إنَّ عليّاً (ع)، وبعد أن دارت الدائرة، لم يعتزل لمجرّد أنّه بات بلا دور، فالمسألة لم تكن مجرَّد خلافة يمنع من حقّه فيها، بل كانت مسألة رسالة حمّله الله تبارك وتعالى ورسوله (ص) المسؤوليَّة فيها، وعندما نُحيّت الخلافة عنه كان يحدّق بالرسالة، وعندما منعه بعض الناس من حقّه كان يحدّق في الواقع الإسلاميّ كلّه، وبالمسلمين كلّهم، فكانت كلماته كما في الكلمة التي خاطب فيها أهل مصر من خلال كتابه الذي حمله عامله عليها (مالك الأشتر) ولم يصل إليهم لأنّه وقع في أيدي أعوان معاوية الذين اغتالوه: "فما راعني إلَّا انثيال الناس على فلان يبايعونه"، ويقصد أبا بكر، "فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يريدون محق دين محمد (ص)"، وانظروا إلى هذا الجانب العاطفي الذي يشدّ عليّاً (ع) إلى الإسلام، تماماً كما يتحدّث الإنسان عن كارثة تصيبه في نفسه وفي أهله، والعاطفة هنا أعمق عند عليّ (ع)، لأنّ الإسلام عنده فوق كلّ شيء "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ"، وما أعمق كلمة (المصيبة) هنا! فهي تبكي وتفيض دماً في المأساة "أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنّما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشَّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه"1.
وقال (ع) في حالة من أروع وأندر حالات نكران الذَّات وأرقاها: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلَّا عليّ خاصة". فلا مشكلة عندي في أن أُظلمَ، ولكن المشكلة في أن يُظلَم المسلمون.
وقال (ع) مؤكِّداً مسؤوليَّته في تلك الظروف العصيبة: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا على سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنـز"2.
وقال لابن عباس الذي دخل عليه فرآه يخصف نعله: "ما قيمة هذه النّعل"، فقال: "لا قيمة لها؟"، فقال (ع): "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم"، وكان في كرسيّ الخلافة آنذاك "إلَّا أن أقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً"3. فمن مثل عليّ (ع) وهو مجرّد من كلّ شيء؟ ومنْ مثلُ عليّ (ع) وهو يملك الدنيا كلّها؟
وعندما تسلّم الخلافة، كان كرسول الله (ص) في موقع مسؤوليَّة الحكم والرسالة، ولم يكتف بأن يحرّك خطوط الإدارة من أجل فرض النظام، بل كان يعمل على توعية المسلمين بالإسلام كلّه...
لذلك كلّه، لا يمكن أن يكون غير عليّ (ع) وصيّاً لرسول الله (ص) من ناحية منطقية وليس من ناحية عصبية. فادرسوا عليّاً (ع) وادرسوا غيره دراسة مقارنة، لتروا كيف أنّ عليّاً (ع) كان في الموقع الذي كان فيه رسول الله (ص)، وكان غيره في الموقع المواجه له.
وقد يقول قائل: لقد نجح المسلمون في غياب عليّ (ع)، ولم ينجح عليّ (ع) عندما تسلّم الخلافة؟! ولكنّهم نجحوا في الامتداد، وكان عليّ (ع) منفتحاً على كلّ هذه النجاحات، وكان يعطي المشورة والرأي، ويحمي المواقع القيادية للمسلمين ويحمي حياتهم، لكنَّهم زرعوا الألغام في طريقه، حتى قال: "لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيّرت أشياء"4 . ولكن المرحلة لم تنتج علماً وعمقاً وامتداداً، فالقضيَّة لم تكن قضية أن تفتح أرضاً، ولكن أن تفتح إنساناً، وكان عليّ (ع) يعمل على أن يفتح عقل الإنسان على الحقّ، وقلبه على المحبّة، وحياته على العدل. ولذلك، فإنّ عليّاً (ع) لم يفشل لخلل في خطّته، ولكنهم زرعوا الألغام في طريقه "فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث قال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83].
"بلى والله، قد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"5...
* من كتاب "النّدوة"، ج 9.
[1]نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج3، ص119.
[2]شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1 ، ص 202.
[3]نهج البلاغة، الخطبة 33 من خطب الإمام (ع).
[4]نهج البلاغة، الحكمة 269.
[5]نهج البلاغة، من الخطبة الشقشقيّة.
إنَّ عليّاً (ع)، وبعد أن دارت الدائرة، لم يعتزل لمجرّد أنّه بات بلا دور، فالمسألة لم تكن مجرَّد خلافة يمنع من حقّه فيها، بل كانت مسألة رسالة حمّله الله تبارك وتعالى ورسوله (ص) المسؤوليَّة فيها، وعندما نُحيّت الخلافة عنه كان يحدّق بالرسالة، وعندما منعه بعض الناس من حقّه كان يحدّق في الواقع الإسلاميّ كلّه، وبالمسلمين كلّهم، فكانت كلماته كما في الكلمة التي خاطب فيها أهل مصر من خلال كتابه الذي حمله عامله عليها (مالك الأشتر) ولم يصل إليهم لأنّه وقع في أيدي أعوان معاوية الذين اغتالوه: "فما راعني إلَّا انثيال الناس على فلان يبايعونه"، ويقصد أبا بكر، "فأمسكت يدي، حتى إذا رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يريدون محق دين محمد (ص)"، وانظروا إلى هذا الجانب العاطفي الذي يشدّ عليّاً (ع) إلى الإسلام، تماماً كما يتحدّث الإنسان عن كارثة تصيبه في نفسه وفي أهله، والعاطفة هنا أعمق عند عليّ (ع)، لأنّ الإسلام عنده فوق كلّ شيء "فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ"، وما أعمق كلمة (المصيبة) هنا! فهي تبكي وتفيض دماً في المأساة "أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنّما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشَّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه"1.
وقال (ع) في حالة من أروع وأندر حالات نكران الذَّات وأرقاها: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلَّا عليّ خاصة". فلا مشكلة عندي في أن أُظلمَ، ولكن المشكلة في أن يُظلَم المسلمون.
وقال (ع) مؤكِّداً مسؤوليَّته في تلك الظروف العصيبة: "لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم، ولا على سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنـز"2.
وقال لابن عباس الذي دخل عليه فرآه يخصف نعله: "ما قيمة هذه النّعل"، فقال: "لا قيمة لها؟"، فقال (ع): "والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم"، وكان في كرسيّ الخلافة آنذاك "إلَّا أن أقيم حقّاً، أو أدفع باطلاً"3. فمن مثل عليّ (ع) وهو مجرّد من كلّ شيء؟ ومنْ مثلُ عليّ (ع) وهو يملك الدنيا كلّها؟
وعندما تسلّم الخلافة، كان كرسول الله (ص) في موقع مسؤوليَّة الحكم والرسالة، ولم يكتف بأن يحرّك خطوط الإدارة من أجل فرض النظام، بل كان يعمل على توعية المسلمين بالإسلام كلّه...
لذلك كلّه، لا يمكن أن يكون غير عليّ (ع) وصيّاً لرسول الله (ص) من ناحية منطقية وليس من ناحية عصبية. فادرسوا عليّاً (ع) وادرسوا غيره دراسة مقارنة، لتروا كيف أنّ عليّاً (ع) كان في الموقع الذي كان فيه رسول الله (ص)، وكان غيره في الموقع المواجه له.
وقد يقول قائل: لقد نجح المسلمون في غياب عليّ (ع)، ولم ينجح عليّ (ع) عندما تسلّم الخلافة؟! ولكنّهم نجحوا في الامتداد، وكان عليّ (ع) منفتحاً على كلّ هذه النجاحات، وكان يعطي المشورة والرأي، ويحمي المواقع القيادية للمسلمين ويحمي حياتهم، لكنَّهم زرعوا الألغام في طريقه، حتى قال: "لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيّرت أشياء"4 . ولكن المرحلة لم تنتج علماً وعمقاً وامتداداً، فالقضيَّة لم تكن قضية أن تفتح أرضاً، ولكن أن تفتح إنساناً، وكان عليّ (ع) يعمل على أن يفتح عقل الإنسان على الحقّ، وقلبه على المحبّة، وحياته على العدل. ولذلك، فإنّ عليّاً (ع) لم يفشل لخلل في خطّته، ولكنهم زرعوا الألغام في طريقه "فلما نهضت بالأمر، نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام الله حيث قال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص: 83].
"بلى والله، قد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها"5...
* من كتاب "النّدوة"، ج 9.
[1]نهج البلاغة، خطب الإمام علي (ع)، ج3، ص119.
[2]شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج1 ، ص 202.
[3]نهج البلاغة، الخطبة 33 من خطب الإمام (ع).
[4]نهج البلاغة، الحكمة 269.
[5]نهج البلاغة، من الخطبة الشقشقيّة.