بعض من سيرة الإمام الحسين (ع)

بعض من سيرة الإمام الحسين (ع)

لقد جاء في مناقب آل الرّسول لمحمد بن أبي طلحة الشّافعي: قد اشتهر عن الحسين أنّه كان يكرم الضّيف، ويمنح الطالب، ويصل الرَّحم، ويعطي الفقير، ويسعف السائل، ويكسو العاري، ويشبع الجائع، ويعطي الغارم، ويشفق على اليتيم، ويعين أصحاب الحاجات، وقلّما وصله مال إلا فرَّقه.

وقد روى الرّواة ما جرى له ولأخيه الحسن وعبد الله بن جعفر مع العجوز التي ذبحت لهم الشّاة وهم في طريقهم إلى مكّة، وما جرى لهم معها حينما رأوها في المدينة بعد ذلك وهي في أسوأ الحالات من البؤس والفقر، وقد أعطاها الحسن (عليه السلام) ألف شاة وألف دينار، وأعطاها كلّ من الحسين وعبد الله بن جعفر مثل ذلك، فرجعت مع زوجها إلى بلادها بثلاثة آلاف شاة وثلاثة آلاف دينار.

وجاء في كتاب "عقد اللآل في مناقب الآل" أن الحسين كان جالساً في مسجد النبي (صلى الله عليه واله) بعد وفاة أخيه الحسن في ناحية، وعبد الله بن الزبير وعتبة بن أبي سفيان في ناحية أخرى، فجاء أعرابي على ناقة، فعقلها بباب المسجد ودخل، فوقف على عتبة وسلّم عليه، فردّ عليه السلام، فقال له الأعرابي: لقد قتلت ابن عمّ لي، وطالبني أهله بديته، فهل لك أن تعطيني شيئاً منها؟ فرفع‏ عتبة رأسه إلى غلامه وقال له: ادفع له مائة درهم، فرفضها الأعرابي، واتجه إلى عبد الله بن الزبير، وقال له مثل مقالته لعتبة، فأمر له بمائتي درهم، فرفضها الأعرابي، وقال إن مثل هذا المبلغ لا يصنع لي شيئاً، ثم اتجه إلى الحسين (عليه السلام)، فسلّم عليه وعرض له حاجته، فقال له: يا أعرابيّ، نحن قوم لا نعطي المعروف إلا بمقدار المعرفة، فقال له: سل ما تريد، فقال الحسين: يا أعرابي، ما النجاة من الهلكة؟ قال التوكّل على الله، فقال له: أيّ الأعمال أفضل؟ فقال الثقة بالله، فقال له الإمام: أيّ شي‏ء خير للعبد في حياته؟ قال علم معه حلم، قال فإن خانه ذلك؟ قال مال يزينه سخاء وسعة، قال فإن أخطأه ذلك؟ قال الموت والفناء خير له من الحياة والبقاء. ومضى الإمام يسأله وهو يجيب، حتى أعجب به الإمام (عليه السلام)، وقال لوكيله: ادفع له عشرين ألفاً، وقال له: عشرة منها لقضاء ديونك، وعشرة تلمّ بها شعثك وتنفقها على عيالك. فأنشأ الأعرابي يقول:

طربت وما هاج لي معبق‏ ولا لي مقام ولا معشق‏

ولكن طربت لآل الرّسول‏ فلذّ لي الشّعر والمنطق‏

هم الأكرمون هم الأنجبون‏ نجوم السّماء بهم تشرق‏

سبقت الأنام إلى المكرمات‏ وأنت الجواد فلا تلحق‏

أبوك الذي ساد بالمكرمات‏ فقصر عن سبقه السبق‏

به فتح الله باب الرشاد وباب الفساد بكم مغلق‏

وجاء في تاريخ ابن عساكر، أن سائلاً خرج يتخطّى أزقة المدينة، حتى أتى باب الحسين، فقرع الباب وأنشأ يقول:

لم يخب الآن من رجاك ومن‏ حرّك من خلف بابك الحلقة

أنت ذو الجود وأنت معدنه‏ أبوك قد كان قاتل الفسقة

وكان الإمام واقفاً يصلّي، فخفّ من صلاته، وخرج إلى الأعرابي، فرأى عليه الضّرّ والفاقة، فرجع ونادى وكيله، فأقبل إليه مسرعاً، فقال له: ما بقي معك من نفقتنا؟ قال: مائتا درهم أمرتني بصرفها على أهل بيتك، فقال هاتها، فقد أتى من هو أحق بها منهم، فأخذها ودفعها إلى الأعرابي، وأنشد يقول:

خذها وإني إليك معتذر واعلم بأني عليك ذو شفقه‏

لوكان في سيرنا عصا تمدّ إذاً‏ كانت سمانا عليك مندفقه‏

لكنّ ريب المنون ذو نكد والكفّ منا قليلة النفقة

فأخذها الأعرابي وهو يقول:

مطهرون نقيات جيوبهم‏ تجري الصلاة عليهم أينما ذكرو

وأنتم أنتم الأعلون عندكم‏ علم الكتاب وما جاءت به السّور

من لم يكن علويّاً حين تنسبه‏ فما له في جميع النّاس مفتخر

وجاءه رجل من الأنصار يريد أن يسأله حاجة، فقال له: "يا أخا الأنصار: صن وجهك عن ذلّ المسألة، وارفع إليَّ حاجتك في رقعة، فإني آتٍ فيها ما يسرّك إن شاء الله". فكتب إليه أنّ لفلان عليّ خمسمائة دينار، وقد ألحّ بي فكلّمه أن ينتظرني إلى ميسرة. فلما قرأ الرقعة أبو عبد الله، دخل إلى منزله، وأخرج صرّة فيها ألف دينار، وقال له: هذه ألف دينار، منها خمسمائة لقضاء دينك، والباقي تستعين بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلا إلى ثلاثة؛ إلى ذي دين أو مروءة أو حسب، فأمّا ذو الدَّين فيصون دينه، وأمّا ذو المروءة فإنّه يستحي لمروءته، وأمّا ذو الحسب، فيعلم أنّك لم تكرم وجهك أن تبذله في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك.

وروى الرواة أنّه دخل على أسامة بن زيد في مرضه وهو يقول: وا غمّاه، فقال له الحسين: وما غمّك يا أخي؟ قال: ديني، وهو ستون ألف درهم، فقال له الحسين (ع): هو عليّ، فقال له أسامة: أخشى أن أموت‏ قبل وفائه، فوفاها عنه من ساعته.

وجاء في الفصول المهمّة لابن الصباغ المالكي عن أنس بن مالك أنّه قال: كنت عند الحسين (ع)، فدخلت عليه جارية له وبيدها باقه ريحان، فحيّته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى. فقلت له: جارية تجيئك بطاقة ريحان وتحييك بها فتعتقها!؟ فقال: هكذا أدَّبنا الله، حيث قال: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، وأحسن منها عتقها.

وجنى بعض مواليه جناية توجب القصاص والتّأديب، فأمر بتأديبه، فقال يا مولاي، إنّ الله يقول: والكاظمين الغيظ، فقال الإمام (ع): "خلّوا عنه، فقد كظمت غيظي"، فقال: والعافين عن النّاس، فقال (ع): "لقد عفوت عنك"، فقال: والله يحبّ المحسنين، فقال الإمام: "أنت حرّ لوجه الله، وأعطاه ما يكفيه في حياته".

وروى ابن عساكر في تاريخه، أنه كان يحمل إليه المال من البصرة وغيرها، فلا يقوم من مكانه حتى يفرّقه على الفقراء بكامله...

وتؤكّد جميع المصادر الموثوقة، أن الحسن والحسين (عليه السلام) كانا يبذلان كلّ ما لديهما في سبيل الله، ويؤثران الفقير والمحروم على نفسيهما، وكانا يقبلان صلات معاوية لأنها من حقّهما، وهما أولى بها منه ومن أمثاله ممن تقمّصوا الخلافة وتسلطوا على الأمة واستغلوا خيراتها ومقدّراتها لشراء الأنصار والأتباع والخونة، كابن العاص وابن شعبة وأمثالهما.

كانا يقبلان صلات معاوية لإيصالها إلى أصحابها المحرومين والمساكين، وكانت كلّ حياتهما لله وفي سبيل الله، وقد شاع بين الرواة والمؤرخين أنّ الحسن (عليه السلام) كان يخرج من نصف ما يملك في كلّ عام للفقراء والمحتاجين، ويمسك النصف الآخر لعياله.

وفي بعض الروايات، أنه كان أحياناً يخرج من جميع ما يملك، وهكذا كان أبوعبد الله الحسين (عليه السلام) لا يدّخر مالاً ولا يحسب للمال حساباً، وقد تواترت الروايات عنه أنه حجّ خمساً وعشرين حجة ماشياً على قدميه والرّواحل تقاد بين يديه، وكلّما مرّ هو وأخوه على راكب، نزل عن راحلته ومشى معهما، فاشتدّ ذلك على كثير من الناس، فجاء وفد من الحجاج إلى سعد بن أبي وقاص، وقالوا له: إنّ المشي قد اشتدّ علينا، ولا يسعنا أن نركب وابنا رسول الله يمشيان، فقال لهما سعد: إنّ المشي قد ثقل على النَّاس، ولا يسع أحداً أن يركب وأنتما تمشيان، فلو ركبتما رحمةً بالنّاس، فقالا: قد جعلنا على أنفسنا أن نمشي في طريقنا هذا، ولكن نتنكّب الطريق، فسلكا طريقاً آخر على غير الجادة، حتى لا يراهما أحد من الناس.

وجاء في رواية ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: رأيت الحسن والحسين (ع) قد صلّيا مع الإمام صلاة العصر في الكعبة، ثم أتيا الحجر، فاستلماه وطافا في البيت سبعاً، وصلّيا ركعتين، وقد أحاط بهما الناس حتى لا يستطيعان أن يمضيا ومعهما رجل من الركانات، فأخذ الحسن بيد الرّكان، وردّ الناس عن الحسين، حتى استطاع أن يخرج من بينهما، وكان حيث يوجد يلتفّ حوله الناس كالحلقة؛ هذا يستفتيه في أمر دينه، وهذا يأخذ من فقهه، وهذا يستمع الى روايته، وهذا لحاجته، وقد وصفه معاوية لبعض من سأله عنه فقال: إذا وصلت مسجد رسول الله (ص)، فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطّير، فتلك حلقة أبي عبد الله الحسين (ع) مؤتزراً إلى أنصاف ساقيه.

وقد اشتهرت بين محدثي الشيعة ومختلف طبقاتهم مواقفه في عرفات أيام‏ الموسم، ومناجاته الطويلة وهو واقف على قدميه في ميسرة الجبل والنّاس من حوله، تلك المناجاة التي ما قرأها قارئ وأمعن النظر في معانيها وما تهدف إليه، إلا وخشع قلبه وسالت الدّموع من عينيه، ولقد جاء فيها:

"إلهي، لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب لو عمّرتها، أن أؤدي شكر واحدة من نعمك، ما استطعت ذلك إلا بمنّك الموجب عليّ شكراً جديداً، اللهم اجعلني اخشاك كأني أراك، واجعل غناي في نفسي واليقين في قلبي والإخلاص في عملي والنّور في بصري والبصيرة في ديني.

اللّهمّ حاجتي التي أن أعطيتنيها لم يضرني ما منعتني، وإن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني، أسألك فكاك رقبتي من النار يا أرحم الراحمين.

اللهم ما أخاف فاكفني، وما أحذر فقني، وفي نفسي وديني فاحرسني، وفي سفري فاحفظني، وفي أهلي ومالي فاخلفني، وفيما رزقتني فبارك لي، وفي نفسي فذلّلني، وفي أعين الناس فعظّمني، ومن شرّ الجنّ والإنس فسلّمني، وبذنوبي فلا تفضحني، وبسريرتي فلا تخزني، وبعملي فلا تبتلني، ونعمك فلا تسلبني، وإلى غيرك فلا تكلني. إلهي، إلى من تكلني؛ إلى قريب يقطعني، أم إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى المستضعفين لي وأنت ربّي ومليك أمري، أشكو إليك غربتي وبعد داري وهواني على من ملّكته أمري.

يا من دعوته مريضاً فشفاني، وعريان فكساني، وجائعاً فأشبعني، وعطشان فأرواني، وذليلاً فأعزني، وجاهلاً فعرفني، ووحيداً فكثّرني، وغائباً فردّني، ومقلاً فأغناني، ومستنصراً فنصرني، وأمسكت عن جميع ذلك فابتدأني".

ومما جاء فيها: "إلهي، أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، وأنا الجاهل في علمي، فكيف لا اكون جهولاً في جهلي، إلهي مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك، إلهي كلّما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما آيستني ذنوبي أنطقني عفوك".

ومضى يقول، وقد اجتمع حوله الناس، وقد شغلهم الاستماع له والتّأمين على دعائه والبكاء لبكائه عن الدّعاء لأنفسهم، على‏ حدّ تعبير الراوي: "إلهي، كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل لك من حبّه نصيباً...". إلى غير ذلك من فقراته التي هي من أنفع الدروس للإنسان في دنياه وآخرته.

ومن وصاياه لبعض أصحابه: "لا تتكلَّف بما لا تطيق، ولا تتعرَّض لما لا تدرك، ولا تعد بما لا تقدر عليه، ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد، ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت، ولا تفرح إلا بما نلت من طاعة الله، ولا تتناول إلا ما رأيت نفسك أهلاً له."

ومن أقواله: "من دلائل العالم، انتقاده لحديثه، وعلمه بحقائق فنون النّظر". وهذه الكلمة على اختصارها، تضع الحدّ الفاصل بين العالم والجاهل، ذلك أنّ الجاهل يستصوب رأيه دائماً، ويرى غيره مخطئاً، ولا ينظر إلى الأمور إلا من زاوية تفكيره المحدود، وفهمه الضيّق لحقائق الأمور، والعالم يتّهم نفسه دائماً، ويبحث عن رأي غيره، لعلّه يرى فيه ما لم تتّسع له أفكاره ومداركه، وإلى ذلك يشير الإمام الصادق (ع) بقوله: "المستبدّ برأيه موقوف على مداحض الزّلل"، وإليه يشير الإمام أمير المؤمنين بقوله: "من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ".

ومن أقواله: "المؤمن لا يسي‏ء ولا يعتذر، والمنافق كلّ يوم يسي‏ء ويعتذر، وربّ ذنب أهون من الاعتذار منه". وقال لبعض أصحابه: "من أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك". فقال له الرّجل: أنا أعصي الله ولا أصبر عن المعصية، فعظني بموعظة أنتفع فيها يابن رسول الله، فقال له: "افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت"، قال له الرجل: هاتها يا أبا عبد الله، فقال له: "لا تأكل من رزق الله وأذنب‏ ما شئت"، فقال الرجل: ومن أين آكل إذاً، وكل ما في الكون لله ومن عطائه؟ فقال له الإمام: "اخرج من أرض الله وأذنب ما شئت"، فقال الرّجل: وهذه أعظم من الأولى، فأين اسكن وكلّ ما في الكون لله وحده؟

فقال له الإمام: "اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت"، فقال الرجل: وهل تخفى على الله خافية؟ فقال الإمام: "إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك، فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت. والخامسة: إذا أراد مالك أن يدخلك النار فلا تدخلها وأذنب ما شئت"، فقال له الرّجل: حسبي يابن رسول الله، لن يراني الله بعد اليوم حيث يكره.

وله مناظرات مع أحد زعماء الخوارج ومع معاوية وحاشيته، وكلمات قصار في الحكم والمواعظ كان يلقيها على من يجتمع إليه بين الحين والآخر، ورواها المحدّثون والمؤرّخون في مجاميعهم، ولا يسعنا استقصاؤها مخافة التّطويل والملل.

*من كتاب "سيرة الأئمَّة الإثني عشر (عليهم السلام)"، ج ‏3.

لقد جاء في مناقب آل الرّسول لمحمد بن أبي طلحة الشّافعي: قد اشتهر عن الحسين أنّه كان يكرم الضّيف، ويمنح الطالب، ويصل الرَّحم، ويعطي الفقير، ويسعف السائل، ويكسو العاري، ويشبع الجائع، ويعطي الغارم، ويشفق على اليتيم، ويعين أصحاب الحاجات، وقلّما وصله مال إلا فرَّقه.

وقد روى الرّواة ما جرى له ولأخيه الحسن وعبد الله بن جعفر مع العجوز التي ذبحت لهم الشّاة وهم في طريقهم إلى مكّة، وما جرى لهم معها حينما رأوها في المدينة بعد ذلك وهي في أسوأ الحالات من البؤس والفقر، وقد أعطاها الحسن (عليه السلام) ألف شاة وألف دينار، وأعطاها كلّ من الحسين وعبد الله بن جعفر مثل ذلك، فرجعت مع زوجها إلى بلادها بثلاثة آلاف شاة وثلاثة آلاف دينار.

وجاء في كتاب "عقد اللآل في مناقب الآل" أن الحسين كان جالساً في مسجد النبي (صلى الله عليه واله) بعد وفاة أخيه الحسن في ناحية، وعبد الله بن الزبير وعتبة بن أبي سفيان في ناحية أخرى، فجاء أعرابي على ناقة، فعقلها بباب المسجد ودخل، فوقف على عتبة وسلّم عليه، فردّ عليه السلام، فقال له الأعرابي: لقد قتلت ابن عمّ لي، وطالبني أهله بديته، فهل لك أن تعطيني شيئاً منها؟ فرفع‏ عتبة رأسه إلى غلامه وقال له: ادفع له مائة درهم، فرفضها الأعرابي، واتجه إلى عبد الله بن الزبير، وقال له مثل مقالته لعتبة، فأمر له بمائتي درهم، فرفضها الأعرابي، وقال إن مثل هذا المبلغ لا يصنع لي شيئاً، ثم اتجه إلى الحسين (عليه السلام)، فسلّم عليه وعرض له حاجته، فقال له: يا أعرابيّ، نحن قوم لا نعطي المعروف إلا بمقدار المعرفة، فقال له: سل ما تريد، فقال الحسين: يا أعرابي، ما النجاة من الهلكة؟ قال التوكّل على الله، فقال له: أيّ الأعمال أفضل؟ فقال الثقة بالله، فقال له الإمام: أيّ شي‏ء خير للعبد في حياته؟ قال علم معه حلم، قال فإن خانه ذلك؟ قال مال يزينه سخاء وسعة، قال فإن أخطأه ذلك؟ قال الموت والفناء خير له من الحياة والبقاء. ومضى الإمام يسأله وهو يجيب، حتى أعجب به الإمام (عليه السلام)، وقال لوكيله: ادفع له عشرين ألفاً، وقال له: عشرة منها لقضاء ديونك، وعشرة تلمّ بها شعثك وتنفقها على عيالك. فأنشأ الأعرابي يقول:

طربت وما هاج لي معبق‏ ولا لي مقام ولا معشق‏

ولكن طربت لآل الرّسول‏ فلذّ لي الشّعر والمنطق‏

هم الأكرمون هم الأنجبون‏ نجوم السّماء بهم تشرق‏

سبقت الأنام إلى المكرمات‏ وأنت الجواد فلا تلحق‏

أبوك الذي ساد بالمكرمات‏ فقصر عن سبقه السبق‏

به فتح الله باب الرشاد وباب الفساد بكم مغلق‏

وجاء في تاريخ ابن عساكر، أن سائلاً خرج يتخطّى أزقة المدينة، حتى أتى باب الحسين، فقرع الباب وأنشأ يقول:

لم يخب الآن من رجاك ومن‏ حرّك من خلف بابك الحلقة

أنت ذو الجود وأنت معدنه‏ أبوك قد كان قاتل الفسقة

وكان الإمام واقفاً يصلّي، فخفّ من صلاته، وخرج إلى الأعرابي، فرأى عليه الضّرّ والفاقة، فرجع ونادى وكيله، فأقبل إليه مسرعاً، فقال له: ما بقي معك من نفقتنا؟ قال: مائتا درهم أمرتني بصرفها على أهل بيتك، فقال هاتها، فقد أتى من هو أحق بها منهم، فأخذها ودفعها إلى الأعرابي، وأنشد يقول:

خذها وإني إليك معتذر واعلم بأني عليك ذو شفقه‏

لوكان في سيرنا عصا تمدّ إذاً‏ كانت سمانا عليك مندفقه‏

لكنّ ريب المنون ذو نكد والكفّ منا قليلة النفقة

فأخذها الأعرابي وهو يقول:

مطهرون نقيات جيوبهم‏ تجري الصلاة عليهم أينما ذكرو

وأنتم أنتم الأعلون عندكم‏ علم الكتاب وما جاءت به السّور

من لم يكن علويّاً حين تنسبه‏ فما له في جميع النّاس مفتخر

وجاءه رجل من الأنصار يريد أن يسأله حاجة، فقال له: "يا أخا الأنصار: صن وجهك عن ذلّ المسألة، وارفع إليَّ حاجتك في رقعة، فإني آتٍ فيها ما يسرّك إن شاء الله". فكتب إليه أنّ لفلان عليّ خمسمائة دينار، وقد ألحّ بي فكلّمه أن ينتظرني إلى ميسرة. فلما قرأ الرقعة أبو عبد الله، دخل إلى منزله، وأخرج صرّة فيها ألف دينار، وقال له: هذه ألف دينار، منها خمسمائة لقضاء دينك، والباقي تستعين بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلا إلى ثلاثة؛ إلى ذي دين أو مروءة أو حسب، فأمّا ذو الدَّين فيصون دينه، وأمّا ذو المروءة فإنّه يستحي لمروءته، وأمّا ذو الحسب، فيعلم أنّك لم تكرم وجهك أن تبذله في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردّك بغير قضاء حاجتك.

وروى الرواة أنّه دخل على أسامة بن زيد في مرضه وهو يقول: وا غمّاه، فقال له الحسين: وما غمّك يا أخي؟ قال: ديني، وهو ستون ألف درهم، فقال له الحسين (ع): هو عليّ، فقال له أسامة: أخشى أن أموت‏ قبل وفائه، فوفاها عنه من ساعته.

وجاء في الفصول المهمّة لابن الصباغ المالكي عن أنس بن مالك أنّه قال: كنت عند الحسين (ع)، فدخلت عليه جارية له وبيدها باقه ريحان، فحيّته بها، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى. فقلت له: جارية تجيئك بطاقة ريحان وتحييك بها فتعتقها!؟ فقال: هكذا أدَّبنا الله، حيث قال: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}، وأحسن منها عتقها.

وجنى بعض مواليه جناية توجب القصاص والتّأديب، فأمر بتأديبه، فقال يا مولاي، إنّ الله يقول: والكاظمين الغيظ، فقال الإمام (ع): "خلّوا عنه، فقد كظمت غيظي"، فقال: والعافين عن النّاس، فقال (ع): "لقد عفوت عنك"، فقال: والله يحبّ المحسنين، فقال الإمام: "أنت حرّ لوجه الله، وأعطاه ما يكفيه في حياته".

وروى ابن عساكر في تاريخه، أنه كان يحمل إليه المال من البصرة وغيرها، فلا يقوم من مكانه حتى يفرّقه على الفقراء بكامله...

وتؤكّد جميع المصادر الموثوقة، أن الحسن والحسين (عليه السلام) كانا يبذلان كلّ ما لديهما في سبيل الله، ويؤثران الفقير والمحروم على نفسيهما، وكانا يقبلان صلات معاوية لأنها من حقّهما، وهما أولى بها منه ومن أمثاله ممن تقمّصوا الخلافة وتسلطوا على الأمة واستغلوا خيراتها ومقدّراتها لشراء الأنصار والأتباع والخونة، كابن العاص وابن شعبة وأمثالهما.

كانا يقبلان صلات معاوية لإيصالها إلى أصحابها المحرومين والمساكين، وكانت كلّ حياتهما لله وفي سبيل الله، وقد شاع بين الرواة والمؤرخين أنّ الحسن (عليه السلام) كان يخرج من نصف ما يملك في كلّ عام للفقراء والمحتاجين، ويمسك النصف الآخر لعياله.

وفي بعض الروايات، أنه كان أحياناً يخرج من جميع ما يملك، وهكذا كان أبوعبد الله الحسين (عليه السلام) لا يدّخر مالاً ولا يحسب للمال حساباً، وقد تواترت الروايات عنه أنه حجّ خمساً وعشرين حجة ماشياً على قدميه والرّواحل تقاد بين يديه، وكلّما مرّ هو وأخوه على راكب، نزل عن راحلته ومشى معهما، فاشتدّ ذلك على كثير من الناس، فجاء وفد من الحجاج إلى سعد بن أبي وقاص، وقالوا له: إنّ المشي قد اشتدّ علينا، ولا يسعنا أن نركب وابنا رسول الله يمشيان، فقال لهما سعد: إنّ المشي قد ثقل على النَّاس، ولا يسع أحداً أن يركب وأنتما تمشيان، فلو ركبتما رحمةً بالنّاس، فقالا: قد جعلنا على أنفسنا أن نمشي في طريقنا هذا، ولكن نتنكّب الطريق، فسلكا طريقاً آخر على غير الجادة، حتى لا يراهما أحد من الناس.

وجاء في رواية ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: رأيت الحسن والحسين (ع) قد صلّيا مع الإمام صلاة العصر في الكعبة، ثم أتيا الحجر، فاستلماه وطافا في البيت سبعاً، وصلّيا ركعتين، وقد أحاط بهما الناس حتى لا يستطيعان أن يمضيا ومعهما رجل من الركانات، فأخذ الحسن بيد الرّكان، وردّ الناس عن الحسين، حتى استطاع أن يخرج من بينهما، وكان حيث يوجد يلتفّ حوله الناس كالحلقة؛ هذا يستفتيه في أمر دينه، وهذا يأخذ من فقهه، وهذا يستمع الى روايته، وهذا لحاجته، وقد وصفه معاوية لبعض من سأله عنه فقال: إذا وصلت مسجد رسول الله (ص)، فرأيت حلقة فيها قوم كأنّ على رؤوسهم الطّير، فتلك حلقة أبي عبد الله الحسين (ع) مؤتزراً إلى أنصاف ساقيه.

وقد اشتهرت بين محدثي الشيعة ومختلف طبقاتهم مواقفه في عرفات أيام‏ الموسم، ومناجاته الطويلة وهو واقف على قدميه في ميسرة الجبل والنّاس من حوله، تلك المناجاة التي ما قرأها قارئ وأمعن النظر في معانيها وما تهدف إليه، إلا وخشع قلبه وسالت الدّموع من عينيه، ولقد جاء فيها:

"إلهي، لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب لو عمّرتها، أن أؤدي شكر واحدة من نعمك، ما استطعت ذلك إلا بمنّك الموجب عليّ شكراً جديداً، اللهم اجعلني اخشاك كأني أراك، واجعل غناي في نفسي واليقين في قلبي والإخلاص في عملي والنّور في بصري والبصيرة في ديني.

اللّهمّ حاجتي التي أن أعطيتنيها لم يضرني ما منعتني، وإن منعتنيها لم ينفعني ما أعطيتني، أسألك فكاك رقبتي من النار يا أرحم الراحمين.

اللهم ما أخاف فاكفني، وما أحذر فقني، وفي نفسي وديني فاحرسني، وفي سفري فاحفظني، وفي أهلي ومالي فاخلفني، وفيما رزقتني فبارك لي، وفي نفسي فذلّلني، وفي أعين الناس فعظّمني، ومن شرّ الجنّ والإنس فسلّمني، وبذنوبي فلا تفضحني، وبسريرتي فلا تخزني، وبعملي فلا تبتلني، ونعمك فلا تسلبني، وإلى غيرك فلا تكلني. إلهي، إلى من تكلني؛ إلى قريب يقطعني، أم إلى بعيد يتجهّمني، أم إلى المستضعفين لي وأنت ربّي ومليك أمري، أشكو إليك غربتي وبعد داري وهواني على من ملّكته أمري.

يا من دعوته مريضاً فشفاني، وعريان فكساني، وجائعاً فأشبعني، وعطشان فأرواني، وذليلاً فأعزني، وجاهلاً فعرفني، ووحيداً فكثّرني، وغائباً فردّني، ومقلاً فأغناني، ومستنصراً فنصرني، وأمسكت عن جميع ذلك فابتدأني".

ومما جاء فيها: "إلهي، أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيراً في فقري، وأنا الجاهل في علمي، فكيف لا اكون جهولاً في جهلي، إلهي مني ما يليق بلؤمي، ومنك ما يليق بكرمك، إلهي كلّما أخرسني لؤمي أنطقني كرمك، وكلما آيستني ذنوبي أنطقني عفوك".

ومضى يقول، وقد اجتمع حوله الناس، وقد شغلهم الاستماع له والتّأمين على دعائه والبكاء لبكائه عن الدّعاء لأنفسهم، على‏ حدّ تعبير الراوي: "إلهي، كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل لك من حبّه نصيباً...". إلى غير ذلك من فقراته التي هي من أنفع الدروس للإنسان في دنياه وآخرته.

ومن وصاياه لبعض أصحابه: "لا تتكلَّف بما لا تطيق، ولا تتعرَّض لما لا تدرك، ولا تعد بما لا تقدر عليه، ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد، ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت، ولا تفرح إلا بما نلت من طاعة الله، ولا تتناول إلا ما رأيت نفسك أهلاً له."

ومن أقواله: "من دلائل العالم، انتقاده لحديثه، وعلمه بحقائق فنون النّظر". وهذه الكلمة على اختصارها، تضع الحدّ الفاصل بين العالم والجاهل، ذلك أنّ الجاهل يستصوب رأيه دائماً، ويرى غيره مخطئاً، ولا ينظر إلى الأمور إلا من زاوية تفكيره المحدود، وفهمه الضيّق لحقائق الأمور، والعالم يتّهم نفسه دائماً، ويبحث عن رأي غيره، لعلّه يرى فيه ما لم تتّسع له أفكاره ومداركه، وإلى ذلك يشير الإمام الصادق (ع) بقوله: "المستبدّ برأيه موقوف على مداحض الزّلل"، وإليه يشير الإمام أمير المؤمنين بقوله: "من أعجب برأيه ضلّ، ومن استغنى بعقله زلّ".

ومن أقواله: "المؤمن لا يسي‏ء ولا يعتذر، والمنافق كلّ يوم يسي‏ء ويعتذر، وربّ ذنب أهون من الاعتذار منه". وقال لبعض أصحابه: "من أحبّك نهاك، ومن أبغضك أغراك". فقال له الرّجل: أنا أعصي الله ولا أصبر عن المعصية، فعظني بموعظة أنتفع فيها يابن رسول الله، فقال له: "افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت"، قال له الرجل: هاتها يا أبا عبد الله، فقال له: "لا تأكل من رزق الله وأذنب‏ ما شئت"، فقال الرجل: ومن أين آكل إذاً، وكل ما في الكون لله ومن عطائه؟ فقال له الإمام: "اخرج من أرض الله وأذنب ما شئت"، فقال الرّجل: وهذه أعظم من الأولى، فأين اسكن وكلّ ما في الكون لله وحده؟

فقال له الإمام: "اطلب موضعاً لا يراك الله فيه وأذنب ما شئت"، فقال الرجل: وهل تخفى على الله خافية؟ فقال الإمام: "إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك، فادفعه عن نفسك وأذنب ما شئت. والخامسة: إذا أراد مالك أن يدخلك النار فلا تدخلها وأذنب ما شئت"، فقال له الرّجل: حسبي يابن رسول الله، لن يراني الله بعد اليوم حيث يكره.

وله مناظرات مع أحد زعماء الخوارج ومع معاوية وحاشيته، وكلمات قصار في الحكم والمواعظ كان يلقيها على من يجتمع إليه بين الحين والآخر، ورواها المحدّثون والمؤرّخون في مجاميعهم، ولا يسعنا استقصاؤها مخافة التّطويل والملل.

*من كتاب "سيرة الأئمَّة الإثني عشر (عليهم السلام)"، ج ‏3.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية