وقفةٌ معَ الحياةِ الرّساليَّةِ للإمامِ الحسنِ (ع)

وقفةٌ معَ الحياةِ الرّساليَّةِ للإمامِ الحسنِ (ع)

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أهلِ هذا البيتِ وأئمَّتِهِ، الإمامُ الحسنُ بنُ عليّ بن أبي طالب (ع)، الَّذي نلتقي بذكرى وفاته في السَّابع من شهر صفر.
منزلتُهُ عندَ الرَّسولِ (ص)
وقد اقترنَ اسمُ الحسنِ (ع) باسمِ الحسينِ (ع)، لأنَّهما الأخوان الحبيبان لرسول الله (ص)، واللَّذان كان نسل رسول الله منهما، واللَّذان أعطيا رسول الله معنى الولَد، فكان يرعاهما ويحبُّهما ويلاعبُهما ويضمُّهما إليه، وكان يقول: "اللَّهمَّ إنِّي أحبُّهما، فأحبَّهما، وأحببْ من أحبَّهما"، وكان يقول عن الحسن (ع): "اللَّهمَّ إنِّي أحبُّه، فأحبَّه وأَحبَّ من يحبُّه".
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ رسول الله (ص) إذا أحبَّ أحداً، ودعا الله أن يحبَّه، وأن يحبَّ مَنْ يحبُّه، فإنَّه لا ينطلق في ذلك من حالة غريزيَّة ذاتيَّة، ولكنَّه ينطلق من خلال أنَّ الَّذي يحبّه (ص)، يختزن في شخصيَّته، في الحاضر والمستقبل، عمقَ محبَّته لله، وعمقَ حركتِهِ في سبيلِ الله.
وهذا الَّذي قرَّب عليّاً (ع) عندَ رسولِ اللهِ (ص)، وهو الَّذي عظَّمه عندَهُ، وهذا ما عبَّر عنه (ص) بقوله في واقعة خيبر: "لأعطينَّ الرَّايةَ غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَهُ، ويحبُّهُ اللهُ ورسولُهُ"، كأنَّه (ص) كان يقول إنَّ عظمة عليّ عندي هي أنَّه أحبَّ الله كأعظم ما يكون الحبّ، وأحبَّ رسول الله كأعظم ما يكون الحبّ، لأنَّه أفنى ذاته، وأذاب شخصه في سبيل حبّ الله ورسوله، ولذلك أحبَّه الله ورسوله، لأنَّه في مستوى الحبّ.
وكان الحسن والحسين (ع) في مستوى حبِّ رسول الله لهما، وهذا ما تمثَّلَ في حاضرهما وفي مستقبلهما، وكان النَّبيّ (ص) يعرف ما لهما عندَ الله من القيمة، من خلال ما يُقبِلان عليه في المستقبل من حركة الجهاد في سبيل الله، كلٌّ بحسب أسلوبِهِ، وكلٌّ بحسبِ ظرفِهِ، ولذا قال (ص): "الحسنُ والحسينُ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ"، وهي منزلة كبيرة عندَ الله، لأنَّ في الجنَّةِ الأنبياء والأولياء والمجاهدين والمصلحين، فهذه المنزلة هي منزلة عظيمة.
وورد عنه (ص) أنَّه قال عنهما (ع)، وقد كانا طفلين يدبَّان في الأرض: "الحسنُ والحسينُ إمامانِ قامَا أو قعَدَا".
تربيةٌ رساليَّةٌ
وقد تربَّى الحسن (ع) في طفولته في أفضل بيئةٍ عرفها الإنسان، ومع أفضلِ مربّين عُرِفوا في الإنسان، وأيّ بيئةٍ أعظم من هذه البيئة؛ بيئة هذا البيت الَّذي طهَّره الله سبحانه وتعالى، والَّذي أذهب عنه الرِّجس، فكان البيتَ الطَّاهرَ الَّذي يعطي النَّاس كلَّ معاني الطَّهارة، والّذي يوجّه النَّاس في مواعظه ووصاياه ونصائحه ليزيل عنهم كلَّ القذارة الَّتي تعيش في نفس الإنسان؟!
لقد تربَّى الحسن (ع) في هذا البيت وفي هذه المدرسة، مدرسة رسول الله (ص)، والَّذي كان يعاونه فيها عليّ (ع)، وكانت تحضنه فيها فاطمة الزَّهراء (ع) الَّتي هي سيِّدة نساء العالمين، فكما أنَّ ابنيها سيِّدا شباب أهل الجنَّة، فهي سيِّدة نساء العالمين، وأبوهما سيِّد الوصيِّين، وجدّهما سيِّد ولد آدم.
عاشا (ع) في هذه البيئة، وتربَّيا فيها، وتلمَّذا على هؤلاء الأساتذة؛ رسول الله الأستاذ الأوَّل، وعليّ الأستاذ الثَّاني، والزَّهراء الأستاذة المربّية الحاضنة المعصومة، وكلُّهم معصومون بما عصمهم الله وأعطاهم من لطفه، فكيف تكون التربية، وكيف يكون النَّشء؟!
روحيَّةُ الورعِ والخوفِ منَ الله
تعالوا نستمع إلى ما روي عن الإمام الصَّادق (ع) في فضل الإمام الحسن بن عليّ (ع ): قال (ع): "حدَّثني أبي، عن أبيه (ع)، أنَّ الحسنَ بنَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (ع) كانَ أعبدَ النَّاسِ في زمانِهِ، وأزهدَهُم وأفضلَهُم، وكانَ إذا حجَّ حجَّ ماشياً، وربَّما مشى حافياً - وكان يقول إني أستحي من ربي أن أحجَّ إلى بيت الله الحرام راكباً - وكانَ إذا ذكَرَ المَوْتَ بَكَى – ولم يكن بكاؤه حزناً أنَّه يموت، فالموت سنَّة الله في خلقه، ولكنَّه أراد أن يوحي إلى النَّاس، أنَّ الإنسان عندما يتذكَّر الموت، ويتذكَّر أنَّه نهاية الحياة، ونهاية حركة المسؤوليَّة، وأنَّه المرحلة الَّتي يغلَقُ فيها بابُ العمل، وينفتح الإنسانُ على باب الحساب، عليه أن يبكي، لأنَّه يمكن أن يكون قد أضاع أكثر من فرصة، وها إنَّ الفرصة قد ذهبت.
- وإذَا ذكرَ القبْرَ بَكَى - لأنَّ الإنسان يكون في قبره وحيداً، وقد تركه الأهل والأولاد والإخوان، وواجهَ حسابَه هناك.
- وإذا ذَكَرَ البَعْثَ والنُّشُورَ بَكَى - لأنَّه اليوم الَّذي {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
- وإذَا ذَكَرَ الممَرَّ عَلَى الصِّراطِ بَكَى- لأنَّ الإنسان الَّذي لم يخلص لله في إيمانه وعمله، لا يستطيع أن يثبت على الصِّراط، وإنَّما تلقيه أعمالُهُ في النَّار هناك، إلَّا الَّذين اهتدوا إلى الصِّراط المستقيم، وتركوا صراط الَّذين غضب الله عليهم وعاشوا الضَّلال في حياتهم.
- وإذَا ذَكَرَ العَرْضَ على اللهِ تَعَالى – إذا ذكرَ أنَّه سيقفُ بينَ يدي الله، وسيسأله الله عن كلِّ أعماله، وأنَّ عليه أن يدافع عن نفسه - شَهَقَ شَهْقَةً يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَها.
- وكانَ إِذَا قَامَ في صلاتِهِ، ترتعدُ فرائصُهُ بينَ يَدَيْ رَبِّه عَزَّ وَجَلَّ، وكانَ إذا ذَكَرَ الجنَّةَ والنَّارَ، اضْطَرَبَ اضْطِرَابَ السَّليمِ، وسأَلَ اللهَ الجنَّةَ، وَتَعَوَّذَ بِهِ مِنَ النَّارِ".
هذا والإمام الحسن (ع) الَّذي يعيش هذه الرّوح، هو الإمام المعصوم الَّذي عاش كلَّ حياته لله، فكيف بنا، أيُّها الإخوة والأخوات، ونحنُ نعيش حياتنا؟ علينا أن نذكرَ الموتَ ذكرَ وعيٍ، لا مجرَّد ذكر حزنٍ على الحياة، وأن نذكرَ القبرَ والعرضَ على الله، والصِّراطَ والقيامةَ، حتَّى يكونَ الإنسانُ في وعيٍ لآخرته، وليعيَ كيف يجعلُ من الدّنيا مزرعةً للآخرة.
"وكانَ (ع) لا يقرأُ من كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {يَاْ أيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوْا}، إلَّا قالَ: لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ - عندما يقرأ في آيات القرآن الكريم: {يا أيُّها الَّذين آمنوا} {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 42]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحريم: 6]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: 18]... كان يشعر بأنَّ الله يخاطبه كما لو أنَّه يخاطبه بشكلٍ مباشر. لذلك، عندما كان يقرأ القرآن، كان يستشعر بأنَّ الله يناديه الآن، فيقول له سبحانه: لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، سأستجيبُ، يا ربّ، لندائِكَ في ذلكَ كلِّهِ.
- ولم يُرَ في شَيْءٍ مِنْ أَحْوالِهِ إلَّا ذاكراً للهِ سُبْحَانَهُ - كان لا يفترُّ عن ذكر الله؛ يذكر الله مع النَّاس وفي نفسه، ويذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، لأنَّه يريد أن يعيش الإحساس بحضور الله معه، حتَّى إنَّه لم يكن ينسى الله في حالةٍ من حالاته.
وهذا الَّذي يريدنا الله سبحانه وتعالى، ويعلِّمنا رسوله والأئمَّة من أهل بيته (ع)، أن نتحرَّك فيه؛ أن نذكر الله دائما،ً لأنَّنا عندما نذكر الله نذكر مسؤوليَّاتنا، وعندما نذكر الله نذكر طبيعة حركتنا في الحياة، وكيف يجب أن تكون بما يرضي الله ولا تكون بما يسخطه، وإذا ذكرنا الله، ذكرنا الوقوف بين يديه، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطفّفين: 6]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النَّحل: 111]، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 19] - وكَانَ أصدقَ النَّاسِ لَهْجَةً، وأفصحَهُمْ مَنْطِقاً".
هيبةٌ وعزَّة
وهذه الصِّفات العظيمة في شخصيَّة الإمام الحسن (ع) وفي أخلاقيَّته، هي الَّتي جعلته في موقع الهيبة عنَّد النَّاس؛ كان النَّاس إذا رأوه هابوه، فإذا كان ماشياً، نزلوا عن خيولهم، لأنَّهم لم يكونوا يشعرون باللَّياقة أنَّ الحسن (ع) يمشي وهم راكبون، وكان إذا جلس في مكان، توقَّف السَّير.
وهذا ما ينقله محمَّد بن إسحاق في كتابه، قال: "ما بلغَ أحدٌ منَ الشَّرفِ بعدَ رسولِ اللهِ (ص) ما بلغَ الحسنُ؛ كانَ يُبسَطُ له على بابِ دارِهِ، فإذا خرجَ وجلسَ انقطعَ الطَّريقُ، فما مرَّ أحدٌ من خلقِ اللهِ إجلالاً له، فإذا علمَ، قامَ ودخلَ بيتَهُ فمرَّ النَّاسُ، ولقد رأيْتُهُ في طريقِ مكَّةَ ماشياً، فما من خلقِ اللهِ أحدٌ رآهُ إلَّا نزلَ ومشى، حتَّى رأيْتُ سعدَ بن أبي وقَّاص يمشي"، وهو من الصّحابةِ الَّذين كانَتْ لهم وجاهةٌ في ذاك الوقت.
والإمام الحسن (ع) هو القائل: "مَنْ أرادَ عزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مالٍ، وهيبةً بلا سلطانٍ، فلينتقلْ منْ ذلِّ معصيةِ اللهِ إلى عزِّ طاعتِه"، فإنَّ الأتقياء المطيعين لله، يعطي الله لهم في قلوبِ النَّاسِ هيبةً كبيرة.
وقيل للحسن بن عليّ: "إنَّ فيك عظمةً، قال: لا، بل فيَّ عزَّة، قالَ الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}"[المنافقون: 8].
ويذكر بعض الرّواة عنه (ع)، كما جاء في "روضة الواعظين": "إنَّ الحسن بن عليّ كان إذا توضَّأَ تغيَّرَ لونُهُ، وارتعدَتْ مفاصلُهُ، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ: حقٌّ على كلِّ مَنْ وقفَ بيْنَ يَدَي ذي العرشِ أنْ يصفرَّ لونُهُ، وترتعدَ مفاصلُهُ"، لأنَّه يستحضرُ عظمةَ الله سبحانه وتعالى في نفسه، وعندما يستحضر عظمة الله، فإنَّه يعيش الخشيةَ والخشوعَ والخضوعَ لله.
"وكان (ع) إذا بلغ بابَ المسجدِ رفعَ رأسَهُ - وعلينا أن نقتديَ به عندما ندخل أيَّ مسجد من المساجد - ويقولُ: إلَهي! ضيفُكَ ببابِكَ – فقبل أن تدخل المسجد، خاطب الله، وقل له: يا ربِّ، أنا ضيفك، والضَّيف له حقُّ القرى، وهي المغفرة - يا محسنُ، قد أتاكَ المُسيء، فتجاوزْ عن قَبيحِ ما عندي بجميلِ ما عندَك، يا كريمُ"، لا أريد أن تكون الضّيافة ضيافة أكل وشرب، بل ضيافة مغفرة ورحمة ورضوان منك.
الحلمُ وسعةُ الصَّدر
وكان الحسن (ع) يُعرَفُ بالحلم وسعة الصَّدر، حتَّى إنَّه كان يواجه الَّذين يسيئون إليه بكلِّ محبَّة.
ومما رواه المبرِّد وابن عائشة، "أنَّ شاميّاً رآهُ راكباً، فجعلَ يلعنُهُ، والحسنُ (ع) لا يردُّ – ومن المعروف أنَّ أهل الشَّام من الّذين غُسِلَتْ دماغُهم في بغض عليٍّ وأولاده وأهل بيته (ع) - فلمَّا فرغَ، أقبلَ الحسنُ (ع)، فسلَّمَ عليْهِ وضحكَ، فقالَ: أيُّها الشَّيخُ، أظنُّكَ غريباً، ولعلَّكَ شبَّهْتَ، فلو استعَتَبْتَنا أعتبْناكَ، ولو سألْتَنا أعطيْنَاكَ، ولو استرشدْتَنا أرشدْناكَ، ولو استحملْتَنا أحملْناكَ، وإنْ كنْتَ جائعاً أشبعْناكَ، وإنْ كنْتَ عرياناً كسوْناكَ، وإنْ كنْتَ محتاجاً أغنيْناكَ، وإنْ كنْتَ طريداً آويْناكَ، وإنْ كانَ لكَ حاجةٌ قضيْناها لكَ، فلوْ حرَّكْتَ رحْلَكَ إليْنا، وكنْتَ ضيْفَنا إلى وقتِ ارتحالِكَ، كانَ أعودَ عليْكَ، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً.
فلمَّا سمع الرَّجلُ كلامَهُ، بكى، ثمَّ قالَ: أشهدُ أنَّكَ خليفةُ اللهِ في أرضِهِ، اللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَهُ، وكنْتَ أنتَ وأبوكَ أبغضُ خلقِ اللهِ إليَّ، والآنَ أنتَ أحبُّ خلقِ اللهِ إليَّ، وحوَّلَ رحلَهُ إليِهِ، وكانَ ضيفَهُ إلى أنِ ارتحلَ، وصارَ معتقداً لمحبَّتِهم".

وهكذا، عاش الإمام الحسن (ع ) في هذا الخلق العظيم، وفي هذا الكرم الواسع، كان يُعرف بالكرم، حتَّى يقال إنَّه خرج من ماله مرَّتين، أي تصدَّق بجميع ماله، وقاسم الله ماله ثلاث مرَّات.
التَّجربةُ الصَّعبة
وهكذا عاش الإمام الحسن (ع) تجربة صعبة؛ عاش مع أبيه عليّ (ع) بعد رسول الله، ورأى كيف أُبعِدَ أبوه عن حقِّه، ورأى كيف أنَّ أباه كان في أعلى مستويات المسؤوليَّة عندما سكت عن حقِّه لمصلحة الإسلام، وسمع أباه يقول: "لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً". وهكذا عاش مع أبيه فترة من أصعب الفترات، ورأى كيف كانَ أبوه يعطي المشورة والنَّصيحة والفكر للَّذين تقدَّموه والَّذين أبعدوه عن حقِّه، لا تنازلاً عن حقِّه، ولكن لمصلحة الإسلام.
ثمَّ رأى كيف عاش أبوه الخلافة كأصعب ما تكون، فرأى النَّاكثين كيف يثورون على أبيه، لأنَّهم يريدون أن يقاسمهم المسؤوليَّة، ورأى كيف أنَّ معاوية والخوارج حاربوه إلى أن استشهد أبوه. وكان عضد أبيه، وكان أبوه يدخله في المهمَّات الصَّعبة، حتَّى إذا انتقلت إليه الخلافة، كان جيشه هو الجيش الَّذي لا يمثِّل وحدة في الفكرة، أو وحدة في الخطِّ والإخلاص، وكان ما كان من الأحداث الصَّعبة الَّتي أجبرته على أن يهادن معاوية وأن يصالحه.
وعاش بعد ذلك في المدينة، يوجِّه النَّاس ويرعاهم، ويحفظ لهم النَّصيحة والوصيَّة وما إلى ذلك، وكانت نهاية حياته على يد زوجته جعدة بنت الأشعت الَّتي أرسلَ إليها معاوية مَنْ طلب منها أن تدسَّ السُّمَّ للإمام الحسن (ع)، على أن يعطيها مائة ألف درهم، وأن يزوِّجها من ابنه يزيد، لأنَّ معاوية كان قد أعطى الإمام الحسن (ع) عهداً بأن يكون الخليفة من بعده، وكان يريد أن يؤمِّر يزيد، فلا يمكنه ذلك مع وجود الإمام الحسن. وهكذا كان، دسَّت إليه هذه الزَّوجة الحاقدة الَّتي هي من بيت حاقد، وهو بيت الأشعث الَّذي شارك في دم عليٍّ وفي دم الحسن وفي دم الحسين (ع)، من خلال أولاده، ذكوراً وإناثاً، وعندما قامت بهذه المهمَّة، دفعَ إليها معاويةُ مائة ألف درهم، وعندما طالبته بأن تتزوَّج يزيد، قال لها أخاف أن تفعلي مع ابني يزيد ما فعلْتِهِ بالحسنِ ابن رسولِ الله، فالَّتي تتجرَّأ على أن تقتلَ ابنَ رسولِ الله، كيفَ لا تتجرَّأ على أن تقتلَ ابنَ معاوية عندما يأتيها مَنْ يرغِّبُها بالمال؟!
وصيَّتُهُ (ع) لمنعِ الفتنة
كيف كانت وصيَّة الإمام الحسن (ع) في هذه المسألة؟ كان من وصيَّته لأخيه الحسين (ع): "وادفنّي معَ رسولِ اللهِ (ص)، فإنِّي أحقُّ بهِ وببيتِهِ، فإنْ أبَوا عليْكَ – إن أبى بنو أميَّة ذلك - فأنشدُكَ بالله، وبالقرابةِ الَّتي قرَّبَ اللهُ عزَّ وجلَّ منْكَ، والرَّحمِ الماسَّةِ من رسولِ اللهِ (ص)، أنْ لا تهريقَ في أمري محجمةً من دمٍ، حتَّى نلقى رسولَ اللهِ، فنختصمَ إليه، ونخبرَهُ بما كانَ من النَّاسِ إلينا".
قال للحسين (ع)، ومن خلال بني هاشم، إنَّ عليكم أن لا تقاتلوا القوم إذا منعوكم من دفني عندَ رسول الله.
وهكذا كان، خرج بنو أميَّة، وخرجت معهم أمُّ المؤمنين، وهي تقول: "مالي ولكم؟ تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحبّ". وثار بنو هاشم، وقالَ لهم الإمام الحسين (ع): "اللهَ اللهَ يا بني هاشمٍ في وصيَّة أخي الحسنِ، لا تضيِّعوها". ودفن (ع) في البقيع إلى جانب جدَّته فاطمة بنت أسد (رض).
الاقتداءُ بنهجِ الأئمَّةِ (ع)
أيُّها الأحبَّة، هذه لمحةٌ من حياة الإمام الحسن (ع)، وأئمَّتنا (ع) هم قدوتنا في حياتهم وفي مماتهم، لأنَّهم المطهَّرون من الله، المنزَّهون عن كلِّ رجس، لأنَّهم الأدلَّاء على الله، لأنَّهم أهل بيت النبوَّة وموضع الرّسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي، فعلينا أن نجعلهم القدوة في كلماتهم وفي أفعالهم، فإنَّ رسول الله (ص) قال: "إنَّما مثلُ أهلِ بيتي فيكم كمثلِ سفينةِ نوحٍ، من دخَلَها نجا - وركوب هذه السَّفينة، أن نعمل عملَ أهل البيت (ع) ونتَّبع أقوالهم - ومن تخلَّف عنها غرق".
                                                      بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم
                                                          الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله، وتحركوا مع أولياء الله في كلِّ ما يقولون وما يفعلون، وانفتحوا على طريق الحقّ، الطَّريق المستقيم الَّذي هو طريق الَّذين أنعم الله عليهم، وطريق الّذين هداهم الله للحقّ، وطريق الّذين يعيشون الحياة من أجل أن تكون الحياة كلّها طاعةً لله، ودعوةً لله، وبعداً عن معصية الله، فهذا ما يريده الله سبحانه وتعالى للنَّاس في حياتهم؛ أن يعبدوه، وأن يوحِّدوه في الطَّاعة وفي الخطّ، وأن يعملوا، في كلِّ مواقعهم وفي كلِّ مواقفهم، على أن يتحمَّلوا مسؤوليَّتهم عن أنفسهم وعن النَّاس من حولهم، وأن يكونوا الواعين الَّذين يعرفون الأمور في عمقها، لا أن يتحركوا في سطحها، وأن يدرسوا كلَّ الواقع، فلا يعتبروا العدوَّ صديقاً والصَّديقَ عدوّاً، وأن لا يُلدَغوا من جحر مرَّتين، لأنَّ الله يريد للمؤمن أن يكون واعياً، وأن يكون ذكيّاً، وأن يكون حذراً، وأن يكون عارفاً بزمانه وبأهل زمانه.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، في كلِّ هذه الأوضاع الصَّعبة الَّتي يعيش فيها العالم، من حروبٍ تتحرَّك هنا وهناك، ومن ضغوطٍ تنفتحُ هنا وهناك، ومن مشاكلَ نتخبَّطُ فيها، علينا أن نحدِّد مواقفنا، وأن نعرف مواقعَ أقدامِنا، وأن نعرفَ كيف نتحرَّك هنا ونقفَ هناك.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ لنا دائماً أن ندرسَ أمورنا ومشاكلنا، وأن نهتمَّ بأمور المسلمين، صغيرها وكبيرها. وفي ضوء ذلك، علينا أن نقفَ أمامَ أكثرِ من حدثٍ في هذا الأسبوع الّذي مرّ بنا.
انشغالٌ بانتخاباتِ العدوّ!
في البداية، النَّاس في الواقع اللّبناني والعربي والإسلامي والدّولي مشغولون. ماذا هناك؟ كانوا يحبسون أنفاسهم، مَن الَّذي يفوز في الانتخابات الإسرائيليَّة، وتحوَّل العربُ إلى ناخبين لحزب العمل ولباراك، وعندما نجحَ، هرولَ الكثيرون من زعماء العرب، وانطلق الكثيرون من صحافيّي العرب ومن سياسيّي العرب كأنَّهم هم المنتصرون. ولكنَّ القضيَّة في الواقع هي أنَّه لم ينتصر عربيّ واحد في هذه النَّتائج، لا في فلسطين ولا في خارجها، لأنَّ هذا الرَّجل كانت قوَّته من خلال أنَّه كان جنرالاً تحرَّك في العمليَّات الأمنيَّة والعسكريَّة، فأجرى دماء العرب أنهاراً، وهو في استراتيجيَّته، لا يختلف عن سلفه إلَّا في بعض التفاصيل، وهذا ما عبَّر عنه في لاءاته، قال: لا تقسيم للقدس، لا إزالة للمستوطنات، لا عودة لحدود 67، لا في سوريا ولا في فلسطين ولا في مكان آخر. وهكذا رأينا كيف يتبنَّى أكثر اللاءات الَّتي تبنَّاها سلفه. إنَّ الرَّجل لا يختلف في استراتيجيَّته عن سلفه، بل إنَّ كلَّ مسؤولي اليهود لا يختلفون في أنَّهم يعملون على أساس أن تكون إسرائيل الأقوى، وأن يكون العربُ الأضعف، وأن لا يعطوا الفلسطينيّين ولا العرب إلَّا بمقدار ما يحفظ أمنهم ويحقِّق مصالحهم.
هذه خلاصة المسألة. ولذلك لم ينتصر عربيّ واحد، وإنَّما انتصرت إسرائيل، لأنَّ نتنياهو لو استمرَّ، لابتعدَ الرأي العام العالميّ عن إسرائيل، باعتبار أسلوبه وفجاجته وطريقته وتكتيكه. ولذلك، كان هذا الرَّجل الَّذي عملت أمريكا على نجاحه، وأرادت للفلسطينيّين أن يعملوا على نجاحه، وأرادت للكثير من العرب أن يعملوا على نجاحه، وسوف تطلب من العرب ومن الفلسطينيّين أن يسهِّلوا له الأمور، وأن يقدِّموا له التنازلات، حتَّى لا يضغط عليه هذا الحزب أو ذاك الحزب.
وقد تعوَّدنا، أيُّها الأحبَّة، أنّ الإسرائيليّين لم يتنازلوا عن شعار واحد منذ احتلالهم فلسطين، ولكنَّ العرب تنازلوا عن كلِّ شعاراتهم، وبقيت ورقة التّوت، وأظنُّ أنّهم سوف يتنازلون تحت الضَّغط الأمريكي عن ورقة التّوت، لأنَّ الأمَّة إذا فقدت إرادتها في العزَّة والكرامة والدفاع عن قضاياها بالقوَّة، فإنَّها تفقد كلَّ شيء. وقد قرَّر العرب، منذ أن دخلت مصر في الصّلح، أن لا يحاربوا إسرائيل على مستوى الأنظمة، ولولا المقاومة في فلسطين والمقاومة في لبنان الَّتي أثبتت أنَّنا نستطيع لو توحَّدنا أن نهزم إسرائيل، وأنَّها تستطيع أن تكسر عنفوان العدوّ، وأن تحوِّل احتلاله إلى مأزق، لسقط كلّ الواقع العربيّ.
لذلك، نحن نقول لكلِّ هؤلاء، إنَّ عليهم أن لا يستبشروا بأيِّ حدث إسرائيليّ يرتفع فيه شخص ويسقط فيه شخص، لأنَّهم يتوحَّدون ضدّنا، ولكنَّهم يختلفون في تفاصيل حياتهم الاقتصاديَّة.
لا تكونوا ساذجين، إنَّ القضيَّة هي كيف يمكن للعرب أن يتضامنوا، وأن يتوحَّدوا، وأن يسترجعوا شرفهم، وأن يستعيدوا عنفوانهم، وأن يعرفوا أنَّ العالم لن يحترمهم إلَّا إذا احترموا أنفسهم. وعلى الشّعوب العربيَّة الَّتي هي صاحبة الحقّ، أن تقف بقوَّة ضدَّ كلِّ الزّيارات الجديدة الَّتي يقوم بها بعض المسؤولين العرب حفاظاً على مواقعهم، ولكن على حساب الشّعوب.
فرضُ الانسحابِ بالمقاومةِ
إنَّ هذا الرَّجل باراك، تحدَّث أنَّه سوف ينسحب من لبنان بعد عام، أو في أثناء هذا العام. ولكنَّنا عندما ندرس المسألة، وندرس كيف بدأ يتحدَّث أنَّه إذا استمرَّت القضيَّة ثلاثة عشر شهراً أو أكثر، فإنّي لن أخنقَ نفسي، نعرف أنَّ هذا كان مجرَّد شعار. لماذا؟ لأنَّ إسرائيل لن تنسحب، بحسب ظروفها السياسيَّة، دون قيدٍ أو شرط، بل إنَّها سوف تنسحب على أساس المفاوضات. ومن الطبيعي أنَّ وحدة المسارين السوري واللّبناني، تفرض أن لا يتحقَّق الانسحاب من لبنان إلَّا بعد الانسحاب من الجولان. وإذا عرفنا أنَّ المفاوضات في مسألة الجولان معقَّدة بالغة التَّعقيد، سنعرف أنَّ هذا التَّوقيت ليس حقيقيّاً إذا سارت الأمور بالشَّكل الطبيعي، ولكن يمكن أن يتحقَّق إذا استمرَّ المجاهدون في ضرباتهم ضدَّ العدوّ، وفي حصارهم للعدوّ، وفي تحويل الاحتلال إلى مأزق للعدوّ، عند ذلك، لن يستطيع العدوّ أن يبقى في هذه المسألة. وقد اعترف زعماء العدوّ بأنَّ الجيش الإسرائيليَّ تحوَّلَ في جنوب لبنان إلى جيشٍ أعمى لا يبصر طريقه، من خلال كلِّ هذه الضَّربات الموفَّقة. ولذلك، فإنَّ المسألة أنَّه عندما يزداد عمى في السياسة وفي الأمن وفي غير ذلك، فسوف يجبر على الانسحاب.
ما أريد أن أقوله، أيُّها الأحبَّة، هيو أنَّ علينا أن لا نلهث ونهرول كما هرول الكثيرون من العرب وراء وعود العدوّ، وعلينا أن نعتبر أنَّ المسألة ليست كيف يتحدَّث العدوّ عن الانسحاب، ولكن كيف نَفرضُ عليه الانسحاب، وكيف يعمل الجميع على دعم هذه المقاومة الإسلاميَّة البطلة المجاهدة الَّتي تحتضن فتية {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف: 13].
إنَّ علينا أن نعرف كيف نقلِّع شوكنا بأظافرنا، لأنَّه لا أمريكا ولا أوروبّا ولا أيّ دولة عربيَّة يمكن أن تقلِّع شوكنا بأظافرها، لأنَّ الآخرين يخافون على أظافرهم من أيِّ نقطة دم.
أيُّها الأحبَّة، لقد سجَّل المجاهدون أكثر من انتصار، ولا سيَّما في العمليَّة النَّوعيَّة في بيت ياحون. وهكذا انطلق المجاهدون في قصفِ مستوطناتِ العدوّ في الوقت الَّذي نجح باراك، لتكون رسالةً إلى القادم الجديد، وإلى سلفه السابق ووزير دفاعه، أنَّه لا يمكن أن يسقط لنا مدنيّ تحت القصف إلَّا ويعاني مدنيّوهم ذلك. إنَّنا لا نريد الإساءة إلى المدنيّين، لكنَّ الله يقول: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}، لأنَّ العدوَّ الَّذي يريد أن يفرض القوَّة علينا، لا يمكن أن يفهم إلَّا بلغة القوَّة.
وهكذا رأينا أنَّ العدوَّ قد استحقَّ المسألة، فلم يردّ على هذا القصف، لأنَّه عرف أنّه إذا ردَّ من جديد، فسيكون الردُّ أقسى.
إنَّ المرحلة القادمة من أصعب المراحل على الصَّعيدين الأمني والسياسي، وعلى الجميع الانتباه إلى ذلك بوعي وتصميم وحذر، على جميع المستويات، لأنَّ الَّذي ذهب كان يملك يداً حديديَّة لا قفَّاز عليها، أمَّا هذا، فإنَّه يملك يداً حديديّة في قفَّاز من حرير، ومشكلة الكثيرين منّا، أنهم ينظرون إلى الحرير ولا ينظرون الى ما تحت الحرير، ولهذا يتحركون على أساس كلمة حلوة هنا، ووعد معسول هناك، ومظهر جميل هنالك، ولكنَّهم لا يعرفون عمق القضيَّة هنا وهناك.
انفتاحٌ إيرانيٌّ على المنطقة
وفي جانب آخر، نتطلَّع إلى المبادرة الإيرانيّة بالانفتاح على الواقع العربي، في تطوير علاقاتها بالمنطقة العربيَّة الَّتي تمثِّل عمق المنطقة الإسلاميَّة، لأنَّ إيران الإسلام تعمل على أساس أن يتكامل المسلمون في المنطقة العربيَّة وغيرها معها، من أجل أن يقفوا في مواجهة الغطرسة الأمريكيَّة، وبهذا نعرف كيف انطلقت إيران في التحالف الاستراتيجي مع سوريا، وفي إيجاد أسسٍ للاتفاق على أكثر من مستوى، بحيث تستقرّ المنطقة، مع السعوديَّة ومع دول الخليج.
إنَّنا نقدِّر هذا الانفتاح الجديد في المنطقة، ونريد للعرب أن يعرفوا أنَّ إيران الإسلام لن تقف في مواجهة أيِّ دولة عربيَّة تعمل على إرباك أمنها، بل إنَّها تستهدف التكامل مع الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة في تحقيق المصالح الحيويَّة لشعوب المنطقة كلِّها، من موقع المسؤوليَّة الإسلاميَّة التي تفرض على المسلمين جميعاً التَّكامل في الاهتمام بشؤونهم العامَّة أمام التحدّيات الاستكباريّة في أيِّ موقع كان، وهذا الَّذي يؤكِّد القوَّة الإسلاميَّة، ويحمِّل منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ مسؤوليَّة التحرّك من أجل تحقيق التَّضامن الإسلاميّ، للحفاظ على مصالح المسلمين في الواقع الدّولي، ليكونوا قوّة سياسيَّة واقتصاديَّة وأمنيَّة، إلى جانب كونهم قوَّة عدديَّة.
لبنان: متابعةُ عمليَّةِ الإصلاح
وأخيراً، لا بدَّ للّبنانيّين من أن يتابعوا التطوّرات الجديدة في هذه المرحلة بوعيٍ وحذرٍ ووحدةٍ في الموقف، وتصميمٍ على إزالة مواقع الضّعف ومظاهر الفساد، وملاحقة كلِّ الَّذين يعملون من أجل إبقاء الاهتزاز والارتباك، ومتابعة عمليَّة الإصلاح على جميع المستويات، وعدم التوقّف عند بعض المشاكل الطَّارئة في متابعة هذا الملفّ أو ذاك الملفّ، فإنَّ التحدّي الَّذي يواجه المسؤولين، هو الاستمرار في الخطّة، بالرّغم من التَّعقيدات السياسيَّة، والأخذ بمبدأ العدالة الَّتي لا تفرّق بين صغير وكبير، فإنَّ الشَّعب هو الكبير في ساحة المسؤوليَّة، ليس هناك في الواقع اللُّبناني كبير فوق الشَّعب، وإنَّما الَّذين يسمّون أنفسهم كباراً هم خدَّام الشَّعب، إذا أرادوا أن يكونوا كباراً، لأنَّ عظمة المسؤول هي كيف يكون خادماً لشعبه، وكيف يكون مخلصاً له، فإنَّ الشَّعب هو الكبير في ساحة المسؤوليَّة، وعلى الجميع أن يتواضعوا أمام مصالحه الحيويَّة.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 21/ 05/ 1999م.
 
 
قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب: 33].
من أهلِ هذا البيتِ وأئمَّتِهِ، الإمامُ الحسنُ بنُ عليّ بن أبي طالب (ع)، الَّذي نلتقي بذكرى وفاته في السَّابع من شهر صفر.
منزلتُهُ عندَ الرَّسولِ (ص)
وقد اقترنَ اسمُ الحسنِ (ع) باسمِ الحسينِ (ع)، لأنَّهما الأخوان الحبيبان لرسول الله (ص)، واللَّذان كان نسل رسول الله منهما، واللَّذان أعطيا رسول الله معنى الولَد، فكان يرعاهما ويحبُّهما ويلاعبُهما ويضمُّهما إليه، وكان يقول: "اللَّهمَّ إنِّي أحبُّهما، فأحبَّهما، وأحببْ من أحبَّهما"، وكان يقول عن الحسن (ع): "اللَّهمَّ إنِّي أحبُّه، فأحبَّه وأَحبَّ من يحبُّه".
ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ رسول الله (ص) إذا أحبَّ أحداً، ودعا الله أن يحبَّه، وأن يحبَّ مَنْ يحبُّه، فإنَّه لا ينطلق في ذلك من حالة غريزيَّة ذاتيَّة، ولكنَّه ينطلق من خلال أنَّ الَّذي يحبّه (ص)، يختزن في شخصيَّته، في الحاضر والمستقبل، عمقَ محبَّته لله، وعمقَ حركتِهِ في سبيلِ الله.
وهذا الَّذي قرَّب عليّاً (ع) عندَ رسولِ اللهِ (ص)، وهو الَّذي عظَّمه عندَهُ، وهذا ما عبَّر عنه (ص) بقوله في واقعة خيبر: "لأعطينَّ الرَّايةَ غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَهُ، ويحبُّهُ اللهُ ورسولُهُ"، كأنَّه (ص) كان يقول إنَّ عظمة عليّ عندي هي أنَّه أحبَّ الله كأعظم ما يكون الحبّ، وأحبَّ رسول الله كأعظم ما يكون الحبّ، لأنَّه أفنى ذاته، وأذاب شخصه في سبيل حبّ الله ورسوله، ولذلك أحبَّه الله ورسوله، لأنَّه في مستوى الحبّ.
وكان الحسن والحسين (ع) في مستوى حبِّ رسول الله لهما، وهذا ما تمثَّلَ في حاضرهما وفي مستقبلهما، وكان النَّبيّ (ص) يعرف ما لهما عندَ الله من القيمة، من خلال ما يُقبِلان عليه في المستقبل من حركة الجهاد في سبيل الله، كلٌّ بحسب أسلوبِهِ، وكلٌّ بحسبِ ظرفِهِ، ولذا قال (ص): "الحسنُ والحسينُ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّةِ"، وهي منزلة كبيرة عندَ الله، لأنَّ في الجنَّةِ الأنبياء والأولياء والمجاهدين والمصلحين، فهذه المنزلة هي منزلة عظيمة.
وورد عنه (ص) أنَّه قال عنهما (ع)، وقد كانا طفلين يدبَّان في الأرض: "الحسنُ والحسينُ إمامانِ قامَا أو قعَدَا".
تربيةٌ رساليَّةٌ
وقد تربَّى الحسن (ع) في طفولته في أفضل بيئةٍ عرفها الإنسان، ومع أفضلِ مربّين عُرِفوا في الإنسان، وأيّ بيئةٍ أعظم من هذه البيئة؛ بيئة هذا البيت الَّذي طهَّره الله سبحانه وتعالى، والَّذي أذهب عنه الرِّجس، فكان البيتَ الطَّاهرَ الَّذي يعطي النَّاس كلَّ معاني الطَّهارة، والّذي يوجّه النَّاس في مواعظه ووصاياه ونصائحه ليزيل عنهم كلَّ القذارة الَّتي تعيش في نفس الإنسان؟!
لقد تربَّى الحسن (ع) في هذا البيت وفي هذه المدرسة، مدرسة رسول الله (ص)، والَّذي كان يعاونه فيها عليّ (ع)، وكانت تحضنه فيها فاطمة الزَّهراء (ع) الَّتي هي سيِّدة نساء العالمين، فكما أنَّ ابنيها سيِّدا شباب أهل الجنَّة، فهي سيِّدة نساء العالمين، وأبوهما سيِّد الوصيِّين، وجدّهما سيِّد ولد آدم.
عاشا (ع) في هذه البيئة، وتربَّيا فيها، وتلمَّذا على هؤلاء الأساتذة؛ رسول الله الأستاذ الأوَّل، وعليّ الأستاذ الثَّاني، والزَّهراء الأستاذة المربّية الحاضنة المعصومة، وكلُّهم معصومون بما عصمهم الله وأعطاهم من لطفه، فكيف تكون التربية، وكيف يكون النَّشء؟!
روحيَّةُ الورعِ والخوفِ منَ الله
تعالوا نستمع إلى ما روي عن الإمام الصَّادق (ع) في فضل الإمام الحسن بن عليّ (ع ): قال (ع): "حدَّثني أبي، عن أبيه (ع)، أنَّ الحسنَ بنَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (ع) كانَ أعبدَ النَّاسِ في زمانِهِ، وأزهدَهُم وأفضلَهُم، وكانَ إذا حجَّ حجَّ ماشياً، وربَّما مشى حافياً - وكان يقول إني أستحي من ربي أن أحجَّ إلى بيت الله الحرام راكباً - وكانَ إذا ذكَرَ المَوْتَ بَكَى – ولم يكن بكاؤه حزناً أنَّه يموت، فالموت سنَّة الله في خلقه، ولكنَّه أراد أن يوحي إلى النَّاس، أنَّ الإنسان عندما يتذكَّر الموت، ويتذكَّر أنَّه نهاية الحياة، ونهاية حركة المسؤوليَّة، وأنَّه المرحلة الَّتي يغلَقُ فيها بابُ العمل، وينفتح الإنسانُ على باب الحساب، عليه أن يبكي، لأنَّه يمكن أن يكون قد أضاع أكثر من فرصة، وها إنَّ الفرصة قد ذهبت.
- وإذَا ذكرَ القبْرَ بَكَى - لأنَّ الإنسان يكون في قبره وحيداً، وقد تركه الأهل والأولاد والإخوان، وواجهَ حسابَه هناك.
- وإذا ذَكَرَ البَعْثَ والنُّشُورَ بَكَى - لأنَّه اليوم الَّذي {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَٰكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}.
- وإذَا ذَكَرَ الممَرَّ عَلَى الصِّراطِ بَكَى- لأنَّ الإنسان الَّذي لم يخلص لله في إيمانه وعمله، لا يستطيع أن يثبت على الصِّراط، وإنَّما تلقيه أعمالُهُ في النَّار هناك، إلَّا الَّذين اهتدوا إلى الصِّراط المستقيم، وتركوا صراط الَّذين غضب الله عليهم وعاشوا الضَّلال في حياتهم.
- وإذَا ذَكَرَ العَرْضَ على اللهِ تَعَالى – إذا ذكرَ أنَّه سيقفُ بينَ يدي الله، وسيسأله الله عن كلِّ أعماله، وأنَّ عليه أن يدافع عن نفسه - شَهَقَ شَهْقَةً يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَها.
- وكانَ إِذَا قَامَ في صلاتِهِ، ترتعدُ فرائصُهُ بينَ يَدَيْ رَبِّه عَزَّ وَجَلَّ، وكانَ إذا ذَكَرَ الجنَّةَ والنَّارَ، اضْطَرَبَ اضْطِرَابَ السَّليمِ، وسأَلَ اللهَ الجنَّةَ، وَتَعَوَّذَ بِهِ مِنَ النَّارِ".
هذا والإمام الحسن (ع) الَّذي يعيش هذه الرّوح، هو الإمام المعصوم الَّذي عاش كلَّ حياته لله، فكيف بنا، أيُّها الإخوة والأخوات، ونحنُ نعيش حياتنا؟ علينا أن نذكرَ الموتَ ذكرَ وعيٍ، لا مجرَّد ذكر حزنٍ على الحياة، وأن نذكرَ القبرَ والعرضَ على الله، والصِّراطَ والقيامةَ، حتَّى يكونَ الإنسانُ في وعيٍ لآخرته، وليعيَ كيف يجعلُ من الدّنيا مزرعةً للآخرة.
"وكانَ (ع) لا يقرأُ من كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {يَاْ أيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوْا}، إلَّا قالَ: لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ - عندما يقرأ في آيات القرآن الكريم: {يا أيُّها الَّذين آمنوا} {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}[البقرة: 42]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التّحريم: 6]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}[الحشر: 18]... كان يشعر بأنَّ الله يخاطبه كما لو أنَّه يخاطبه بشكلٍ مباشر. لذلك، عندما كان يقرأ القرآن، كان يستشعر بأنَّ الله يناديه الآن، فيقول له سبحانه: لبَّيْكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، سأستجيبُ، يا ربّ، لندائِكَ في ذلكَ كلِّهِ.
- ولم يُرَ في شَيْءٍ مِنْ أَحْوالِهِ إلَّا ذاكراً للهِ سُبْحَانَهُ - كان لا يفترُّ عن ذكر الله؛ يذكر الله مع النَّاس وفي نفسه، ويذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً، لأنَّه يريد أن يعيش الإحساس بحضور الله معه، حتَّى إنَّه لم يكن ينسى الله في حالةٍ من حالاته.
وهذا الَّذي يريدنا الله سبحانه وتعالى، ويعلِّمنا رسوله والأئمَّة من أهل بيته (ع)، أن نتحرَّك فيه؛ أن نذكر الله دائما،ً لأنَّنا عندما نذكر الله نذكر مسؤوليَّاتنا، وعندما نذكر الله نذكر طبيعة حركتنا في الحياة، وكيف يجب أن تكون بما يرضي الله ولا تكون بما يسخطه، وإذا ذكرنا الله، ذكرنا الوقوف بين يديه، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[المطفّفين: 6]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا}[النَّحل: 111]، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 19] - وكَانَ أصدقَ النَّاسِ لَهْجَةً، وأفصحَهُمْ مَنْطِقاً".
هيبةٌ وعزَّة
وهذه الصِّفات العظيمة في شخصيَّة الإمام الحسن (ع) وفي أخلاقيَّته، هي الَّتي جعلته في موقع الهيبة عنَّد النَّاس؛ كان النَّاس إذا رأوه هابوه، فإذا كان ماشياً، نزلوا عن خيولهم، لأنَّهم لم يكونوا يشعرون باللَّياقة أنَّ الحسن (ع) يمشي وهم راكبون، وكان إذا جلس في مكان، توقَّف السَّير.
وهذا ما ينقله محمَّد بن إسحاق في كتابه، قال: "ما بلغَ أحدٌ منَ الشَّرفِ بعدَ رسولِ اللهِ (ص) ما بلغَ الحسنُ؛ كانَ يُبسَطُ له على بابِ دارِهِ، فإذا خرجَ وجلسَ انقطعَ الطَّريقُ، فما مرَّ أحدٌ من خلقِ اللهِ إجلالاً له، فإذا علمَ، قامَ ودخلَ بيتَهُ فمرَّ النَّاسُ، ولقد رأيْتُهُ في طريقِ مكَّةَ ماشياً، فما من خلقِ اللهِ أحدٌ رآهُ إلَّا نزلَ ومشى، حتَّى رأيْتُ سعدَ بن أبي وقَّاص يمشي"، وهو من الصّحابةِ الَّذين كانَتْ لهم وجاهةٌ في ذاك الوقت.
والإمام الحسن (ع) هو القائل: "مَنْ أرادَ عزّاً بلا عشيرة، وغنى بلا مالٍ، وهيبةً بلا سلطانٍ، فلينتقلْ منْ ذلِّ معصيةِ اللهِ إلى عزِّ طاعتِه"، فإنَّ الأتقياء المطيعين لله، يعطي الله لهم في قلوبِ النَّاسِ هيبةً كبيرة.
وقيل للحسن بن عليّ: "إنَّ فيك عظمةً، قال: لا، بل فيَّ عزَّة، قالَ الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}"[المنافقون: 8].
ويذكر بعض الرّواة عنه (ع)، كما جاء في "روضة الواعظين": "إنَّ الحسن بن عليّ كان إذا توضَّأَ تغيَّرَ لونُهُ، وارتعدَتْ مفاصلُهُ، فقيلَ لهُ في ذلكَ، فقالَ: حقٌّ على كلِّ مَنْ وقفَ بيْنَ يَدَي ذي العرشِ أنْ يصفرَّ لونُهُ، وترتعدَ مفاصلُهُ"، لأنَّه يستحضرُ عظمةَ الله سبحانه وتعالى في نفسه، وعندما يستحضر عظمة الله، فإنَّه يعيش الخشيةَ والخشوعَ والخضوعَ لله.
"وكان (ع) إذا بلغ بابَ المسجدِ رفعَ رأسَهُ - وعلينا أن نقتديَ به عندما ندخل أيَّ مسجد من المساجد - ويقولُ: إلَهي! ضيفُكَ ببابِكَ – فقبل أن تدخل المسجد، خاطب الله، وقل له: يا ربِّ، أنا ضيفك، والضَّيف له حقُّ القرى، وهي المغفرة - يا محسنُ، قد أتاكَ المُسيء، فتجاوزْ عن قَبيحِ ما عندي بجميلِ ما عندَك، يا كريمُ"، لا أريد أن تكون الضّيافة ضيافة أكل وشرب، بل ضيافة مغفرة ورحمة ورضوان منك.
الحلمُ وسعةُ الصَّدر
وكان الحسن (ع) يُعرَفُ بالحلم وسعة الصَّدر، حتَّى إنَّه كان يواجه الَّذين يسيئون إليه بكلِّ محبَّة.
ومما رواه المبرِّد وابن عائشة، "أنَّ شاميّاً رآهُ راكباً، فجعلَ يلعنُهُ، والحسنُ (ع) لا يردُّ – ومن المعروف أنَّ أهل الشَّام من الّذين غُسِلَتْ دماغُهم في بغض عليٍّ وأولاده وأهل بيته (ع) - فلمَّا فرغَ، أقبلَ الحسنُ (ع)، فسلَّمَ عليْهِ وضحكَ، فقالَ: أيُّها الشَّيخُ، أظنُّكَ غريباً، ولعلَّكَ شبَّهْتَ، فلو استعَتَبْتَنا أعتبْناكَ، ولو سألْتَنا أعطيْنَاكَ، ولو استرشدْتَنا أرشدْناكَ، ولو استحملْتَنا أحملْناكَ، وإنْ كنْتَ جائعاً أشبعْناكَ، وإنْ كنْتَ عرياناً كسوْناكَ، وإنْ كنْتَ محتاجاً أغنيْناكَ، وإنْ كنْتَ طريداً آويْناكَ، وإنْ كانَ لكَ حاجةٌ قضيْناها لكَ، فلوْ حرَّكْتَ رحْلَكَ إليْنا، وكنْتَ ضيْفَنا إلى وقتِ ارتحالِكَ، كانَ أعودَ عليْكَ، لأنَّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً.
فلمَّا سمع الرَّجلُ كلامَهُ، بكى، ثمَّ قالَ: أشهدُ أنَّكَ خليفةُ اللهِ في أرضِهِ، اللهُ أعلمُ حيثُ يجعلُ رسالتَهُ، وكنْتَ أنتَ وأبوكَ أبغضُ خلقِ اللهِ إليَّ، والآنَ أنتَ أحبُّ خلقِ اللهِ إليَّ، وحوَّلَ رحلَهُ إليِهِ، وكانَ ضيفَهُ إلى أنِ ارتحلَ، وصارَ معتقداً لمحبَّتِهم".

وهكذا، عاش الإمام الحسن (ع ) في هذا الخلق العظيم، وفي هذا الكرم الواسع، كان يُعرف بالكرم، حتَّى يقال إنَّه خرج من ماله مرَّتين، أي تصدَّق بجميع ماله، وقاسم الله ماله ثلاث مرَّات.
التَّجربةُ الصَّعبة
وهكذا عاش الإمام الحسن (ع) تجربة صعبة؛ عاش مع أبيه عليّ (ع) بعد رسول الله، ورأى كيف أُبعِدَ أبوه عن حقِّه، ورأى كيف أنَّ أباه كان في أعلى مستويات المسؤوليَّة عندما سكت عن حقِّه لمصلحة الإسلام، وسمع أباه يقول: "لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً". وهكذا عاش مع أبيه فترة من أصعب الفترات، ورأى كيف كانَ أبوه يعطي المشورة والنَّصيحة والفكر للَّذين تقدَّموه والَّذين أبعدوه عن حقِّه، لا تنازلاً عن حقِّه، ولكن لمصلحة الإسلام.
ثمَّ رأى كيف عاش أبوه الخلافة كأصعب ما تكون، فرأى النَّاكثين كيف يثورون على أبيه، لأنَّهم يريدون أن يقاسمهم المسؤوليَّة، ورأى كيف أنَّ معاوية والخوارج حاربوه إلى أن استشهد أبوه. وكان عضد أبيه، وكان أبوه يدخله في المهمَّات الصَّعبة، حتَّى إذا انتقلت إليه الخلافة، كان جيشه هو الجيش الَّذي لا يمثِّل وحدة في الفكرة، أو وحدة في الخطِّ والإخلاص، وكان ما كان من الأحداث الصَّعبة الَّتي أجبرته على أن يهادن معاوية وأن يصالحه.
وعاش بعد ذلك في المدينة، يوجِّه النَّاس ويرعاهم، ويحفظ لهم النَّصيحة والوصيَّة وما إلى ذلك، وكانت نهاية حياته على يد زوجته جعدة بنت الأشعت الَّتي أرسلَ إليها معاوية مَنْ طلب منها أن تدسَّ السُّمَّ للإمام الحسن (ع)، على أن يعطيها مائة ألف درهم، وأن يزوِّجها من ابنه يزيد، لأنَّ معاوية كان قد أعطى الإمام الحسن (ع) عهداً بأن يكون الخليفة من بعده، وكان يريد أن يؤمِّر يزيد، فلا يمكنه ذلك مع وجود الإمام الحسن. وهكذا كان، دسَّت إليه هذه الزَّوجة الحاقدة الَّتي هي من بيت حاقد، وهو بيت الأشعث الَّذي شارك في دم عليٍّ وفي دم الحسن وفي دم الحسين (ع)، من خلال أولاده، ذكوراً وإناثاً، وعندما قامت بهذه المهمَّة، دفعَ إليها معاويةُ مائة ألف درهم، وعندما طالبته بأن تتزوَّج يزيد، قال لها أخاف أن تفعلي مع ابني يزيد ما فعلْتِهِ بالحسنِ ابن رسولِ الله، فالَّتي تتجرَّأ على أن تقتلَ ابنَ رسولِ الله، كيفَ لا تتجرَّأ على أن تقتلَ ابنَ معاوية عندما يأتيها مَنْ يرغِّبُها بالمال؟!
وصيَّتُهُ (ع) لمنعِ الفتنة
كيف كانت وصيَّة الإمام الحسن (ع) في هذه المسألة؟ كان من وصيَّته لأخيه الحسين (ع): "وادفنّي معَ رسولِ اللهِ (ص)، فإنِّي أحقُّ بهِ وببيتِهِ، فإنْ أبَوا عليْكَ – إن أبى بنو أميَّة ذلك - فأنشدُكَ بالله، وبالقرابةِ الَّتي قرَّبَ اللهُ عزَّ وجلَّ منْكَ، والرَّحمِ الماسَّةِ من رسولِ اللهِ (ص)، أنْ لا تهريقَ في أمري محجمةً من دمٍ، حتَّى نلقى رسولَ اللهِ، فنختصمَ إليه، ونخبرَهُ بما كانَ من النَّاسِ إلينا".
قال للحسين (ع)، ومن خلال بني هاشم، إنَّ عليكم أن لا تقاتلوا القوم إذا منعوكم من دفني عندَ رسول الله.
وهكذا كان، خرج بنو أميَّة، وخرجت معهم أمُّ المؤمنين، وهي تقول: "مالي ولكم؟ تريدون أن تدخلوا بيتي من لا أحبّ". وثار بنو هاشم، وقالَ لهم الإمام الحسين (ع): "اللهَ اللهَ يا بني هاشمٍ في وصيَّة أخي الحسنِ، لا تضيِّعوها". ودفن (ع) في البقيع إلى جانب جدَّته فاطمة بنت أسد (رض).
الاقتداءُ بنهجِ الأئمَّةِ (ع)
أيُّها الأحبَّة، هذه لمحةٌ من حياة الإمام الحسن (ع)، وأئمَّتنا (ع) هم قدوتنا في حياتهم وفي مماتهم، لأنَّهم المطهَّرون من الله، المنزَّهون عن كلِّ رجس، لأنَّهم الأدلَّاء على الله، لأنَّهم أهل بيت النبوَّة وموضع الرّسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي، فعلينا أن نجعلهم القدوة في كلماتهم وفي أفعالهم، فإنَّ رسول الله (ص) قال: "إنَّما مثلُ أهلِ بيتي فيكم كمثلِ سفينةِ نوحٍ، من دخَلَها نجا - وركوب هذه السَّفينة، أن نعمل عملَ أهل البيت (ع) ونتَّبع أقوالهم - ومن تخلَّف عنها غرق".
                                                      بسمِ اللهِ الرَّحمن الرَّحيم
                                                          الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله، وتحركوا مع أولياء الله في كلِّ ما يقولون وما يفعلون، وانفتحوا على طريق الحقّ، الطَّريق المستقيم الَّذي هو طريق الَّذين أنعم الله عليهم، وطريق الّذين هداهم الله للحقّ، وطريق الّذين يعيشون الحياة من أجل أن تكون الحياة كلّها طاعةً لله، ودعوةً لله، وبعداً عن معصية الله، فهذا ما يريده الله سبحانه وتعالى للنَّاس في حياتهم؛ أن يعبدوه، وأن يوحِّدوه في الطَّاعة وفي الخطّ، وأن يعملوا، في كلِّ مواقعهم وفي كلِّ مواقفهم، على أن يتحمَّلوا مسؤوليَّتهم عن أنفسهم وعن النَّاس من حولهم، وأن يكونوا الواعين الَّذين يعرفون الأمور في عمقها، لا أن يتحركوا في سطحها، وأن يدرسوا كلَّ الواقع، فلا يعتبروا العدوَّ صديقاً والصَّديقَ عدوّاً، وأن لا يُلدَغوا من جحر مرَّتين، لأنَّ الله يريد للمؤمن أن يكون واعياً، وأن يكون ذكيّاً، وأن يكون حذراً، وأن يكون عارفاً بزمانه وبأهل زمانه.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، في كلِّ هذه الأوضاع الصَّعبة الَّتي يعيش فيها العالم، من حروبٍ تتحرَّك هنا وهناك، ومن ضغوطٍ تنفتحُ هنا وهناك، ومن مشاكلَ نتخبَّطُ فيها، علينا أن نحدِّد مواقفنا، وأن نعرف مواقعَ أقدامِنا، وأن نعرفَ كيف نتحرَّك هنا ونقفَ هناك.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ لنا دائماً أن ندرسَ أمورنا ومشاكلنا، وأن نهتمَّ بأمور المسلمين، صغيرها وكبيرها. وفي ضوء ذلك، علينا أن نقفَ أمامَ أكثرِ من حدثٍ في هذا الأسبوع الّذي مرّ بنا.
انشغالٌ بانتخاباتِ العدوّ!
في البداية، النَّاس في الواقع اللّبناني والعربي والإسلامي والدّولي مشغولون. ماذا هناك؟ كانوا يحبسون أنفاسهم، مَن الَّذي يفوز في الانتخابات الإسرائيليَّة، وتحوَّل العربُ إلى ناخبين لحزب العمل ولباراك، وعندما نجحَ، هرولَ الكثيرون من زعماء العرب، وانطلق الكثيرون من صحافيّي العرب ومن سياسيّي العرب كأنَّهم هم المنتصرون. ولكنَّ القضيَّة في الواقع هي أنَّه لم ينتصر عربيّ واحد في هذه النَّتائج، لا في فلسطين ولا في خارجها، لأنَّ هذا الرَّجل كانت قوَّته من خلال أنَّه كان جنرالاً تحرَّك في العمليَّات الأمنيَّة والعسكريَّة، فأجرى دماء العرب أنهاراً، وهو في استراتيجيَّته، لا يختلف عن سلفه إلَّا في بعض التفاصيل، وهذا ما عبَّر عنه في لاءاته، قال: لا تقسيم للقدس، لا إزالة للمستوطنات، لا عودة لحدود 67، لا في سوريا ولا في فلسطين ولا في مكان آخر. وهكذا رأينا كيف يتبنَّى أكثر اللاءات الَّتي تبنَّاها سلفه. إنَّ الرَّجل لا يختلف في استراتيجيَّته عن سلفه، بل إنَّ كلَّ مسؤولي اليهود لا يختلفون في أنَّهم يعملون على أساس أن تكون إسرائيل الأقوى، وأن يكون العربُ الأضعف، وأن لا يعطوا الفلسطينيّين ولا العرب إلَّا بمقدار ما يحفظ أمنهم ويحقِّق مصالحهم.
هذه خلاصة المسألة. ولذلك لم ينتصر عربيّ واحد، وإنَّما انتصرت إسرائيل، لأنَّ نتنياهو لو استمرَّ، لابتعدَ الرأي العام العالميّ عن إسرائيل، باعتبار أسلوبه وفجاجته وطريقته وتكتيكه. ولذلك، كان هذا الرَّجل الَّذي عملت أمريكا على نجاحه، وأرادت للفلسطينيّين أن يعملوا على نجاحه، وأرادت للكثير من العرب أن يعملوا على نجاحه، وسوف تطلب من العرب ومن الفلسطينيّين أن يسهِّلوا له الأمور، وأن يقدِّموا له التنازلات، حتَّى لا يضغط عليه هذا الحزب أو ذاك الحزب.
وقد تعوَّدنا، أيُّها الأحبَّة، أنّ الإسرائيليّين لم يتنازلوا عن شعار واحد منذ احتلالهم فلسطين، ولكنَّ العرب تنازلوا عن كلِّ شعاراتهم، وبقيت ورقة التّوت، وأظنُّ أنّهم سوف يتنازلون تحت الضَّغط الأمريكي عن ورقة التّوت، لأنَّ الأمَّة إذا فقدت إرادتها في العزَّة والكرامة والدفاع عن قضاياها بالقوَّة، فإنَّها تفقد كلَّ شيء. وقد قرَّر العرب، منذ أن دخلت مصر في الصّلح، أن لا يحاربوا إسرائيل على مستوى الأنظمة، ولولا المقاومة في فلسطين والمقاومة في لبنان الَّتي أثبتت أنَّنا نستطيع لو توحَّدنا أن نهزم إسرائيل، وأنَّها تستطيع أن تكسر عنفوان العدوّ، وأن تحوِّل احتلاله إلى مأزق، لسقط كلّ الواقع العربيّ.
لذلك، نحن نقول لكلِّ هؤلاء، إنَّ عليهم أن لا يستبشروا بأيِّ حدث إسرائيليّ يرتفع فيه شخص ويسقط فيه شخص، لأنَّهم يتوحَّدون ضدّنا، ولكنَّهم يختلفون في تفاصيل حياتهم الاقتصاديَّة.
لا تكونوا ساذجين، إنَّ القضيَّة هي كيف يمكن للعرب أن يتضامنوا، وأن يتوحَّدوا، وأن يسترجعوا شرفهم، وأن يستعيدوا عنفوانهم، وأن يعرفوا أنَّ العالم لن يحترمهم إلَّا إذا احترموا أنفسهم. وعلى الشّعوب العربيَّة الَّتي هي صاحبة الحقّ، أن تقف بقوَّة ضدَّ كلِّ الزّيارات الجديدة الَّتي يقوم بها بعض المسؤولين العرب حفاظاً على مواقعهم، ولكن على حساب الشّعوب.
فرضُ الانسحابِ بالمقاومةِ
إنَّ هذا الرَّجل باراك، تحدَّث أنَّه سوف ينسحب من لبنان بعد عام، أو في أثناء هذا العام. ولكنَّنا عندما ندرس المسألة، وندرس كيف بدأ يتحدَّث أنَّه إذا استمرَّت القضيَّة ثلاثة عشر شهراً أو أكثر، فإنّي لن أخنقَ نفسي، نعرف أنَّ هذا كان مجرَّد شعار. لماذا؟ لأنَّ إسرائيل لن تنسحب، بحسب ظروفها السياسيَّة، دون قيدٍ أو شرط، بل إنَّها سوف تنسحب على أساس المفاوضات. ومن الطبيعي أنَّ وحدة المسارين السوري واللّبناني، تفرض أن لا يتحقَّق الانسحاب من لبنان إلَّا بعد الانسحاب من الجولان. وإذا عرفنا أنَّ المفاوضات في مسألة الجولان معقَّدة بالغة التَّعقيد، سنعرف أنَّ هذا التَّوقيت ليس حقيقيّاً إذا سارت الأمور بالشَّكل الطبيعي، ولكن يمكن أن يتحقَّق إذا استمرَّ المجاهدون في ضرباتهم ضدَّ العدوّ، وفي حصارهم للعدوّ، وفي تحويل الاحتلال إلى مأزق للعدوّ، عند ذلك، لن يستطيع العدوّ أن يبقى في هذه المسألة. وقد اعترف زعماء العدوّ بأنَّ الجيش الإسرائيليَّ تحوَّلَ في جنوب لبنان إلى جيشٍ أعمى لا يبصر طريقه، من خلال كلِّ هذه الضَّربات الموفَّقة. ولذلك، فإنَّ المسألة أنَّه عندما يزداد عمى في السياسة وفي الأمن وفي غير ذلك، فسوف يجبر على الانسحاب.
ما أريد أن أقوله، أيُّها الأحبَّة، هيو أنَّ علينا أن لا نلهث ونهرول كما هرول الكثيرون من العرب وراء وعود العدوّ، وعلينا أن نعتبر أنَّ المسألة ليست كيف يتحدَّث العدوّ عن الانسحاب، ولكن كيف نَفرضُ عليه الانسحاب، وكيف يعمل الجميع على دعم هذه المقاومة الإسلاميَّة البطلة المجاهدة الَّتي تحتضن فتية {آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف: 13].
إنَّ علينا أن نعرف كيف نقلِّع شوكنا بأظافرنا، لأنَّه لا أمريكا ولا أوروبّا ولا أيّ دولة عربيَّة يمكن أن تقلِّع شوكنا بأظافرها، لأنَّ الآخرين يخافون على أظافرهم من أيِّ نقطة دم.
أيُّها الأحبَّة، لقد سجَّل المجاهدون أكثر من انتصار، ولا سيَّما في العمليَّة النَّوعيَّة في بيت ياحون. وهكذا انطلق المجاهدون في قصفِ مستوطناتِ العدوّ في الوقت الَّذي نجح باراك، لتكون رسالةً إلى القادم الجديد، وإلى سلفه السابق ووزير دفاعه، أنَّه لا يمكن أن يسقط لنا مدنيّ تحت القصف إلَّا ويعاني مدنيّوهم ذلك. إنَّنا لا نريد الإساءة إلى المدنيّين، لكنَّ الله يقول: {فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا ٱعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}، لأنَّ العدوَّ الَّذي يريد أن يفرض القوَّة علينا، لا يمكن أن يفهم إلَّا بلغة القوَّة.
وهكذا رأينا أنَّ العدوَّ قد استحقَّ المسألة، فلم يردّ على هذا القصف، لأنَّه عرف أنّه إذا ردَّ من جديد، فسيكون الردُّ أقسى.
إنَّ المرحلة القادمة من أصعب المراحل على الصَّعيدين الأمني والسياسي، وعلى الجميع الانتباه إلى ذلك بوعي وتصميم وحذر، على جميع المستويات، لأنَّ الَّذي ذهب كان يملك يداً حديديَّة لا قفَّاز عليها، أمَّا هذا، فإنَّه يملك يداً حديديّة في قفَّاز من حرير، ومشكلة الكثيرين منّا، أنهم ينظرون إلى الحرير ولا ينظرون الى ما تحت الحرير، ولهذا يتحركون على أساس كلمة حلوة هنا، ووعد معسول هناك، ومظهر جميل هنالك، ولكنَّهم لا يعرفون عمق القضيَّة هنا وهناك.
انفتاحٌ إيرانيٌّ على المنطقة
وفي جانب آخر، نتطلَّع إلى المبادرة الإيرانيّة بالانفتاح على الواقع العربي، في تطوير علاقاتها بالمنطقة العربيَّة الَّتي تمثِّل عمق المنطقة الإسلاميَّة، لأنَّ إيران الإسلام تعمل على أساس أن يتكامل المسلمون في المنطقة العربيَّة وغيرها معها، من أجل أن يقفوا في مواجهة الغطرسة الأمريكيَّة، وبهذا نعرف كيف انطلقت إيران في التحالف الاستراتيجي مع سوريا، وفي إيجاد أسسٍ للاتفاق على أكثر من مستوى، بحيث تستقرّ المنطقة، مع السعوديَّة ومع دول الخليج.
إنَّنا نقدِّر هذا الانفتاح الجديد في المنطقة، ونريد للعرب أن يعرفوا أنَّ إيران الإسلام لن تقف في مواجهة أيِّ دولة عربيَّة تعمل على إرباك أمنها، بل إنَّها تستهدف التكامل مع الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة في تحقيق المصالح الحيويَّة لشعوب المنطقة كلِّها، من موقع المسؤوليَّة الإسلاميَّة التي تفرض على المسلمين جميعاً التَّكامل في الاهتمام بشؤونهم العامَّة أمام التحدّيات الاستكباريّة في أيِّ موقع كان، وهذا الَّذي يؤكِّد القوَّة الإسلاميَّة، ويحمِّل منظَّمة المؤتمر الإسلاميّ مسؤوليَّة التحرّك من أجل تحقيق التَّضامن الإسلاميّ، للحفاظ على مصالح المسلمين في الواقع الدّولي، ليكونوا قوّة سياسيَّة واقتصاديَّة وأمنيَّة، إلى جانب كونهم قوَّة عدديَّة.
لبنان: متابعةُ عمليَّةِ الإصلاح
وأخيراً، لا بدَّ للّبنانيّين من أن يتابعوا التطوّرات الجديدة في هذه المرحلة بوعيٍ وحذرٍ ووحدةٍ في الموقف، وتصميمٍ على إزالة مواقع الضّعف ومظاهر الفساد، وملاحقة كلِّ الَّذين يعملون من أجل إبقاء الاهتزاز والارتباك، ومتابعة عمليَّة الإصلاح على جميع المستويات، وعدم التوقّف عند بعض المشاكل الطَّارئة في متابعة هذا الملفّ أو ذاك الملفّ، فإنَّ التحدّي الَّذي يواجه المسؤولين، هو الاستمرار في الخطّة، بالرّغم من التَّعقيدات السياسيَّة، والأخذ بمبدأ العدالة الَّتي لا تفرّق بين صغير وكبير، فإنَّ الشَّعب هو الكبير في ساحة المسؤوليَّة، ليس هناك في الواقع اللُّبناني كبير فوق الشَّعب، وإنَّما الَّذين يسمّون أنفسهم كباراً هم خدَّام الشَّعب، إذا أرادوا أن يكونوا كباراً، لأنَّ عظمة المسؤول هي كيف يكون خادماً لشعبه، وكيف يكون مخلصاً له، فإنَّ الشَّعب هو الكبير في ساحة المسؤوليَّة، وعلى الجميع أن يتواضعوا أمام مصالحه الحيويَّة.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 21/ 05/ 1999م.
 
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية