لا يخفى أنَّ فضائل ومناقب الإمام أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) لكثرتها وتوافرها، خرجت عن حدّ الإحصاء. وفي الحقيقة، إنّ إحصاء فضائله مستحيل كإحصاء النجوم، ولقد أجاد أبو نواس في قوله عند هارون الرشيد، كما في المناقب، أو عند المأمون، كما في سائر الكتب، حيث قال :
قيل لي أنت أوحد النّاس طرًّا في علوم الورى وشعر البديه
لك من جوهر الكلام نظام يثمر الدّرّ في يدي مجتنيه
فعلام تركت مدح ابن موسى والخصال التي تجمّعن فيه
قلت لا أستطيع مدح إمامٍ كان جبريل خادماً لأبيه
ولكن، من أجل التبرّك والتيمّن، نذكر نبذة من فضائله، والتي هي بالقياس إلى سائر فضائله كالقطرة من البحر :
في كثرة علمه:
روى الشيخ الطبرسي عن أبي الصلت الهروي أنّه قال: ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرّضا (عليه السلام)، ولا رآه عالم الّا شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع المأمون في مجالس له ذوات عدد، علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتى ما بقي أحد منهم إلّا أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور، ولقد سمعت عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) يقول: كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم عن مسألة، أشاروا إليّ بأجمعهم، وبعثوا إليّ بالمسائل فأجيب عنها.
قال أبو الصلت: ولقد حدَّثني محمد بن إسحاق بن موسى بن جعفر عن أبيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) أنّه كان يقول لبنيه: هذا أخوكم عليّ بن موسى الرضا، عالم آل محمد، فاسألوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقول لكم، فإنّي سمعت أبي جعفر بن محمد (عليهما السّلام) غير مرّة يقول لي: إنّ عالم آل محمد لفي صلبك، وليتني أدركته، فإنّه سميّ أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) .
روى الشيخ الصدوق عن إبراهيم بن العباس أنّه قال: "ما رأيت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) جفا أحداً بكلمة قطّ، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين يدي جليس له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قطّ، ولا رأيته تفل قطّ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قطّ، بل كان ضحكه التبسم .
وكان إذا خلا ونصبت مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه، حتى البوّاب والسائس، وكان (عليه السلام) قليل النّوم باللّيل، كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح، وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، وهي الخميس من أوّل كلّ شهر وآخره، والأربعاء من وسط الشهر، ويقول: ذلك صوم الدهر".
وكان (عليه السلام) كثير المعروف والصّدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في اللّيالي المظلمة، فمن زعم أنّه رأى مثله في فضله، فلا تصدّقوه .
وروي عن محمد بن أبي عباد أنّه قال: كان جلوس الرّضا (عليه السلام) في الصيف على حصير، وفي الشتاء على مسح، ولبسه الغليظ من الثياب، حتى إذا برز للناس تزيّن لهم .
روى الشيخ الأجلّ أحمد بن محمد البرقي عن معمر بن خلاد أنّه قال: كان أبو الحسن الرضا (عليه السلام) إذا أكل، أتي بصحفة، فتوضع قرب مائدته، فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به، فيأخذ من كلّ شيء شيئاً، فيوضع في تلك الصحفة، ثم يأمر بها للمساكين، ثم يتلو هذه الآية: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}[البلد: 11]. وحاصل الآية الشريفة والآيات بعدها، أنّ أصحاب الميمنة وأهل الجنة يدخلون في العقبة، أي الأمر الصعب، وهو مخالفة النفس، وتلك العقبة هي إعتاق رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة إلى اليتيم القريب، أو إعانة مسكين ذي مقربة. ثم يقول (عليه السلام): "علم الله تعالى أن ليس كلّ إنسان يقدر على عتق رقبة، فجعل لهم السّبيل إلى الجنّة بإطعام الطعام ."
روى الشيخ الصّدوق في "عيون الأخبار" عن الحاكم أبي عليّ البيهقي عن محمد بن يحيى الصولي أنّه قال: "حدّثتني جدّتي أمّ أبي، واسمها غدر قالت: اشتريت مع عدّة جوار من الكوفة، وكنت من مولّداتها. قالت: فحملنا إلى المأمون، فكنّا في داره في جنَّة من الأكل والشرب والطيب وكثرة الدنانير، فوهبني المأمون للرّضا (عليه السّلام)، فلمّا صرت في داره، فقدت جميع ما كنت فيه من النعيم، وكانت علينا قيّمة تنبّهنا من اللّيل وتأخذنا بالصّلاة، وكان ذلك من أشدّ ما علينا، فكنت أتمنّى الخروج من داره، إلى أن وهبني لجدّك عبد الله بن العباس، فلمّا صرت إلى منزله، كنت كأنّي قد أدخلت الجنّة .
قال الصولي: وما رأيت امرأةً قطّ أتمّ من جدّتي هذه عقلاً، ولا أسخى كفّاً، وتوفيت سنة سبعين ومائتين، ولها نحو مائة سنة، وكانت تسأل عن أمر الرّضا (عليه السلام) كثيراً، فتقول: ما أذكر منه شيئاً إلّا أنّي كنت أراه يتبخّر بالعود الهنديّ النيّ، ويستعمل بعده ماء ورد ومسكاً، وكان (عليه السلام) إذا صلّى الغداة، كان يصلّيها في أوّل وقت، ثم يسجد، فلا يرفع رأسه إلى أن ترتفع الشمس، ثم يقوم، فيجلس للناس، أو يركب، ولم يكن أحد يقدر أن يرفع صوته في داره كائناً من كان، إنّما كان يتكلّم الناس قليلاً قليلاً؛ وكان جدّي عبد الله يتبرّك بجدّتي هذه، فدبّرها يوم وهبت له، فدخل عليه خاله العباس بن الأحنف الحنفي الشّاعر، فأعجبته، فقال لجدّي: هب لي هذه الجارية، فقال: هي مدبّرة، فقال العباس بن الأحنف:
أيا غدر زيّن باسمك الغدر وأساء لم يحسن بك الدّهر
لا يخفى أنّ العرب تسمّي الجواري غالباً باسم غدر وغادرة، بمعنى عدم الوفاء، فيكون معنى البيت: أيتها المسمّاة بالغدر وعدم الوفاء، زيّنت عدم الوفاء والغدر، ولقد أساء إليك الدهر لمّا سمّاك غدراً."
وروى بالسند السّابق عن أبي ذكوان عن إبراهيم بن العباس أنّه قال: "ما رأيت الرضا (عليه السلام) يسأل عن شيء قطّ إالّا علم، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزّمان الأوّل إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسّؤال عن كلّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن، وكان يختمه في كلّ ثلاثة ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمته، ولكنّي ما مررت بآية قطّ إلّا فكّرت فيها، وفي أيّ شيء أنزلت وفي أيّ وقت، فلذلك صرت أختم في كلّ ثلاثة أيّام...".
روى الشيخ الكليني عن اليسع بن حمزة القمي أنّه قال: "كنت أنا في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أحدّثه، وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام، إذ دخل عليه رجل طوال آدم، فقال له: السلام عليك يابن رسول الله، رجل من محبّيك ومحبّي آبائك وأجدادك (عليهم السّلام)، مصدري من الحجّ، وقد افتقدت نفقتي، وما معي ما أبلغ به مرحلة، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي، ولله عليّ نعمة، فإذا بلغت بلدي، تصدّقت بالذي تولّيني عنك، فلست موضع صدقة.
فقال له (عليه السلام): اجلس رحمك الله. وأقبل على الناس يحدّثهم حتى تفرّقوا، وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا، فقال: أتأذنون لي في الدخول؟ فقال له سليمان: قدّم الله أمرك. فقام فدخل الحجرة وبقي ساعة، ثم خرج وردّ الباب وأخرج يده من أعلى الباب، وقال: أين الخراساني؟ فقال: ها أنا ذا، فقال: خذ هذه المائتي دينار واستعن بها في مؤونتك ونفقتك وتبرّك بها، ولا تصدّق بها عنّي، واخرج فلا أراك ولا تراني، ثم خرج .
فقال له سليمان: جعلت فداك، لقد أجزلت ورحمت، فلماذا سترت وجهك عنه؟ فقال: مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته، أما سمعت حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله): المستتر بالحسنة تعدل سبعين حجّة، والمذيع بالسّيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له".
يقول المؤلّف: "ذكر ابن شهرآشوب في المناقب هذه الرّواية، ثم قال بعدها: وفرّق (عليه السلام) بخراسان ماله كلّه في يوم عرفة، فقال له الفضل بن سهل: إنّ هذه المغرم، فقال: بل هو المغنم، لا تعدّنّ مغرماً ما ابتغيت به أجراً وكرماً...
روي عن ياسر الخادم أنّه قال: "كان الرضا (عليه السلام) إذا خلا، جمع حشمه كلّهم عنده الصّغير والكبير، فيحدّثهم ويأنس بهم ويؤنسهم، وكان (عليه السلام) إذا جلس على المائدة، لا يدع صغيراً ولا كبيراً، حتى السائس والحجّام، إلّا أقعده معه على مائدته .
قال ياسر: قال لنا أبو الحسن (عليه السلام): إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون، فلا تقوموا حتى تفرغوا، ولربّما دعا بعضنا فيقال له: هم يأكلون، فيقول: دعوهم حتى يفرغوا ."
روى الشيخ الكليني عن رجل من أهل بلخ أنّه قال: "كنت مع الرّضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السّودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: "مه، إنّ الربّ تبارك وتعالى واحد، والأمّ واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال" .
يقول المؤلف: كانت هذه سيرته مع الفقراء والرعايا، لكن لمّا دخل عليه الفضل بن سهل، وقف الفضل ساعة، حتى التفت إليه الإمام وسأله عن حاجته، فقال: سيدي، هذا كتاب من أمير المؤمنين كتبه لي، وأشار إلى كتاب الحبوة الذي أعطاه المأمون له، وكان فيه ما أراده الفضل من الأموال والأملاك والسلطة وغيرها، فقال للإمام: أنت أولى أن تعطينا مثل ما أعطى أمير المؤمنين، إذ كنت وليّ عهد المسلمين، فقال له الرّضا (عليه السلام): اقرأه. وكان كتاباً في أكبر جلد، فلم يزل قائماً حتى قرأه، فلمّا فرغ، قال له أبو الحسن (عليه السلام): يا فضل، لك علينا هذا ما اتّقيت الله عزّ وجلّ .
فحلّ الإمام (عليه السلام) بهذا الكلام ما كان قد أحكمه الفضل لنفسه، والغرض أنّ الإمام (عليه السلام) لم يأذن له بالجلوس حتى خرج.
*من كتاب "منتهى الآمال في تواريخ النبيّ والآل".