، ج 8، ص 350.
[8] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 69، ص 198.
[9] الكافي، ج 2، ص 235.
[10] وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 9، ص 428.
[11] الكافي، ج 2، ص 176.
[12] المصدر نفسه، ج 1، ص 58.