يقول السيّد مير علي الهندي، وهو يتحدّث عن مرحلة الإمام الصادق (ع): "إنَّ الذي تزعّم حركة فكِّ الفكر من عقاله، هو حفيد عليّ بن أبي طالب (ع) المسمّى بالإمام الصادق، وهو رجلٌ رحبُ أفقِ التفكير، بعيد أغوار العقل، مُلِمٌّ كلَّ الإلمام بعلوم عصره، ويُعتبر في الواقع أنَّه أوّل من أسَّس المدارس الفلسفيّة المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته (مجلس درسه) أولئك الذين أصبحوا مؤسّسي المذاهب الفقهيّة فحسب، ولكن كان يحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون من الأنحاء القاصية"1...
وعندما نريد أن نطلّ على شخصيّة الإمام الصادق (ع)، فإنَّنا قد نحتاج إلى أن نتعرّف كيف كان ينظر إليه علماء عصره ممن لا يرى رأيه ولا مذهبه، من بعض أئمّة المذاهب الإسلاميّة، لا لنستزيد في تعظيمه، لأنَّ إمامته هي سرُّ عظمته، فهي تمثّل اللّطف الإلهيّ به ورعاية الله له، باعتباره الحجّة على عباده، وليس في ذلك زيادة لمستزيد. ولكنّنا نعرف من خلال هذه الشهادات، كيف استطاع الإمام الصادق (ع)، بالرغم من اختلاف الناس حول الإمامة وحوله بالذات في موقع الإمامة، أن يفرض عظمته وعلمه وكلَّ القِيَم المتمثّلة فيه على كلِّ رجالات عصره. يقول مالك بن أنس: "ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصّادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً".
وقد سُئِل أبو حنيفة عن أفقه الناس في زمانه، فقال: جعفر بن محمّد.. وكان يقول عنه: "أليس أنَّ أعلم الناس، أعلمهم باختلاف الناس؟!"...
ونعود إلى الحديث عن تربيته لتلامذته وأصحابه الّذين أعطاهم من علمه علماً، لتستفيد الأمّة منهم، وقد جاء في الرواية عن الصّادق (ع) قال: "لما حضرت أبي الباقر الوفاة،ُ قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيراً. قلت: جُعلت فداك، والله لأدعَنّهم والرجلُ منهم يكون في المصر فلا يسألُ أحداً"(3). يطلب الباقر (ع) منه أن يرعى أصحابه الذين تعلّموا عنده، فيجيبه (ع) بأنَّه سيعلّمهم بحيث لا يحتاجون إلى علم أحد.. فما هي دلالة هذا الكلام؟
إنَّ الإمام (ع) كان قبل أن يتسلّم زمام الإمامة، يخطّط لأن يكون الناس الذين ربّاهم أبوه، والذين يعيشون معه بعد ذلك، على تربية علمية وثقافية، بحيث يملكون العلم بالمستوى الذي لا يحتاجون فيه إلى أن يسألوا أحداً، وهذا هو المستوى العالي من التخطيط لإغناء الناس بالثقافة، بحيث إنّه لا يقتصر في حركته العلميّة على أن يسألوه ليجيب، بل إنَّه كان يريد أن يحيط بهم من جميع الجوانب، حتى يعطيهم هذا العلم، وليتمثّلوا هذا العلم في أفكارهم وعقولهم.
وكان (ع) يركّز في خطِّ الدعوة وهو يعلّم أصحابه منهجيّة الحوار، على مجانبة الأسلوب الجدليّ الذي يحاول أن يستفيد من الباطل، في سبيل إسكات الطرف المحاور الآخر، فكان (ع) يؤكّد أنّ الدعوة إلى الحقّ ينبغي أن تعتبر الحقّ هو العنصر الأساس في الوسيلة، والعنصر الأساس في النتيجة، لأنَّك عندما تأخذ من الباطل حجّةً على حقِّك، فإنَّ معنى ذلك أنَّك توحي بضعف الحقّ عن مواجهة التحديات التي توجَّه إليك، ولذلك تلجأ للاستعانة بالباطل في مقام تأكيد صوابيّة رأيك.
ومن هنا، فإنَّنا نرى الإمام الصّادق (ع) يوجّه أصحابه إلى مجادلة أحد المخالفين، ثم يتوجَّه لنقدهم بعد أن تغلَّب أحدهم عليه بطريقة غير منطقيَّة، فينتقده قائلاً له: "إنَّك تمزج الحقَّ بالباطل، وقليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل"، فكأنَّه يقول له: ما الفرق بينك وبينه؟ إنَّه جحد حقّاً وجحدت مثله، فهو جحد الحقَّ في النّتائج، وأنت جحدت الحقّ في الوسيلة.
وهكذا، فإنَّ الإمام (ع) يريد أن يوحي لنا بأنَّ على الإنسان ألا يظلم الآخر عندما يستعين في الحوار معه بأمور غير حقيقيّة في سبيل تركيز الفكرة، لأنَّ القضيّة الأساس هي أن نعطي الإنسان الحقّ كلَّه، لينطلق الحقُّ بكلِّه في عقله ووجدانه.. وهذه قاعدةٌ من قواعد أسلوب الدعوة عند أهل البيت (ع)، وكم لهم من أساليب كثيرة تتمثَّل في كلِّ حواراتهم وكلِّ حياتهم.
*من كتاب "في رحاب أهل البيت (ع)"، ج 2.
[1]مختصر تاريخ العرب، السيّد مير علي الهندي، ص 177.
يقول السيّد مير علي الهندي، وهو يتحدّث عن مرحلة الإمام الصادق (ع): "إنَّ الذي تزعّم حركة فكِّ الفكر من عقاله، هو حفيد عليّ بن أبي طالب (ع) المسمّى بالإمام الصادق، وهو رجلٌ رحبُ أفقِ التفكير، بعيد أغوار العقل، مُلِمٌّ كلَّ الإلمام بعلوم عصره، ويُعتبر في الواقع أنَّه أوّل من أسَّس المدارس الفلسفيّة المشهورة في الإسلام، ولم يكن يحضر حلقته (مجلس درسه) أولئك الذين أصبحوا مؤسّسي المذاهب الفقهيّة فحسب، ولكن كان يحضرها طلاب الفلسفة والمتفلسفون من الأنحاء القاصية"1...
وعندما نريد أن نطلّ على شخصيّة الإمام الصادق (ع)، فإنَّنا قد نحتاج إلى أن نتعرّف كيف كان ينظر إليه علماء عصره ممن لا يرى رأيه ولا مذهبه، من بعض أئمّة المذاهب الإسلاميّة، لا لنستزيد في تعظيمه، لأنَّ إمامته هي سرُّ عظمته، فهي تمثّل اللّطف الإلهيّ به ورعاية الله له، باعتباره الحجّة على عباده، وليس في ذلك زيادة لمستزيد. ولكنّنا نعرف من خلال هذه الشهادات، كيف استطاع الإمام الصادق (ع)، بالرغم من اختلاف الناس حول الإمامة وحوله بالذات في موقع الإمامة، أن يفرض عظمته وعلمه وكلَّ القِيَم المتمثّلة فيه على كلِّ رجالات عصره. يقول مالك بن أنس: "ما رأت عينٌ، ولا سمعت أذنٌ، ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر الصّادق فضلاً وعلماً وعبادةً وورعاً".
وقد سُئِل أبو حنيفة عن أفقه الناس في زمانه، فقال: جعفر بن محمّد.. وكان يقول عنه: "أليس أنَّ أعلم الناس، أعلمهم باختلاف الناس؟!"...
ونعود إلى الحديث عن تربيته لتلامذته وأصحابه الّذين أعطاهم من علمه علماً، لتستفيد الأمّة منهم، وقد جاء في الرواية عن الصّادق (ع) قال: "لما حضرت أبي الباقر الوفاة،ُ قال: يا جعفر، أوصيك بأصحابي خيراً. قلت: جُعلت فداك، والله لأدعَنّهم والرجلُ منهم يكون في المصر فلا يسألُ أحداً"(3). يطلب الباقر (ع) منه أن يرعى أصحابه الذين تعلّموا عنده، فيجيبه (ع) بأنَّه سيعلّمهم بحيث لا يحتاجون إلى علم أحد.. فما هي دلالة هذا الكلام؟
إنَّ الإمام (ع) كان قبل أن يتسلّم زمام الإمامة، يخطّط لأن يكون الناس الذين ربّاهم أبوه، والذين يعيشون معه بعد ذلك، على تربية علمية وثقافية، بحيث يملكون العلم بالمستوى الذي لا يحتاجون فيه إلى أن يسألوا أحداً، وهذا هو المستوى العالي من التخطيط لإغناء الناس بالثقافة، بحيث إنّه لا يقتصر في حركته العلميّة على أن يسألوه ليجيب، بل إنَّه كان يريد أن يحيط بهم من جميع الجوانب، حتى يعطيهم هذا العلم، وليتمثّلوا هذا العلم في أفكارهم وعقولهم.
وكان (ع) يركّز في خطِّ الدعوة وهو يعلّم أصحابه منهجيّة الحوار، على مجانبة الأسلوب الجدليّ الذي يحاول أن يستفيد من الباطل، في سبيل إسكات الطرف المحاور الآخر، فكان (ع) يؤكّد أنّ الدعوة إلى الحقّ ينبغي أن تعتبر الحقّ هو العنصر الأساس في الوسيلة، والعنصر الأساس في النتيجة، لأنَّك عندما تأخذ من الباطل حجّةً على حقِّك، فإنَّ معنى ذلك أنَّك توحي بضعف الحقّ عن مواجهة التحديات التي توجَّه إليك، ولذلك تلجأ للاستعانة بالباطل في مقام تأكيد صوابيّة رأيك.
ومن هنا، فإنَّنا نرى الإمام الصّادق (ع) يوجّه أصحابه إلى مجادلة أحد المخالفين، ثم يتوجَّه لنقدهم بعد أن تغلَّب أحدهم عليه بطريقة غير منطقيَّة، فينتقده قائلاً له: "إنَّك تمزج الحقَّ بالباطل، وقليل الحقّ يكفي عن كثير الباطل"، فكأنَّه يقول له: ما الفرق بينك وبينه؟ إنَّه جحد حقّاً وجحدت مثله، فهو جحد الحقَّ في النّتائج، وأنت جحدت الحقّ في الوسيلة.
وهكذا، فإنَّ الإمام (ع) يريد أن يوحي لنا بأنَّ على الإنسان ألا يظلم الآخر عندما يستعين في الحوار معه بأمور غير حقيقيّة في سبيل تركيز الفكرة، لأنَّ القضيّة الأساس هي أن نعطي الإنسان الحقّ كلَّه، لينطلق الحقُّ بكلِّه في عقله ووجدانه.. وهذه قاعدةٌ من قواعد أسلوب الدعوة عند أهل البيت (ع)، وكم لهم من أساليب كثيرة تتمثَّل في كلِّ حواراتهم وكلِّ حياتهم.
*من كتاب "في رحاب أهل البيت (ع)"، ج 2.
[1]مختصر تاريخ العرب، السيّد مير علي الهندي، ص 177.