لا بدَّ لنا أن نتحدّث عن بعض كلمات الإمام(ع) التي كان يثيرها أمام الناس في مختلف جوانب المعرفة، لأننا نرى أنَّ الارتباط بنبيِّنا(ص) وبأئمتنا(ع) لا بدَّ أن يكون ارتباطاً ثقافياً روحياً، ولا يكفي أن يكون ارتباطاً عاطفياً ولائياً، لأنَّ الارتباط العاطفي يجعلك تعيش مع هذه الشخصيّات المقدّسة في نبضات قلبك، أما الارتباط الثقافي الروحي، فإنَّه يجعلك تعيش معهم في حركة عقلك، وفي تخطيط طريقك، وفي كلِّ حيويّة نشاطك في الواقع..
المطلوب في حركة الناس مع رموز العقيدة الإسلاميّة هو أن يعيشوا فكرهم كلَّه، لا أن يبقوا عندنا مجرّد دمعة نسيلها أو فرحة نطلقها في مولد هنا، وحزنٍ في وفاة هناك، لأنّهم حدّثونا عن الإسلام في عقائده، فينبغي أن تكون أحاديثهم أحاديث العقيدة عندنا، وحدّثونا عن الإسلام في شرائعه، فلا بدَّ أن تكون أحاديثهم هي أحاديث الشرائع عندنا، وذلك كي يكونوا حاضرين معنا حضور الإسلام الذي جاهدوا من أجله في المجالات كلِّها، وكي لا يكونوا مجرّد شخصيات في التاريخ نحترمها، بل أن يكونوا شخصيّات الحياة المتحرّكة مع كلِّ جيل يتبعها.
قيمة رعاية الفقراء
من أجل تحصين الواقع الاجتماعي، يوجّه الإمام الباقر(ع) الناس إلى القضايا الاجتماعية المتصلة برعاية البيوت الفقيرة، وباحتضان المحرومين من النّاس، وكان يعتبر أنَّها قد تكون أفضل من العبادة المستحبّة، فقد جاء في ما رواه الكليني عنه في كتابه الكافي أنَّه قال: "لئن أعول أهلَ بيت من المسلمين أسدُّ جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفُّ وجوههم عن النّاس، أحبُّ إليَّ من أن أحجَّ حجّة وحجّة وحجّة ومثلها حتى بلغ عشرة، ومثلها ومثلها حتى بلغ السبعين حجّة"(1). فلو دار الأمر بين أن يصرف المسلم ماله في إعالة بيت من بيوت المسلمين الفقراء، وبين أن يصرفه في سبعين حجّة مستحبّة، فإنّه يرى أنّ صرفه على إعالة هذا البيت الفقير أفضل من سبعين حجّة. ومن هنا نستوحي أنَّ المسألة الاجتماعية في الإسلام في ما نرعى فيه الفقراء والمستضعفين ونقف إلى جانبهم، تتفوّق على مستحبّات العبادة.
ويتحدّث الإمام الباقر(ع) عن قضاء حوائج المسلمين بعضهم لبعض، فيروي(ع): "أوحى الله إلى موسى(ع) : إنَّ من عبادي مَنْ يتقرّب إليَّ بالحسنة فأحكّمه في الجنّة يدخل الجنّة ـ ويأخذ حريته في اختيار موقعه ودرجته ـ قال: وما تلك الحسنة؟ قال: يمشي مع أخيه المؤمن في قضاء حاجته، قُضيت أو لم تُقضَ"(2).
وعن مواساته للفقراء والمحتاجين نقرأ ما ذكره المؤرخون في سيرته أنَّه "كان مع ما وصفناه به من الفضل في العلم والسؤدد والرئاسة والإمامة، ظاهر الجود في الخاصة والعامة، مشهور الكرم في الكافة، معروفاً بالفضل والإحسان مع كثرة عياله وتوسّط حاله"(3).
وعن أحد أصحابه قال: "شكوتُ إلى أبي جعفر محمد بن عليّ(ع) الحاجة وجفاءَ الإخوان، فقال: "بئس الأخُ أخٌ يرعاك غنيّاً ويقطعك فقيرااً"، ثم أمر غلامه فأخرج كيساً فيه سبعمائة درهم وقال: "ستنفق هذه فإذا نفدت فأعلمني"(4).
وقد روى محمد بن الحسين قال: "حدّثنا عبد الله بن الزبير، قال: حدّثونا عن عمرو بن دينار وعبد الله بن عُبيد بن عُمير أنَّهما قالا: ما لقينا أبا جعفر محمد بن عليّ(ع) إلا وقد حمل إلينا النفقة والصِّلة والكِسوة، ويقول: هذه مُعَدَّةٌ لكم قبل أن تَلْقَوْني"(5).
وروى أبو نعيم النخعيّ عن معاوية بن هشام عن سليمان بن قرم، قال: كان أبو جعفر محمد بن عليّ(ع) يُجيزُنا بالخمسمائة درهم إلى الستمائة إلى الألف، وكان لا يملُّ من صلة إخوانه وقاصديه ومؤمّليه وراجيه(7).
ورُوي عنه عن آبائه(ع) أنَّ رسول الله(ص) كان يقول: "أشدُّ الأعمال ثلاثة: مواساة الإخوان في المال، وإنصاف الناس من نفسك، وذكر الله على كلِّ حال" (8).
حذارِ من الذبحة القلبيّة الإيمانية
في حديثه لبعض أصحابه، قال: "إذا أردتَ أن تعرف أنَّ فيك خيراً فانظر إلى قلبك، فإن كان قلبك يحبُّ أهلَ طاعة الله ويبغض أهل معصيته، ففيك خير والله يحبُّك، وإن كان قلبك يبغض أهل طاعة الله ويحبّ أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك، والمرء مع مَنْ أحبّ" (9).
فعلى الإنسان أن يدرس نبضات قلبه.. مَنْ يحب ومَن يبغض! فإذا كان يحبّ أهل الخير والإيمان والتقوى والطاعة، فمعنى ذلك أنَّ الله يحبّه، أمّا إذا كان قلبه يخفق بحبّ الكافرين والمستكبرين والظالمين والمنحرفين، بحيث يتعصّب لهم ويدافع عنهم، وهو يعرف أنّهم ليسوا من الله في شيء، فعليه أن يعالج قلبه من الذبحة القلبيّة الإيمانية التي تقضي عليه في الدنيا والآخرة، فلنحذر من الذبحة القلبيّة الإيمانية عندما تسدّ شرايين القلب من أن تخفق بحبِّ الخير وأهله، فتنفتح على محبّة الشرّ وأهله، لأنَّ المرء مع مَنْ أحب.
الدنيا سوقٌ من الأسواق
يخطّط الإمام الباقر(ع) لمنهج إيمان المؤمن وإسلام المسلم والعلاقات بين المسلمين مع بعضهم البعض، ونختار مفردة من مفردات هذا المنهج ممّا نقله الشيخ الصدوق في كتابه (الخصال)، حيث زار المدينة عمر بن عبد العزيز، وأمر مناديه أن ينادي في الناس: مَن كانت له مظلمة أو ظلامة ليحضر إلى باب ابن عبد العزيز، فأتى الباقر(ع) فقام عمر احتراماً وتقديراً للإمام(ع) ، وعندما دخل عليه(ع) رآه يمسح عينيه من الدموع، فسأله الإمام عمّا يبكيه، فقال: أبكاني كذا وكذا يابن رسول الله، فقال له(ع) ـ وكأنّه سمع منه أنَّ ما أبكاه هو شأنٌ من شؤون الدنيا التي تبعث الألم في النفس ـ: "إنَّما الدنيا سوقٌ من الأسواق ـ وهذا الحديث موجّه إلينا أيضاً، ندخل الدنيا كسوق من الأسواق العادية ـ منها خرج قومٌ بما ينفعهم، ومنها خرجوا بما يضرّهم ـ كمن يشتري الأشياء التي تتّصل بها عاداته، ولكنها تضره في صحته، أو التي تضرّه في عقله، كمن يشتري الخمر والمحرّمات وما إلى ذلك ـ وكم من قوم قد غرّتهم ـ من الغفلة ـ حتى أتاهم الموت، فاستوعبوا فخرجوا من الدنيا ملومين لما لم يأخذوا ما ينفعهم في الاخرة عُدّة، ولا مما كرهوا جُنّة ـ درعاً يقيهم من النار ـ فقسّم ما جمعوا لمن لم يحمدهم ـ قد جمعوا المال وقسّمه الوَرَثَةُ بينهم ـ وصاروا إلى مَنْ لا يعذرهم ـ صاروا إلى الله تعالى الذي أقام عليهم الحجّة وكانت له الحجّة عليهم ـفنحن والله حقيقون ـ يعني أنَّ الحقَّ علينا ـ أن ننظر إلى تلك الأعمال التي نتخوّف عليهم منها، فنكفّ عنها".
تقوى الله
ويتابع الإمام الباقر(ع) قائلاً لعمر بن عبد العزيز: "فاتّقِ الله واجعل في نفسك اثنتين: انظر إلى ما تحبّ أن يكون معك إذا قدمت على ربِّك فقدّمه بين يديك ـ أي عندما تعيش صداقاتك وانتماءاتك، أو عندما تعيش أعمالك، فكّر: مَنْ هو الذي تحبُّ أن يكون معك في حشرك ليُحشَر معك وتُحْشَر معه؟ وأيَّ عمل تحبُّ أن يرافقك في موقفك يوم القيامة، الصالح أم الفاسد؟ ولا تستغرق في ما تحبّه وفي من تحبّه في دنياك، لأنَّك قد تواجه واقعاً صعباً، فانظر الذي تحبّ أن يكون معك، فقدّمه بين يديك ـ وانظر الذي تكره أن يكون معك فارمه وراءك ـ فلو فرضنا أنَّ أحدهم قال لك أتحبُّ أن تُحْشَر يوم القيامة مع فلان أم لا؟ عليك أن تعرف أنَّ للارتباطات انتماءات سياسية وأخرى شخصيّة.. فهناك الظَلَمةُ من الناس ممن يعيش الإنسان الانحراف معهم، فلو قيل لك هل تحبّ أن تُحشر مع هذا الإنسان الظالم المنحرف ، فإنّك بالتأكيد تكره ذلك، ومن هنا عليك أن تعرف كيف تبني علاقاتك بالناس ـ ولا ترغبنَّ في سلعة قد بارت على مَنْ كان قبلك، فترجو أن تجوز عنك ـ لا تحاول أن تأخذ السلعة التي بارت عند غيرك ولم تعد صالحة ـ واتّقِ اللهَ يا عمر ـ هنا تحدّث الإمام(ع) مع عمر المسؤول، وقبل قليل تحدّث مع عمر الإنسان ـوافتح الأبواب وسهّل الحجّاب وانصر المظلوم وردَّ المظالم ـ لأنَّ موقعك يفرض عليك أن تنفتح على النّاس ـ ولا تغلق بابك عنهم، وأن تردَّ ظلامةَ كلِّ مظلوم".
عمق الإيمان
ويسترسل(ع) موجِّهاً وواعظاً ومنبِّهاً، وقد أراد أن يعطي لعمر صورة عن عمق المؤمن في حركته مع الآخرين، لأنَّ للمؤمن صفات، حيث إنَّ هناك صفات داخليّة، وأخرى تتصل بعلاقته مع الآخرين، وعلاقته مع عواطفه السلبيّة والإيجابيّة، وعلاقته مع قدراته التي قد تنطلق في داخل السلب والإيجاب، فيقول له: "ثلاثٌ مَنْ كُنّ فيه استكمل الإيمان بالله ـ بحيث تمثّل هذه الثلاثُ العناصرَ الأساسيّة في عمق الإحساس الإنسانيّ بحركة الإيمان في علاقته مع الآخرين أو مع قدراته، فجثا عمر على ركبتيه وقال: إيه يا أهل بيت النبوّة، فقال: "نعم يا عمر: مَنْ إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل ـ فإذا كانت عواطفك مع الآخرين ممن تحبُّ من أقربائك وأصدقائك والناس الآخرين الذين تنتمي إليهم، فإذا أحببتهم أو رضيت عنهم، فليكن رضاك عنهم متوازناً، بحيث تقف عند الحقّ ولا تتجاوزه إلى الباطل، فلا تقل في مَن تحبّ أكثر ممّا يستحق، ولا تضخّم شخصيته، ولا تعطه الصفات التي لا يملكها، لأنَّك عندما تعطيه ذلك فقد واجهته انحرافات ثلاثة: الأول: أنَّك تجعله مغروراً بنفسه، لأنَّه قد يضخّم نفسه بصفات ليست موجودة فيه. الثاني: أنَّك تغشّ الناس به ممن يستمعون إلى قولك، فيتبعونك على أساس شهادتك فيه. وأما الانحراف الثالث: فإنَّك تسيء إلى الحقيقة عندما تتحدّث عن إنسان بالباطل فتقتل الحقَّ في كلامك، والله يريد للإنسان أن يعيش الحقّ حتّى مع مَنْ يحبّ {وإذا قُلْتُم فاعْدِلُوا ولَو كان ذا قُربى} [الأنعام: 152].
وأما الأمر الثاني الذي ينبغي اتباعه ـ ومَنْ إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ـ فإذا غضبت على إنسان أو عاديت إنساناً أو اختلفت مع إنسان، فلا تنسب إليه من السوء ما ليس بحقّ، تحدّث عمّا يملك من الحقّ من الإيجابيات، ولا تتحدّث عنه من خلال نظرتك السوداء، كما لو كان شرّاً كلّه {ولا يَجْرِمنَّكُم شَنآنُ قومٍ على ألاَّ تَعْدِلُوا اعدِلُوا هو أقربُ للتقوى} [المائدة: 8]، وهكذا ـ ومَنْ إذا قَدِر لم يتناول ما ليس له"، فالإنسان المؤمن هو الذي إذا كان يملك طاقةً يستطيع من خلالها أن يتناول كلَّ شيء ممّا حوله، فعليه ألا يستغلّ قدرته في أن يتناول أو يأخذ ويصادر ما ليس له.
بعد هذه الموعظة البليغة، لم يطلب الإمام الباقر(ع) أيَّ شيء، فما كان من عمر ابن عبد العزيز بعد أن سمع كلام الإمام(ع) ، إلاَّ أن أمر بدواة وبياض (قرطاس)، وكتب بعد البسملة: "هذا ما ردَّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي بن الحسين بن أبي طالب بفدك".
ونحن نستوحي من هذه الرواية، أنَّ مسألة فدك وعلاقة الزهراء(ع) أمِّ الأئمة بها، كانت من المسائل الواضحة في ما تمثّل من حقٍّ لها(ع) عند جميع الحكام في ذلك العصر، وهذا ما دعا عمر بن عبد العزيز إلى أن يكتب ليردَّ على الإمام(ع) فَدَك باعتباره من أبناء الزهراء(ع) رغم أنَّه لم يطلبها منه..
دين الرفق
ثم نطلّ مع الإمام الباقر(ع) على ما يعيش الناس من الجدل، ولا سيما في ما ينسبه الغرب إلى الإسلام والمسلمين، من أنَّ الإسلام هو دين العنف، وأنَّ المسلمين، لا سيما الحركيّين، يعتبرون العنف هو الوسيلة الوحيدة لتغيير الواقع، وللتعامل مع النّاس الآخرين، فيقول(ع): "إنَّ لكلِّ شيءٍ قفلاً وقفل الإيمان الرفق".
إنَّ الإسلام دين الرفق، وما جاء في القرآن وفي أحاديث النبيّ(ص) والأئمة من أهل البيت(ع) ، يؤكّد أنَّ الرفق هو الأصل، وأنَّ العنف إنَّما يكون في مواجهة من يفرض العنف على المسلمين.
ونحن إذ نذكر هذه الوصايا والأحاديث ، فلكي نستمدّ من سيرة الإمام الباقر(ع) الخطوط العمليّة التوجيهيّة في حركة الإنسان المسلم في الحياة، لأنَّ الإمام الباقر(ع)، كما هم أهل البيت(ع)، كانوا يعملون على أن يثقّفوا المجتمع المسلم بكلِّ القيم الإسلاميّة، وبكلِّ ما يذكّر الناس بالله، بحيث تمتلىء عقولهم وقلوبهم بالله تعالى، وبحيث يرتفعون إلى درجة التقوى، ولم يقتصر تعليمهم للنّاس على الجوانب الفقهيّة، بل كانوا يحدّثونهم بكلِّ ما يقوِّي معرفتهم بالله وحُبَّهُم للناس، ويقوِّي خطَّ الاستقامة في سلوكهم.
ولذلك، ينبغي لكلِّ الذين يحملون ثقافة أهل البيت(ع)، أن يعملوا في الليل والنهار، مع الخاصة والعامة، على تثقيف الناس بالإسلام، بأبعاده العقيدية والأخلاقية والفقهيّة والاجتماعية والسياسيّة، لأنَّ المجتمع المسلم إذا لم يكن مثقفاً بالإسلام، فإنَّه قد يُخدَع عن الإسلام بالكفر باسم الإسلام، وقد يُصوّر إليه الباطل بصورة الحقّ، فيأخذه على أنَّه الحقّ، وكما يجب على العلماء أن يعلِّموا يجب على الناس أن يتعلّموا.. ولأهميّة العلم، كون المعركة القائمة الآن بيننا وبين المستكبرين هي معركة علم، نطّلع على آراء الإمام الباقر(ع) في هذه المسألة.
روحية العلم
تحدّث الإمام(ع) عن الروحيّة التي ينبغي للمتعلّم أن يعيشها لغاية العلم في نفسه، لأنَّ هناك مَن يطلب العلم من أجل أن يخدم العلمُ شخصَه في معنى الجاه، وفي معنى الكسب الماديّ، وهناك مَن يطلب العلم ليستعرض عضلاته العلميّة في مواجهة الناس لتأكيد ذاته، وهناك مَنْ يطلب العلم من أجل أن ينير ذاته في معرفة الحقيقة، وأن ينير في العلم مجتمعه في إضاءة قضاياه كلّها بالحقيقة.
يقول(ع): "مَنْ طلب العلم ليباهي به العلماء ـ يعني أن يصير عالماً يفاخر العلماء بعلمه ـ ويماري به السفهاء ـ يجادلهم ـ أو يصرف به وجوه الناس إليه ـ حتى يصبح شخصيّة علميّة، بحيث يتوجّه الناس إليه من أجل أن يعظّموه ويحترموه ويمنحوه الامتيازات التي يريدها لنفسه، بحيث يعيش الشخصيّة الطاووسيّة في داخل ذاته وفي حركته في الواقع ـ فليتبوأ مقعده من النار"(10)، لأنَّه يطلب العلم للشيطان ولا يطلبه لله.
طريقة استيعاب العلم
وفي حديث آخر، يعرّفنا كيف نستوعب العلم عندما نستمع إليه في أيِّ خطٍّ من خطوطه.. كيف نفهمه ونهضمه، وكيف نحوّله إلى فكر يحكم تطوراتنا الثقافية كلّها والتزاماتنا العلميّة كلّها وانتماءاتنا الحركيّة كلّها. ينقل أحد الرواة، وهو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر الباقر(ع) يقول: "إذا سمعتم العلم فاستعملوه ـ يعني حوّلوه إلى واقع عمليّ حركي، بحيث لا يبقى مجرّد فكرة في العقل، بل لا بدَّ أن يتحوّل إلى حركة في الواقع ـ ولتتسع قلوبكم ـ يعني اجعلوا قلوبكم واسعة، والمراد بالقلوب هنا المنطقة الداخليّة للفكر والإحساس ـ فإنَّ العلم إذا كثُر في قلب رجلٍ لا يحتمله ـ يعني يعجز عن احتماله واحتمال ما يتبعه من العمل ـ قَدِر الشيطان عليه ـ لأنَّه عندما لا ينضج العلم في قلب الإنسان، ولا يتحوّل إلى فكرة ثابتة في الذات، فإنَّ من الطبيعي أن يبقى في السطح، وإذا بقي في السطح وابتعد عن العمق سيطر عليه الشيطان.
مواجهة الشيطان
ـ وإذا خاصمكم الشيطان ـ يعني أراد أن يدخل إليكم بوسوسته وشبهاته ـ فأقبلوا عليه بما تعرفون ـ حاول أيها الإنسان أن تكون لديك المعرفة لكلِّ ما يثيره الشيطان أمامك، مما يريد أن يوسوس لك لتهتزّ عقيدتك، أو يريد أن يزيّن لك لينحرف طريقك، فواجهه بصلابة الموقف ـ فإنَّ كيدَ الشيطان كان ضعيفاً"، يعني لا تعتبر الشيطان قويّاً عندما يقتحم عليك عقلك في ما يحمل من فكر، أو يقتحم قلبك في ما يحمل من مشاعر وأحاسيس، أو يقتحم خطَّك في ما تستقيم به خطواتك، لا نتصوّر أنَّ الشيطان قويّ، ولكنَّ المشكلة أنَّ الشيطان يستغلُّ ضعفنا، ويبعدنا عما نعرف ليقودنا إلى الهاوية. ولذلك، فإنَّ قوّة الشيطان تنطلق من ضعفنا.. كما هي الحال الآن في واقعنا السياسيّ في العالم، فليس من الضروري أن يكون أعداؤنا من الشياطين الكبار والصغار أقوى منّا، صحيحٌ أنّهم يملكون القوّة، ولكنهم أقوياء بضعفنا، فإذا قوينا وأخذنا بأسباب القوّة، أمكننا أن نقف أمامهم وجهاً لوجه، ولكننا نصنع الضعف لأنفسنا، ويصنعون القوّة لأنفسهم، فيسيطرون علينا من خلال سيطرتهم على نقاط الضعف فينا..
الشيطان لا يملك القاعدة ولا الحجّة، لذلك، إذا تسلّحنا بمعرفة الحقيقة واستوعبناها وحوّلناها إلى جزءٍ من ذاتنا الثقافية والفكريّة، أمكننا أن نكتشف أسلوب وسوسة الشيطان، وأمكننا كشفَ أسلوب اللعب على الحبال ومحاولة تغيير الحقيقة..
وهنا يُسأل الإمام الباقر(ع) : كيف نمتلك سلاح المواجهة للشيطان، قال(ع) : "خاصموه بما ظهر لكم من قدرة الله عزَّ وجلّ"(11)، اعرفوا الله في مواقع قدرته، فإذا أراد أن يثير الوسوسة والشكّ بالله، فحرّكوا ثقافتكم كلّها، في ما تعرفونه من أسرار خلق الله ومن مواقع قدرته، ووجّهوها إليه فسيسقط أمامكم.
لا تتحدّث بما لا تعلم
ثم يدخل الإمام الباقر(ع) في مسألة أنَّ الإنسان يجب عليه أن يقف عند ما يعلم، ولا يحاول أن يتحرّك أو يتحدّث بما لا يعلم، لأنَّه يفقد القاعدة الثقافية في هذا الموضوع، ويمكن أن يسيء إلى الناس الذين يتحدّث إليهم عندما يتحدّث إليهم بالجهل، يقول(ع): "ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا الله أعلم، إنَّ الرجل ينتزع الآية من القرآن ـ يحاول أن يفسّر القرآن، وهو لا يملك ثقافة تفسير الآية لأنّه لا يعرف عمقها وامتدادها وافاقها، وإنّما يحاول أن يتحدّث عنها في السطح، وهو عندما يستخرج هذه الاية وينتزعها من القران وهو جاهل لمعناها ومرماها ـ يخرُّ فيها أبعد ما بين السماء"(12). نتيجة هذا الجهل الذي يسيطر عليه، فيشوّه صورة الآية بجهله، وبذلك يقدّم للناس تفسيراً يبتعد بهم عن القران، ويبتعد بهم عن الله سبحانه وتعالى.. وهذه من الأمور التي ربما نعيشها في حياتنا، لأنَّ الكثيرين من الناس الذين قد يملكون اسماً علميّاً يجعل الناس يطلبون منهم أن يتحدّثوا في كلِّ شيء حتى في ما يجهلونه، وربما يوسوس إليهم الشيطان أنّهم إذا قالوا عن شيء إنّهم لا يعلمونه، وإنّ هذا ليس من اختصاصي، أو لم أطّلع عليه، أو يحتاج إلى مراجعة، فإنَّ قيمته تسقط، ولذلك، فإنَّهم يحدّثون الناس بما يجهلون العلم به، مستغلّين جهلهم، مما لا يجعلهم يكتشفون ذلك. ولعلّ مشكلتنا في العالم الإسلاميّ كلّه، هو أنَّ الذين يسيطر عليهم الجهل كأوسع ما يكون، يحاولون أن يتمثّلوا واقعهم في حياة النّاس، كما لو كانوا علماء في أوسع ما يكون العلم.
احترام إنسانية الإنسان
نلاحظ أنَّ كلَّ ما جاء عن أئمة أهل البيت(ع)، أنهم كانوا من خلال ما يؤكّده القرآن يرون أنَّ من أولى عناصر الدعوة إلى الله، هي احترام إنسانية الإنسان، لأنَّ قضية أن تفتح عقل الإنسان على فكرك، هي أن تفتح إنسانيته على إنسانيتك، لأنَّ مسألة التقاء الإنسانية بالإنسانية الأخرى في حركة المشاعر والأحاسيس، هي التي تهيىء الجوَّ النفسيَّ للانفتاح على ما تريد أن تطرحه عليه، بينما يكون العكس وسيلةً من وسائل انغلاقه عليك، لأننا عندما نريد أن نطلق الدعوة في عقل إنسان ما، فإنَّ علينا أن نعرف الطريق الذي يمكن أن نسلكه في الوصول إلى مواقع عقله ووجدانه، وهذا ما يحتاج إلى أن يشعر بأنَّك تحترمه، وتحترم فكره وقناعاته، وأنَّك تفتح له قلبك، فيقول الإمام الباقر(ع): "إنَّ الله خبّأ ثلاثة في ثلاثة أشياء: خبّأ رضاه في طاعته ـ فالله يرضى عمّن أطاعه ـفلا تحقرنّ من الطاعة شيئاً فلعلَّ رضاه فيه ـ فلا تستخف بالطاعة مهما كانت صغيرة ـ وخبّأ أولياءه في خلقه، فلا تحقرنّ أحداً فلعلَّ الوليّ ذلك..."(13)، فاحترم كلَّ الناس مهما كان الإنسان منهم بسيطاً، فلعلّه وليُّ الله.
حُسْن التخاطب
وفي وصيّة له(ع) : "قولوا للنّاس أحسنَ ما تحبّون أن يُقال لكم ـ إذا أردتَ أن تتحدّث مع الناس، فاختر كلماتك وأسلوبك وردَّ الفعل، وتعاطَ معهم كما لو كنت مكانهم ـ فإنَّ الله تعالى يبغض اللعّان السبّاب ـ الذي إذا دخل في مشكلة مع إنسان، فإنَّ اللعنات والسباب يكثران على لسانه، وهذا الإنسان يبغضه الله ربُّ العالمين القاهر القادر، فمن يتحمّل تبعات هذا البغض؟ ـ الطعّان على المؤمنين ـ يذمُّ المؤمنين وينسب إليهم الكلمات المسيئة الفاحش المتفحّش الذي تنطلق كلماته بالبذاءة والفحش ضدّ المؤمنين ـ السائل الملحف ـ الذي يلحّ بالسؤال فوق العادة ـ ويحبّ الحليم ـ فالله تعالى يبغض ذاك ويحبُّ هذا الإنسان الحليم الطيّب الواسع الصدر ـ العفيف ـ في كلماته وشهواته ـ المتعفّف" (14).
اللسان مفتاح
القول الحسن أو السيّىء، الكلمة الطيّبة أو الخبيثة، كلُّ ذلك ينطلق من اللسان، فيقول(ع): "إنَّ هذا اللسان مفتاح كلِّ خير وشرّ ـ إذا قلت كلمة الخير، فإنَّ لسانك يفتح الخير على الحياة من حولك، وإذا قلت كلمة الشرّ، فإنَّ اللسان يفتح الشرّ على الحياة ـ فينبغي للمؤمن أن يختم على لسانه كما يختم على ذهبه وفضته ـ حاول أن تقفل لسانك بقفل من التقوى ـ فإنَّ رسول الله(ص) قال: رحم الله مؤمناً أمسك لسانه من كلِّ شرّ، فإنَّ ذلك صدقة منه على نفسه"(15)، فإذا أردت أن تتصدّق على نفسك، فتصدّق عليها بأن تحرّك لسانك في الخير الذي يحبُّه الله.
سعة الصدر
وفي مجال سعة الصدر والمرونة في التعامل مع الذين يسيئون إليك، يقول(ع): "ثلاثٌ لا يزيد الله بهنَّ المرء إلاَّ عِزّاً: الصفح عمن ظلمه ـ في العلاقات الشخصيّة ـ وإعطاء مَن حَرمَه، والصلة لمن قطعه"(16)، بألاَّ تكون أخلاقك أخلاقاً تجاريّة، بحيث تصفح عمن صفح عنك، وتعطي مَنْ أعطاك، وتصل مَنْ وصلك، بل أن تعطي مَن حرمك، لتكون أخلاقك أخلاق القيمة التي تعيشها في داخل نفسك، لأنَّ ذلك يدلُّ على أنَّك تعيش القيمة الأخلاقية التي لا تطلب من الآخرين أيَّ عِوَض عمّا تقدّمه إليهم، لأنَّ الله تعالى يريد منا أن نكون كالشمس تطلع على كلِّ النّاس، وكالينبوع يتفجّر ليعطي النماء للأرض القاحلة والخصبة معاً ويروي عطش كلِّ النّاس.. وهذا هو معنى أن تعيش القيمة الروحية في نفسك، بقطع النظر عن نتائجها السلبيّة أو الإيجابيّة هنا وهناك.
الصبر على الحقّ
الإمام الباقر(ع) كما كلّ أئمة أهل البيت(ع) ، كانوا يجسّدون الأسلوب القرآني الحركيّ في الدعوة في كلِّ مفردات حياتهم على مستوى الدعوة إلى الله في خط العقيدة أو في الخطّ الأخلاقي، وفي كلِّ المجالات الحياتية، فيقول(ع): "لما حضرت أبي عليّ بن الحسين الوفاةُ، ضمني إلى صدره، وقال: أي بنيّ، أوصيك بما أوصاني أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أنَّ أباه أوصاه به، أيْ بنيّ، اصبر على الحقِّ وإنْ كان مرّاً"(17). حاول ـ أيها الإنسان ـ أن تعرف الحقَّ في العقيدة والشريعة والواقع الاجتماعي والسياسيّ، والحقُّ قد يكلّفك بعض المرارة في حياتك، وقد تدفعك نفسك إلى أن تسقط أمام الباطل لأنَّه يمنحك بعض حلاوته، وأن تبتعد عن الحقّ لأنّه يحمّلك مسؤوليةً قد تُثقل مزاجك، فاصبر على الحقّ وإن كان مرّاً، حاول أن تضغط على مزاجك وعصبياتك وعلى كلِّ ما يريد الآخرون أن يقودوك إليه من باطل.. قف مع الحقّ، لأنَّ الله تعالى هو الحقّ، وهو الذي خلق السموات والأرض بالحقّ، ولأنَّ الناس يفدون إليه سبحانه على أساس مواقعهم من الحقّ والباطل، فالحياة تُبنى بالحقّ وتكبر بالحقّ وتغنى بالحقّ.
ويقول(ع): "الجنّة محفوفةٌ بالمكاره والصبر ـ إنَّ الجنّة تعني أن تواجه مسؤولياتك في طاعة الله، وقد تكون طاعة الله على خلاف مزاجك، وتعني أن تصبّر نفسك عن معصية الله، وقد تكون معصية الله مع مزاجك، فإذا أردت أن تربح الجنّة، فعليك أن تجاهد نفسك ـ فمن صبر على المكاره في الدنيا دخل الجنّة، وجهنم محفوفةٌ باللذّات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذّتها وشهوتها مما حرّمه الله عليه دخل النار"(18)، والله تعالى لم يحرّم لذّةً أو شهوة بشكل مطلق، بل خطَّ للذاتنا وشهواتنا خطّاً يفتح حياتنا على التوازن، فإذا أردت ـ أيها الإنسان ـ أن تحقّق شهواتك، فحقّقها ولكن بالحلال، لأنَّ الله لم يرد إبعادك عن لذّات الدنيا وشهواتها، ولكنه أراد إبعادك عن محرّماتها، لأنَّ في الحرام إفساداً لحياتك.
العلاقة بين المؤمنين
وكان(ع) يؤكد على علاقة المؤمنين في المجتمع في الدرجة العليا التي يصبح فيها المجتمع كالجسد الواحد، فقد سأل بعض أصحابه، وهو سعيد بن الحسن، قال: "أيجيء أحدكم إلى أخيه فيُدخل يده في كيسه فيأخذ حاجته فلا يدفعه؟ فقال ابن الحسن: ما أعرف ذلك فينا؟ فقال أبو جعفر(ع) : فلا شيء إذاً ـ أي أين إيمانكم، وأين الوحدة الإيمانية بين المؤمنين؟ وأين الجسد الواحد الذي يمثّله المجتمع المؤمن؟ ـ قال: فالهلاك إذاً، قال(ع) : إنَّ القوم لم يعطوا أحلامهم بعد"(19)، أي لم تكمل عقولهم بعد ولا يزال إيمانهم غير ناجح، فهم بحاجةٍ إلى تعميق للإيمان أكثر، وإلى وعي لمسؤولية الإيمان في العلاقة بين المؤمنين أكثر.
الاجتهاد في الطاعة ـ الصدق والأمانة..
لو قرأنا الإمام الباقر(ع) قراءة دقيقة، لرأينا أنَّه عندما كان يُحدِّث، فكأنّه يحدّثنا عن قضايانا ومشاكلنا، وعن كلِّ التحديات التي تواجهنا، ولذلك فإنّنا نتحرّك في منهج علميٍّ ثقافي، نقدّم من خلاله الأئمة من أهل البيت(ع) من خلال ما قالوه وفعلوه، لأنّنا بحاجة إلى أن يعيش أهل البيت(ع) معنا، يحدّثونا عن كلِّ قضايانا وعن كلِّ ما يحيط بنا، لنزداد علماً من علمهم، وروحانية من روحانيتهم، وقوّة مما يوجّهوننا إليه من مواضع القوّة.
وفي هذا الموقف، نثير بعض الكلمات للإمام الباقر(ع) مما يتصل بالسلوك الأخلاقي للإنسان المسلم في علاقته بنفسه ومع الناس..
فمن وصاياه(ع): "عليكم بالورع ـ الورع عن الحرام، بحيث يقف الإنسان عند حدود ما حرّم الله فلا يتعدّاها ـ والاجتهاد ـ أن تجتهدوا في طاعة الله، وفي التحرّك بمسؤولياتكم في الحياة، بحيث لا يكون الواحد منكم الإنسان الذي يعيش اللامبالاة في حياته، فلا يتحسّس فيها أيّة مسؤولية، ويشعر أنَّ على الناس أن يخدموه ولا يخدمهم.. على الإنسان أن يبذل جهده في القيام بمسؤولياته تجاه نفسه وعياله وتجاه الناس من حوله، ممّن هو مسؤولٌ عنهم، وتجاه وطنه وأمّته، بحيث لا يعيش ذهنية الكسل والاسترخاء.
ويكمل الإمام الباقر(ع) وصيته، فيقول: ـ وصدق الحديث ـ إنَّ مسؤولية الكلمة عند الله تعالى هي أنّها تعبّر عن قضيّة أو شخص أو موقف أو خطّ.. عندما تكون إنساناً يثق الناس بك ويتفاعلون مع كلمتك، فإنَّ مسؤوليتك تكبر.. أن تكون صادقاً في الكلمة، لأنّك إذا كذبت بالكلمة وأعطيت الباطل باسم أنَّه الحقّ، وأعطيت الزّيف باسم أنّه الإخلاص، فمعنى ذلك أنَّك تخون ثقة النّاس بك، وتخون الحقيقة، لأنّك تُدخل إلى عقول الناس الباطل، وهم يتصوّرون أنَّك لا تقول إلا كلمة الحقّ، وتُدخل في عقول الناس الظلم وهم يتصوّرون أنَّك لا تقول إلا كلمة العدل، وتُدخل في عقول الناس الزّيف وهم يتصورون أنَّك لا تقول إلاَّ الإخلاص.. لذلك، فكّر أنَّك تتحمّل عندما تحدّث أهلك وأولادك والناس من حولك، فكّر أنَّك تتحمّل مسؤولية كلمتك التي قد تجعل هؤلاء يسيرون في الخطِّ المنحرف إذا كانت الكلمة منحرفة..
لذلك، لم يُوصِ الله تعالى بشيء كما أوصى بصدق الحديث، واعتبر أنَّ الإنسان عندما يكذب يخرج من الإيمان، لأنّ الإيمان هو الالتزام بالحقيقة، والكذب هو الالتزام بالباطل، ولا يجتمع الالتزام بالحقيقة مع الالتزام بالباطل في قلب امرىء مؤمن ـ وأداء الأمانة إلى مَن ائتمنكم عليها برّاً كان أو فاجراً، فلو أنَّ قاتل عليّ(ع) ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه"(20)، لأنَّ بعض الناس يميّزون في الأمانة بين الكافر والمخلص، بين الخائن والوفيّ.. في الأمانة ليس هناك كافرٌ ومسلم، خائن ومخلص.. لك ألا تقبل الأمانة، أما إذا قبلتها، فإنَّها تصبح في عنقك، وعليك أن تؤديها إلى مَن ائتمنك عليها مهما كانت صفته.. فحتى الموظّف مسؤولٌ في مواقع وظيفته وطبيعتها بأن لا يخون الأمانة، سواء كانت الوظيفة حكومية أو أهليّة.
شموليّة الإسلام في الكتاب والسُّنّة
وهناك نقطة أكّدها الإمام(ع) في شموليّة الإسلام في كتاب الله وسنته لحاجات الإنسان كلّها، وليست المشكلة في أنَّ الله تعالى لم يبيّن للإنسان الخطوط العامة أو التفصيليّة التي يحتاجها في مواجهته لمشاكله وحاجاته في الحياة، بل المشكلة هي أنَّ الناس قد لا يفهمون الخطوط العامة التي لو وعوا طبيعتها وامتداداتها وسعتها لاستطاعوا أن يكتشفوا الحلَّ الإسلامي لأيّة مشكلة طارئة أو البيان لكلِّ سؤال يرتسم في الذهن.. فعن عمر بن قيس عن أبي جعفر الباقر(ع) يقول: "إنَّ الله تبارك وتعالى لم يَدَعْ شيئاً تحتاج إليه الأمة إلاَّ أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله وجعل لكلِّ شيءٍ حدّاً وجعل عليه دليلاً يبيّنه ويوضحه ـ سواء كان هذا الدليل دليلاً على شخص يبيّنه، أي يملك المعرفة كالنبيّ والإمام، أو مَنْ تعلّم منهما، أو من خلال أنَّ النص يمكن أن يكون دليلاً لتفسير نصٍّ آخر ـ وجعل على مَنْ تعدّى ذلك الحدّ حدّاً"(21). ثم يؤكّد الإمام في هذا المنهج أنَّ القرآن هو الأساس: "لا تتخذوا من دون الله وليجةً ـ والوليجة هي خاصة الشخص، ومن يعتمد عليهم، أي لا تتخذوا من دون الله معتمداً ـ فتخرجوا بذلك عن الإيمان ـ لأنّ الإيمان هو العلم والامتثال: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤمنونَ حتى يحكِّمُوك فيما شَجَر بَيْنَهُم ثُمَّ لا يجِدُوا في أنفسِهِم حَرَجاً مما قضيت ويُسَلّموا تسليماً} [النساء:65](38).
من خلال ذلك، يريدنا الإمام(ع) أن نقرأ القرآن ونتدبره ونستوحيه، وأن نستلهمه ولا نجمّده من خلال تخلّفنا الذي نعتبره وعياً، وجهلنا الذي نعتبره علماً، لأنَّ القرآن نورٌ يضيء لنا الطريق في ثقافتنا وروحيتنا وحركتنا في الحياة.. والمسألة هي، كيف نفهم القرآن ونجعله كتاب الحياة لنفهمه في حركة الحياة، ولا نجعله كتاب القاموس لنفهمه في مفردات اللغة..
إنَّه الكتاب الذي ينفتح على كلِّ ما يحقّق للإنسان الخيرَ والسعادة، وذلك هو درس أهل البيت(ع) وخطّهم القرآني، فالله أولاً، ثم القرآن والنبي والأئمة والإسلام الذي يحتوي ذلك كلّه.
.. وتبقى كلمة
إنَّ أئمة أهل البيت(ع) هم الأدلاّء على الله، وهم منار الهدى ونور الحق، فلنفهم نهجهم، لا من خلال الدموع في حركة المأساة، ولا من خلال المشاعر في حركة الفرح، فإنّهم يريدون منا أن نعيش مأساة ما نتخبّط به من جهل وتخلّف في فهم الإسلام وفي حركة الواقع ، لنخرج من هذا الجهل إلى العلم، ومن هذا التخلّف إلى التقدّم.. ويريدون منا أن نعيش إنسانيتنا في أن نعترف ببعضنا البعض، بأن لا نجعل من الاختلاف الفكري حقداً وعصبيّة وطائفية، وأن لا نجعل من التنوّع في الواقع حاجزاً يفصلنا عن بعضنا البعض، فلقد أرادنا تعالى أن نعترف بالتنوّع، ولكنه أراد لهذا التنوّع ألا يكون دائرة مغلقة ننغلق بها عن الآخر، بل دائرة مفتوحة {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} [الحجرات:13]، ليفتح كلُّ واحد منا عقله وقلبه وطاقته للآخر، وعند ذلك، يمكن لنا إذا تعارفنا أن نتعاون على فهم الحقيقة، وإذا تعاونّا على فهم الحقيقة، فقد نتعاون على الارتفاع بها في ممارساتنا {إنَّ أكرمَكُم عندَ اللهِ أتقاكم} [الحجرات:13]، وأيضاً {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين:26].
وهذا هو الإمام الباقر(ع) في مواعظه ووصاياه وتعاليمه، فإذا أردنا أن نسير على خطاه، فعلينا أن نعيش كلَّ هذا الأفق الواسع على الله تعالى، وكلّ هذه الروح الواسعة التي تنفتح على الإنسان، وكلّ هذا المنهج الواسع الذي يغيّر الحياة من الشرِّ إلى الخير، ومن الباطل إلى الحقّ، ومن الظلم إلى العدل.. علينا أن ننفتح على علم هذا الإمام وعلى وصاياه وتعاليمه، وأن نعيش معه في حياتنا، لأنَّ ما تحدّث به ليس حديث مرحلة مضت لتموت مع موت المرحلة، ولكنّه حديث الإسلام كلّه، والإسلام باقٍ ما بقي الإنسان في الحياة.
المصادر:
(1)الكافي، ج:2، ص:195.
(2)الكافي، ج:2، ص:175.
(3)الكافي، ج:2، ص:126.
(4)الإرشاد، ص:166.
(5)مناقب آل أبي طالب 4/207.
(6)البداية والنهاية 9/341.
(7)مناقب آل أبي طالب 4/207.
(8)الخصال 1/125.
(9)الكافي، ج:1، ص:97.
(10)الكافي، ج:1، ص:96.
(11) بحار الأنوار، ج:2، ص:119.
(12)بحار الأنوار، ج:78، ص:187.
(13)بحار الأنوار، ج:68، ص:152.
(14)بحار الأنوار، ج:78، ص:178.
(15)بحار الأنوار، ج:71، ص:403.
(16)بحار الأنوار، ج:70، ص:184.
(17)بحار الأنوار، ج:1، ص:142.
(18)الكافي، ج:2، ص:173.
(19)بحار الأنوار، ج:78، ص:179.
(20)الكافي، ج:1، ص:113.
(21)الكافي، ج:1، ص:113.