يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33].
من أهل هذا البيت، الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (سلام الله عليه).
والحديث عن هذا الإمام حديث متعدّد الجوانب، لأنّ هذا الإمام عاش مع أبيه الحسين (ع) كلّ كربلاء، وواجه كلّ مآسيها، كما لم يواجه إنسانٌ عمق ذلك. وهكذا عرف كلّ أهدافها وكلّ شعاراتها، وعمل على أن يحرِّك كلّ نتائجها في الزَّمن. ولذلك، كان (ع) أوَّل من أسَّس حركة الذّكرى الحسينيَّة. كان يذكّر النّاس بعاشوراء بين وقت آخر، وكان يدفع بالنّاس إلى أن يتأمّلوها وإلى أن يتفهّموها، وكان يعمل على أن يثير المأساة بين وقتٍ وآخر، ليحرّك الثّورة في نفوس المسلمين ضدّ كلّ الذين صنعوا المأساة، وضدّ كلّ الذين يصنعون المأساة في المستقبل. كان هو والأئمَّة من بعده من أبنائه، يعرفون ويؤكّدون أنّ ثورة الحسين (ع) ليست ثورة محبوسة في داخل مرحلتها الزمنيّة، بل هي ثورة يراد لها أن توحي لكلّ جيل بكلّ عناوينها الكبرى، وبكلّ حركيَّتها في ضمير الأمّة.
وهكذا، فإنّ الإمام زين العابدين (ع) عندما كان يبكي أمام النّاس إذا ذكر مشاهد كربلاء، كان لا يتحرّك من عاطفة شخصيَّة، وإن كان للعاطفة دورها في حياة كلّ إنسان، حتى النبيّ (ص) قال عندما فقد ولده إبراهيم: "تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الله"...
لكنّ الإمام زين العابدين (ع) كان يريد أن يؤكِّد الخطَّ الإسلاميّ في الذكرى الحسينيّة، ليندفع كلّ الناس الذين يثيرون هذه الذّكرى، ليجعلوا منبرها منبراً للإسلام في كلّ مفاهيمه وعقائده وشرائعه.
وهكذا، كان الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) أوّل من كتب وتحدَّث عن حقوق الإنسان، سواء مع نفسه، ومع ربِّه، ومع كلِّ الناس من حوله، بحيث إنّ رسالة الحقوق الّتي أملاها الإمام أو كتبها، هي الرّسالة التي تجمع كلّ ما شرَّعه الإسلام وخطّط له من الحقوق التي يتحسّسها الإنسان في كلّ انتماءاته وارتباطاته وعلاقاته وواقعه، قبل أن تكون هناك وثيقة لحقوق الإنسان، وهي التي أكّدت أنّ لنفسك عليك حقّاً، ولربّك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، ولمجتمعك عليك حقّاً، وللناس من غير أهل ملّتك حقّاً، وللمعلّم حقّاً، وللمتعلّم حقّاً، بما ينبغي للمسلمين أن يملكوا ثقافة هذه الرّسالة.
ومن المؤسف أنّ تراث أهل البيت (ع) لم يدخل حتى الآن في الثّقافة الجامعيّة، مع أنّ هذا التّراث يمثِّل أكثر ما جاءت به الإنسانيَّة من تراث إنسانيّ.
أدعية ثقافيّة
ثمّ عندما ندرس الإمام زين العابدين (ع) في أدعيته، سواء في الصحيفة السجادية، أو في غيرها مما روي عنه، نجد أنّه (ع) جعل الدّعاء عنصر ثقافة، يتحدّث في داخله وهو بين يدي الله عن كلّ جوانب العقيدة. فأنت عندما تقرأ دعاءه بين يدي الله، فإنّك تقرأ كلّ عناصر التَّوحيد.. وهكذا، عندما تقرأ دعاءه عندما يذكر الملائكة، فإنَّه يصبح عندك ثقافة عن كلّ عالم الملائكة وليس مجرّد دعاء... وهكذا، عندما يدعو لوالديه ولجيرانه ولأهل الثّغور وللمرضى...
ومن هنا، كانت أدعية الإمام زين العابدين (ع) أدعية ثقافيّة، بحيث لا ينفتح فيها الإنسان على مجرّد ابتهالات روحيّة بين يدي الله، بل يأخذ المفاهيم الإسلاميّة في كلّ جوانب حياة الإنسان.
ومن المؤسف أنَّ هذه الأدعية الثّقافية الإنسانيّة الاجتماعيّة الإسلاميّة، لم تأخذ امتدادها الفكريّ في عقول النّاس، حتى الذين يتبعون الأئمّة من أهل البيت (ع) بشكل عام، ولم تدخل أيضاً في الثّقافة الجامعيّة، أو في المواقع الثقافية التي تتحدّث عن الجانب الروحي في الإسلام، مع أنّ هذه الأدعية هي الأدعية التي يمتزج فيها الجانب الرّوحي بالجانب الاجتماعي، وربما الجانب السياسي، وحتى بعض الجوانب التي تتّصل بالسلوك الاقتصادي للإنسان.
العابد السجّاد
وهكذا، نجد أنَّ الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) كان العابد الذي استحقّ لقب زين العابدين، من خلال إلحاحه على العبادة بين يدي الله، حتّى سمِّي السجّاد وذا الثّفنات، لأنّه كان في كلّ سنة، ولكثرة سجوده، تسقط من جبهته أو ركبتيه ثفنات... هذه العبادة الرائعة والعظيمة التي عاش معها محبّته لله وإخلاصه له حتى لم يجد أمام الله أحداً. ويمكنكم أن تقرأوا في الصحيفة السجادية هذا الدّعاء: "اللَّهُمَّ إنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلّي عَلَيْـكَ، وَصَـرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يستغنِ عن فضلِك، ورأيت أنَّ طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه، وضلّة من عقله. فكم قد رأيت - يا إلهي - من أناس طلبوا العزّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثّروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا، فصحّ بمعاينة أمثالهم حازم وفّقه اعتباره، وأرشده إلى طريق صوابه اختياره. فأنت، يا مولاي، دون كلّ مسؤول موضع مسألتي، ودون كلّ مطلوب إليه وليَّ حاجتي"[1].
محرّر العبيد
ولكنَّ ذلك لم يمنعه من أن ينفتح على الواقع الإسلاميّ، ليعطي المسلمين الثّقافة الإسلاميّة في الفقه وفي العقيدة وفي الأخلاق، وفي كلّ الجوانب التي كان الصّراع يعيش فيها في الواقع. حتى إنَّه كما ذكر بعض الكتّاب، يمثِّل أستاذ الثّقافة الإسلاميّة في تلك المرحلة التي عاشها، وكان إذا جلس في المسجد، وتعقّدت بعض المسائل على الناس، لا يتّجه الناس إلا إليه، لأنهم يعرفون أنّه وحده من يستطيع أن يحلّ مشكلاتهم العلميّة.
وبكلّ أسف، إنّ الصورة التي تقدَّم عن زين العابدين (ع)، هي صورة العابد الباكي، ولا تقدَّم صورة الموجِّه للثقافة الإسلاميّة، والمتحرّك في خطّ إغناء الواقع الإسلاميّ بكلّ ما يرفع مستوى المسلمين، لأنّ ذلك هي مسؤوليّة الإمام.
وكان الإمام زين العابدين (ع) محرّر العبيد، فكان يشتري العبد في ذلك الوقت، لأنّ مسألة الرقّ كانت موجودة آنذاك في الواقع الإسلامي، ولم يشرّعها الإسلام، ولكن جاء وهي موجودة، فحاول أن يخفّف منها، فكان (ع) يشتري مئات العبيد ويربّيهم وينمّيهم ويعلّمهم، وكان يستفيد منهم في أيّام الحجّ، بحيث كان يجعلهم يخدمون الحجّاج، ثم في آخر السنة يحرّرهم ويعطيهم ما لا يحتاجون به إلى الناس. وهذا معروف بالنّسبة إلى الإمام زين العابدين (سلام الله عليه)، وتُنقَل عنه أحاديث إنسانيّة رائعة وعظيمة لا يتسع المجال لها الآن.
المعلّم الواعظ
وهكذا، أيّها الأحبّة، كان المعلّم، وكان الواعظ، وكان القويّ في ذات الله، وكان الإنسانيّ الذي لم نعرف في تاريخ الإنسانيّة صدراً رحباً، وسموّاً في الأخلاق، وتمرّداً على كلّ المشاعر السلبيّة، كما الإمام زين العابدين (ع)، حيث إنّه عندما حدثت واقعة الحرّة في المدينة التي ثار فيها أهل المدينة على يزيد وعلى الأمويّين، جاء مروان بن الحكم، هذا الذي قال لوالي المدينة اقتلوا الحسين، وهو من كبار الأمويّين وشيوخهم، وعنده عائلة ما يقارب الـ 400 شخص بين نساء وأطفال، وجال على وجهاء المدينة يطلب منهم أن يضعوا عائلته عندهم ريثما يهرب ويخرج، فلم يقبلوا. وجاء إلى الإمام زين الإمام زين العابدين (ع)، ونحن نعرف ماذا فعل الأمويّون بالإمام وبأبيه وبأهله، فقال ابعث بعيالك إلى عيالي. ومكثوا عند الإمام (ع)، ينفق عليهم، ويرأف بهم، حتى قالت بعض نساء مروان: ما وجدت رعايةً في بيت أبي كما وجدتها في بيت الإمام. وهذا هو قول ذلك الشّاعر:
ملكنا فكان العفو منَّا سجيّة فلمّا ملكتم سال بالدَّم أبطحُ
وحللتم قتل الأسارى وطالما غدوْنا عن الأسرى نعفُّ ونصفح
فحسبكم هذا التّفاوت بيننا وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح
هذه هي بعض ملامح سيرة الإمام زين العابدين (سلام الله عليه). ونحن على سبيل الاختصار، نقرأ بعض كلماته، حتى نتعلّم من القيم الإسلاميّة الّتي يؤكّدها (سلام الله عليه).
ففي حديثه المرويّ عنه: "أربع من كنَّ فيه كمل إسلامه، ومحِّصت عنه ذنوبه، ولقي ربَّه عزَّ وجلَّ وهو عنه راض: من وفى لله عزَّ وجلَّ بما يجعل على نفسه للنَّاس - يعني الالتزامات الّتي تلتزمها، سواء العهود أو العقود التي بينك وبين النّاس، أو الالتزامات الزّوجيّة، أو الالتزامات الرّحميّة، وما إلى ذلك، أيّ شيء تجعله للنّاس على نفسك من التزامات أمام الله، أن تفي لله بما التزمت به على نفسك.. فكلمتك تقيّدك. هذه واحدة.. فالشخص الذي لا يفي للنّاس بما التزمه على نفسه، هو شخصٌ ناقص الإسلام.
والنّقطة الثّانية: ـ وصدق لسانه مع النّاس ـ أن يكون الإنسان الصَّادق عندما يعدهم وعندما يحدّثهم ـ واستحيا من كلّ قبيح عند الله وعند الناس ـ يعني حاول أن يتجنّب الأشياء القبيحة التي هي قبيحة دينيّاً لا يرضاها الله، وقبيحة اجتماعيّاً لا يرضاها النّاس ـ وحسن خلقه مع أهله"[2]، يعني أن تكون أخلاقه مع زوجته وأولاده، أو أخلاق الزّوجة مع زوجها وأولادها، أو الأخ مع إخوته، أن تكون أخلاقه حسنة، فمن لم يكن خلقه حسناً، كان ناقص الدّين.
حديث آخر، يقول الإمام (سلام الله عليه) فيما روي عنه:
"إِذَا جَمَعَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، قَامَ مُنَادٍ فَنَادَى يُسْمِعُ النَّاسَ، فَيَقُولُ: أَيْنَ الْمُتَحَابّونَ فِي اللهِ؟ قَالَ: فَيَقُومُ عُنُقٌ مِنَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُمُ اذْهَبُوا إِلَى الْجَنَّةِ بِغَيْرِ حِسَابٍ. فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب. قال: فيقولون: فأيّ ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابّون في الله. قال: فيقولون: وأيّ شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنا نحبّ في الله، ونبغض في الله. قال: فيقولون: نعم أجر العاملين"[3]. كان الحبّ بين بعضنا البعض، ليس على أساس شخصيّ، ولا على أساس طمع أو شهوة، كان حبّنا في الله، يعني لأنّك أخي في الله فأنا أحبّك، ولأنّكِ أختي في الله فأنا أحبّك، وهكذا.
وفي حديث آخر يقول: " إذا كان يوم القيامة، نادى مناد: ليقم أهل الفضل، فيقوم ناس من الناس، فيقال: انطلقوا إلى الجنّة، فتتلقّاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنّة. قالوا: قبل الحساب؟! قالوا: نعم. قالوا: ومن أنتم؟ قالوا: أهل الفضل. قالوا: وما كان فضلكم؟ قالوا: كنّا إذا جُهِل علينا حلمنا، وإذا ظُلِمنا صبرنا، وإذا أسيء إلينا غفرنا. قالوا: ادخلوا الجنّة فنعم أجر العاملين.
ثم ينادي منادٍ: ليقم أهل الصّبر، فيقوم ناس من الناس، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة بغير حساب، فتتلقّاهم الملائكة، فيقال لهم مثل ذلك، فيقولون: نحن أهل الصّبر، قالوا: ما كان صبركم؟ قالوا: صبرنا أنفسنا على طاعة الله، وصبرناها عن معصية الله عزّ وجلّ، قالوا: ادخلوا الجنّة، فنعم أجر العاملين.
ثم ينادي مناد: ليقم جيران الله عزّ وجلّ في داره، فيقوم ناس من الناس، وهم قليل، فيقال لهم: انطلقوا إلى الجنة، فتتلقّاهم الملائكة، فيقال لهم مثل ذلك، قالوا: وبم جاورتم الله في داره؟ قالوا: كنا نتزاور في الله عزّ وجلّ، ونتجالس في الله، ونتباذل في الله، قالوا: ادخلوا الجنّة، فنعم أجر العاملين"[4].
وختام المسألة في دعاء المؤمن للمؤمن بظهر الغيب. يقول الإمام زين العابدين (سلام الله عليه): "إنّالملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه المؤمن بظهر الغيب، أو يذكره بخير، قالوا: نعم الأخ أنت لأخيك، تدعو له بالخير وهو غائب عنك، وتذكره بخير، قد أعطاك الله عزّ وجلّ مثلَي ما سألت له، وأثنى عليك مثلَي ما أثنيت عليه، ولك الفضل عليه. وإذا سمعوه يذكر أخاه بسوء ويدعو عليه، قالوا له: بئس الأخ أنت لأخيك، كفّ أيّها المستر على ذنوبه وعورته، واربع على نفسك، واحمد الله الذي ستر عليك، واعلم أنَّ الله عزّ وجلّ أعلم بعبده منك"[5].
كيف نحبّ أهل البيت (ع)؟
هذه هي تعاليم الإمام زين العابدين (ع)، وهذا هو منهجه. وعلى ضوء هذا، فإن اتّباعنا لأهل البيت (ع)، هو الأخذ بكلّ هذه التعاليم، والسّير على كلّ هذا النّهج، وقد ورد عن الإمام زين العابدين أنّه قال: "أحبّونا حبّ الإسلام"[6]. أن تكون العلاقة بيننا وبين أهل البيت (ع) علاقة إسلاميّة، من خلال ما يمثّلونه من الخطّ الإسلاميّ الأصيل، وليس علاقة شخصيّة.
نسأل الله أن يجعلنا من الذين يوالونهم في الفكر وفي العمل، وأن يرزقنا شفاعتهم في الآخرة، إنَّه أرحم الراحمين.
*محاضرة لسماحته ألقاها بتاريخ: 20/4/ 2001م.
[1] الصّحيفة السّجاديّة، من دعائه (ع) متفرّغًا إلى الله عزّ وجلّ.
[2] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 72، ص 93.
[3] بحار الأنوار، ج66، ص 247.
[4] حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، ج3، ص 139.
[5] الكافي: الشّيخ الكليني، ج2، ص 508.
[6] بحار الأنوار، ج46، ص 73.