ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
عيد الفطر : السبت القادم
لا بد لنا في هذه الجمعة أن نؤكد على عدة نقاط؛ النقطة الأولى، أن هذه الجمعة ليست آخر جمعة من شهر رمضان، وأن العيد سيكون بإذن الله في يوم السبت الذي يعقب الجمعة القادمة، وذلك لأن القمر لم يُر في أي مكان في العالم، حسب دراسة الفلكيين الموثوقين، لأن الهلال سيكون بحالة المحاق في منطقتنا، وفي المناطق الأخرى لا يمكن رؤيته، لذلك سيكون الجمعة القادم يوم الثلاثين من شهر رمضان والسبت هو يوم العيد، بإذن الله؛ هذا من خلال رأينا الفقهي في التحديد الذي يعتمد على الحسابات الفلكية الدقيقة، التي لا يرقى إليها الشكّ، وللآخرين رأيهم الذي نحترمه، هذه نقطة.
في إطلالات القرن الجديد
النقطة الثانية، هي أن الناس يستقبلون غداً سنة ميلادية جديدة، وقرناً جديداً، وألفية ميلادية ثالثة، وفي العالم حالة طوارئ أمام هذه المناسبات، ونحن لا نرى في هذه المناسبات أية فرصة لمثل هذه المظاهرة العالمية التي تتحرك في أكثر من موقع، لا سيما في مواقع اللهو والعبث، حيث يعيش الناس لحظة جنون في هذه الليلة في مختلف أنحاء العالم. إننا نريد أن نؤكد الموقف الإسلامي من هذه الأمور.
ـ التأريخ الهجري يمثل شخصيتنا الإسلامية
أولاً، نحن لا نتعقّد من أي تأريخ آخر، لأن لنا كمسلمين تاريخنا الهجري، الذي يمثل شخصيتنا التاريخية الإسلامية، لأن الإسلام في حركته في الواقع بدأ منذ هجرة النبي(ص)، وهذا ما اتفق عليه المسلمون، لذلك ينبغي على المسلمين جميعاً أن يحافظوا عليه، وأن يؤرخوا به، حتى إذا اضطررنا بفعل الواقع العالمي إلى أن نؤرخ بالتأريخ الميلادي، فلا بد أن نضع إلى جانبه التأريخ الهجري، لأنه جزء من شخصيتنا الإسلامية، وتركه هو ترك لعنصر من عناصر الشخصية الإسلامية، ونحن لا نمانع من التأكيد أيضاً على التأريخ الميلادي لولادة السيد المسيح(ع)، لأن السيد المسيح (ع) عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه، ونحن نعظّمه، من خلال أنه آية له ورحمة، "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" من خلال مظهر القدرة. لذلك لا مشكلة عندنا في الأخذ بالتأريخ الميلادي، لأن الإسلام يتميز عن كل الديانات الأخرى، بأنه يؤمن بالرسالات كلها "لا نفرق بين أحد من رسله"، ولأن المسلم لا يتعقد من أي مقدس صحيح من مقدسات الديانات الأخرى، ويؤمن بالتوراة والإنجيل والقرآن، ويؤمن بإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(ص)، بينما لا يلتزم أصحاب الديانات الأخرى بالنبي كنبي ولا بالقرآن كقرآن، ولا يلتزم اليهود بالإنجيل أو بعيسى(ع)...
ـ لنملأ الزمن بالحق
لذلك، أن تكون رأس السنة الميلادية رأس سنة نؤرخ بها، هو أمر ليس سلبياً، ولكن المسألة هي كيف يحتفل الإنسان بأوائل الزمن، حيث لا بد للإنسان من أن يكون إحساسه بالزمن من خلال التفكير والتأمل، بأنه هل أطاع الله فيه أم عصاه، هل استفاد منه علماً أم بقي على جهله، هل استطاع أن يفجّر طاقاته في ما ينفع الناس أم في ما يضرّهم، أو أنه ضيّع طاقاته؟
الزمن هو عمرنا؛ عمر الشخص وعمر الأمّة، لذلك ، علينا في بدايات الزمن أن نفكر في مسؤوليتنا أمام الله عن هذا الزمن، الذي أراد الله لنا أن نملأه بالحق والخير والعدل وبما ينفع الناس، لا أن نجعل بداياته فرصة للغيبوبة عن الوعي، كما يفعل بعض الناس، الذين يبدأون سنتهم بالسكر، لأنهم يعتبرون أن قليلاً من الخمر يفرفح قلب الإنسان، وذلك من خلال ما ينسبونه إلى السيد المسيح(ع) زوراً، خاصة وأن الله أراد الإنسان عقلاً وجعله مسؤولاً عن عمله، فلا يمكن أن يرخص له أن يصادر عقله ولو للحظة، عن طريق أي شيء يجعله في غيبوبة عن عقله وعن وعيه، ولذلك نرى أن كل الرسالات، كما ورد في حديث الأئمة(ع)، قالت بتحريم الخمر، لذلك لا بد للإنسان أن يكون واعياً في كل بدايات الزمن، حتى يشعر عندما تمرّ عليّه سنة، أنه قد مشى في هذه السنة خطوة نحو الله، لا أن تبعده عنه "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد" أن تفكر وأنت في ليلة رأس السنة الميلادية أو الهجرية أو رأس سنتك هل ربحت فيها لآخرتك أم لم تربح. الإمام زين العابدين (ع) في دعاء الصباح والمساء، عندما يبدأ يومه يقول: "اللّهم وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذمّ".
ـ قيمة الإنسان بالعمل
فبداية اليوم كبداية الأسبوع وبداية الشهر والسنة والقرن، لأن قيمة الإنسان عمله "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون""اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً". ما نأخذه من هذه الدنيا، مهما طال العمر أو قصر، هو العمل، فلنربِّ أنفسنا وأهلنا وأولادنا على أن تكون بدايات السنة أو نهاياتها فرصة للتأمل والتفكر. يقال إن المصارف تأخذ إجازة في أواخر السنة عدة أيام حتى تحدد أرباحها وخسائرها وتعد ميزانيتها للسنة القادمة، فلنفعل ذلك، بحيث نحدد أرباحنا وخسائرنا مع الله، وفي علاقاتنا الاجتماعية والسياسية، بأن نضع ميزانيتنا التي هي خطتنا العملية للسنة القادمة، لأن مسألة التوبة هي أن تندم على ما مضى وأن تخطط للمستقبل في أن لا يكون مستقبل ذنب أو سيئة.
ـ الصوت الصاخب: مظهر تخلف
وهناك نقطة أشرت إليها أكثر من مرة، وهي عادة المفرقعات، التي هي مظهر تخلّف ووحشية، لأنها تخيف الأطفال وتثير الضجيج... ما فلسفة هذه العادة؟ إن الله حدثنا عن الصوت الصاخب بقوله تعالى:"إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" وذلك يشمل صوت الراديو والتلفزيون والمفرقعات والرصاص... الحضارة هي أسلوبك في التعامل مع البيئة ومع الناس ومع الحياة، فكلما كان أسلوبك أسلوباً ينسجم مع ما يصلح الناس كلما كنت متحضراً أكثر، لذلك أرجو أن نعمل جميعاً على استنكار هذه العادة من أنفسنا ومن أولادنا، وأن ننصح هؤلاء الذين يتاجرون بهذه المفرقعات بأن هذه التجارة تسيء إلى مجتمعهم، وأن ما يحصلون عليه من ربح لا يساوي الخسارة التي تلحق بالمجتمع بسبب ذلك.
ـ مراجعة الماضي
أما عندما نلتقي بقرن جديد أو بالألفية الثالثة، هنا لا بدّ أن نلاحظ كيف هو حال العالم في القرن الماضي، سواء على مستوى العالم الإسلامي أو على مستوى العالم كله، فنلاحظ أنه كان قرن الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي، وإذا كانت البلاد الإسلامية قد استقلت وتحرّرت، فربما أنها استقلت وتحررت بالشكل، ولذلك لا تزال تحت تأثير الاستعمار الاقتصادي والأمني والسياسي. وبعبارة أخرى، هي لا تزال خاضعة لاحتلال من نوع جديد.
وخسرنا في هذا القرن فلسطين، فقد أساء المسلمون في فلسطين وما حولها التعامل مع هذه القضية، وخضعوا لأكثر من خطة استكبارية، وسهّلوا بأكثر من حرب لليهود أن يحتلوا فلسطين، ولا زالت "إسرائيل" تعمل على استكمال هذا الاحتلال من ناحية قانونية.
وفي هذا القرن، خاض المسلمون حروباً ضدّ بعضهم البعض، وهذا ما حدث في الحرب التي فرضت على الجمهورية الإسلامية على مدى ثمان سنوات، بحيث دمرت الاقتصاد العراقي والإيراني معاً. ثم كانت حرب الخليج الثانية التي دمّرت واقع المنطقة، وأفسحت في المجال لأمريكا أن تكون زعيمة العالم. كما أن الصراع بين أمريكا وأوروبا لا يزال يخلق في كل يوم حروباً وانقلابات في العالم الإسلامي وفي أفريقيا وآسيا، حتى يضعف اقتصاد هذه البلدان ويستنزف كل طاقاتها وثرواتها ويحوّلها إلى أشلاء متناثرة.
ولا يزال العالم الثالث يزداد فقراً في الواقع، فهناك بعض الإحصائيات في الأمم المتحدة تشير إلى وجود حوالي المليار ونصف مليار نسمة يعيشون بدولار واحد شهرياً، ويشكل الفقراء الأغلبية الساحقة في العالم، بينما هناك ثمان دول هي الأغنى في العالم، تستغلّ ثروات شعوب العالم الثالث، وتسيطر عليها وتمنعها من تحقيق سياسة الاكتفاء الذاتي.
وهكذا نجد أن العالم يمكن أن يصرف ميزانيات في الأسلحة أكثر مما يصرف ميزانيات في التنمية، بل إن تجارة الأسلحة أصبحت تجارة مزدهرة في أكثر من بلد، ولا زالت أمريكا ودول أوروبية وبعض دول آسيا تتسابق على تجارة الأسلحة في بلداننا، بإثارة الحروب التي تجعل من الأسلحة حاجة ملحّة، فقد صرفت دول الخليج والدول العربية الإسلامية عشرات ومئات المليارات التي دفعت للغرب، لا من أجل أن نحمي أنفسنا منه أو من إسرائيل، بل ليحمي بعضنا نفسه من البعض الآخر.
هذا ما عشناه في الألفية الثانية وفي القرن العشرين ولا نزال، وقد بدأ القرن العشرون ينقل كل مشاكله وحروبه ونزاعاته وأفكاره واستضعافه، إلى القرن الواحد والعشرين، فأية ألفية ثالثة نقبل عليها؟! إن القضية قضية الإنسان، كيف يصنع نفسه ويتقي ربه، في نفسه وفي الإنسان، وفي البيئة والحياة.
أمير المؤمنين(ع) يرسم صورة العالم
ولعل أفضل صورة تمثل حالة العالم الآن هي الصورة التي رسمها أمير المؤمنين علي (ع) للعالم في عهده، ولو كان أمير المؤمنين حاضراً في عالمنا اليوم، لما زاد كلمة على هذه في تصوير العالم، وقد سبق أن ذكرت لكم مراراً أن عليكم أن تستهدوا علياً(ع) كإمام في الفكر والسياسة والاجتماع والإدارة، كما هو إمام في الجوانب الأخرى، لأنّ علياً هو العقل الذي لم يفهمه الذين عاشوا معه، وهو الذي لا يزال يعطي للعالم عقلاً، لأنه ابن الزمن كله والحياة كلها، ولأنه هو وصيّ رسول الله(ص) على الإسلام كله، والإسلام كله للحياة كلها.
ـ خسران الأعمال
تعالوا نرى مشاهد الصورة التي يرسمها علي(ع) عن زماننا: "عباد الله، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا ـ في آمالكم التي تنفتح عليكم ـ أثوياء مؤجلون ـ أي ضيوف مؤجلون كلٌّ لأمد محدّد ـ ومدينون مقتضون ـ فكلّ واحد مدين ومطلوب منه أن يقضي دينه "كل نفس بما كسبت رهينة"، فلله دَيْنٌ علينا جميعاً، وسيقتضي الله ديْنه منّا من خلال أعمالنا يوم القيامة ـ أجلٌ منقوص، وعملٌ محفوظ ـ"عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد""اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً" ـ فربّ دائب مضيِّع ـ هو الذي يداوم على العمل دون أن يأخذ من عمله شيئاً ـ وربّ كادحٍ خاسرـ "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه""قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"ـ وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدباراً، ولا الشرّ فيه إلاّ إقبالاً ـ والشرّ فيه هو الحقد والظلم والحرب..
ـ هيمنة الاستكبار وانعدام القيم
فهذه كلّها هي سمة الواقع الاستكباري العالمي الذي نعيشه ـ ولا الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعاً ـ فالشيطان قد يطمع، لأن الظروف الموجودة بين يديه تطمعه في أنّ الناس يقبلون عليه ويأتمرون بأمره ويسيرون وراءه ـ فهذا أوان قويت عدّته ـ أي معطيات القوة الموجودة ـ وعمّت مكيدته ـ تحرّك بالكيد للناس، في إضلالهم وإبعادهم عن الحق ـ وأمكنت فريسته ـ بمعنى أن الفريسة سهلت وتيسّرت ـ اضرب بطرفك حيث شئت من الناس ـ انظر إلى أي جماعة من الجماعات، فماذا ترى؟! ـ فهل تبصر إلاّ فقيراً يكابد فقراًـ فهل تبصر إلاّ الفقراء الذين يكابدون فقراً ولا يجدون فرصة لعيش كريم ـ أو غنياً بدّل نعمة الله كفراً ـ هذا الغني الذي أنعم الله عليه من نعمه، وأفاض عليه من رزقه، وحملّه مسؤولية أن يعطي من ماله للفقراء والمحتاجين، ولما أراد الله أن يعطيه بما يرفع مستوى الحياة، إنه كفر بنعمة الله، لأن شكر الغني لنعمة الله هو أن يخرج حقًّ الله من ماله وأن يوجّه ماله في خير الناس، فلا يتجّر بما يفسد حياة الناس، وأن يحّرك ماله في طاعة الله لا في معصيته ـ أو بخيلاً اتخذ البخل بحقّ الله وفراً ـ هؤلاء الناس الذين أعطاهم الله مالاً ولكنهم يبخلون على أنفسهم، ويبخلون على الفقراء، ويخيل لهم أنهم يوفرون على أنفسهم بذلك، لأنهم يتخيلون أنهم إذا صرفوا حق الله فهي خسارة، ولكن الإنسان لو وعى الحقيقة، لعرف أن ما يبذله من حق الله هو له، وما يبقى بعده ليس له، "ما كان منه فاضلاً عن قوته، فليعلمّن بأنه ميراثك" "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله".
تلك هي المسألة ولكنهم لا يفهمون الحقيقة، لأن الشيطان غلب على عقولهم ـ أو متمرداً كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقراً ـ أي كأن في أذنه صمماً، بحيث يتصرف وكأن لم يسمع المواعظ ـ أين أخياركم وصلحاؤكم، وأين أحراركم وسمحاؤكم، وأين المتورعون في مكاسبهم ـ الذين يبحثون عن المكسب الحلال، لأن الكثير من الناس يبحثون عن المكسب حلالاً أو حراماًـ والمتنزهون في مذاهبهم ـ الذين يبتغون النزاهة في كل مواقعهم ومذاهبهم ـ أليس قد ظعنوا جميعاً عن هذه الدنيا الدنيّة والعاجلة المنغّصة، وهل خلِّقتم إلاّ في حثالة لا تلتقي إلاّ بذمّهم ـ فالناس الصلحاء والأحرار والطيبون كلهم ذهبوا وبقينا في حثالة من الناس ـ استصغاراً لقدرهم، وذهاباً عن ذكرهم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ظهر الفساد، فلا منكرٌ مغيّر، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه ـ أي هل تريدون بهذه الأوضاع والأعمال أن تحصلوا غداً على الجنة ـ وتكونوا أعزّ أوليائه عنده، هيهات، لا يُخدع الله عن جنّته ـ "يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون" ـ ولا تنال مرضاته إلاّ بطاعته ـ فرضى الله لا يأتي بالتمنيات بل بطاعته ـ لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به.
أيّها الأحبة، في رأس سنة، في رأس قرن، في رأس ألفية، يبقى الزمن مسؤوليتنا، كيف نخطط له ونملأه بالخير، وكيف ندعو إلى الله ونجاهد في سبيله، وكيف نضبط حساباتنا، الآن قبل غد، لأن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله، وحاسبوا أنفسكم على كل صغيرة وكبيرة، واعملوا على أساس أن تنفتحوا على الله، لا سيما في هذه الليالي المباركة التي ينظر الله فيها إلى عباده، يجيبهم إذا دعوه، ويلبيهم إذا نادوه، لأن هذه الأيام هي أيام المغفرة والرحمة، ومن المحتمل أن يكون القدر في كل ليلة من هذه الليالي. ولذلك، فإن علينا أن نجلس بين يدي الله، بقلوبنا وعقولنا، حتى نستذكر كل ذنوبنا، ويقول الإنسان لربه بعد أن يفتح عقله له : يا ربِّ إني تائب من كل فكر الباطل، ويفتح قلبه له ليقول يا ربِّ إني تائب من كل عاطفة الباطل، ويفتح حياته له ليقول يا ربّ إني تائب من كل قول الباطل وعمل الباطل وعلاقات الباطل وموقف الباطل، لأن هذا الشهر هو فرصة، فإن الشقي هو من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. وانفتحواـ أيها الأحبة ـ على كل مسؤولياتكم، لأن الله لم يجعل مسؤولية الإنسان مقصورة على نفسه، بل جعله مسؤولاً عن كل ما حوله ومن حوله، ممّن يستطيع أن يفجّر فيه الخير ويثبّت فيه الحق. إننا مسؤولون، وعلى أي إنسان أن لا يعتبر نفسه حراً، فكل واحد منا عبد لله، مملوك له لا يقدر على شيء، لأن الله هو الذي يملك وجودنا وكل النعم وحياتنا وموتنا، لذلك كن حراً أمام الشيطان وعبداً لله،كن حراً أمام الناس واتخذ قراراتك من خلال إيمانك، وكن عبداً لله إذا جاءك من يأمرك بالمعروف، لأن القضية أن تكون حر الإرادة، لا أن تكون حرّ الشهوة، وأن تكون حر العقل، لا أن تكون حرّ الغريزة.
أيها الأحبة، حاذروا أن تكونوا مع الظالمين ولو بأفكاركم، لا تعذروهم بظلمهم حتى لو كانوا من الأقربين إليكم، ولا تبرروا لهم ظلمهم ولو كنتم تنتفعون منهم. "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"، هذه وصية علي(ع) لولديه الحسنين(ع) وهو يلفظ أنفاسه، فهل تحبون أن تنفّذوا وصية علي(ع)، لذلك كونوا ضدّ الظلم كله والاستكبار كله، لا تدعوا الظروف تغيّر قناعاتكم، فلو أنّ الاستكبار العالمي سيطر على العالم، فعليكم أن لا تعترفوا بشرعية سيطرته، ولو أن العالم كله اعترف بإسرائيل كدولة شرعية في المنطقة، فعلى كل مسلم ومسلمة أن يرفضوا هذا الاعتراف، لأن الله لا يعترف بهؤلاء الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا، والذي ينقصون عهد الله من بعد ميثاقه، والذين يقتلون النبيين بغير حق.
يوم القدس ..يوم فلسطين
وعلينا أن ننطلق في هذا اليوم، وهو يوم القدس، الذي أراد الإمام الخميني (رضوان الله عليه) أن يجعله يوماً يتحرك فيه المسلمون، من أجل أن تبقى القدس كرمز لفلسطين ولكل البلاد المحتلة والمستعمرة، أن تبقى في وجدان المسلمين، حتى إذا لم يستطيعوا الإنكارا باليد، أن أنكروا باللسان، لأن إنكار اللسان هو الذي يحقق المقدمات للإنكار باليد، حيث يجمع الناس على القضية، وحيث يجعل القضية حاضرة في نفوس الناس.
عندما ضاعت القدس ضاعت فلسطين، وعندما تضيع فلسطين يضيع كل بلد من بلدان المسلمين، لأن الإرادة هي التي تضيع، ولأن القضية هي التي تضيع، ولأن إيماننا بحاضرنا ومستقبلنا وأمننا هو الذي يضيع.
"يوم القدس" لمواجهة التهويد
تطل علينا ذكرى يوم القدس في ظروف صعبة تتعرض فيها القدس للتهويد بفعل صفقة فلسطينية ـ إسرائيلية قد تكون التطور الأخطر في تاريخ المدينة، ذلك أن إسرائيل تعمل بالتحالف مع أمريكا، للحصول على توقيع فلسطيني - عربي على ضم القدس ـ المدينة إلى الكيان الصهيوني، مع إعطاء الفلسطينيين بعض أحيائها على أن تبقى السلطة بيد الصهاينة... هذا إضافة إلى استمرار النشاط السياسي الهادف إلى إتمام عملية التسوية التي تكفل لإسرائيل الاستيلاء على فلسطين والحصول على الأمن والشروط الاقتصادية والتطبيع العربي، مع هامش صغير لسلطة الحكم الذاتي بما قد يسمى دولة فلسطينية.
من هنا كان ليوم القدس في هذه السنة معنى عميق يتمثل في توعية المسلمين على ما يسمى مفاوضات الحل النهائي الذي يضع اللمسات الأخيرة على مؤامرة تهويد القدس، لتبقى القدس في البال من أجل مقاومة مستقبلية في حجم الزمن كله.
إلاعيب العدو لا تواجه إلا بالمقاومة
أما في ما يخص لبنان، فإن العدو يتحدث عن ترسيم الحدود على طريقته الخاصة، ليضع قضية المفاوضات في إطار من المد والجزر السياسي، فيما يشبه قضية العرض والطلب التجارية التي يدخل فيها وسطاء دوليون إضافة إلى اللاعبين الأساسيين، حتى لا تكون المسألة عنده تنفيذ القرار 425 الذي يفرض الانسحاب إلى الحدود مع فلسطين المحتلة من دون قيد أو شرط.
إن إسرائيل تعمل على الدخول في لعبة جديدة من التجاذب الأمني والجغرافي في المفاوضات القادمة، لتحصل على أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل إتمام التسوية وهذا هو الذي يجعل استمرار المقاومة في الضغط على العدو بعملياتها الجهادية ضرورة أمنية سياسية في اتجاه التحرير.
وبهذه المناسبة، فإننا نشيد بالعملية الاستشهادية في الأمس التي أوقعت بالعدوّ خسائر كبيرة، ما ثبت له أن المقاومة لا تزال أمينة على مواصلة الضغط عليه من أجل أن ينسحب من لبنان من دون أي مكاسب سياسية من قريب أو من بعيد.
وإننا في الوقت الذي نرحب بعودة أعزائنا من المعتقلين المجاهدين، نؤكد ضرورة استعمال كل الضغوط والوسائل في سبيل تحرير المعتقلين في سجون العدو في فلسطين ولبنان، لا سيما الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج مصطفى الديراني، وتلك هي مسؤولية الدولة والشعب معاً.
بين أدوارنا ومشروع التسوية الأمريكي
وأخيراً.. إننا نريد للبنانيين أن يحدقوا جيداً بما يجري من حولهم، لأن ما يجري ليس مجرد تسوية تطل على وضع جديد مع كيان العدو، بل إن هناك ما يشبه التوزيع الجديد للأدوار على مستوى المنطقة كلها، لتكون التسوية بمثابة الرافعة للمشروع الأمريكي الذي يعمل على الإمساك بحركة الدول... ولاسيما الدول العربية الإسلامية في نطاق النظام الإقليمي الذي طالما دغدغ أحلام أكثر من رئيس أمريكي... فهل نبحث (في لبنان) عن الدور القادم في دائرة ما يرسمه الأمريكيون لنا، أو نظل ننتظر ما يُقدمه لنا الآخرون من ذلك، لنظل نحدق في أدوارنا الصغيرة في حجم هذا المسؤول أو ذاك في التوزيعات الجديدة للدوائر الانتخابية، أما الدور الكبير على مستوى الوطن والمنطقة، فنحسب أن على الآخرين أن يحددوه لنا..إن المسألة ليست في حجم الدور الذي يملأه هذا الزعيم أو ذاك المسؤول، بل في الحجم الذي لا بد للوطن أن يبلغه في مدى مسيرة المستقبل.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
عيد الفطر : السبت القادم
لا بد لنا في هذه الجمعة أن نؤكد على عدة نقاط؛ النقطة الأولى، أن هذه الجمعة ليست آخر جمعة من شهر رمضان، وأن العيد سيكون بإذن الله في يوم السبت الذي يعقب الجمعة القادمة، وذلك لأن القمر لم يُر في أي مكان في العالم، حسب دراسة الفلكيين الموثوقين، لأن الهلال سيكون بحالة المحاق في منطقتنا، وفي المناطق الأخرى لا يمكن رؤيته، لذلك سيكون الجمعة القادم يوم الثلاثين من شهر رمضان والسبت هو يوم العيد، بإذن الله؛ هذا من خلال رأينا الفقهي في التحديد الذي يعتمد على الحسابات الفلكية الدقيقة، التي لا يرقى إليها الشكّ، وللآخرين رأيهم الذي نحترمه، هذه نقطة.
في إطلالات القرن الجديد
النقطة الثانية، هي أن الناس يستقبلون غداً سنة ميلادية جديدة، وقرناً جديداً، وألفية ميلادية ثالثة، وفي العالم حالة طوارئ أمام هذه المناسبات، ونحن لا نرى في هذه المناسبات أية فرصة لمثل هذه المظاهرة العالمية التي تتحرك في أكثر من موقع، لا سيما في مواقع اللهو والعبث، حيث يعيش الناس لحظة جنون في هذه الليلة في مختلف أنحاء العالم. إننا نريد أن نؤكد الموقف الإسلامي من هذه الأمور.
ـ التأريخ الهجري يمثل شخصيتنا الإسلامية
أولاً، نحن لا نتعقّد من أي تأريخ آخر، لأن لنا كمسلمين تاريخنا الهجري، الذي يمثل شخصيتنا التاريخية الإسلامية، لأن الإسلام في حركته في الواقع بدأ منذ هجرة النبي(ص)، وهذا ما اتفق عليه المسلمون، لذلك ينبغي على المسلمين جميعاً أن يحافظوا عليه، وأن يؤرخوا به، حتى إذا اضطررنا بفعل الواقع العالمي إلى أن نؤرخ بالتأريخ الميلادي، فلا بد أن نضع إلى جانبه التأريخ الهجري، لأنه جزء من شخصيتنا الإسلامية، وتركه هو ترك لعنصر من عناصر الشخصية الإسلامية، ونحن لا نمانع من التأكيد أيضاً على التأريخ الميلادي لولادة السيد المسيح(ع)، لأن السيد المسيح (ع) عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه، ونحن نعظّمه، من خلال أنه آية له ورحمة، "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم" من خلال مظهر القدرة. لذلك لا مشكلة عندنا في الأخذ بالتأريخ الميلادي، لأن الإسلام يتميز عن كل الديانات الأخرى، بأنه يؤمن بالرسالات كلها "لا نفرق بين أحد من رسله"، ولأن المسلم لا يتعقد من أي مقدس صحيح من مقدسات الديانات الأخرى، ويؤمن بالتوراة والإنجيل والقرآن، ويؤمن بإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد(ص)، بينما لا يلتزم أصحاب الديانات الأخرى بالنبي كنبي ولا بالقرآن كقرآن، ولا يلتزم اليهود بالإنجيل أو بعيسى(ع)...
ـ لنملأ الزمن بالحق
لذلك، أن تكون رأس السنة الميلادية رأس سنة نؤرخ بها، هو أمر ليس سلبياً، ولكن المسألة هي كيف يحتفل الإنسان بأوائل الزمن، حيث لا بد للإنسان من أن يكون إحساسه بالزمن من خلال التفكير والتأمل، بأنه هل أطاع الله فيه أم عصاه، هل استفاد منه علماً أم بقي على جهله، هل استطاع أن يفجّر طاقاته في ما ينفع الناس أم في ما يضرّهم، أو أنه ضيّع طاقاته؟
الزمن هو عمرنا؛ عمر الشخص وعمر الأمّة، لذلك ، علينا في بدايات الزمن أن نفكر في مسؤوليتنا أمام الله عن هذا الزمن، الذي أراد الله لنا أن نملأه بالحق والخير والعدل وبما ينفع الناس، لا أن نجعل بداياته فرصة للغيبوبة عن الوعي، كما يفعل بعض الناس، الذين يبدأون سنتهم بالسكر، لأنهم يعتبرون أن قليلاً من الخمر يفرفح قلب الإنسان، وذلك من خلال ما ينسبونه إلى السيد المسيح(ع) زوراً، خاصة وأن الله أراد الإنسان عقلاً وجعله مسؤولاً عن عمله، فلا يمكن أن يرخص له أن يصادر عقله ولو للحظة، عن طريق أي شيء يجعله في غيبوبة عن عقله وعن وعيه، ولذلك نرى أن كل الرسالات، كما ورد في حديث الأئمة(ع)، قالت بتحريم الخمر، لذلك لا بد للإنسان أن يكون واعياً في كل بدايات الزمن، حتى يشعر عندما تمرّ عليّه سنة، أنه قد مشى في هذه السنة خطوة نحو الله، لا أن تبعده عنه "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد" أن تفكر وأنت في ليلة رأس السنة الميلادية أو الهجرية أو رأس سنتك هل ربحت فيها لآخرتك أم لم تربح. الإمام زين العابدين (ع) في دعاء الصباح والمساء، عندما يبدأ يومه يقول: "اللّهم وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذمّ".
ـ قيمة الإنسان بالعمل
فبداية اليوم كبداية الأسبوع وبداية الشهر والسنة والقرن، لأن قيمة الإنسان عمله "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون""اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً". ما نأخذه من هذه الدنيا، مهما طال العمر أو قصر، هو العمل، فلنربِّ أنفسنا وأهلنا وأولادنا على أن تكون بدايات السنة أو نهاياتها فرصة للتأمل والتفكر. يقال إن المصارف تأخذ إجازة في أواخر السنة عدة أيام حتى تحدد أرباحها وخسائرها وتعد ميزانيتها للسنة القادمة، فلنفعل ذلك، بحيث نحدد أرباحنا وخسائرنا مع الله، وفي علاقاتنا الاجتماعية والسياسية، بأن نضع ميزانيتنا التي هي خطتنا العملية للسنة القادمة، لأن مسألة التوبة هي أن تندم على ما مضى وأن تخطط للمستقبل في أن لا يكون مستقبل ذنب أو سيئة.
ـ الصوت الصاخب: مظهر تخلف
وهناك نقطة أشرت إليها أكثر من مرة، وهي عادة المفرقعات، التي هي مظهر تخلّف ووحشية، لأنها تخيف الأطفال وتثير الضجيج... ما فلسفة هذه العادة؟ إن الله حدثنا عن الصوت الصاخب بقوله تعالى:"إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" وذلك يشمل صوت الراديو والتلفزيون والمفرقعات والرصاص... الحضارة هي أسلوبك في التعامل مع البيئة ومع الناس ومع الحياة، فكلما كان أسلوبك أسلوباً ينسجم مع ما يصلح الناس كلما كنت متحضراً أكثر، لذلك أرجو أن نعمل جميعاً على استنكار هذه العادة من أنفسنا ومن أولادنا، وأن ننصح هؤلاء الذين يتاجرون بهذه المفرقعات بأن هذه التجارة تسيء إلى مجتمعهم، وأن ما يحصلون عليه من ربح لا يساوي الخسارة التي تلحق بالمجتمع بسبب ذلك.
ـ مراجعة الماضي
أما عندما نلتقي بقرن جديد أو بالألفية الثالثة، هنا لا بدّ أن نلاحظ كيف هو حال العالم في القرن الماضي، سواء على مستوى العالم الإسلامي أو على مستوى العالم كله، فنلاحظ أنه كان قرن الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي، وإذا كانت البلاد الإسلامية قد استقلت وتحرّرت، فربما أنها استقلت وتحررت بالشكل، ولذلك لا تزال تحت تأثير الاستعمار الاقتصادي والأمني والسياسي. وبعبارة أخرى، هي لا تزال خاضعة لاحتلال من نوع جديد.
وخسرنا في هذا القرن فلسطين، فقد أساء المسلمون في فلسطين وما حولها التعامل مع هذه القضية، وخضعوا لأكثر من خطة استكبارية، وسهّلوا بأكثر من حرب لليهود أن يحتلوا فلسطين، ولا زالت "إسرائيل" تعمل على استكمال هذا الاحتلال من ناحية قانونية.
وفي هذا القرن، خاض المسلمون حروباً ضدّ بعضهم البعض، وهذا ما حدث في الحرب التي فرضت على الجمهورية الإسلامية على مدى ثمان سنوات، بحيث دمرت الاقتصاد العراقي والإيراني معاً. ثم كانت حرب الخليج الثانية التي دمّرت واقع المنطقة، وأفسحت في المجال لأمريكا أن تكون زعيمة العالم. كما أن الصراع بين أمريكا وأوروبا لا يزال يخلق في كل يوم حروباً وانقلابات في العالم الإسلامي وفي أفريقيا وآسيا، حتى يضعف اقتصاد هذه البلدان ويستنزف كل طاقاتها وثرواتها ويحوّلها إلى أشلاء متناثرة.
ولا يزال العالم الثالث يزداد فقراً في الواقع، فهناك بعض الإحصائيات في الأمم المتحدة تشير إلى وجود حوالي المليار ونصف مليار نسمة يعيشون بدولار واحد شهرياً، ويشكل الفقراء الأغلبية الساحقة في العالم، بينما هناك ثمان دول هي الأغنى في العالم، تستغلّ ثروات شعوب العالم الثالث، وتسيطر عليها وتمنعها من تحقيق سياسة الاكتفاء الذاتي.
وهكذا نجد أن العالم يمكن أن يصرف ميزانيات في الأسلحة أكثر مما يصرف ميزانيات في التنمية، بل إن تجارة الأسلحة أصبحت تجارة مزدهرة في أكثر من بلد، ولا زالت أمريكا ودول أوروبية وبعض دول آسيا تتسابق على تجارة الأسلحة في بلداننا، بإثارة الحروب التي تجعل من الأسلحة حاجة ملحّة، فقد صرفت دول الخليج والدول العربية الإسلامية عشرات ومئات المليارات التي دفعت للغرب، لا من أجل أن نحمي أنفسنا منه أو من إسرائيل، بل ليحمي بعضنا نفسه من البعض الآخر.
هذا ما عشناه في الألفية الثانية وفي القرن العشرين ولا نزال، وقد بدأ القرن العشرون ينقل كل مشاكله وحروبه ونزاعاته وأفكاره واستضعافه، إلى القرن الواحد والعشرين، فأية ألفية ثالثة نقبل عليها؟! إن القضية قضية الإنسان، كيف يصنع نفسه ويتقي ربه، في نفسه وفي الإنسان، وفي البيئة والحياة.
أمير المؤمنين(ع) يرسم صورة العالم
ولعل أفضل صورة تمثل حالة العالم الآن هي الصورة التي رسمها أمير المؤمنين علي (ع) للعالم في عهده، ولو كان أمير المؤمنين حاضراً في عالمنا اليوم، لما زاد كلمة على هذه في تصوير العالم، وقد سبق أن ذكرت لكم مراراً أن عليكم أن تستهدوا علياً(ع) كإمام في الفكر والسياسة والاجتماع والإدارة، كما هو إمام في الجوانب الأخرى، لأنّ علياً هو العقل الذي لم يفهمه الذين عاشوا معه، وهو الذي لا يزال يعطي للعالم عقلاً، لأنه ابن الزمن كله والحياة كلها، ولأنه هو وصيّ رسول الله(ص) على الإسلام كله، والإسلام كله للحياة كلها.
ـ خسران الأعمال
تعالوا نرى مشاهد الصورة التي يرسمها علي(ع) عن زماننا: "عباد الله، إنكم وما تأملون من هذه الدنيا ـ في آمالكم التي تنفتح عليكم ـ أثوياء مؤجلون ـ أي ضيوف مؤجلون كلٌّ لأمد محدّد ـ ومدينون مقتضون ـ فكلّ واحد مدين ومطلوب منه أن يقضي دينه "كل نفس بما كسبت رهينة"، فلله دَيْنٌ علينا جميعاً، وسيقتضي الله ديْنه منّا من خلال أعمالنا يوم القيامة ـ أجلٌ منقوص، وعملٌ محفوظ ـ"عن اليمين وعن الشمال قعيد، ما يلفظ من قول إلاّ لديه رقيب عتيد""اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً" ـ فربّ دائب مضيِّع ـ هو الذي يداوم على العمل دون أن يأخذ من عمله شيئاً ـ وربّ كادحٍ خاسرـ "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه""قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً"ـ وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلاّ إدباراً، ولا الشرّ فيه إلاّ إقبالاً ـ والشرّ فيه هو الحقد والظلم والحرب..
ـ هيمنة الاستكبار وانعدام القيم
فهذه كلّها هي سمة الواقع الاستكباري العالمي الذي نعيشه ـ ولا الشيطان في هلاك الناس إلاّ طمعاً ـ فالشيطان قد يطمع، لأن الظروف الموجودة بين يديه تطمعه في أنّ الناس يقبلون عليه ويأتمرون بأمره ويسيرون وراءه ـ فهذا أوان قويت عدّته ـ أي معطيات القوة الموجودة ـ وعمّت مكيدته ـ تحرّك بالكيد للناس، في إضلالهم وإبعادهم عن الحق ـ وأمكنت فريسته ـ بمعنى أن الفريسة سهلت وتيسّرت ـ اضرب بطرفك حيث شئت من الناس ـ انظر إلى أي جماعة من الجماعات، فماذا ترى؟! ـ فهل تبصر إلاّ فقيراً يكابد فقراًـ فهل تبصر إلاّ الفقراء الذين يكابدون فقراً ولا يجدون فرصة لعيش كريم ـ أو غنياً بدّل نعمة الله كفراً ـ هذا الغني الذي أنعم الله عليه من نعمه، وأفاض عليه من رزقه، وحملّه مسؤولية أن يعطي من ماله للفقراء والمحتاجين، ولما أراد الله أن يعطيه بما يرفع مستوى الحياة، إنه كفر بنعمة الله، لأن شكر الغني لنعمة الله هو أن يخرج حقًّ الله من ماله وأن يوجّه ماله في خير الناس، فلا يتجّر بما يفسد حياة الناس، وأن يحّرك ماله في طاعة الله لا في معصيته ـ أو بخيلاً اتخذ البخل بحقّ الله وفراً ـ هؤلاء الناس الذين أعطاهم الله مالاً ولكنهم يبخلون على أنفسهم، ويبخلون على الفقراء، ويخيل لهم أنهم يوفرون على أنفسهم بذلك، لأنهم يتخيلون أنهم إذا صرفوا حق الله فهي خسارة، ولكن الإنسان لو وعى الحقيقة، لعرف أن ما يبذله من حق الله هو له، وما يبقى بعده ليس له، "ما كان منه فاضلاً عن قوته، فليعلمّن بأنه ميراثك" "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله".
تلك هي المسألة ولكنهم لا يفهمون الحقيقة، لأن الشيطان غلب على عقولهم ـ أو متمرداً كأنّ بأذنه عن سمع المواعظ وقراً ـ أي كأن في أذنه صمماً، بحيث يتصرف وكأن لم يسمع المواعظ ـ أين أخياركم وصلحاؤكم، وأين أحراركم وسمحاؤكم، وأين المتورعون في مكاسبهم ـ الذين يبحثون عن المكسب الحلال، لأن الكثير من الناس يبحثون عن المكسب حلالاً أو حراماًـ والمتنزهون في مذاهبهم ـ الذين يبتغون النزاهة في كل مواقعهم ومذاهبهم ـ أليس قد ظعنوا جميعاً عن هذه الدنيا الدنيّة والعاجلة المنغّصة، وهل خلِّقتم إلاّ في حثالة لا تلتقي إلاّ بذمّهم ـ فالناس الصلحاء والأحرار والطيبون كلهم ذهبوا وبقينا في حثالة من الناس ـ استصغاراً لقدرهم، وذهاباً عن ذكرهم، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ظهر الفساد، فلا منكرٌ مغيّر، ولا زاجر مزدجر، أفبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه ـ أي هل تريدون بهذه الأوضاع والأعمال أن تحصلوا غداً على الجنة ـ وتكونوا أعزّ أوليائه عنده، هيهات، لا يُخدع الله عن جنّته ـ "يخادعون الله ورسوله والذين آمنوا وما يخدعون إلاّ أنفسهم وما يشعرون" ـ ولا تنال مرضاته إلاّ بطاعته ـ فرضى الله لا يأتي بالتمنيات بل بطاعته ـ لعن الله الآمرين بالمعروف التاركين له، والناهين عن المنكر العاملين به.
أيّها الأحبة، في رأس سنة، في رأس قرن، في رأس ألفية، يبقى الزمن مسؤوليتنا، كيف نخطط له ونملأه بالخير، وكيف ندعو إلى الله ونجاهد في سبيله، وكيف نضبط حساباتنا، الآن قبل غد، لأن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله، وحاسبوا أنفسكم على كل صغيرة وكبيرة، واعملوا على أساس أن تنفتحوا على الله، لا سيما في هذه الليالي المباركة التي ينظر الله فيها إلى عباده، يجيبهم إذا دعوه، ويلبيهم إذا نادوه، لأن هذه الأيام هي أيام المغفرة والرحمة، ومن المحتمل أن يكون القدر في كل ليلة من هذه الليالي. ولذلك، فإن علينا أن نجلس بين يدي الله، بقلوبنا وعقولنا، حتى نستذكر كل ذنوبنا، ويقول الإنسان لربه بعد أن يفتح عقله له : يا ربِّ إني تائب من كل فكر الباطل، ويفتح قلبه له ليقول يا ربِّ إني تائب من كل عاطفة الباطل، ويفتح حياته له ليقول يا ربّ إني تائب من كل قول الباطل وعمل الباطل وعلاقات الباطل وموقف الباطل، لأن هذا الشهر هو فرصة، فإن الشقي هو من حرم غفران الله في هذا الشهر العظيم. وانفتحواـ أيها الأحبة ـ على كل مسؤولياتكم، لأن الله لم يجعل مسؤولية الإنسان مقصورة على نفسه، بل جعله مسؤولاً عن كل ما حوله ومن حوله، ممّن يستطيع أن يفجّر فيه الخير ويثبّت فيه الحق. إننا مسؤولون، وعلى أي إنسان أن لا يعتبر نفسه حراً، فكل واحد منا عبد لله، مملوك له لا يقدر على شيء، لأن الله هو الذي يملك وجودنا وكل النعم وحياتنا وموتنا، لذلك كن حراً أمام الشيطان وعبداً لله،كن حراً أمام الناس واتخذ قراراتك من خلال إيمانك، وكن عبداً لله إذا جاءك من يأمرك بالمعروف، لأن القضية أن تكون حر الإرادة، لا أن تكون حرّ الشهوة، وأن تكون حر العقل، لا أن تكون حرّ الغريزة.
أيها الأحبة، حاذروا أن تكونوا مع الظالمين ولو بأفكاركم، لا تعذروهم بظلمهم حتى لو كانوا من الأقربين إليكم، ولا تبرروا لهم ظلمهم ولو كنتم تنتفعون منهم. "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"، هذه وصية علي(ع) لولديه الحسنين(ع) وهو يلفظ أنفاسه، فهل تحبون أن تنفّذوا وصية علي(ع)، لذلك كونوا ضدّ الظلم كله والاستكبار كله، لا تدعوا الظروف تغيّر قناعاتكم، فلو أنّ الاستكبار العالمي سيطر على العالم، فعليكم أن لا تعترفوا بشرعية سيطرته، ولو أن العالم كله اعترف بإسرائيل كدولة شرعية في المنطقة، فعلى كل مسلم ومسلمة أن يرفضوا هذا الاعتراف، لأن الله لا يعترف بهؤلاء الذين هم أشدّ عداوة للذين آمنوا، والذي ينقصون عهد الله من بعد ميثاقه، والذين يقتلون النبيين بغير حق.
يوم القدس ..يوم فلسطين
وعلينا أن ننطلق في هذا اليوم، وهو يوم القدس، الذي أراد الإمام الخميني (رضوان الله عليه) أن يجعله يوماً يتحرك فيه المسلمون، من أجل أن تبقى القدس كرمز لفلسطين ولكل البلاد المحتلة والمستعمرة، أن تبقى في وجدان المسلمين، حتى إذا لم يستطيعوا الإنكارا باليد، أن أنكروا باللسان، لأن إنكار اللسان هو الذي يحقق المقدمات للإنكار باليد، حيث يجمع الناس على القضية، وحيث يجعل القضية حاضرة في نفوس الناس.
عندما ضاعت القدس ضاعت فلسطين، وعندما تضيع فلسطين يضيع كل بلد من بلدان المسلمين، لأن الإرادة هي التي تضيع، ولأن القضية هي التي تضيع، ولأن إيماننا بحاضرنا ومستقبلنا وأمننا هو الذي يضيع.
"يوم القدس" لمواجهة التهويد
تطل علينا ذكرى يوم القدس في ظروف صعبة تتعرض فيها القدس للتهويد بفعل صفقة فلسطينية ـ إسرائيلية قد تكون التطور الأخطر في تاريخ المدينة، ذلك أن إسرائيل تعمل بالتحالف مع أمريكا، للحصول على توقيع فلسطيني - عربي على ضم القدس ـ المدينة إلى الكيان الصهيوني، مع إعطاء الفلسطينيين بعض أحيائها على أن تبقى السلطة بيد الصهاينة... هذا إضافة إلى استمرار النشاط السياسي الهادف إلى إتمام عملية التسوية التي تكفل لإسرائيل الاستيلاء على فلسطين والحصول على الأمن والشروط الاقتصادية والتطبيع العربي، مع هامش صغير لسلطة الحكم الذاتي بما قد يسمى دولة فلسطينية.
من هنا كان ليوم القدس في هذه السنة معنى عميق يتمثل في توعية المسلمين على ما يسمى مفاوضات الحل النهائي الذي يضع اللمسات الأخيرة على مؤامرة تهويد القدس، لتبقى القدس في البال من أجل مقاومة مستقبلية في حجم الزمن كله.
إلاعيب العدو لا تواجه إلا بالمقاومة
أما في ما يخص لبنان، فإن العدو يتحدث عن ترسيم الحدود على طريقته الخاصة، ليضع قضية المفاوضات في إطار من المد والجزر السياسي، فيما يشبه قضية العرض والطلب التجارية التي يدخل فيها وسطاء دوليون إضافة إلى اللاعبين الأساسيين، حتى لا تكون المسألة عنده تنفيذ القرار 425 الذي يفرض الانسحاب إلى الحدود مع فلسطين المحتلة من دون قيد أو شرط.
إن إسرائيل تعمل على الدخول في لعبة جديدة من التجاذب الأمني والجغرافي في المفاوضات القادمة، لتحصل على أكبر قدر ممكن من المكاسب قبل إتمام التسوية وهذا هو الذي يجعل استمرار المقاومة في الضغط على العدو بعملياتها الجهادية ضرورة أمنية سياسية في اتجاه التحرير.
وبهذه المناسبة، فإننا نشيد بالعملية الاستشهادية في الأمس التي أوقعت بالعدوّ خسائر كبيرة، ما ثبت له أن المقاومة لا تزال أمينة على مواصلة الضغط عليه من أجل أن ينسحب من لبنان من دون أي مكاسب سياسية من قريب أو من بعيد.
وإننا في الوقت الذي نرحب بعودة أعزائنا من المعتقلين المجاهدين، نؤكد ضرورة استعمال كل الضغوط والوسائل في سبيل تحرير المعتقلين في سجون العدو في فلسطين ولبنان، لا سيما الشيخ عبد الكريم عبيد والحاج مصطفى الديراني، وتلك هي مسؤولية الدولة والشعب معاً.
بين أدوارنا ومشروع التسوية الأمريكي
وأخيراً.. إننا نريد للبنانيين أن يحدقوا جيداً بما يجري من حولهم، لأن ما يجري ليس مجرد تسوية تطل على وضع جديد مع كيان العدو، بل إن هناك ما يشبه التوزيع الجديد للأدوار على مستوى المنطقة كلها، لتكون التسوية بمثابة الرافعة للمشروع الأمريكي الذي يعمل على الإمساك بحركة الدول... ولاسيما الدول العربية الإسلامية في نطاق النظام الإقليمي الذي طالما دغدغ أحلام أكثر من رئيس أمريكي... فهل نبحث (في لبنان) عن الدور القادم في دائرة ما يرسمه الأمريكيون لنا، أو نظل ننتظر ما يُقدمه لنا الآخرون من ذلك، لنظل نحدق في أدوارنا الصغيرة في حجم هذا المسؤول أو ذاك في التوزيعات الجديدة للدوائر الانتخابية، أما الدور الكبير على مستوى الوطن والمنطقة، فنحسب أن على الآخرين أن يحددوه لنا..إن المسألة ليست في حجم الدور الذي يملأه هذا الزعيم أو ذاك المسؤول، بل في الحجم الذي لا بد للوطن أن يبلغه في مدى مسيرة المستقبل.