قضايا الثورة مسؤولية الحاكم

قضايا الثورة مسؤولية الحاكم

لعلّ السؤال الأكثر إلحاحاً عند كلِّ وقفة مع ذكرى عاشوراء، هو: ما هي القضايا الّتي طرحها الإمام الحسين (ع) كأساس لحركته وكمسوّغ لثورته؟ ما هذه القضايا بالتفصيل؟

هناك نوعان من القضايا، نوعٌ يتَّصل بشخصية الحاكم الّذي يريد الحسين (ع) للأمة أن تثور عليه، ونوعٌ يتصل بموقف المسلم من الضغوط والتحديات والعروض الّتي توجّه إليه.

شخصية الحاكم

كان الإمام الحسين يعيش في نطاق الجو الإسلامي الّذي كان يتزعّمه حاكم يتظاهر بالإسلام. ولكن كيف طرح الإمام الحسين قضية المسؤولية؟ لقد طرحها من خلال كلمة قالها رسول الله (ص)، ويقال إن أول بيان صدر من الإمام الحسين في تحركه هو هذا البيان:

«أيّها الناس، إنَّ رسولَ اللَّهِ (ص) قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ (وفي رواية فلم يُغيّر ما) عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه». لم طبّق: «وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء القومَ _ ويشيرُ إلى بني أميّة وأتباعِهم _ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر»، هذا بيانه الأول.

نريد هنا أن نقف وقفات قصيرة حول هذه الدعوة الّتي رواها الحسين (ع) عن رسول الله (ص)، وحول التطبيق الّذي طبَّقه الحسين (ع) على الواقع، ثم بعد ذلك ندخل في عملية مقارنة بين ذلك وبين الواقع الإسلامي في البلاد الّتي يحكمها مسلمون، أو في البلاد الّتي يحكمها غير المسلمين. ماذا قال رسول الله؟

إن رسول الله يدعو المسلمين إلى أن يواجهوا مسألة الحاكم مواجهة المسؤولية، لا مواجهة اللامبالاة. يعني ليس لك أن تقول كما يقول بعض الناس: ما لنا وللدخول بين السلاطين، فليكن الحاكم كيفما كان فنحن معه. هذا منطق يردّده البعض في مجتمعنا.

الأمة مسؤولية الحاكم

لقد حمّل النبي (ص) الأمة مسؤولية الحاكم. إذا كان الحاكم عادلاً يحكم بما يراه الله وبما أنزله، وبما جاء به رسوله (ص) ويعدل بين الناس، فيجب على الأُمة أن تسانده وأن تخضع له وتطيعه، ومن ابتعد عن طاعته، فإنه ابتعد عن طاعة الله ورسوله. فإذا كان هناك حاكمٌ عادلٌ، فمن مسؤولية الأُمة أن تطيعه وأن تخضع له. لأن الحاكم في الإسلام _ فرداً كان أو هيئة _ إنمّا يمثّل توازن المجتمع وتوازن الأُمة في آنٍ معاً، فهو يمثّل السلطة العليا الضاغطة على كلّ السلطات المتدرجة في المجتمع.

فإذا كانت السلطة العليا سلطةً عادلةً، فإنها تجعل كل السلطات الّتي تخضع لها وتتحرّك من خلالها تسير في خطّ العدل، وإذا كانت هذه السلطة جائرة، فمن الطبيعي أن يكون الناس على دين ملوكهم ورؤسائهم. وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

إذا كان ربُّ البيت بالطبل ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ

إننا نفهم من هذا أن قضية الحاكم في الإسلام ليست قضية تعيش خارج اهتمامات الأُمة، بل يتحمل كلُّ فردٍ من أفرادها مسؤولية الحاكم العادل بطريقة إيجابية، ومسؤولية الحاكم الجائر بطريقة سلبية.

ارتباط المبدأ بالسياسة

حين يشير الرسول (ص) إلى ارتباط قضية الحكم بالمبدأ، فإنّه يشير إلى عمق الارتباط بين المبدأ والسياسة، ومن دون أن يرى الناس مانعاً لرسول الله أن يتكلم بذلك، مع أنهم يرون حديث السياسة غريباً عن العلماء، حتّى إن امتياز العالم ومصداقيته لدى البعض يعود إلى عدم تدخله في الواقع السياسي، فعمله واضح جداً وبسيط جداً، فمن المسجد للبيت، ومن البيت للمسجد.

ولعلّ هذا المثل الأعلى في مجتمعنا اليوم هو الإنسان المؤمن البعيد جداً عن هذا الجو، فلو تقاتل أهل البلد أو تصالحوا، فالأمر سواء لديه. إن هذا مقياس خاطئ دون شك، فإذا كان لا يصح تدخّل العلماء بالسياسة، فكيف تدخل رسول الله (ص) بالسياسة.

الحسين (ع) يتكلّم عن سياسة رسول الله (ص). والإمام الحسين (ع) بنفسه يشير إلى منهجٍ مستقرٍّ في السياسة. إذاً على حسب هذا المقياس، فأساليب النبي (ص) ينبغي أن نغيرها.

كل الذين يشتغلون بالسياسة الّتي تؤيّد النظام الجائر، هؤلاء يزحفون وراء الظلمة، ووراء الزعماء الفسقة، ووراء كلّ الذين يعيثون في الأرض فساداً... هؤلاء هم وعّاظ السلاطين وعلماء السوء. أمّا العالم الحق، فهو ينطلق في حياة الناس بالصدق وبالإخلاص، لكي يقول للظالم إنه ظالم، ويحدد مواطن الفساد، ليدفع الناس في الحياة إلى خط القرآن الّذي يقول: {إنّ اللَّهَ يأمرُ بالعَدْل} (النحل/90).

إن كل من يدعو للعدل إنما يسير في خط الله سبحانه وتعالى. وعلى كل إنسان في المجتمع أن يتحمل مسؤوليته كبيراً كان أم صغيراً.

وتحمّل المسؤولية يتمثل في بعض جوانبه بقيام الإنسان بتخفيف آلام المجتمع ومحاربة الظلم والفساد فيه. لو صلّى الإنسان ألف ركعةٍ في اليوم، ثم انطلق ليطوف ببيوت الظالمين، فإن الله يضرب بصلاة هذا الإنسان بوجهه ويقول له: {إنَّ الصّلاةَ تنهى عن الفَحشاءِ والمنكَر} (العنكبوت/45).

التخلّف أنتجَ مقاييس خاطِئة

إن الطواف ببيوت الظالمين وتأييدهم هو من أشد أنواع المنكر. على هذا المقياس يجب أن نقيس واقعنا وحياتنا، فلدينا مقاييس خاطئة تعلّمناها من عهود التخلّف وذهنيته، وبهذه الطريقة حاول الاستعمار أن يبعد الطاقات الخيّرة عن المجتمع، بالإيحاء بأنَّ الإنسان الروحي هو الّذي لا يتدخّل بالسياسة. وكيف لا يتدخل؟! أي لا يحارب المستعمر، ولا يحارب الظالم، بل يسير في حياته على أساس أن لا شُغَل له بكل هذا الواقع. وحين لا يكون للطاقات الخيرة دور بقضايا الأمة، فإن الناس تتهالك وراء الحاكم، حيث ينخذل الواعون من الأمة.

إن من واجب العالم الواعي أن يقف ليبيّن للناس الحق حتى لو رجمه الناس بالحجارة، أو لعنوه أبداً.

إن الإنسان الّذي يمشي في طريق الحق، لا يحتاج إلى رضا الناس، وإنّما يحتاج إلى رضا الله سبحانه وتعالى. من أراد رضا القاعدة الشعبية فإنه يعمل ليقنع هذا ويرضي ذاك، لكن الإنسان المؤمن هو الّذي لا ينظر إلا إلى رضا الله وشعاره: «صانِعْ وجهاً واحداُ يكفِك الوجوهَ كلها».

هذا هو الخط، وهذا هو المفهوم الصحيح. ثم نتبع كلمة رسول الله (ص)، كلمة قالها، ومن الراوي لتلك الكلمة؟ إنه الحسين (ع): إنه يتابع الحديث عن الحاكم الجائر الّذي يستحلُّ حرم الله...

الحاكم الذي يعمل على أساس تحقيق مطامعه ومطامحه وشهواته، ويحاول أن يقتل، أن يسجن، أن ينتهك كل حرمة، أن ينتهك كل عَرض... أن ينتهك كلّ الأقداس في سبيل أن يحقّق مطامعه ومطامحه وشهواته في الحياة، ومستحلاً لحرم الله كلّها؛ حرمة المؤمن هي من حرمات الله، وعزّة الأُمة هي من حرمات الله، كرامة الأُمة هي من حرمات الله، مستقبل الأُمة، استقلالها، حريتها... كل ذلك هو من حرمات الله، وتحضرني هنا قصة عن قيمة المؤمن في حساب الإسلام.

حرمة المؤمن

يروى أنّ الإمام جعفراً الصادق (ع) التقى في أحد الأيام برجل إلى جانب الكعبة ومعه بعض أصحابه، فالتفت إلى أحدهم قائلاً له:

«أتَرى إلى هذهِ الكعبةِ، كم هي عظيمة ولها حرمةٌ عندَ اللَّهِ».

قال: بلى، إنها الكعبة. ومن يستطيع هدْمَ الكعبة، فالدنيا تنهدم لتبقى الكعبة.

قال: إنّ حرمةَ المؤمنِ عند الله أعظمُ من حُرمةِ الكعبةِ بسبعينَ مرّة».

إذا هَدَمَ أحدٌ حَجَراً من أحجارِ الكعبةِ، فماذا يحدث في العالم الإسلامي؟

إذا أراد أحدٌ أن يلطخ الكعبة بالقاذورات، ماذا يحدث في العالم الإسلامي؟

لكن أن يضرب أحدهم مؤمناً أو يهينه أو يسجنه أو يعذبه أو يقتله... هذا عند الله أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرة.

فالإنسان المؤمن في الإسلام أعظم من المسجد، وأعظم من المؤسسة. الكعبة في نظر الإسلام إنما هي للناس حتى يتعبدوا لله من خلالها، أما المؤمن، فهو عند الله أعظم من الكعبة. هذه هي حرمات المؤمن. فكلّ من يستحلّ حُرمةً من حرمات المؤمن، يصدق عليه القول: مُسْتَحِلاً لحرم الله. ثم يتابع الإمام الحسين (ع) الصفات: ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، أي شريعته، الخط الّذي خطّه رسول الله (ص) في الحياة.

الحلال والحرام نظام حياتنا

إن شريعة الله تتمثل في الحلال والحرام الّذي هو حياة الإنسان. وإذا رفض الإنسان الحلال والحرام الّذي جاء به رسول الله (ص)، فمعنى ذلك أنّه يرفض كل نظام جاء من عند الله.

فقصَّة حلال الله وحرامه هي نظام حياتنا الّذي أنزله الله على رسوله، لأن الله سبحانه وتعالى أعرف بما يُصلحنا وما يُفسدنا، فالرسول (ص) يقول: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم، الله مخالفاً لسنّة رسول الله، ناكثاً بعهده...».

فالصفة الثالثة للسلطان الّذي يجب على الأُمة أن تثور عليه، هو الّذي يقف في أول ولايته، ليبيّن للناس أنّه قادم لنشر الأمن، فيعطي الناس التزاماً ومواثيق، ثم ينكث ليعمل في عباد الله بالإثم والعدوان والظلم، يعتدي على الأبرياء الآمنين، والمعذبين المضطهدين.

إنَّه السلطان الجائر، حياته هي العدوان بكل ما لديه من قوة، ولا يمكن لأيِّ إنسان أن يقف على الحياد بحجة أنه ما لنا وللدخول بين السلاطين، بل على كل إنسان أن يقاوم ويعارض بما يملك من قول أو فعل، وإلاّ كان تابعاً من أتباعهم أيضاً، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولأنه لا مجال للحياد بين الحق والباطل. فالإمام عليّ (ع) قيل له عن اثنين، عن عبد الله بن عمر، وعن كعب بن مالك، إنهما اعتزلا المعركة الّتي جرت بينه وبين معاوية، قال: «لم يَنصُرا الحقَّ ولم يَخذُلا الباطلَ». لا يكفي أن لا تنصر الباطل، إذ يريد منك الإسلام أن تقاومه. ولا يكفي أن لا تنصر الظلم، بل لا بدّ لك من أن تقف في وجهه وتحاربه بمقدار ما تستطيع.

إذاً: «من رأى منكم سلطاناً جائراً... فلم يغر عليه بقول ولا بفعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله». هذا إذاً الحاكم الّذي يجب أن يُثار عليه.

تطبيق الفكرة

كيف طبق الإمام الحسين (ع) هذه القضية. لقد كانت ذريعته في الثورة على هذا الأساس، قال: «ألا وإنّ هؤلاء القوم _ طبعاً يقصد الحكم الّذي كان موجوداً آنذاك، وكان في قمته يزيد بن معاوية وبعض رموزه _ عبيد الله بن زياد وما إلى ذلك _ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتركوا طاعةَ الرحمن». فالخط الّذي يسيرون فيه في الحياة هو خط الشيطان، وهم يبتعدون عن خطّ الرحمن. لماذا؟ لأن خط الشيطان إنما هو خط الظلم والفسق، واللهو والعربدة والفجور وما إلى ذلك... وقد قال الإمام الحسين (ع) عن يزيد: «رجلٌ فاسقُ شارِب الخمر قاتل النفسِ المحترمة».

إن يزيد وأتباعه قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، «وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله»، باعتبار تلاعبهم بأحكام الله، فقد كانوا إذا ما وجدوا هناك حديثاً لا يتفق مع مزاجهم ومع أوضاعهم، يحاولون البحث عن تخريج له، بأن يأتوا إلى بعض رواة الحديث ويقولون له: اصنع لنا حديثاً يحلّل هذا الشيء، اصنع لنا حديثاً يبيح لنا هذا الفعل. أمّا ما كانوا يريدون أن يمنعوا الناس عنه وهو حلال، فقد كان يحرّمونه.

«واستأثروا بالفيء»، والفيء يعبر عن ميزانية الدولة الإسلامية، أي ما يفيء به الله على المسلمين وعلى الناس. إنهم كانوا يستأثرون بما يفيء به الله على المسلمين وعلى الناس، فيعطونه لأصحابهم ولمحاسيبهم ولأزلامهم... وعطَّلوا حدود الله، أي القوانين الّتي أعدها الله _ سبحانه وتعالى _ من أجل ضبط حياة المجتمع في جميع الحالات. يقول الإمام الحسين (ع): «وإني أحقّ بهذا الأمر»، لأني أحمل مسؤولية الإسلام، ومسؤولية المسلمين بالوقوف أمام الأوضاع والأجواء الّتي تنطلق في الخط الّذي يسيء إلى مستقبل الإسلام ومستقبل المسلمين.

إذاً، نعرف من خلال هذا، أن المسوّغ الشرعي لثورة الإمام الحسين (ع) هو في كونها ثورة على الحاكم الجائر، المستحلّ لحرم الله، المخالف لسنّة الله، الناكث بعهده، العامل في عباد الله بالإثم والعدوان... وهذا الواقع كم من مثيل له اليوم.

لا أُعطيكم إعطاء الذليل

إنَّ لقضية الحكم في الإسلام ولشخصية الحاكم فيه دوراً كبيراً في حركة الأُمة من أجل مواجهة مسيرة هذا الحاكم. فإن كانت المسيرة مسيرة عدل وحق، فعلى الأُمة أن تساند المسيرة وتدعم هذا الحكم. وإذا كانت المسيرة مسيرة باطل وظلم، فعلى الأُمة أن تواجه هذه المسيرة بالرفض، وتواجه هذا الحكم بالثورة عليه، سواء كان الحاكم مسلماً ينتمي إلى الإسلام، أو كان غير مسلم، لأن موضوع العدل موضوع لا يقبل المساومة والمجاملة والتسويات... لأنّ الله يريد للحياة كلّها أن تقوم على أساس العدل على الصعيد الفردي والاجتماعي، وعلى صعيد الحكم كلّه.

وقد أثار الإمام الحسين (ع) القضية من جانب آخر، من خلال شعارات طرح فيها قيماً أراد للإنسان المسلم _ فرداً أو جماعة _ أن يتبنى هذه القيم في حياته ومسيرته. وهناك كلمات عديدة في هذا المجال.

الكلمة الأولى: «واللَّهِ لا أعطيكُم إعطاءَ الذليلِ ولا أُقرُّ إقرارَ العبيدِ».

والكلمة الثانية: «ألا وإنّ الدّعيَّ ابن الدعيِّ قد رَكَزَ بينَ اثنتينَ، بين السلّةِ والذلَّةِ وهيهاتَ له ذلك، هيهاتَ منا الذلّة، يأبى الله ذلكَ ورسولُهُ والمؤمنون».

الكلمة الثالثة: «إني لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ مع الظالمينَ إلا برماً».

بين عزّة المؤمنين وإقرار العبيد

هل هذه الكلمات الّتي تكلّم بها الإمام الحسين (ع) تمثّل انفعالات ذاتية للإمام الحسين (ع)؟

هل كان الإمام الحسين (ع) يعبّر عن حالة نفسية متأزّمة في داخله، عندما كان يقول: «وإنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ مع الظالمينَ إلاّ بَرَماً».

لمن تعطي يدك؟ الحسين (ع) لا يتكلَّم ذاتياً، بل يتكلم عن خطٍّ للحياة، للعمل، للحركة. إنه يقول للإنسان المسلم: إذا أردت أن تضع يدك في يد إنسان آخر، فيجب أن تضعها من موقع العزّة والكرامة، لأن معنى ذلك أنك تعاهده وتتعاقد معه وترسم خطةً مشتركةً بينك وبينه. وتعرف ما يمثّله هذا الإنسان من فكرٍ وعقيدةٍ وسلوكٍ، إذ إن وضع اليد بيعةٌ، وعهدٌ، وعقدٌ.

من تبايع أنت؟ من تعاهد؟ مع من تتعاقد؟

قبل أن تضع يدك في يد إنسان ما أدرس شخصيته، ادرس خطّه، ادرس موقفه منك، ادرس أدوات الضغط الّتي يملكها ضدّك... ثم بعد ذلك حاذر أن تضع يدك في يد إنسان يملك كلّ أدوات الضغط، وتكون قضية المعاهدة بينك وبينه قضية صيغةٍ يستغل فيها القويّ الضعيف.

لا تضع يدك في يد إنسان إذا كانت يده تريد أن تكون فوق يدك، من أجل أن تفرض عليك شروطاً لا تؤمن بها، وإذا كانت القضية كذلك، فعليك أن تسحب يدك، لأن القضية أن تكون لك عزةٌ أو أن تكون ذليلاً.

ولقد قالها الحسين (ع) لهم، لأنهم قالوا: انزل على حكم بني عمك، انزل على حكم يزيد يحكم فيك ما يشاء، انزل على حكم ابن زياد يحكم فيك ما شاء. ونحن نعدك أنك سوف تحصل على حكم منصف... إن بني عمك لن يتصرفوا معك إلاّ خيراً، عند ذلك قال: «لا واللّهِ لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أقرُّ لكم إقرارَ العبيد»، لا يمكن أن تصافحكم يدي أو تعاهدكم، ولا يمكن أن أسير معكم في أية قضية، ما دامت القضية هي قضية إذلال المؤمن وإذلال مسيرة المؤمن، ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد.

على أن الإمام الحسين (ع) يريد أن يوحي لكل الناس حين يقول ما معناه إنك إذا ما أردت أن تقر بشيء أو أن تعترف به، فلا بدّ من أن تعترف من موقع حرية إرادتك، ومن موقع قناعتك، أن تعترف بما تعترف به لأنك مؤمن به، ولأنك مقتنع به، لأنك تجد أنّه الحق، فتقول نعم في الوقت الّذي تستطيع فيه أن تقول لا. أما إذا كانت القضية في غير قناعتك، وفي غير الاتجاه الّذي تقتنع به، أمّا أن تقرّ لأن الآخرين يقولون لك حاول أن تُوَقّع، حاول أن تقر تحت تأثير الضغوط والتهديد والوعيد... إن ذلك هو إقرار العبيد الّذي لا يملك من خلاله الإنسان أن يريد، لماذا؟

لأن الآخرين يريدون له ذلك أو لا يريدون.

إن الحسين (ع) يرفض ذلك، ويريد أن يقر ما يريد به على أساس إقرار الأحرار لا إقرار العبيد. هل هذه مجرد كلمة؟ لا، إنها كما قلنا خط، خط لا يخصّ الحسين (ع) وحده، وإنما هو خطٌّ يتحرّك في حياتنا العملية في كل ما يراد لنا في الداخل والخارج.

ماذا يراد بنا كمسلمين هنا وهناك؟ إنها الفكرة نفسها، لا بد لكم أن تعطوا بأيديكم وتبايعوا، ليس من الضروري أن تكون البيعة في صيغة البيعة أو شكلها كما كان يحصل في السابق. أصبحت لدينا اليوم صيغ عصرية لا تحتاج فيها أن تأتي إلى إنسان تضع يدك في يده، بل يمكن لك أن تسجل كلمة (نعم) على ورقة وتضعها في صندوق الاقتراع، ويمكن لك أن تعترف بسلطة ما فتخضع لها، ويمكن لك أن تضع على باب محلّك صورة، تريد من خلالها أن تبرز إخلاصك لصاحب الصورة، وأن تبرز لافتة في شارعك، وتحاول من خلال ذلك أن تعبّر أنت والآخرين عن خضوعك وإخلاصك لهذا الإنسان الّذي تكون اللافتة تزلّفاً له... لقد أصبح للبيعة أشكال عصرية جاءت بها نظريات الديمقراطية وغير الديمقراطية.

ماذا يراد من المسلمين اليوم؟

يراد لهم أن يعطوا أعداءهم بأيديهم إعطاء الذليل، ونتساءل هنا: ما معنى أن تكون ذليلاً؟

هو أن تشعر بانسحاق قرارك وإرادتك وعملك... فالقرار لهم، والإرادة لهم، والخط العملي لهم. ليس لك من الأمر شيء. يعطونك نوعاً من أنواع الاعتراف الشكلي بشخصيتك. يأتون بشخص يحمل هويتك الطائفية أو الإقليمية أو القومية... ويضعونه كدُمية على أساس أن يوقّع ما يريدون، وعند ذلك يقال لكم: إنكم تشاركون في صناعة مصيركم، دون أن يكون ذلك صحيحاً واقعاً، بل إن من يتمرد على قراراتهم فسوف يكون خارج الهيكل.

الحسين (ع) لا يتحدث عن نفسه فقط، ولم يقل لبني أمية بصفته الشخصية: «لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أُقر لكُم إقرارَ العبيد»، بل كان يقول: (أنا) كمسلم وكإنسان يعيش الإسلام في روحه، وفي فكره، وفي حركته في الحياة... (أنا) لا بصفتي الشخصية، بل بصفتي الإسلامية، «لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل».

نقولها في كل البلاد الإسلامية أمام الهيمنة الداخلية والخارجية، نقولها بكل ما عندنا من شعور بالعزة الإسلامية، والكرامة الإسلامية: والله لا نعطيكم بيدنا إعطاء الذليل. يبقى قرارنا هو قرار الحق، كما قال عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) عندما كان يقاتل إلى جانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وهزم الجيش في بعض مراحل المعركة، وبدا على بعض الناس حالة من الشك، فقال لهم عمّار وهو في سن التسعين آنذاك: «والله لو هزموا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل».

إن الهزيمة لا تجعلنا نفقد ثقتنا بأنفسنا أو بقرارنا وإرادتنا، وبأننا على الحق، والإمام جعفر الصادق (ع) يقول: «إن الحرَّ حرٌّ في جميع أحواله، إن نابَتْهُ نائبةٌ صبرَ عليها، وإن تداكَّت عليه المصائبُ لم تَكِسره، وإن أُسِرَ وقُهِرَ واستبدل باليسر عسراً»... إن حرية الإنسان في المفهوم الإسلامي الّذي يمثله مفهوم أهل البيت (عليهم السلام) تنبع من حرية إرادته، بمعنى أن يكون رافضاً حتى لو لم يتحرك لسانه، أن يرفض بقلبه، وأن يعطي قراره وقناعته بقلبه حتى لو منعه الآخرون من أن يتكلم أو يتحرّك. هذه هي الحرية الحقيقية الّتي لا يمكن أن يطالها ضعف، ولا يمكن أن تكسرها هزيمة.

لعلّ السؤال الأكثر إلحاحاً عند كلِّ وقفة مع ذكرى عاشوراء، هو: ما هي القضايا الّتي طرحها الإمام الحسين (ع) كأساس لحركته وكمسوّغ لثورته؟ ما هذه القضايا بالتفصيل؟

هناك نوعان من القضايا، نوعٌ يتَّصل بشخصية الحاكم الّذي يريد الحسين (ع) للأمة أن تثور عليه، ونوعٌ يتصل بموقف المسلم من الضغوط والتحديات والعروض الّتي توجّه إليه.

شخصية الحاكم

كان الإمام الحسين يعيش في نطاق الجو الإسلامي الّذي كان يتزعّمه حاكم يتظاهر بالإسلام. ولكن كيف طرح الإمام الحسين قضية المسؤولية؟ لقد طرحها من خلال كلمة قالها رسول الله (ص)، ويقال إن أول بيان صدر من الإمام الحسين في تحركه هو هذا البيان:

«أيّها الناس، إنَّ رسولَ اللَّهِ (ص) قالَ: مَن رأى منكُم سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعَهدِه، مُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله، يَعملُ في عبادِه بالإثمِ والعدوانِ، فلم يغِرْ (وفي رواية فلم يُغيّر ما) عليهِ بقولٍ ولا بفعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه». لم طبّق: «وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء القومَ _ ويشيرُ إلى بني أميّة وأتباعِهم _ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وإنّي أحقُّ بهذا الأمر»، هذا بيانه الأول.

نريد هنا أن نقف وقفات قصيرة حول هذه الدعوة الّتي رواها الحسين (ع) عن رسول الله (ص)، وحول التطبيق الّذي طبَّقه الحسين (ع) على الواقع، ثم بعد ذلك ندخل في عملية مقارنة بين ذلك وبين الواقع الإسلامي في البلاد الّتي يحكمها مسلمون، أو في البلاد الّتي يحكمها غير المسلمين. ماذا قال رسول الله؟

إن رسول الله يدعو المسلمين إلى أن يواجهوا مسألة الحاكم مواجهة المسؤولية، لا مواجهة اللامبالاة. يعني ليس لك أن تقول كما يقول بعض الناس: ما لنا وللدخول بين السلاطين، فليكن الحاكم كيفما كان فنحن معه. هذا منطق يردّده البعض في مجتمعنا.

الأمة مسؤولية الحاكم

لقد حمّل النبي (ص) الأمة مسؤولية الحاكم. إذا كان الحاكم عادلاً يحكم بما يراه الله وبما أنزله، وبما جاء به رسوله (ص) ويعدل بين الناس، فيجب على الأُمة أن تسانده وأن تخضع له وتطيعه، ومن ابتعد عن طاعته، فإنه ابتعد عن طاعة الله ورسوله. فإذا كان هناك حاكمٌ عادلٌ، فمن مسؤولية الأُمة أن تطيعه وأن تخضع له. لأن الحاكم في الإسلام _ فرداً كان أو هيئة _ إنمّا يمثّل توازن المجتمع وتوازن الأُمة في آنٍ معاً، فهو يمثّل السلطة العليا الضاغطة على كلّ السلطات المتدرجة في المجتمع.

فإذا كانت السلطة العليا سلطةً عادلةً، فإنها تجعل كل السلطات الّتي تخضع لها وتتحرّك من خلالها تسير في خطّ العدل، وإذا كانت هذه السلطة جائرة، فمن الطبيعي أن يكون الناس على دين ملوكهم ورؤسائهم. وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

إذا كان ربُّ البيت بالطبل ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقصُ

إننا نفهم من هذا أن قضية الحاكم في الإسلام ليست قضية تعيش خارج اهتمامات الأُمة، بل يتحمل كلُّ فردٍ من أفرادها مسؤولية الحاكم العادل بطريقة إيجابية، ومسؤولية الحاكم الجائر بطريقة سلبية.

ارتباط المبدأ بالسياسة

حين يشير الرسول (ص) إلى ارتباط قضية الحكم بالمبدأ، فإنّه يشير إلى عمق الارتباط بين المبدأ والسياسة، ومن دون أن يرى الناس مانعاً لرسول الله أن يتكلم بذلك، مع أنهم يرون حديث السياسة غريباً عن العلماء، حتّى إن امتياز العالم ومصداقيته لدى البعض يعود إلى عدم تدخله في الواقع السياسي، فعمله واضح جداً وبسيط جداً، فمن المسجد للبيت، ومن البيت للمسجد.

ولعلّ هذا المثل الأعلى في مجتمعنا اليوم هو الإنسان المؤمن البعيد جداً عن هذا الجو، فلو تقاتل أهل البلد أو تصالحوا، فالأمر سواء لديه. إن هذا مقياس خاطئ دون شك، فإذا كان لا يصح تدخّل العلماء بالسياسة، فكيف تدخل رسول الله (ص) بالسياسة.

الحسين (ع) يتكلّم عن سياسة رسول الله (ص). والإمام الحسين (ع) بنفسه يشير إلى منهجٍ مستقرٍّ في السياسة. إذاً على حسب هذا المقياس، فأساليب النبي (ص) ينبغي أن نغيرها.

كل الذين يشتغلون بالسياسة الّتي تؤيّد النظام الجائر، هؤلاء يزحفون وراء الظلمة، ووراء الزعماء الفسقة، ووراء كلّ الذين يعيثون في الأرض فساداً... هؤلاء هم وعّاظ السلاطين وعلماء السوء. أمّا العالم الحق، فهو ينطلق في حياة الناس بالصدق وبالإخلاص، لكي يقول للظالم إنه ظالم، ويحدد مواطن الفساد، ليدفع الناس في الحياة إلى خط القرآن الّذي يقول: {إنّ اللَّهَ يأمرُ بالعَدْل} (النحل/90).

إن كل من يدعو للعدل إنما يسير في خط الله سبحانه وتعالى. وعلى كل إنسان في المجتمع أن يتحمل مسؤوليته كبيراً كان أم صغيراً.

وتحمّل المسؤولية يتمثل في بعض جوانبه بقيام الإنسان بتخفيف آلام المجتمع ومحاربة الظلم والفساد فيه. لو صلّى الإنسان ألف ركعةٍ في اليوم، ثم انطلق ليطوف ببيوت الظالمين، فإن الله يضرب بصلاة هذا الإنسان بوجهه ويقول له: {إنَّ الصّلاةَ تنهى عن الفَحشاءِ والمنكَر} (العنكبوت/45).

التخلّف أنتجَ مقاييس خاطِئة

إن الطواف ببيوت الظالمين وتأييدهم هو من أشد أنواع المنكر. على هذا المقياس يجب أن نقيس واقعنا وحياتنا، فلدينا مقاييس خاطئة تعلّمناها من عهود التخلّف وذهنيته، وبهذه الطريقة حاول الاستعمار أن يبعد الطاقات الخيّرة عن المجتمع، بالإيحاء بأنَّ الإنسان الروحي هو الّذي لا يتدخّل بالسياسة. وكيف لا يتدخل؟! أي لا يحارب المستعمر، ولا يحارب الظالم، بل يسير في حياته على أساس أن لا شُغَل له بكل هذا الواقع. وحين لا يكون للطاقات الخيرة دور بقضايا الأمة، فإن الناس تتهالك وراء الحاكم، حيث ينخذل الواعون من الأمة.

إن من واجب العالم الواعي أن يقف ليبيّن للناس الحق حتى لو رجمه الناس بالحجارة، أو لعنوه أبداً.

إن الإنسان الّذي يمشي في طريق الحق، لا يحتاج إلى رضا الناس، وإنّما يحتاج إلى رضا الله سبحانه وتعالى. من أراد رضا القاعدة الشعبية فإنه يعمل ليقنع هذا ويرضي ذاك، لكن الإنسان المؤمن هو الّذي لا ينظر إلا إلى رضا الله وشعاره: «صانِعْ وجهاً واحداُ يكفِك الوجوهَ كلها».

هذا هو الخط، وهذا هو المفهوم الصحيح. ثم نتبع كلمة رسول الله (ص)، كلمة قالها، ومن الراوي لتلك الكلمة؟ إنه الحسين (ع): إنه يتابع الحديث عن الحاكم الجائر الّذي يستحلُّ حرم الله...

الحاكم الذي يعمل على أساس تحقيق مطامعه ومطامحه وشهواته، ويحاول أن يقتل، أن يسجن، أن ينتهك كل حرمة، أن ينتهك كل عَرض... أن ينتهك كلّ الأقداس في سبيل أن يحقّق مطامعه ومطامحه وشهواته في الحياة، ومستحلاً لحرم الله كلّها؛ حرمة المؤمن هي من حرمات الله، وعزّة الأُمة هي من حرمات الله، كرامة الأُمة هي من حرمات الله، مستقبل الأُمة، استقلالها، حريتها... كل ذلك هو من حرمات الله، وتحضرني هنا قصة عن قيمة المؤمن في حساب الإسلام.

حرمة المؤمن

يروى أنّ الإمام جعفراً الصادق (ع) التقى في أحد الأيام برجل إلى جانب الكعبة ومعه بعض أصحابه، فالتفت إلى أحدهم قائلاً له:

«أتَرى إلى هذهِ الكعبةِ، كم هي عظيمة ولها حرمةٌ عندَ اللَّهِ».

قال: بلى، إنها الكعبة. ومن يستطيع هدْمَ الكعبة، فالدنيا تنهدم لتبقى الكعبة.

قال: إنّ حرمةَ المؤمنِ عند الله أعظمُ من حُرمةِ الكعبةِ بسبعينَ مرّة».

إذا هَدَمَ أحدٌ حَجَراً من أحجارِ الكعبةِ، فماذا يحدث في العالم الإسلامي؟

إذا أراد أحدٌ أن يلطخ الكعبة بالقاذورات، ماذا يحدث في العالم الإسلامي؟

لكن أن يضرب أحدهم مؤمناً أو يهينه أو يسجنه أو يعذبه أو يقتله... هذا عند الله أعظم من حرمة الكعبة سبعين مرة.

فالإنسان المؤمن في الإسلام أعظم من المسجد، وأعظم من المؤسسة. الكعبة في نظر الإسلام إنما هي للناس حتى يتعبدوا لله من خلالها، أما المؤمن، فهو عند الله أعظم من الكعبة. هذه هي حرمات المؤمن. فكلّ من يستحلّ حُرمةً من حرمات المؤمن، يصدق عليه القول: مُسْتَحِلاً لحرم الله. ثم يتابع الإمام الحسين (ع) الصفات: ناكثاً لعهده، مخالفاً لسنّة رسول الله، أي شريعته، الخط الّذي خطّه رسول الله (ص) في الحياة.

الحلال والحرام نظام حياتنا

إن شريعة الله تتمثل في الحلال والحرام الّذي هو حياة الإنسان. وإذا رفض الإنسان الحلال والحرام الّذي جاء به رسول الله (ص)، فمعنى ذلك أنّه يرفض كل نظام جاء من عند الله.

فقصَّة حلال الله وحرامه هي نظام حياتنا الّذي أنزله الله على رسوله، لأن الله سبحانه وتعالى أعرف بما يُصلحنا وما يُفسدنا، فالرسول (ص) يقول: من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم، الله مخالفاً لسنّة رسول الله، ناكثاً بعهده...».

فالصفة الثالثة للسلطان الّذي يجب على الأُمة أن تثور عليه، هو الّذي يقف في أول ولايته، ليبيّن للناس أنّه قادم لنشر الأمن، فيعطي الناس التزاماً ومواثيق، ثم ينكث ليعمل في عباد الله بالإثم والعدوان والظلم، يعتدي على الأبرياء الآمنين، والمعذبين المضطهدين.

إنَّه السلطان الجائر، حياته هي العدوان بكل ما لديه من قوة، ولا يمكن لأيِّ إنسان أن يقف على الحياد بحجة أنه ما لنا وللدخول بين السلاطين، بل على كل إنسان أن يقاوم ويعارض بما يملك من قول أو فعل، وإلاّ كان تابعاً من أتباعهم أيضاً، لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، ولأنه لا مجال للحياد بين الحق والباطل. فالإمام عليّ (ع) قيل له عن اثنين، عن عبد الله بن عمر، وعن كعب بن مالك، إنهما اعتزلا المعركة الّتي جرت بينه وبين معاوية، قال: «لم يَنصُرا الحقَّ ولم يَخذُلا الباطلَ». لا يكفي أن لا تنصر الباطل، إذ يريد منك الإسلام أن تقاومه. ولا يكفي أن لا تنصر الظلم، بل لا بدّ لك من أن تقف في وجهه وتحاربه بمقدار ما تستطيع.

إذاً: «من رأى منكم سلطاناً جائراً... فلم يغر عليه بقول ولا بفعل كان حقاً على الله أن يدخله مدخله». هذا إذاً الحاكم الّذي يجب أن يُثار عليه.

تطبيق الفكرة

كيف طبق الإمام الحسين (ع) هذه القضية. لقد كانت ذريعته في الثورة على هذا الأساس، قال: «ألا وإنّ هؤلاء القوم _ طبعاً يقصد الحكم الّذي كان موجوداً آنذاك، وكان في قمته يزيد بن معاوية وبعض رموزه _ عبيد الله بن زياد وما إلى ذلك _ قد لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتركوا طاعةَ الرحمن». فالخط الّذي يسيرون فيه في الحياة هو خط الشيطان، وهم يبتعدون عن خطّ الرحمن. لماذا؟ لأن خط الشيطان إنما هو خط الظلم والفسق، واللهو والعربدة والفجور وما إلى ذلك... وقد قال الإمام الحسين (ع) عن يزيد: «رجلٌ فاسقُ شارِب الخمر قاتل النفسِ المحترمة».

إن يزيد وأتباعه قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، «وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله»، باعتبار تلاعبهم بأحكام الله، فقد كانوا إذا ما وجدوا هناك حديثاً لا يتفق مع مزاجهم ومع أوضاعهم، يحاولون البحث عن تخريج له، بأن يأتوا إلى بعض رواة الحديث ويقولون له: اصنع لنا حديثاً يحلّل هذا الشيء، اصنع لنا حديثاً يبيح لنا هذا الفعل. أمّا ما كانوا يريدون أن يمنعوا الناس عنه وهو حلال، فقد كان يحرّمونه.

«واستأثروا بالفيء»، والفيء يعبر عن ميزانية الدولة الإسلامية، أي ما يفيء به الله على المسلمين وعلى الناس. إنهم كانوا يستأثرون بما يفيء به الله على المسلمين وعلى الناس، فيعطونه لأصحابهم ولمحاسيبهم ولأزلامهم... وعطَّلوا حدود الله، أي القوانين الّتي أعدها الله _ سبحانه وتعالى _ من أجل ضبط حياة المجتمع في جميع الحالات. يقول الإمام الحسين (ع): «وإني أحقّ بهذا الأمر»، لأني أحمل مسؤولية الإسلام، ومسؤولية المسلمين بالوقوف أمام الأوضاع والأجواء الّتي تنطلق في الخط الّذي يسيء إلى مستقبل الإسلام ومستقبل المسلمين.

إذاً، نعرف من خلال هذا، أن المسوّغ الشرعي لثورة الإمام الحسين (ع) هو في كونها ثورة على الحاكم الجائر، المستحلّ لحرم الله، المخالف لسنّة الله، الناكث بعهده، العامل في عباد الله بالإثم والعدوان... وهذا الواقع كم من مثيل له اليوم.

لا أُعطيكم إعطاء الذليل

إنَّ لقضية الحكم في الإسلام ولشخصية الحاكم فيه دوراً كبيراً في حركة الأُمة من أجل مواجهة مسيرة هذا الحاكم. فإن كانت المسيرة مسيرة عدل وحق، فعلى الأُمة أن تساند المسيرة وتدعم هذا الحكم. وإذا كانت المسيرة مسيرة باطل وظلم، فعلى الأُمة أن تواجه هذه المسيرة بالرفض، وتواجه هذا الحكم بالثورة عليه، سواء كان الحاكم مسلماً ينتمي إلى الإسلام، أو كان غير مسلم، لأن موضوع العدل موضوع لا يقبل المساومة والمجاملة والتسويات... لأنّ الله يريد للحياة كلّها أن تقوم على أساس العدل على الصعيد الفردي والاجتماعي، وعلى صعيد الحكم كلّه.

وقد أثار الإمام الحسين (ع) القضية من جانب آخر، من خلال شعارات طرح فيها قيماً أراد للإنسان المسلم _ فرداً أو جماعة _ أن يتبنى هذه القيم في حياته ومسيرته. وهناك كلمات عديدة في هذا المجال.

الكلمة الأولى: «واللَّهِ لا أعطيكُم إعطاءَ الذليلِ ولا أُقرُّ إقرارَ العبيدِ».

والكلمة الثانية: «ألا وإنّ الدّعيَّ ابن الدعيِّ قد رَكَزَ بينَ اثنتينَ، بين السلّةِ والذلَّةِ وهيهاتَ له ذلك، هيهاتَ منا الذلّة، يأبى الله ذلكَ ورسولُهُ والمؤمنون».

الكلمة الثالثة: «إني لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ مع الظالمينَ إلا برماً».

بين عزّة المؤمنين وإقرار العبيد

هل هذه الكلمات الّتي تكلّم بها الإمام الحسين (ع) تمثّل انفعالات ذاتية للإمام الحسين (ع)؟

هل كان الإمام الحسين (ع) يعبّر عن حالة نفسية متأزّمة في داخله، عندما كان يقول: «وإنّي لا أرى الموتَ إلاّ سعادةً والحياةَ مع الظالمينَ إلاّ بَرَماً».

لمن تعطي يدك؟ الحسين (ع) لا يتكلَّم ذاتياً، بل يتكلم عن خطٍّ للحياة، للعمل، للحركة. إنه يقول للإنسان المسلم: إذا أردت أن تضع يدك في يد إنسان آخر، فيجب أن تضعها من موقع العزّة والكرامة، لأن معنى ذلك أنك تعاهده وتتعاقد معه وترسم خطةً مشتركةً بينك وبينه. وتعرف ما يمثّله هذا الإنسان من فكرٍ وعقيدةٍ وسلوكٍ، إذ إن وضع اليد بيعةٌ، وعهدٌ، وعقدٌ.

من تبايع أنت؟ من تعاهد؟ مع من تتعاقد؟

قبل أن تضع يدك في يد إنسان ما أدرس شخصيته، ادرس خطّه، ادرس موقفه منك، ادرس أدوات الضغط الّتي يملكها ضدّك... ثم بعد ذلك حاذر أن تضع يدك في يد إنسان يملك كلّ أدوات الضغط، وتكون قضية المعاهدة بينك وبينه قضية صيغةٍ يستغل فيها القويّ الضعيف.

لا تضع يدك في يد إنسان إذا كانت يده تريد أن تكون فوق يدك، من أجل أن تفرض عليك شروطاً لا تؤمن بها، وإذا كانت القضية كذلك، فعليك أن تسحب يدك، لأن القضية أن تكون لك عزةٌ أو أن تكون ذليلاً.

ولقد قالها الحسين (ع) لهم، لأنهم قالوا: انزل على حكم بني عمك، انزل على حكم يزيد يحكم فيك ما يشاء، انزل على حكم ابن زياد يحكم فيك ما شاء. ونحن نعدك أنك سوف تحصل على حكم منصف... إن بني عمك لن يتصرفوا معك إلاّ خيراً، عند ذلك قال: «لا واللّهِ لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أقرُّ لكم إقرارَ العبيد»، لا يمكن أن تصافحكم يدي أو تعاهدكم، ولا يمكن أن أسير معكم في أية قضية، ما دامت القضية هي قضية إذلال المؤمن وإذلال مسيرة المؤمن، ولا أُقرّ لكم إقرار العبيد.

على أن الإمام الحسين (ع) يريد أن يوحي لكل الناس حين يقول ما معناه إنك إذا ما أردت أن تقر بشيء أو أن تعترف به، فلا بدّ من أن تعترف من موقع حرية إرادتك، ومن موقع قناعتك، أن تعترف بما تعترف به لأنك مؤمن به، ولأنك مقتنع به، لأنك تجد أنّه الحق، فتقول نعم في الوقت الّذي تستطيع فيه أن تقول لا. أما إذا كانت القضية في غير قناعتك، وفي غير الاتجاه الّذي تقتنع به، أمّا أن تقرّ لأن الآخرين يقولون لك حاول أن تُوَقّع، حاول أن تقر تحت تأثير الضغوط والتهديد والوعيد... إن ذلك هو إقرار العبيد الّذي لا يملك من خلاله الإنسان أن يريد، لماذا؟

لأن الآخرين يريدون له ذلك أو لا يريدون.

إن الحسين (ع) يرفض ذلك، ويريد أن يقر ما يريد به على أساس إقرار الأحرار لا إقرار العبيد. هل هذه مجرد كلمة؟ لا، إنها كما قلنا خط، خط لا يخصّ الحسين (ع) وحده، وإنما هو خطٌّ يتحرّك في حياتنا العملية في كل ما يراد لنا في الداخل والخارج.

ماذا يراد بنا كمسلمين هنا وهناك؟ إنها الفكرة نفسها، لا بد لكم أن تعطوا بأيديكم وتبايعوا، ليس من الضروري أن تكون البيعة في صيغة البيعة أو شكلها كما كان يحصل في السابق. أصبحت لدينا اليوم صيغ عصرية لا تحتاج فيها أن تأتي إلى إنسان تضع يدك في يده، بل يمكن لك أن تسجل كلمة (نعم) على ورقة وتضعها في صندوق الاقتراع، ويمكن لك أن تعترف بسلطة ما فتخضع لها، ويمكن لك أن تضع على باب محلّك صورة، تريد من خلالها أن تبرز إخلاصك لصاحب الصورة، وأن تبرز لافتة في شارعك، وتحاول من خلال ذلك أن تعبّر أنت والآخرين عن خضوعك وإخلاصك لهذا الإنسان الّذي تكون اللافتة تزلّفاً له... لقد أصبح للبيعة أشكال عصرية جاءت بها نظريات الديمقراطية وغير الديمقراطية.

ماذا يراد من المسلمين اليوم؟

يراد لهم أن يعطوا أعداءهم بأيديهم إعطاء الذليل، ونتساءل هنا: ما معنى أن تكون ذليلاً؟

هو أن تشعر بانسحاق قرارك وإرادتك وعملك... فالقرار لهم، والإرادة لهم، والخط العملي لهم. ليس لك من الأمر شيء. يعطونك نوعاً من أنواع الاعتراف الشكلي بشخصيتك. يأتون بشخص يحمل هويتك الطائفية أو الإقليمية أو القومية... ويضعونه كدُمية على أساس أن يوقّع ما يريدون، وعند ذلك يقال لكم: إنكم تشاركون في صناعة مصيركم، دون أن يكون ذلك صحيحاً واقعاً، بل إن من يتمرد على قراراتهم فسوف يكون خارج الهيكل.

الحسين (ع) لا يتحدث عن نفسه فقط، ولم يقل لبني أمية بصفته الشخصية: «لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليلِ ولا أُقر لكُم إقرارَ العبيد»، بل كان يقول: (أنا) كمسلم وكإنسان يعيش الإسلام في روحه، وفي فكره، وفي حركته في الحياة... (أنا) لا بصفتي الشخصية، بل بصفتي الإسلامية، «لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذليل».

نقولها في كل البلاد الإسلامية أمام الهيمنة الداخلية والخارجية، نقولها بكل ما عندنا من شعور بالعزة الإسلامية، والكرامة الإسلامية: والله لا نعطيكم بيدنا إعطاء الذليل. يبقى قرارنا هو قرار الحق، كما قال عمار بن ياسر (رضوان الله عليه) عندما كان يقاتل إلى جانب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وهزم الجيش في بعض مراحل المعركة، وبدا على بعض الناس حالة من الشك، فقال لهم عمّار وهو في سن التسعين آنذاك: «والله لو هزموا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمنا أننا على الحق وأنهم على الباطل».

إن الهزيمة لا تجعلنا نفقد ثقتنا بأنفسنا أو بقرارنا وإرادتنا، وبأننا على الحق، والإمام جعفر الصادق (ع) يقول: «إن الحرَّ حرٌّ في جميع أحواله، إن نابَتْهُ نائبةٌ صبرَ عليها، وإن تداكَّت عليه المصائبُ لم تَكِسره، وإن أُسِرَ وقُهِرَ واستبدل باليسر عسراً»... إن حرية الإنسان في المفهوم الإسلامي الّذي يمثله مفهوم أهل البيت (عليهم السلام) تنبع من حرية إرادته، بمعنى أن يكون رافضاً حتى لو لم يتحرك لسانه، أن يرفض بقلبه، وأن يعطي قراره وقناعته بقلبه حتى لو منعه الآخرون من أن يتكلم أو يتحرّك. هذه هي الحرية الحقيقية الّتي لا يمكن أن يطالها ضعف، ولا يمكن أن تكسرها هزيمة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية