كان الإمام جعفر الصَّادق (ع) إمام الحوار، كان يجلس في بيت الله الحرام ليحاور المثقَّفين الكبار في ذلك العصر، من العلمانيّين الّذين كان الكثيرون منهم يلتزمون الإلحاد كخطٍّ فكريّ... كان (ع) يجلس إليهم بعقلٍ مفتوحٍ وصدرٍ واسعٍ ليستمع إليهم بكلِّ هدوء، حتى في الحالات التي كان فيها كلامهم قاسياً، وربما كان بعضهم يتحدَّث بأسلوب السخرية على ما يقوم به المسلمون من أعمال الحجّ، ولكنَّ الإمام الصّادق (ع) كان ينتظر انتهاءَهم من كلامهم، ليُطلق عليهم الحجَّة التي إذا لم يقتنعوا بها عناداً فإنها تُسكتهم.
ففي "الإرشاد" للشيخ المفيد: "أنَّ ابن أبي العوجاء وابن طالوت وابن الأعمى وابن المقفَّع في نفر من الزنادقة، كانوا مجتمعين في الموسم (موسم الحجّ) بالمسجد الحرام، وأبو عبد الله جعفر بن محمّد (ع) فيه إذ ذاك يُفتي النّاس، ويُفسِّر لهم القرآن، ويجيب عن المسائل بالحجج والبيّنات.
فقال القوم لابن أبي العوجاء: "هل لك في تغليط هذا الجالس وسؤاله عما يفضحه عند هؤلاء المحيطين به؟ فقد ترى فتنة النّاس به، ويفسر لهم القرآن ويجيب عن المسائل به، وهو علّامة زمانه. فقال لهم ابن أبي العوجاء: نعم. ثمَّ تقدَّم، ففرّق الناس وقال... أتأذن في السّؤال؟" قال له أبو عبد الله (ع): "سل إن شئت".. فقال له ابن أبي العوجاء: "إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر (الأسود)، وتعبدون هذا البيت المرفوع بالطّوب والمدر (الكعبة)، وتهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر (إشارة إلى الطواف حول البيت الحرام)؟ من فكّر في ذلك وقدَّر، علم أنَّه فعلٌ غير حكيم ولا ذي نَظَر، فقُلْ فإنَّك رأسُ هذا الأمر وسنامُه، وأبوك أسُّه ونظامُه".
فقال له الصادق (ع): "إنَّ مَنْ أضلّه الله وأعمى قلبه استوخم الحقَّ فلم يستعذ به، وصار الشّيطان وليَّه وربَّه يُوردُه مناهلَ الهَلَكَة، وهذا بيتٌ استعبدَ الله به خلقَه ليختبر طاعتهم في إتيانه، فحثَّهم على تعظيمه وزيارته، وجعله قبلةً للمصلّين له، فهو شُعبةٌ من رضوانه، وطريقٌ يؤدّي إلى غفرانه، منصوبٌ على استواء الكمال، ومجمع العظمة والجلال... فأحقُّ مَنْ أُطيعَ في ما أمر، وانُتهي عمَّا زَجَر، اللهُ عزَّ وجلَّ، المنشىءُ للأرواح والصّور".
فقال له ابن أبي العوجاء: ذكرت أبا عبد الله فأحَلْتَ على غائب. فقال الصادق (ع): "كيف يكون - يا ويلك - عنَّا غائباً مَنْ هو مع خلقه شاهد، وإليهم أقربُ من حبل الوريد؟! يسمع كلامهم ويعلم أسرارهم، لا يخلو منه مكانٌ، ولا يشتغل به مكانٌ، ولا يكون إلى مكانٍ أقربَ من مكان، تشهد له بذلك آثاره، وتدلُّ عليه أفعاله، والذي بعثه بالآيات المحكمة والبراهين الواضحة، محمّد (ص)، جاءنا بهذه العبادة، فإنْ شككت في شيءٍ من أمره، فسلْ عنه أُوضِحْهُ لك".
فأبلس ابن أبي العوجاء، ولم يدرِ ما يقول، فانصرف من بين يديه، وقال لأصحابه: سألتكم أن تلتمسوا لي خمرةً فألقيتموني على جمرة، قالوا له: اسكت، فواللهِ لقد فضحتنا بحيرتك وانقطاعك، وما رأينا أحقرَ منك اليوم في مجلسه، فقال: ألي تقولون هذا؟ إنَّه ابنُ من حلَقَ رؤوسَ من ترون، وأومأ بيده إلى أهل الموسم (الحجيج)"1.
ويسأله منكرٌ: "كيف يعبدُ اللهَ الخلقُ ولم يروه؟"، فيقول (ع): "رأته القلوب بنور الإيمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حُسْن التركيب وإحكام التأليف، ثم الرّسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته".
ثم سأله: "أليس هو قادراً أن يظهر لهم حتّى يروه ويعرفوه فيُعبد على يقين؟"، قال (ع): "ليس للمحال جواب". قال: "فمن أين أثبتَّ أنبياء ورسلاً؟"، قال (ع): "إنَّا لما أثبتنا أنَّ لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصّانع حكيماً، لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا أن يلامسوه، ولا أن يباشرهم ويباشروه، ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أنَّ له سفراء في خلقه وعباده، يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في حكماء مؤدّبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للنّاس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤدّين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدّلائل والبراهين والشّواهد..."2.
فالإمام الصادق (ع) المؤتمن على الرسالة، كان لا يضيق صدره عندما يواجه الأسئلة القلقة في العقيدة والشّريعة والتفسير وشتّى المعارف والعلوم. ومن هنا، يقول عمرو بن أبي المقدام: "كنت إذا نظرت إلى جعفر بن محمد، علمت أنَّه من سلالة النبيّين"3.
ونشير إلى أنَّه (ع) كان يعلّم أصحابه منطق الحوار، ونحن نقرأ في ذلك العصر، أنَّ الكثيرين من قضاة أهل السُّنّة الذين لا يلتزمون بإمامة أهل البيت (ع)، كانوا يسألون دائماً أصحابَ الإمام الصادق (ع) في الكثير من المسائل، فإذا عرفوا ذلك حكموا به.. لم تكن هناك عقدةٌ، بل كان يجتمع بعضهم مع بعض، ويتحاورون في كلِّ شؤون الفكر والشّريعة والعقيدة.
ومن هنا، فقد كانت الحركة الإسلاميّة في ذلك الوقت في الجانب الوحدويّ، حركةً وحدويّة على المستوى الثقافي والفكري، وكان المسلمون في عصر الإمام الصادق (ع) لا يخاف بعضهم من بعض، فإذا كان لبعضهم رأي مخالفٌ، فإنَّه يصارحه ويحدّثه به، ولكن كانت المشكلة مع السلطة التي تحمل عنوان الإسلام، وكانت تتحرّك بطريقة منحرفة...
*من كتاب "في رحاب أهل البيت (ع)"، ج 2.
[1]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج10، ص 212.
[2]الاحتجاج، الشّيخ الطبرسي، ج2، ص 78.
[3]بحار الأنوار، ج 47، ص 33.