أمّا عناصر الامام الرضا (عليه السّلام) ومكوناته النفسية، فكانت ملتقى للفضيلة
بجميع أبعادها وصورها، فلم تبق صفة شريفة يسمو بها الإنسان إلا وهي من ذاته ومن
نزعاته، فقد وهبه الله كما وهب آباءه العظام كلّ مكرمة، وحباه بكلّ شرف، وجعله علماً
لأمة جده يهتدي به الحائر، ويرشد به الضال، وتستنير به العقول .
أما أخلاق الإمام الرضا (عليه السّلام)، فإنها نفحة من أخلاق جده الرسول الأعظم (صلّى
الله عليه وآله)، الذي امتاز على سائر النبيين بهذه الظاهرة الكريمة، فقد استطاع (صلّى
الله عليه وآله) بسموّ أخلاقه، أن يطوّر حياة الانسان وينقذه من أوحال الجاهلية
الرعناء، وقد حمل الإمام الرضا (عليه السّلام) أخلاق جده، فكانت من أهم عناصره.
انظروا ما يقوله إبراهيم بن العباس عن مكارم أخلاقه، يقول: "ما رأيت ولا سمعت بأحد
أفضل من أبي الحسن الرّضا (عليه السّلام)؛ ما جفا أحداً قطّ، ولا قطع على أحد كلامه،
ولا ردّ أحداً عن حاجة، وما مدّ رجليه بين جليسه، ولا اتّكأ قبله، ولا شتم مواليه
ومماليكه، ولا قهقه في ضحكة، وكان يجلس على مائدته ومماليكه ومواليه، قليل النّوم
باللّيل، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى آخرها، كثير المعروف والصدقة، وأكثر ذلك
في الليالي المظلمة ."
وحكت هذه الكلمات ما اتصف به الإمام من مكارم الأخلاق، وهي:
أ- أنه لم يجف أيّ أحد من الناس، سواء أكانوا من أحبائه أم من أعدائه، وإنما كان
يقابلهم ببسمات فيّاضة بالبشر.
ب- أنه لم يقطع على أيّ أحد كلامه، وإنما يتركه حتى يستوفي حديثه.
ج- من معالي أخلاقه أنه لم يمدّ رجليه بين جليسه، وإنما يجلس متأدّبًا.
د- أنه لم يتّكئ قبل جليسه، وإنما يتّكئ بعده مراعاة له.
هـ- أنه لم يشتم أيّ أحد من مماليكه ومواليه، وإن أساؤوا إليه.
و- أنه لم يترفّع على مواليه ومماليكه، وكان يجلس معهم على مائدة الطّعام.
ز- أنه كان كثير العبادة، وكان ينفق لياليه بالصلاة وتلاوة كتاب الله.
ح- أنه كان كثير المعروف والصّدقة على الفقراء، وكان أكثر ما يتصدّق عليهم في
اللّيالي المظلمة، لئلا يعرفه أحد.
هذه بعض مكارم أخلاقه التي شاهدها إبراهيم بن العباس. ومن معالي أخلاقه، أنّه كما
تقلّد ولاية العهد الّتي هي أرقى منصب في الدّولة الإسلاميّة، لم يأمر أحداً من
مواليه وخدمه في الكثير من شؤونه، وإنما كان يقوم بذاته في خدمة نفسه، ويقول الرواة:
إنه احتاج إلى الحمام، فكره أن يأمر أحداً بتهيئته له، ومضى إلى حمام في البلد لم
يكن صاحبه يظنّ أنّ وليّ العهد يأتي إلى الحمام في السوق فيشغل فيه، وإنما حمامات
الملوك في قصورهم.
ولما دخل الإمام الحمّام، كان فيه جنديّ، فأزال الإمام عن موضعه، وأمره أن يصبّ
الماء على رأسه، ففعل الإمام ذلك، ودخل الحمام رجل كان يعرف الإمام، فصاح بالجنديّ:
هلكت، أتستخدم ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ فذعر الجنديّ، ووقع على
الإمام يقبّل أقدامه، ويقول له متضرّعاً: يا بن رسول الله! هلا عصيتني إذ أمرتك؟
فتبسّم الإمام في وجهه وقال له برفق ولطف: "إنّها لمثوبة، وما أردت أن أعصيك فيما
أثاب عليه" .
ومن سموّ أخلاقه، أنه إذا جلس على مائدة، أجلس عليها مماليكه، حتى السّائس والبوّاب،
وقد أعطى بذلك درساً لهم لقاء التّمايز بين الناس، وأنهم جميعاً على صعيد واحد.
ويقول إبراهيم بن العباس: سمعت عليّ بن موسى الرّضا يقول: "حلفت بالعتق، ولا أحلف
بالعتق إلا أعتقت رقبة، وأعتقت بعدها جميع ما أملك، إن كان يرى أنه خير من هذا،
وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه، إذا كان ذلك بقرابة من رسول الله (صلّى الله عليه
وآله)، إلّا أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه ."
وقال له رجل: والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً.
فقال (عليه السّلام): "التقوى شرّفتهم، وطاعة الله أحفظتهم". وقال له شخص آخر: أنت
والله خير النّاس، فردّ عليه قائلاً: "لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى الله عزّ
وجلّ وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ}"[الحجرات: 13].
وأثر عنه من الشّعر في ذلك قوله:
لبست بالعّفة ثوب الغنى وصرت أمشي شامخ الرأس
لست إلى النسناس مستأنساً لكنّني آنس بالنّاس
إذا رأيت التّيه من ذي الغنى تهت على التّائه بالياس
ما إن تفاخرت على معدم ولا تضعفت لإفلاس
ودلّل هذا الشعر على سموّ مكارم الإمام (عليه السّلام)، التي هي ملء فم الدنيا،
والتي هي موضع الاعتزاز والفخر للمسلمين.
ومن ذاتيات الإمام الرضا (عليه السّلام) وعناصره، الزهد في الدنيا، والإعراض عن
مباهجها وزينتها. وقد تحدّث عن زهده محمد بن عباد، قال: كان جلوس الرّضا على حصيرة
في الصيف، وعلى مسح في الشتاء، ولباسه الغليظ من الثّياب، حتى اذا برز النّاس
تزيّن لهم .
ويقول الرّواة: إنّه التقى به سفيان الثوري، وكان الامام قد لبس ثوباً من خزّ،
فأنكر عليه ذلك، وقال له: لو لبست ثوباً أدنى من هذا؟ فأخذ الإمام (عليه السّلام)
يده برفق وأدخلها في كمّه، فإذا تحت ذلك الثّوب مسح، وقال (عليه السّلام) له: "يا
سفيان، الخزّ للخلق، والمسح للحقّ ..."
لقد كان الزّهد من أبرز الذاتيات في خلق الإمام الرضا (عليه السّلام)، ومن أظهر
مكوّناته النفسيّة، ويجمع الرّواة أنه حينما تقلّد ولاية العهد، لم يحفل بأيّ مظهر
من مظاهر السلطة، ولم يقم لها أيّ وزن، ولم يرغب في أيّ موكب رسميّ، وكره مظاهر
العظمة التي يقيمها النّاس لملوكهم.
*من كتاب "حياة الإمام الرّضا (عليه السلام)"،ج1.