لم يتحدَّث رسول الله (ص) عن صحابيّ كما تحدَّث عن عليّ (ع)، فهل المسألة عاطفية لأنّه ربّاه، أو لأنّه ابن عمّه وأبناء عمومته كثيرون؟ أو لأنّه صهره، وإذا صحَّ أنَّ لرسول الله بنات فعليّ ليس الصّهر الوحيد؟!
كما أنَّ النبيَّ (ص) وبنصّ القرآن {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}، فليس لرسول الله (ص) هوى بالمعنى الشخصي للهوى، بل إنَّ هواه هو هوى رسالته وخطّه وإخلاصه لربّه وانفتاحه على كلّ رضوان الله سبحانه وتعالى.
فلماذا إذاً يؤكِّد رسول الله (ص) الحديث عن عليّ (ع) فيقول: "أنا مدينةُ العِلْم وعليٌّ بابها"، ويقول: "أنْتَ وَلِيُّ كُلِّ مؤمِنٍ ومؤمِنة"، ويقول: "عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ"، ويقول: "أمَا ترضى بأن تكون منّي بمنزلةِ هارون من موسى إلاَّ أنّه لا نبيّ بعدي". ومنزلة هارون من موسى عبَّر عنها القرآن بقوله تعالى: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي*هَارُونَ أَخِي*اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي*كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً*وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً}؟!
فلماذا كلُّ هذا الحديث وأصحاب رسول الله كثيرون؟ فما هو تفسير هذه المسألة، وهل أراد رسول الله (ص) للمسلمين أن يحبُّوا عليّاً في الجانب العاطفي؟ تلك مسألة لا تحتاج إلى كلّ هذا الجهد، فعليٌّ يمكنه أن يفرض حبّه على كلّ مَن عرفه، فبإزاء إمكاناته الروحية والثقافية والجهادية والحركية، لا يملك الإنسان إلَّا أن يحبّه.
فلم يكن رسول الله (ص) يريد أن يحبّ الناس عليّاً (هكذا) ولغرض عاطفيّ.
لهذا نفهم أنّ رسول الله (ص) كان يريد أن يعدّ عليّاً (ع) في عقول المسلمين، من خلال أنّه الشخص الذي يملك العلم كلّه، والذي ارتبط الحقُّ به ارتباطاً عضويّاً، بحيث لا يمكنك أن تجد أيّ ثغرة بين الحقّ وبين عليّ (ع)، ما يجعله تجسيداً للحقّ، فكما يمكن أن تنظر إلى صورة الحقّ الفكرية بعقلك، يمكنك كذلك أن تنظر إلى صورة الحقّ العملية متمثّلة بعليّ (ع) بعينك.
وبناءً على ذلك، فإنَّ بيعة الغدير أمرٌ طبيعيٌّ جدّاً، فلقد جاء قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}، فقد أنزل إليك ـــ يا رسول الله ـــ بلاغٌ من ربّك أن تؤكّد ولايته، فالولاية ليست حكماً شرعيَّاً يمكن أن يؤجّل أو يُنسى، بل هي قضية الإسلام كلّه الذي يراد له أن يتحرَّك في قيادة جديدة تكون في كلّ مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبويّة، حتّى تبقى المسيرة منطلقة.
ثمّة فرق بين أن يكون أحد خليفة لحاكم يقود النَّاس بعده ليدبّر وضعهم الإداري أو الرسمي، فهذه مسألة ليست من المسائل التي تحتاج إلى شخص فوق العادة، إنَّما تحتاج إلى شخص له إمكانات مناسبة وغير استثنائية، أمّا في مسألة الدين الإسلاميّ، فإنَّ الله أرسل رسوله بهذا الدين، وأنزل عليه القرآن، من أجل أن يدخل الإسلام في عقول الناس وفي قلوبهم، وليقوم عليّ (ع) من بعده بالصفاء نفسه الذي كان يعيشه رسول الله (ص)، وبالفهم نفسه أيضاً، وبالانفتاح والأُفق الواسع نفسهما، وبالأخلاق نفسها ليكمل المسيرة.
إنَّ الخلافة عن رسول الله (ص) تختلف عن أيّ خلافة أخرى، لأنَّ المسألة ليست حكماً يتطلَّب الإدارة، ولكنَّها رسالة تتطلَّب العمق والامتداد بما لم تسمح به الظروف للرسول (ص) أن يصل إليه، لأنَّ المشركين شغلوه بالحروب والمشاكل والألغام التي زرعوها في طريقه. لذلك، كان الواقع الإسلامي يحتاج إلى شخص هو كلّ رسول الله (ص) ما عدا النبوّة، وليس هناك مَن تتوافر فيه هذه الصفّة سوى عليّ (ع).
لذلك، كان الأمر يحتاج إلى شخص يجسّد الإسلام عقلاً وروحاً وقوّة وحركة وانفتاحاً وإخلاصاً، فلم يكن ثمّة شخص بمستوى عليّ (ع). لذلك كانت الولاية تتطلّب أن يكون هناك إنسان هو نفس رسول الله (ص) في كلّ ما تعيشه نفسه...
ولذلك قال تعالى: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} الذين قد يقولون لقد ولَّى ابن عمّه وصهره، ممّا يمكن أن يثيره المنافقون والكافرون يومذاك.
* من كتاب "عليّ ميزان الحقّ".