المولد والنشأة
ولد الإمام عليّ بن أبي طالب (ع) في مكَّة المكرّمة في البيت الحرام، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل.
أبوه أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.
بقي عليّ(ع) في رعاية أمّه إلى أن بلغ الثامنة من عمره، وكان محمَّد بن عبد اللّه قد تزوَّج من خديجة، وأنجبت له بنين وبنات، واتفق في ذلك الوقت أن أصابت قريشاً أزمة شحَّت فيها موارد العيش، وكان وقعها شديداً على أبي طالب، لأنَّه كان كثير العيال، وفي قلّةٍ من المال لا يفي بنفقة رجل مثله، فقال محمَّد(ص) لعميه الحمزة والعباس: ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل؟ فجاؤوا إليه وسألوه أن يسلّمهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلاً وخذوا من شئتم. فأخذ العباس طالباً، وأخذ حمزة جعفراً، وأخذ محمَّد(ص) عليّاً. وجاء عنه أنَّه قال: لقد اخترت من اختاره اللّه لي عليكم، وكان عليّ يوم ذاك في الثامنة أو السادسة من عمره، وظلّ معه في رعايته يرعاه وينفق عليه ويتعهَّده بالتعليم والتوجيه، ويبثّ في روحه دقائق الحكمة وأسرار الكون والمعرفة، حتَّى أدرك من الحقائق ما لـم يدركه بعد رسول اللّه (ص) أحدٌ غيره، ولـم تكن فيه صفة إلاَّ وهي مشدودة إلى صفة من صفات النبيّ (ص).
الامام علي(ع) قبل البعثة
كان النبي محمد(ص) يتأمّل في آفاق اللّه وآفاق الكون، وينفتح في ذلك على اللّه قبل الرِّسالة، وكان يُشرك عليّاً في أجواء هذه التأمّلات، ويركّز في نفسه كلّ أخلاقه التي ميّزت شخصيته، فكان رسول اللّه الصَّادق الأمين، وربّى عليّاً على أن يكون الصَّادق الأمين.
وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصادق(ع)، عندما قال له بعض أصحابه: أريد أن تعلّمني شيئاً أبلغ به المنـزلة العليا عندك، قال: انظر إلى ما بلغ به عليّ من المنـزلة عند رسول اللّه فافعله، فإنَّ عليّاً بلغ ما بلغ لأنَّه كان الصَّادق الأمين.
كان صدقه(ع) هو الذي ربطه بالحقّ، فلم ينحرف عن الحقّ أبداً في الأمور الصغيرة والكبيرة... وكانت أمانته هي التي تربطه بالمسؤولية، لأنَّه كان يشعر بأنَّ المسؤولية الإسلامية تمثِّل أمانة اللّه عنده، في علاقته بكلِّ الواقع الذي حوله، وفي حركته في كلِّ المراحل التي عاشها، وفي كلّ المواقع التي تحرّك فيها.
ذلك هو عليّ (ع) الذي عاش مع اللّه سبحانه، حتَّى إذا بُعث رسول اللّه (ص)، دعاه إلى الإسلام، فاستجاب له وهو في التاسعة أو العاشرة من عمره.
ويذكر بعض المؤرخين، أنَّ عليّاً(ع) كان أوَّل من أسلم من الصبيان، يريدون من ذلك أن يوحوا بأنَّ عليّاً كان إسلامه إسلام صبي. ولكن رسول اللّه(ص) عندما دعاه، كان يجد في عقله عقل رجل كبير، وإلاَّ كيف يدعوه؟ وكيف يخاطبه؟
عليّ بعد البعثة
كان(ع) يتعلَّم من رسول اللّه كيف يكون الصَّابر عندما تحتاج الرِّسالة إلى صبر، وكيف يكون المتحرِّك عندما تحتاج الرِّسالة إلى حركة، وكيف يكون الشَّديد عندما تحتاج الرِّسالة إلى شدَّة، وكيف يكون المتسامح عندما تحتاج الرِّسالة إلى التسامح. فكانت أخلاقه صورة لأخلاق رسول اللّه(ص). حتَّى إذا جاء نصارى نجران ليباهلوا رسول اللّه(ص)، نزلت هذه الآية: {فمن حاجَّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقُل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثُمَّ نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين} (آل عمران:61).
وجاء رسول اللّه بعليّ(ع) وبابنيه الحسن والحسين وابنته فاطمة الزَّهراء(ع)، كأنَّه يقول: إنَّ عليّاً هو نفسي، وليس ذلك امتيازاً لقرابته، ولكنَّه امتياز لعمق شخصية عليّ (ع).
عليّ(ع) في شعب أبي طالب
فشلت قريش وأحلافها في جميع الأساليب التي استعملتها مع محمَّد(ص) وأتباعه من المسلمين الأوائل، ولـم تجدهم نفعاً جميع وسائل الإغراء والإرهاب والتعذيب، وأيقنت أنَّ جميع ما قامت به من جهود لإرغام محمَّد(ص) على التخلي عنها لم يجد نفعاً.
وهذا ما دفعهم إلى أن يقوموا بعد تفكير طويل بمقاطعة بني هاشم وأتباعهم، وحصرهم في مكانٍ واحد، وقطع جميع وسائل العيش عنهم، إلى أن يتراجع محمَّد وأتباعه، أو يموتوا جوعاً وعطشاً.
وجاء في تاريخ ابن كثير، أنَّ أبا طالب قد بلغ من حرصه على حياة محمَّد(ص)، أنَّه كان إذا أخذ النَّاس مضاجعهم في جوف اللّيل، يأمر النبيّ أن يضطجع على فراشه مع النيام، فإذا غلبهم النوم، أمر أحد بنيه أو أخوته فاضطجعهم على فراش الرَّسول، وأمر الرَّسول أن يضطجع على فراشهم حرصاً منه عليه، حتَّى لو قدّر لأحد أن يتسلل إلى الشعب ليلاً لاغتياله، يكون ولده فداءً لابن أخيه.
مع النبي(ص) في دعوته:
بدأت الأحداث تضغط على النبيّ(ص)، خصوصاً بعد خروجه من شعب أبي طالب بعد وفاة أبي طالب، ما دفع قريشاً إلى أن تشتدّ في إيذائه، فذهب إلى الطائف التي أغرت به الصبيان والخدم والعبيد، فرشقوه بالحجارة، حتَّى أصيب جسده في أكثر من موضع، كما أصيب عليّ(ع) الذي كان هو وزيد بن حارثة معه في تلك الرحلة، وهي أوَّل رحلة يقوم بها إلى خارج مكَّة في الدعوة إلى الإسلام. وكان عليّ(ع) يتلقَّى بصدره ويديه الأحجار والضرب، حتَّى أصيب بجروح في رأسه وبدنه، ومع ذلك، فقد أصيب النبيّ (ص) وسالت الدماء من ساقيه، كما يروي ذلك أكثر المؤرخين.
ورجع النبيّ(ص) إلى مكَّة وعلى الرغم مما لاقاه من القريب والبعيد، لم يضعف أمله بالنّصر، وكانت ثقته باللّه أقوى من قريش ومؤامراتها. والتقى وفداً من يثرب ودعاه إلى الذهاب إليها، وعرفت قريش الخبر لذلك، أخذت تعدّ العدّة للقضاء عليه قبل فوات الأوان، بشرط أن لا يتحمّل مسؤولية قتله فرد وحده، فاجتمعوا في دار الندوة ليتخذوا القرار المناسب بحقِّه فاختاروا مجموعة من الفتية الذين سيقومون بعمليّة القتل من جميع قبائل مكَّة كما نصّ على ذلك المؤرخون. ولكنّ الوحي أخبره بما تـمّ الاتفاق عليه بين قبائل مكَّة وأحلافها، وأخبر الرَّسول(ص) عليّاً(ع) بما اتفقت عليه قريش من تخطيطها لاغتياله ليلاً وهو على فراشه، فبكى عليّ(ع)، ولما أمره بالمبيت على فراشه، رحب بذلك، وقال له: «أوتسلم أنت يا رسول اللّه إن فديتك بنفسي؟ قال له النبيّ (ص): نعم، بذلك وعدني ربّي. فرحّب عليّ بالأمر، وتبدّد كلّ ما كان يُساوره من خوف وقلق على النبيّ(ص)، وتقدّم إلى فراش الرَّسول في تلك اللّيلة مطمئن النفس، رابط الجأش، ثابت الفؤاد، واتشح ببرد النبي(ص) الحضرمي الذي اعتاد أن يتَّشح به.
ولما حان الوقت الذي عينوه للهجوم على الدار، هجموا عليها، فوثب عليّ (ع) من فراشه، ففروا بين يديه حين عرفوه. وفي بعض الرِّوايات، أنَّهم قبل هجومهم عليه، جعلوا يقذفونه بالحجارة وهو ساكن لا يتحرّك ولا يبالي بما يصيبه من الأذى، ثُمَّ هجموا عليه يسبّونه، فشدّ عليّ(ع) عليهم، وانهزموا أمامه إلى الخارج، وسألوه عن محمَّد(ص)، فكان جوابه أنه لا يعلم عن مكان وجوده شيئاً.
وعلى أي الأحوال، فإنَّ مبيته على فراش الرَّسول (ص) ليقيه بنفسه ويفديه بروحه، يُعتبر من أروع ما عرفه التاريخ من التضحية في سبيل المبدأ والعقيدة.
تابع ركب النبيّ(ص) طريقه إلى يثرب، يقطعون السهول والجبال والأودية، حتَّى أصبحوا في أمان من خطر قريش وعلى مقربة من المدينة. أمّا عليّ(ع)، فبقي في مكَّة يؤدّي الأمانات إلى أهلها وكلّ ما أوصاه به الرَّسول (ص)، وبدأ بالتجهيز للحاق بالرَّسول (ص) مصطحباً معه الفواطم: فاطمة بنت رسول اللّه، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب، وفاطمة بنت حمزة، كما نصّ على ذلك معظم المؤرِّخين، ومعهم أمّ أيمن وأبو واقد الليثي، وقد واجه القوم الذين لحقوا به لإعادة الفواطم والمستضعفين إلى مكَّة.
حديث المؤاخاة
آخى النبيّ (ص) بين المهاجرين في مكَّة قبل أن يهاجروا منها إلى يثرب، كما جاء ذلك في بعض المؤلفات في السيرة ومجاميع الحديث، وآخى بينه وبين عليّ(ع)، وهذا ما ترجمه النبيّ(ص) في حديثه لعليّ(ع) بعد أن آخى بين المسلمين في مكَّة: «أما ترضى يا عليّ أن أكون أخاك؟ فقال عليّ (ع): بلى يا رسول اللّه، فقال النبيّ (ص) أنت أخي في الدُّنيا والآخرة».
وجاء في سيرة ابن هشام وغيرها، أنَّ النبيّ (ص) آخى بين المسلمين بعد هجرتهم إلى المدينة، وفي هذه المرة، كان يؤاخي بين مهاجر وأنصاري، والهدف منها أن يشدّ بعضهم إلى بعض برباط الإسلام والإيمان، بدلاً من رابطة العرق والدم والتحالف الذي كان قائماً بين قبائل العرب.
كما أنَّه آخى بينه(ص) وبين عليّ(ع) ثانيةً في المدينة، بعد أن تركه ولـم يؤاخِ بينه وبين أحد، فقال له عليّ(ع)، كما جاء في كتاب الرياض النضرة: «آخيت بين النَّاس وتركتني، قال: إنَّما تركتك لنفسي، أنت أخي وأنا أخوك، فإن ذاكرك أحد فقل: أنا عبد اللّه وأخو رسول اللّه، لا يدَّعيها بعدي غيرك إلاَّ كذَّاب». وفي رواية الطبراني، قال له النبيّ (ص): «والذي بعثنـي بالحقّ، ما أخَّرتك إلاَّ لنفسي، أنت منّي بمنـزلة هارون من موسى، إلاَّ أنَّه لا نبيّ بعدي».
بين بدر وأحد
بعد مضي أسبوع على رجوعهم إلى المدينة، أمر النبيّ (ص) بغزو بني سليم، وكانوا قد تجمعوا لغزو المدينة، وقاد الحملة بنفسه، وأعطى لواءه لعليّ(ع)، وكانت هذه الغزوة في الرابع والعشرين من شهر رمضان بعد معركة بدر بأيامٍ قليلة.
كما أنَّه وفي النصف من شوال، وبعد معركة بدر بشهر واحد تقريباً، غزا النبيّ(ص) بني قينقاع؛ إحدى قبائل اليهود في المدينة، فسار إليهم في أصحابه، وكان لواؤه مع الحمزة، وعليّ(ع) يقود الحملة ويتقدّم المسلمين.
وفي النصف من شهر محرّم بعد معركة بدر بأربعة أشهر تقريباً، بلغه أنَّ جماعة من بني سليم وغطفان قد تجمعوا في أرض لبني سليم يُقال لها قرقرة الكدر يريدون غزو المدينة، فسار إليهم في نحو مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، وأعطى لواءه لعليّ(ع).
وهكذا كان الأعراب يحتشدون بين الحين والآخر في مختلف الأماكن ويخطّطون لغزو المدينة، ولكنَّ النبيّ(ص) كان يفوّت عليهم تدابيرهم، فيخرج إليهم يقود المسلمين أحياناً، أو يرسل إليهم السرايا، وفي الغالب يكون لواؤه مع عليّ (ع).