نلتقي في هذه الأيّام بمناسبات ثلاث ترتبط كلّ واحدة منها بحاضرنا ومستقبلنا في قضايانا الحيويَّة، كما أعطت الكثير في الماضي، فقد التقينا بمناسبة فتح مكَّة، ثمَّ بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام عليّ (ع)، ثمَّ بيوم القدس.
وسنتحدَّث في الخطبة الأولى عن المناسبتين الأوليين، أمَّا المناسبة الثَّالثة، فسنتحدَّث عنها، إن شاء الله، في الخطبة الثَّانية.
الصّراعُ مع قريش
لقد عاش النَّبيّ (ص) بعد أن بعثه الله بالرّسالة، صراعاً مريراً مع قريش، لأنَّ قريش الوثنيَّة في عبادتها، كانت العشيرة الَّتي تملك الزَّعامة في الواقع العربيّ على المستوى الاقتصاديّ، لأنَّها كانت تملك تجارة الشّتاء والصَّيف، وكانت تأتي للعرب في منطقتها بكلّ حاجاتهم، وكانت الزَّعيمة السياسيَّة بقدر ما يتَّسع له الواقع في تلك المرحلة من السياسة، فكانت لها الزَّعامة، باعتبار أنَّها كانت تُخشَى وتُهَاب، وكانت لها الزَّعامة الدّينيَّة، لأنَّ قريش كانت تخلط بين الوثنيَّة والإيمان، لأنَّها كانت لا تزال تلتزم الكعبة والحجّ، وتتحدَّث عن إبراهيم (ع) باعتبار أنَّهم أبناؤه، وكانت في الوقت نفسه تعبد الأصنام، كالكثيرين من النَّاس بطريقة عصريَّة، يجمعون بين إيمانهم بالإسلام، وبين عبادتهم لكثير من الأصنام السياسيّين والاقتصاديّين والعسكريّين في العالم.
ولذلك، كانت دعوة النَّبيّ (ص) إلى التَّوحيد والإسلام، وإلى تنقية كلّ الواقع من الوثنيَّة، وإلى أن يكون النَّاس سواء، وأن لا تعتبر عشيرةٌ نفسها بمثابة القوَّة المسيطرة على الواقع {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13]، "كُلُّكُمْ من آدَمَ، وآدَمُ من تُرَابٍ"، "لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَىٰ أَعْجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَىٰ".
لذلك، وجدت قريش في هذه الدَّعوة إسقاطاً لكلّ هذه الزّعامة، وإضعافاً لموقعها في المنطقة، ولم تلاحظ حتَّى أنَّ محمَّدا ًقرشيّ، وأنَّ مجده، بحسب منطقهم العصبيّ، عندما ينتصر هو مجد قريش، وقد قال لهم النَّبيّ (ص): اتركوني والعرب، فإن انتصرت كان لكم هذا النَّصر، بحسب المنطق العربيّ، وإن لم أنتصر كُفيتم أمري. ولكنَّهم لم يقبلوا بذلك، وبدأوا الحرب على الإسلام وعلى النَّبيّ (ص) وعلى أصحابه في مكَّة في مدى ثلاث عشرة سنة. ثمَّ عندما هاجر النَّبيّ (ص)، بدأوا حروباً متنقّلة متحركة، بحيث إنَّهم أثاروا الحرب ضدَّه، حتّى إنَّهم ببعض الاعتبارات، دفعوا اليهود إلى أن يتحالفوا معهم في حربهم عليه، وأن ينقضوا العهد الَّذي كانوا يحصلون فيه على الأمان منه (ص).
ولذلك، لم يجد النّبيّ (ص) أيَّ فرصة للرَّاحة للامتداد في رسالته إلى شعوب أخرى ومواقع أخرى، لأنهم كانوا ينقلونه من حرب إلى حرب، ويتحرّكون من عدوان إلى عدوان.
ما قبلَ المعركة
وبعد أن عظم أمر الإسلام، وقوي المسلمون، خطَّط النَّبيّ (ص) لفتح مكَّة، وكان تخطيطه هذا هو السَّبب في صلح الحديبية، فإنَّ النَّبيّ (ص) عندما ذهب إلى العمرة، منعته قريش، وأراد المسلمون أن يصطدموا معها، ولكنَّ النّبيّ (ص) منعهم من ذلك، ودخل في صلح معها اسمه "صلح الحديبية" الّذي لم يرض عنه بعض المسلمين، لأنَّهم اعتبروه تنازلاً لقريش، ولكنّ النّبيّ (ص) كان يعرف أنّه لو دخل الحرب في هذه المرحلة معها، فإنَّ الخطَّة سوف تفشل.
وهكذا استراحت قريش للموضوع، وكان النَّبيّ يعبّئ المسلمين، فجهَّز مقدار عشرة آلاف رجل من العسكر، ولم يكن هذا الرَّقم لتتحمَّله قريش. وحاول النَّبيّ (ص) أن يخفي الخطَّة عن النَّاس، وعن قريش بالذَّات، إلَّا أنَّ بعض أصحاب النّبيّ (ص) ممن له قرابة في مكَّة، خاف أن تدور الدَّائرة على المسلمين، فأراد أن يقدّم خدمةً لقريش حتّى يحفظوا له قرابته، فأرسل رسالةً إلى بعض أصحابه من قريش أنَّ النَّبيَّ (ص) يعدّ للهجوم، وأرسل هذه الرّسالة مع امرأة وضعت الكتاب في شعرها، فنزل جبرائيل (ع)، كما تقول السّيرة، وأخبر الرّسول (ص) أنَّ امرأة تحمل كتاباً إلى قريش.
هنا، أرسل إليها النّبيّ (ص) عليّاً ومعه الزّبير بن العوَّام، فخاطبها الزّبير أوّلاً، فحلفت وبكت، حتّى اقتنع الزّبير بالموضوع. أمَّا الإمام عليّ (ع)، فقال: "أخبرني رسول الله (ص) أنَّ معها كتاباً، ويأمرني بأخذه منها، وتقول: إنَّه لا كتاب معها، ثمَّ اخترط السَّيف وقال: أمَّا والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنَّك – بتكليف من رسول الله - ثُمَّ لأضربنّ عنقك، فقالت له: إذا كان لا بدَّ من ذلك، فأعرض يا بن أبي طالب عنِّي بوجهك. فأعرض عنها، فكشفت قناعها، فأخرجت الكتاب".
وجمع النّبيّ (ص) المسلمين، وطلب أن يقوم منهم مَنْ أرسل هذا الكتاب، وفي البداية لم يقم أحد، ثمّ قام هذا الرَّجل، وقال: يا رسول الله، أنا لم أخرج عن ديني، ولكنَّ نقطة ضعف عندي هي الّتي دفعتني إلى فعل ما فعلت، وتاب على يد رسول الله (ص).
وهذا يعطينا فكرة عن كلّ الجواسيس الَّذين يبعثون بالتَّقارير إلى إسرائيل عن المجاهدين، وعن النَّاس الطيّبين، وعن أسرار البلد الاقتصاديَّة، هؤلاء قد يكونون مسلمين، ولكنَّهم يعيشون نقاط ضعف كما عاش هذا المسلم نقاط الضّعف. ونريد أن نقول لهم من خلال كلمات رسول الله (ص)، ومن خلال موقف عليّ (ع): لو كان عليّ الآن، لضرب أعناقكم بالسَّيف، وأنتم تقولون إنَّكم من شيعة عليّ.
انتصارُ المسلمين
وانطلق النَّبيّ (ص) في مسيرته، وكان أبو سفيان قد جاء إلى المدينة وراقب هذا الحشد، وقال للعبَّاس عمّ النّبيّ: لقد بلغ ابن أخيك ملكاً عظيماً، فقال له: إنَّها النّبوَّة. وأراد النَّبيّ أن يدخل مكَّة دخولاً سلميّاً، ولذلك، عندما أعطى إحدى راياته لسعد بن عبادة، أنشد هذا الرَّجل: "اليَوْمَ يَوْمُ الملْحَمةِ، اليَوْمَ تُسْبَى الحُرُمَةُ"، فأُخْبِرَ النَّبيّ (ص) بذلك، فأعطى الرَّاية إلى عليّ، ويروى أنَّه (ع) كان ينشد ويقول: "اليَوْمَ يَوْمُ المَرْحَمَة، اليَوْمَ تُحْفَظُ الحُرُمَة".
ودخل النَّبيّ (ص) بهذا الجيش الكبير، ولم تستطع قريش أن تقاوم، وأطلق النَّبيّ (ص) في ذلك نداء السَّلام: "مَنْ دَخَلَ دارَ أبي سُفْيانَ فَهُو آمِنٌ - باعتبار أنَّه زعيم قريش - وَمَنْ دَخَلَ المسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ"، فسيطر (ص) على مكَّة، وسقطت قريش، وجمع زعماءها وقال لهم: "مَا تَرَوْني فَاعِلاً بِكُم؟"، وقد أتعبتموني، ووقفتم أمامي في سبيل الله والدَّعوة، قالوا: "أَخٌ كَرِيمٌ وابْنُ أَخٍ كَرِيم، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"، وعفا عنهم.
وقد قال ذلك الشَّاعر وهو يتحدَّث عن هذه التَّجربة وتجربة بني أميَّة:
مَلكْنا فكانَ العَفْوُ منَّا سَجيَّةً فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَحُ
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بينَنَا وكلُّ إناءٍ بالَّذي فيه ينْضحُ
ولذلك، كانت كلمة السيّدة زينب (ع) ليزيد، وهي تخاطبه لتذكّره: "أَمِنَ العَدْلِ يَا بْنَ الطَّلْقَاءِ - أي الَّذين عفا عنهم جدّها رسول الله (ص) - تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإِمَاءَكَ، وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟!"، إلى آخر الخطبة.
وهكذا، سقط الصّراع بين قريش والإسلام، ونزلت الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}[سورة الفتح]. وانطلق الإسلام انطلاقةً جديدةً قويَّة.
الاستكبارُ الأمريكيّ
وبهذه المناسبة، أيُّها الأحبَّة، ونحن نستحضر فتح مكَّة في شهر رمضان، علينا أن نعرف أنَّه كما كانت قريش تكيدُ للإسلام، وتقف في وجهه، وتعطّل كلَّ قضاياه وأوضاعه، فإنَّ أمريكا في العالم، ومعها إسرائيل في المنطقة، تقف ضدَّ الإسلام، وتشغل المسلمين بحروبٍ قد لا تدخلها مباشرةً، ولكنَّها تدخلها وتقودُها بشكلٍ غير مباشر. ولذلك، لا بدَّ أن نعمل على أن تسقط إسرائيل في المنطقة ولو بعد خمسين سنة، وأن يسقط عنفوان أمريكا واستكبارها في المنطقة والعالم، لأنَّه ما دامت هذه الدَّولة المستكبرة تسيطر على مقدّرات العالم، فإنَّ العالم سوف يبقى ينتقل من حرب إلى حرب، ومن أزمة إلى أزمة، ومن فتنة إلى فتنة.
فارسُ الإسلام
ونقف مع عليّ (ع)، هذا الإنسان العظيم الَّذي كانت عظمته في تواضعه لله، وفي عنفوانه أمام أعداء الله، هذا الإنسان الَّذي باع نفسه لله، فلم يبق لنفسه من نفسه على مستوى الذَّات شيء. إنّنا لا نجد لعليّ في كلّ حياته شيئاً ذاتيّاً مما يعيش فيه كلّ واحد منَّا ذاته. كان (ع) في بداية الطّفولة، يعيش ابتهالاته مع الله إلى جنب رسول الله (ص)، وكان رسول الله يغرس في عقله وفي خلقه وروحه الإسلامَ في معناه العام قبل أن ينزل الإسلام عليه، ولذلك كان عليّ (ع) مسلماً لله قبل أن يسلم، وكان دخوله في الإسلام دخولاً ينطلق من عمق الرّوح الَّتي عاشها مع الله بما عاشه مع رسول الله، وكان عليّ (ع) فارس كلّ حروب رسول الله؛ كان فارس بدر وأحد والأحزاب، وانطلقت تلك الكلمة من رسول الله في وقعة الخندق: "بَرَزَ الإيمانُ كُلُّهُ إِلَى الشِّرْكِ كُلِّهِ"، "ضَرْبَةُ عَلِيٍّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَعْدِلُ عِبَادَةَ الثَّقَلَيْنِ".
وعندما خرج النَّبيّ (ص) مع المسلمين إلى معركة تبوك، ترك عليّاً (ع) في المدينة في مهمّة خاصَّة، وكان (ع) يحبّ أن يشارك في المعركة مع الرَّسول (ص)، أوّلاً ليحميه، وثانياً ليدافع عن الإسلام، وعندما سأل النَّبيَّ (ص) عن الأمر، أجاب: "أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ منّي بِمَنزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي".
تلميذُ الرّسولِ وخليفتُه
واستمرّ عليّ مع رسول الله في اللَّيل والنَّهار، وكان يتعلَّم منه (ص)، حتَّى إنّه كان يقول إني أعرف كلَّ آية فيما نزلت وبمن نزلت وأين امتدَّت، وقال: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَلْفَ بَابٍ مِنَ الْعِلْمِ، يُفْتَحُ لِي مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَابٍ"، وأكَّد ذلك رسول الله (ص) عندما قال: "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا".
وكان عليّ (ع) مع الحقّ كلّه، ولذلك قال الرّسول (ص) عنه: "عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ"، ولذلك كان أولى النَّاس برسول الله، وأولى النَّاس بخلافته، وهكذا أنزل الله على رسوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة: 67]، وجمع رسول الله المسلمين، وقال: "ألسْتُ أَوْلى بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم؟ - بمعنى الحاكميَّة - قالوا: بلى، قال: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه، فَعلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ".
ولكنَّ المسلمين ذهبوا بعيداً بعد رسول الله، وتحرَّكوا في اتجاه آخر، وتحرَّك الإسلام في غير الاتّجاه الَّذي بدأه من خلال هِناتٍ وهِنات، وبقي عليّ (ع) مع الإسلام، بقي وهو خارج مركزه الطَّبيعيّ الشَّرعيّ، يشير على الَّذين أبعدوه ليحمي حياتهم، ويشير عليهم ليحلَّ مشكلاتهم، ويشير عليهم من أجل أن يحفظ الإسلام في ذلك، وعاش (ع) مسؤوليَّته، وقال كلمته: "لأسالمنَّ ما سلمَتْ أمورُ المسلمين، ولم يكنْ فيها جورٌ إلَّا عليَّ خاصَّة".
القتالُ معَ الرَّسول (ص)
وكان عليّ (ع) يحدّث النَّاس بحديث قد نحتاجه، أيُّها الأحبَّة، في هذه الأيَّام، كان يحدّثهم كيف كانوا يقاتلون مع رسول الله (ص). يقول (ع): "وَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولِ آللهِ (ص) - كيف كان المسلمون آنذاك في روحيَّتهم في الإخلاص لله ولرسوله، وكان عليّ (ع) في المقدّمة - نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلى مَضَضِ الألَمِ، وَجِدّاً عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ؛ وَلَقَدْ کَانَ الرَّجُلُ مِنَّا، وَالآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا، يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ کَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، وَمَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا، أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْکَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ، وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ. وَلَعَمْرِي، لَوْ کُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ – لو كان واقعنا مثل واقعكم الآن - مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلَا اخْضَرَّ لِلإيمَانِ عُودٌ. وَأَيْمُ اللهِ، لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً!".
فهل كان عليّ (ع) يتحدَّث عنَّا، ونحن نعيش مثل هذه الأخلاق الَّتي تمزّق واقعنا ومجتمعنا، والَّتي تنحرف عن الإسلام في كلّ خطوطه الأخلاقيَّة؟! هل كان عليّ يتحدَّث عنَّا، والمسلمون يحارب بعضهم بعضاً، ويكفّر بعضهم بعضاً؟ هل كان عليّ يتحدَّث عنَّا، ونحن نتحاور مع الكافرين والمستكبرين ولا نتحاور مع المسلمين؟ هل كان عليّ يتحدَّث عنّا، ونحن نختزن في قلوبنا الحقد والبغضاء للمؤمنين، وفي الوقت نفسه نفتح قلوبنا لغير المؤمنين؟!
هذا حديث عليّ لمن سقطوا في التَّجربة في عهده، وهو حديثه لمن يعيش هذه التَّجربة في هذا العصر.
المحجَّةُ الواضحة
ثمَّ يحدّثنا عليّ (ع) عمَّا يأتي من بعده، كأنَّه يريد أن يقول للنَّاس: أنا المحجَّة الواضحة، أنا الَّذي حمل الحقَّ في عقله وقلبه وفي حياته. يقول (ع):
"وَإِنَّهُ سَيَأْتي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْـحَقِّ، وَلا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلا فِي الْبِلاَدِ شَيءٌ أنْكَرَ مِنَ الْـمَعْرُوفِ، وَلا أَعْرَفَ مِنَ الْـمُنكَرِ! فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ؛ فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ مَنْفِيَّانِ طَرِيْدَانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، لا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ؛ فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُم، لأنَّ الضَّلاَلَةَ لا تُوَافِقُ الْـهُدَى وَإِنِ اجْتَمَعَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ - فهل نحن مجتمعون على الوحدة؟ - وَافْترَقُوا عَنِ الْـجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إلَّا اسْمُهُ، وَلا يَعْرِفُونَ إلَّا خَطَّهُ وَزَبْرَهُ، وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللهِ فِرْيَةً".
وهكذا يقول الإمام (ع): "وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ، وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْـمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْـمَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ".
إنَّ عليّاً (ع) يتحدَّث عن المرحلة الَّتي فقده النَّاس فيها، وفقدوا نهجه وإخلاصه. وعليّ (ع) يقول لكم ليست العبرة في أن تنادوا باسمي إذا ناديتم، ولكنَّ العبرة أن تعملوا بنهجي، لأنَّ عليّاً كان حقّاً كلّه، فلا يمكن أن يكون شيعة عليّ وأتباعه باطلاً كلّهم، أو أن يمزجوا بين الحقَّ والباطل.
الوصايا الأخيرة
هذه هي رسالة عليّ (ع) في ذكرى استشهاده، عليّ الّذي كانت دماؤه تنزف، وجسده يضعف، وهو في آخر لحظات حياته، ومع ذلك، كان يتوجَّه إلى النَّاس، يعظهم ويوصيهم. كان (ع) قمَّة المسؤوليَّة، كان الإنسان الَّذي لا يترك لحظةً إلّا ويعطيها جهاداً، ولا يترك إنساناً إلَّا ويعطيه علماً، ولا يترك مرحلةً إلَّا ويعطيها خطّاً وبرنامجاً. ولذلك قال لهم وهو في آخر لحظات حياته: "أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ، الْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ، وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ. كَمْ أَطْرَدْتُ الْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الْأَمْرِ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا إِخْفَاءَهُ، هَيْهَاتَ! عِلْمٌ مَخْزُونٌ. أَمَّا وَصِيَّتِي، فَاللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّداً (ص) فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ، أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ، وَأَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ – الكتاب والسنَّة - وَخَلَاكُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا، حُمِّلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ، وَخفَّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ رَبٌّ رَحِيمٌ، وَدِينٌ قَوِيمٌ، وَإِمَامٌ عَلِيمٌ. أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ... إنْ أَبْقَ فَأنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي، وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فاعْفُوا {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ}[النّور: 22] - تعاملوا في حياتكم في كلّ خلافاتكم بالعفو، لأنَّ الله يعطي العافين عن النَّاس مغفرته وعفوه في مقابل ذلك - وَاللّهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ؛ وَمَا كُنْتُ إِلَّا كَقَارِبٍ وَرَدَ، وَطَالِبٍ وَجَدَ {وَمَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِـلْأَبْرَارِ}[آل عمران: 198]... وَدَاعِيكُم وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلاَقِي، غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي، وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي".
كأنَّه (ع) يريد أن يقول، إنَّكم عندما تعيشون مع أئمَّتكم، فقد لا تعرفون مقامهم، ولكن بعد أن يرحلوا وتجرّبوا غيرهم، وعندما يخلو المكان منهم، وعندما تتعقَّد فيكم الأمور، وتنظرون فلا تجدون لكم مصدر وعي ورشاد، فإنَّكم تتذكَّرون من كان معكم. كان عليّ (ع) يقول ذلك وهو ينزف ويضعف، ويلتفت إلى كلّ النَّاس من حوله، وهو ينظر إليهم بكلّ وداعة وحنان، وكان يقول لهم، وهو يقترب من الاحتضار الَّذي يريد أن يلقى به وجه ربّه: "سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، وَخَفِّفُوا سُؤَالَكُمْ لِمُصِيبَةِ إِمَامِكُمْ".
على نهجِ عليّ (ع)
وعلينا دائماً أن نسأل عليّاً، فإن لم يكن معنا بجسده، إلَّا أنّه معنا بخطبه وكتبه ومواعظه ووصاياه، ليبقى عليّ عندنا مصدر إيمان ووعي وجهاد وبطولة.
التزموا عليّاً فكراً، والتزموه فكراً وروحانيّةً تنفتح على الله، والتزموه معرفةً، وهو القائل: "لَوْ كُشِفَ لِيَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا"، كونوا صورة من عليّ ولو بنسبة الواحد إلى الألف:
فَتَشَبَّهوا إِنْ لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ
"أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَلَا وَإِنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَعٍ – عن الحرام – وَاجْتِهَادٍ – في طاعة الله - وَعِفَّةٍ - عن كلّ ما لا يرضاه الله – وَسَدَادٍ" في الرَّأي.
فهل تعينون عليّاً؟ إنَّه يطلب مساعدتكم على أنفسكم وعلى السَّير في الخطّ.
يا سماءُ اشهَدِي ويَا أرضُ قَرِّي واخشَعِي إنَّني ذَكَرتُ عَليَّا
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله، فإنَّ التَّقوى تقودكم إلى أن يتحسَّس كلّ واحد منكم مسؤوليَّته أمام الله في الدّنيا، ليقدّم حسابه بين يدي الله في الآخرة، عندما ينطلق النّداء: {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصّافّات: 24]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النّحل: 111].
عباد الله، انفتحوا من خلال هذه المسؤوليَّة التَّقوائيَّة على كلّ قضاياكم الَّتي هي قضايا المسلمين جميعاً، وقضايا المستضعفين جميعاً.
القدسُ: القضيَّةُ الكبرى
ونحن الآن في يوم القدس، ونريد أن نستوحي هذا اليوم في طبيعة معناه وامتداداته، وفي طبيعة كلّ القضايا الَّتي تنطلق منه وتحيط به.
إنَّ للقدسِ في وجداننا الدّينيّ معنى حركة الأنبياء مع أكثر من نبيّ، ومعنى القبلة في تاريخ أكثر من صلاة، ووحي الرّسالة في أكثر من كتاب. وبذلك كانت القدس جزءاً من شخصيَّتنا التاريخيَّة الدينيَّة الَّتي تمتدّ من الماضي لتطلَّ على الحاضر والمستقبل، فهي مهد الأنبياء، ومسرى النَّبيّ محمَّد (ص)، ومنطلق معراجه، وساحة الصّراع المرير بيننا وبين أكثر من محور عالميّ استهدف السَّيطرة عليها؛ إنَّها القضيَّة الكبرى للصّراع الدَّامي المتحرّك بكلّ قسوة، في حرب سياسيَّة وعسكريَّة بيننا وبينَ اليهود الَّذين خطَّطوا للاستيلاء عليها، وإخراج أهلها منها، وتحويلها إلى عاصمةٍ لكيانهم، بحيث اختصرت في معنى القضيَّة في داخلها، كلَّ تأريخنا المعاصر في مدى النّصف القرن الماضي، ولا تزال تمتدّ إلى أكثر من تاريخ في المستقبل.
وهذا يوم القدس الَّذي أطلقه الإمام الخميني (قده)، لتبقى القدس المدينة المقدَّسة، والقضيَّة الحيويَّة، والتَّاريخَ الحركيَّ في الوجدان، حتَّى لا تغيبَ تحت تأثير الأمر الواقع، بل تبقى هدفاً أكبر للجهاد في واقع المسلمين والعرب وطلَّاب الحريَّة في العالم، كقضيَّةٍ تختزن معنى القداسة في داخلها، ومعنى المصير في امتدادها. لهذا، كان إحياء هذا اليوم مهمَّة حيويَّة يمتزج فيها الدّينيّ بالسياسيّ، والحاضر بالمستقبل.
التَّضامنُ لتحريرِ القدس
إنَّنا في يوم القدس، نتطلَّع إلى أن يلتقي المسلمون من خلاله على الوحدة الإسلاميَّة، وينفتح النَّصارى على المسلمين، من خلال هذه القضيَّة المشتركة، على الكلمة السّواء، من أجل تحريرها الَّذي يمثّل تحرير السيّد المسيح (ع)، ومسرى النَّبيّ محمَّد (ص)، فإنَّ اليهود قد استطاعوا السَّيطرة على قدس فلسطين، وفلسطين القدس، من خلال التمزّق العربي والإٍسلاميّ.
إنَّنا نعتقد أنَّ على الجميع أن يخرجوا مسألة القدس من دائرة المدينة إلى دائرة القضيَّة، لتمتدَّ في حركتها إلى مواجهة الاستكبار العالميّ الَّذي كانت له اليد الطّولى في وصولها إلى هذا الصّعيد من السَّيطرة اليهوديَّة عليها. ثمَّ لا بدَّ من الخطَّة السياسيَّة والعسكريَّة بالتحرير في مدى الزَّمن، فلا تبقى القضيَّة معلَّقة انفعالاً تطلقه حناجر المتحمّسين، بل أن تكون خطَّة دقيقة تتحرّك في تفكير المخطّطين الحركيّين.
ونحن نجد في أيّ انطلاقة جهاديَّة لجعل الاحتلال اليهوديّ لفلسطين وما حولها، يعيش الاهتزاز في واقعه الأمنيّ والعسكريّ والسياسيّ، كما في المقاومة في لبنان، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة، والانتفاضة الإسلاميَّة في فلسطين، حركةً في هذا الاتجاه، ولا بدَّ للعرب والمسلمين أن يستهدوا هاتين النقطتين المهمّتين المضيئتين للانطلاق نحو مرحلة التَّحرير الشَّامل.
مؤامرةٌ لتهويدِ فلسطين
لا تزال في القدس المدينة بقيَّة للعرب والمسلمين، ولكنَّ اليهود يعملون على تهويدها بالتَّعاون مع أمريكا الَّتي تخطّط للضَّغط على الفلسطينيَّين والعرب، من أجل تقديم التَّنازلات باسم الواقعيَّة الَّتي تتمثَّل في المنطق الأمريكيّ بالخضوع للأمر الواقع المتمثّل بالكيان الغاصب، وبالعناوين الأمنيَّة الَّتي تفترس كلَّ أراضيهم، وتحاصر كلّ قراهم. وهذا ما لاحظناه في لقاء واشنطن الَّذي فرض فيه نتنياهو شروطه على الرَّئيس الأمريكيّ وإدارته، ما جعله يتحدَّث مع عرفات بلغة إسرائيليَّة في حديثه معه عن الواقعيَّة في تحديد الانسحابات من جهة، وفي شروطه السياسيَّة من جهة أخرى، وفي العمل على حماية أمن الكيان الصّهيونيّ من الفلسطينيّين الَّذين يريدون تحرير بلادهم باسم محاربة الإرهاب، باعتبار ذلك الشَّرط الأساس لكلّ خطوة إسرائيليَّة في اتجاه الانسحاب والتَّفاوض، مع العلم أنَّ إسرائيل أعلنت عن ثوابت نهائيَّة في تهويد القدس، وإعطاء الفلسطينيّين بعض الجزر السّكّانيَّة المحاصرة في الضفَّة الغربيَّة، مع إبقاء السيطرة الأمنيَّة للعدوّ على كلّ مفاصل الضفّة الغربيّة وغزّة، ومع إبقاء الحدود تحت سيطرة الجيش الصهيوني.
إننا نقول للفلسطينيّين، أوّلاً، في يوم القدس، لن يمنحكم اليهود شيئاً في معنى القدس ومعنى فلسطين، ونقول للعرب والمسلمين، ثانياً، لن تحصلوا من أمريكا الإسرائيليَّة على أيّ شيء. لذلك، لا بدَّ من إعادة الصّراع من جديد في السياسة والأمن والاقتصاد، لأنَّ إسرائيل وأمريكا تعملان وتخطّطان لأن تكون إسرائيل هي الأقوى، ولا سيَّما في التفوّق العسكريّ الَّذي يجعلها في موقع الخطر المستقبليّ على العرب والمسلمين، في نطاق التحالف الاستراتيجيّ بينها وبين أمريكا، الَّذي يطلّ على التحالف مع تركيا، في عمليَّة تطويقٍ لأكثر من بلد عربيّ وإسلاميّ، ما يفرض على الجميع الاستعداد للمرحلة المقبلة وحدةً أو تعاوناً أو تنسيقاً، للحفاظ على القدس المدينة والمنطقة والمستقبل.
خطرٌ على إيران
ونلاحظ أنَّ أمريكا قدَّمت في هذه الأيَّام إلى إسرائيل طائرتين من أحدث الطَّائرات الَّتي تملك إمكانيّة الوصول إلى المسافات البعيدة، ما يشكّل خطراً جديداً من إسرائيل على الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران.
ضغطٌ تركيٌّ على الإسلاميّين
وليس بعيداً من ذلك، نطلّ على ما يجري في تركيا، بعد حلّ حزب الرّفاه الإسلاميّ، وتحرّك الحكومة التركيَّة لتمزيق قاعدته الإسلاميَّة، في محاولةٍ لانضمام نوَّابه إلى هذا الحزب أو ذاك، والضَّغط على الإسلاميّين بأكثر من وسيلة. إنَّنا نتصوَّر أنَّ علاقة تركيا بإسرائيل وأمريكا، لم تكن بعيدةً عن هذا الإجراء الَّذي يتنافى مع أبسط الحريَّات السياسيّة للدّيمقراطيّة في حقوق الإنسان الَّتي تنادي بها أمريكا.
إنَّنا ندعو المسلمين في تركيا إلى وعي طبيعة اللّعبة السياسيَّة وامتداداتها، ليكونوا في موقع التصدّي الواعي الَّذي يبقي القاعدة الإسلاميَّة هناك في مواقعها، ويدفع بها إلى مستقبل قويّ مشرق حركيّ واعد.
إرهاقُ المواطنِ بالضَّرائب
وأخيراً، إنَّنا لا نزال نستمع إلى النّقاشات الدَّائرة في المجلس النيابيّ، والَّتي تتحدَّث بلغة الأرقام عن الفساد المتحرّك في مفاصل الدَّولة، وعن السياسة الاقتصاديَّة الفاشلة للدَّولة المستمرَّة في الوتيرة نفسها، وبدلاً من إصلاحها، تلقي المسألة على عاتق المواطن، من خلال فرض الضَّرائب المستمرَّة، وآخرها على رسوم الميكانيك، ولا نعرف ماذا يليها، وأصبح شعار الحلّ الَّذي تطرحه الدَّولة: إمَّا الضَّرائب، وإمَّا القروض، وهو الشّعار الَّذي يقود البلد إلى المجهول، حيث لا تنمية ولا موارد إنتاجيَّة جديدة.
لقد آن الأوان لكي تتحرَّك الدَّولة بكلّ مفاصلها، في إطار خطَّة اقتصاديَّة سياسيَّة من أجل رسم المعالم الأساسيَّة لمستقبل البلد، في ظلّ الأخطار المحدقة في الدَّاخل والخارج، لأنَّ هذا السّجال الَّذي لا ينطلق من خطَّة تتعاون فيها الموالاة والمعارضة للخروج من المأزق الحاليّ، لن يفضي إلى نتائج حاسمة لمصلحة البلد في حاضره ومستقبله.
أزمةُ السَّيرِ في الضَّاحية
وأخيراً، أحبّ أن أنبّه إلى نقطة، وهي أنَّ الضَّاحية الجنوبيَّة، هذه المنطقة الَّتي تضمّ المستضعفين المشرَّدين من بلادهم، والباحثين عن لقمة عيش في غير قراهم ومواقعهم، لا تلقى من الدَّولة في خدماتها إلَّا القليل القليل.
وهناك نقطة حيويَّة مهمَّة يعانيها كلّ النَّاس، وهي مسألة أزمة السَّير الخانقة الَّتي تمنع النَّاس من التّحرّك إلى أعمالهم، قد يقولون إنَّ هناك مشاريع لمصلحة الضَّاحية في مسألة الحفريَّات، نحن لا نرفض ذلك، وإن كنَّا ننتقد هذه الخطى السلحفاتيَّة الَّتي لا تسرّع العمل بالشَّكل المطلوب، لكنَّنا نقول إنَّ هناك قوى الأمن الدّاخليّ، وهناك البلديَّات، وكلاهما يملك عناصر يمكن أن تخفّف من أزمة السَّير، على أساس نشر عناصر قوى الأمن الدَّاخليّ وشرطة البلديات، ليقفوا في المفارق هنا وهناك من أجل تنظيم السَّير، لأنَّ كثيراً من أزمة السَّير يأتي من عدم وجود من ينظّم لهم السّير، حيث يتحوَّل النَّاس في سياراتهم إلى ما يشبه الفوضى.
يومٌ للوحدة
وفي خاتمة المطاف، إنَّنا ونحن نعيش يوم القدس، نقول إنّه لا بدَّ أن يكون هذا اليوم يوم وحدة لا يوم تفرّق. ونحن نريد أن نؤكّد أنَّ يوم القدس في عمق معناه هو يوم المقاومة، فلا يجوز تحت أيّ اعتبار أن تُضعَفَ المقاومة، أو تشغل بخلافات أو هامشيَّات لا تفيد أحداً شيئاً.
إنَّ معنى القدس يعني الوحدة؛ الوحدة على مستوى الحالة الإسلاميَّة، والوحدة على مستوى كلّ الواقع العربيّ والإِسلاميّ. إنَّنا نقول {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، ونقول إنَّ القوم قد توحَّدوا على باطلهم، فلماذا لا نتوحَّد على حقّنا؟ ولماذا لا يتنازل أحدنا للآخر عمَّا يكون فيه المصلحة العليا؟!
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 23/01/ 1998م.
نلتقي في هذه الأيّام بمناسبات ثلاث ترتبط كلّ واحدة منها بحاضرنا ومستقبلنا في قضايانا الحيويَّة، كما أعطت الكثير في الماضي، فقد التقينا بمناسبة فتح مكَّة، ثمَّ بمناسبة ذكرى استشهاد الإمام عليّ (ع)، ثمَّ بيوم القدس.
وسنتحدَّث في الخطبة الأولى عن المناسبتين الأوليين، أمَّا المناسبة الثَّالثة، فسنتحدَّث عنها، إن شاء الله، في الخطبة الثَّانية.
الصّراعُ مع قريش
لقد عاش النَّبيّ (ص) بعد أن بعثه الله بالرّسالة، صراعاً مريراً مع قريش، لأنَّ قريش الوثنيَّة في عبادتها، كانت العشيرة الَّتي تملك الزَّعامة في الواقع العربيّ على المستوى الاقتصاديّ، لأنَّها كانت تملك تجارة الشّتاء والصَّيف، وكانت تأتي للعرب في منطقتها بكلّ حاجاتهم، وكانت الزَّعيمة السياسيَّة بقدر ما يتَّسع له الواقع في تلك المرحلة من السياسة، فكانت لها الزَّعامة، باعتبار أنَّها كانت تُخشَى وتُهَاب، وكانت لها الزَّعامة الدّينيَّة، لأنَّ قريش كانت تخلط بين الوثنيَّة والإيمان، لأنَّها كانت لا تزال تلتزم الكعبة والحجّ، وتتحدَّث عن إبراهيم (ع) باعتبار أنَّهم أبناؤه، وكانت في الوقت نفسه تعبد الأصنام، كالكثيرين من النَّاس بطريقة عصريَّة، يجمعون بين إيمانهم بالإسلام، وبين عبادتهم لكثير من الأصنام السياسيّين والاقتصاديّين والعسكريّين في العالم.
ولذلك، كانت دعوة النَّبيّ (ص) إلى التَّوحيد والإسلام، وإلى تنقية كلّ الواقع من الوثنيَّة، وإلى أن يكون النَّاس سواء، وأن لا تعتبر عشيرةٌ نفسها بمثابة القوَّة المسيطرة على الواقع {يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات: 13]، "كُلُّكُمْ من آدَمَ، وآدَمُ من تُرَابٍ"، "لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَىٰ أَعْجَمِيٍّ إِلَّا بِالتَّقْوَىٰ".
لذلك، وجدت قريش في هذه الدَّعوة إسقاطاً لكلّ هذه الزّعامة، وإضعافاً لموقعها في المنطقة، ولم تلاحظ حتَّى أنَّ محمَّدا ًقرشيّ، وأنَّ مجده، بحسب منطقهم العصبيّ، عندما ينتصر هو مجد قريش، وقد قال لهم النَّبيّ (ص): اتركوني والعرب، فإن انتصرت كان لكم هذا النَّصر، بحسب المنطق العربيّ، وإن لم أنتصر كُفيتم أمري. ولكنَّهم لم يقبلوا بذلك، وبدأوا الحرب على الإسلام وعلى النَّبيّ (ص) وعلى أصحابه في مكَّة في مدى ثلاث عشرة سنة. ثمَّ عندما هاجر النَّبيّ (ص)، بدأوا حروباً متنقّلة متحركة، بحيث إنَّهم أثاروا الحرب ضدَّه، حتّى إنَّهم ببعض الاعتبارات، دفعوا اليهود إلى أن يتحالفوا معهم في حربهم عليه، وأن ينقضوا العهد الَّذي كانوا يحصلون فيه على الأمان منه (ص).
ولذلك، لم يجد النّبيّ (ص) أيَّ فرصة للرَّاحة للامتداد في رسالته إلى شعوب أخرى ومواقع أخرى، لأنهم كانوا ينقلونه من حرب إلى حرب، ويتحرّكون من عدوان إلى عدوان.
ما قبلَ المعركة
وبعد أن عظم أمر الإسلام، وقوي المسلمون، خطَّط النَّبيّ (ص) لفتح مكَّة، وكان تخطيطه هذا هو السَّبب في صلح الحديبية، فإنَّ النَّبيّ (ص) عندما ذهب إلى العمرة، منعته قريش، وأراد المسلمون أن يصطدموا معها، ولكنَّ النّبيّ (ص) منعهم من ذلك، ودخل في صلح معها اسمه "صلح الحديبية" الّذي لم يرض عنه بعض المسلمين، لأنَّهم اعتبروه تنازلاً لقريش، ولكنّ النّبيّ (ص) كان يعرف أنّه لو دخل الحرب في هذه المرحلة معها، فإنَّ الخطَّة سوف تفشل.
وهكذا استراحت قريش للموضوع، وكان النَّبيّ يعبّئ المسلمين، فجهَّز مقدار عشرة آلاف رجل من العسكر، ولم يكن هذا الرَّقم لتتحمَّله قريش. وحاول النَّبيّ (ص) أن يخفي الخطَّة عن النَّاس، وعن قريش بالذَّات، إلَّا أنَّ بعض أصحاب النّبيّ (ص) ممن له قرابة في مكَّة، خاف أن تدور الدَّائرة على المسلمين، فأراد أن يقدّم خدمةً لقريش حتّى يحفظوا له قرابته، فأرسل رسالةً إلى بعض أصحابه من قريش أنَّ النَّبيَّ (ص) يعدّ للهجوم، وأرسل هذه الرّسالة مع امرأة وضعت الكتاب في شعرها، فنزل جبرائيل (ع)، كما تقول السّيرة، وأخبر الرّسول (ص) أنَّ امرأة تحمل كتاباً إلى قريش.
هنا، أرسل إليها النّبيّ (ص) عليّاً ومعه الزّبير بن العوَّام، فخاطبها الزّبير أوّلاً، فحلفت وبكت، حتّى اقتنع الزّبير بالموضوع. أمَّا الإمام عليّ (ع)، فقال: "أخبرني رسول الله (ص) أنَّ معها كتاباً، ويأمرني بأخذه منها، وتقول: إنَّه لا كتاب معها، ثمَّ اخترط السَّيف وقال: أمَّا والله لئن لم تخرجي الكتاب لأكشفنَّك – بتكليف من رسول الله - ثُمَّ لأضربنّ عنقك، فقالت له: إذا كان لا بدَّ من ذلك، فأعرض يا بن أبي طالب عنِّي بوجهك. فأعرض عنها، فكشفت قناعها، فأخرجت الكتاب".
وجمع النّبيّ (ص) المسلمين، وطلب أن يقوم منهم مَنْ أرسل هذا الكتاب، وفي البداية لم يقم أحد، ثمّ قام هذا الرَّجل، وقال: يا رسول الله، أنا لم أخرج عن ديني، ولكنَّ نقطة ضعف عندي هي الّتي دفعتني إلى فعل ما فعلت، وتاب على يد رسول الله (ص).
وهذا يعطينا فكرة عن كلّ الجواسيس الَّذين يبعثون بالتَّقارير إلى إسرائيل عن المجاهدين، وعن النَّاس الطيّبين، وعن أسرار البلد الاقتصاديَّة، هؤلاء قد يكونون مسلمين، ولكنَّهم يعيشون نقاط ضعف كما عاش هذا المسلم نقاط الضّعف. ونريد أن نقول لهم من خلال كلمات رسول الله (ص)، ومن خلال موقف عليّ (ع): لو كان عليّ الآن، لضرب أعناقكم بالسَّيف، وأنتم تقولون إنَّكم من شيعة عليّ.
انتصارُ المسلمين
وانطلق النَّبيّ (ص) في مسيرته، وكان أبو سفيان قد جاء إلى المدينة وراقب هذا الحشد، وقال للعبَّاس عمّ النّبيّ: لقد بلغ ابن أخيك ملكاً عظيماً، فقال له: إنَّها النّبوَّة. وأراد النَّبيّ أن يدخل مكَّة دخولاً سلميّاً، ولذلك، عندما أعطى إحدى راياته لسعد بن عبادة، أنشد هذا الرَّجل: "اليَوْمَ يَوْمُ الملْحَمةِ، اليَوْمَ تُسْبَى الحُرُمَةُ"، فأُخْبِرَ النَّبيّ (ص) بذلك، فأعطى الرَّاية إلى عليّ، ويروى أنَّه (ع) كان ينشد ويقول: "اليَوْمَ يَوْمُ المَرْحَمَة، اليَوْمَ تُحْفَظُ الحُرُمَة".
ودخل النَّبيّ (ص) بهذا الجيش الكبير، ولم تستطع قريش أن تقاوم، وأطلق النَّبيّ (ص) في ذلك نداء السَّلام: "مَنْ دَخَلَ دارَ أبي سُفْيانَ فَهُو آمِنٌ - باعتبار أنَّه زعيم قريش - وَمَنْ دَخَلَ المسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ"، فسيطر (ص) على مكَّة، وسقطت قريش، وجمع زعماءها وقال لهم: "مَا تَرَوْني فَاعِلاً بِكُم؟"، وقد أتعبتموني، ووقفتم أمامي في سبيل الله والدَّعوة، قالوا: "أَخٌ كَرِيمٌ وابْنُ أَخٍ كَرِيم، قَالَ: اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"، وعفا عنهم.
وقد قال ذلك الشَّاعر وهو يتحدَّث عن هذه التَّجربة وتجربة بني أميَّة:
مَلكْنا فكانَ العَفْوُ منَّا سَجيَّةً فلمَّا ملكْتُمْ سالَ بالدَّمِ أبْطَحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالَما غَدوْنا عن الأسْرى نَعفُّ ونصفَحُ
فحسْبُكُمُ هذا التَّفاوتُ بينَنَا وكلُّ إناءٍ بالَّذي فيه ينْضحُ
ولذلك، كانت كلمة السيّدة زينب (ع) ليزيد، وهي تخاطبه لتذكّره: "أَمِنَ العَدْلِ يَا بْنَ الطَّلْقَاءِ - أي الَّذين عفا عنهم جدّها رسول الله (ص) - تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإِمَاءَكَ، وَسَوْقُكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ سَبَايَا؟!"، إلى آخر الخطبة.
وهكذا، سقط الصّراع بين قريش والإسلام، ونزلت الآية: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}[سورة الفتح]. وانطلق الإسلام انطلاقةً جديدةً قويَّة.
الاستكبارُ الأمريكيّ
وبهذه المناسبة، أيُّها الأحبَّة، ونحن نستحضر فتح مكَّة في شهر رمضان، علينا أن نعرف أنَّه كما كانت قريش تكيدُ للإسلام، وتقف في وجهه، وتعطّل كلَّ قضاياه وأوضاعه، فإنَّ أمريكا في العالم، ومعها إسرائيل في المنطقة، تقف ضدَّ الإسلام، وتشغل المسلمين بحروبٍ قد لا تدخلها مباشرةً، ولكنَّها تدخلها وتقودُها بشكلٍ غير مباشر. ولذلك، لا بدَّ أن نعمل على أن تسقط إسرائيل في المنطقة ولو بعد خمسين سنة، وأن يسقط عنفوان أمريكا واستكبارها في المنطقة والعالم، لأنَّه ما دامت هذه الدَّولة المستكبرة تسيطر على مقدّرات العالم، فإنَّ العالم سوف يبقى ينتقل من حرب إلى حرب، ومن أزمة إلى أزمة، ومن فتنة إلى فتنة.
فارسُ الإسلام
ونقف مع عليّ (ع)، هذا الإنسان العظيم الَّذي كانت عظمته في تواضعه لله، وفي عنفوانه أمام أعداء الله، هذا الإنسان الَّذي باع نفسه لله، فلم يبق لنفسه من نفسه على مستوى الذَّات شيء. إنّنا لا نجد لعليّ في كلّ حياته شيئاً ذاتيّاً مما يعيش فيه كلّ واحد منَّا ذاته. كان (ع) في بداية الطّفولة، يعيش ابتهالاته مع الله إلى جنب رسول الله (ص)، وكان رسول الله يغرس في عقله وفي خلقه وروحه الإسلامَ في معناه العام قبل أن ينزل الإسلام عليه، ولذلك كان عليّ (ع) مسلماً لله قبل أن يسلم، وكان دخوله في الإسلام دخولاً ينطلق من عمق الرّوح الَّتي عاشها مع الله بما عاشه مع رسول الله، وكان عليّ (ع) فارس كلّ حروب رسول الله؛ كان فارس بدر وأحد والأحزاب، وانطلقت تلك الكلمة من رسول الله في وقعة الخندق: "بَرَزَ الإيمانُ كُلُّهُ إِلَى الشِّرْكِ كُلِّهِ"، "ضَرْبَةُ عَلِيٍّ يَوْمَ الْخَنْدَقِ تَعْدِلُ عِبَادَةَ الثَّقَلَيْنِ".
وعندما خرج النَّبيّ (ص) مع المسلمين إلى معركة تبوك، ترك عليّاً (ع) في المدينة في مهمّة خاصَّة، وكان (ع) يحبّ أن يشارك في المعركة مع الرَّسول (ص)، أوّلاً ليحميه، وثانياً ليدافع عن الإسلام، وعندما سأل النَّبيَّ (ص) عن الأمر، أجاب: "أمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ منّي بِمَنزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي".
تلميذُ الرّسولِ وخليفتُه
واستمرّ عليّ مع رسول الله في اللَّيل والنَّهار، وكان يتعلَّم منه (ص)، حتَّى إنّه كان يقول إني أعرف كلَّ آية فيما نزلت وبمن نزلت وأين امتدَّت، وقال: "عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ أَلْفَ بَابٍ مِنَ الْعِلْمِ، يُفْتَحُ لِي مِنْ كُلِّ بَابٍ أَلْفُ بَابٍ"، وأكَّد ذلك رسول الله (ص) عندما قال: "أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا".
وكان عليّ (ع) مع الحقّ كلّه، ولذلك قال الرّسول (ص) عنه: "عَلِيٌّ مَعَ الْحَقِّ وَالْحَقُّ مَعَ عَلِيٍّ، يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ"، ولذلك كان أولى النَّاس برسول الله، وأولى النَّاس بخلافته، وهكذا أنزل الله على رسوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة: 67]، وجمع رسول الله المسلمين، وقال: "ألسْتُ أَوْلى بالمؤمنينَ مِن أنفُسِهم؟ - بمعنى الحاكميَّة - قالوا: بلى، قال: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه، فَعلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ".
ولكنَّ المسلمين ذهبوا بعيداً بعد رسول الله، وتحرَّكوا في اتجاه آخر، وتحرَّك الإسلام في غير الاتّجاه الَّذي بدأه من خلال هِناتٍ وهِنات، وبقي عليّ (ع) مع الإسلام، بقي وهو خارج مركزه الطَّبيعيّ الشَّرعيّ، يشير على الَّذين أبعدوه ليحمي حياتهم، ويشير عليهم ليحلَّ مشكلاتهم، ويشير عليهم من أجل أن يحفظ الإسلام في ذلك، وعاش (ع) مسؤوليَّته، وقال كلمته: "لأسالمنَّ ما سلمَتْ أمورُ المسلمين، ولم يكنْ فيها جورٌ إلَّا عليَّ خاصَّة".
القتالُ معَ الرَّسول (ص)
وكان عليّ (ع) يحدّث النَّاس بحديث قد نحتاجه، أيُّها الأحبَّة، في هذه الأيَّام، كان يحدّثهم كيف كانوا يقاتلون مع رسول الله (ص). يقول (ع): "وَلَقَدْ کُنَّا مَعَ رَسُولِ آللهِ (ص) - كيف كان المسلمون آنذاك في روحيَّتهم في الإخلاص لله ولرسوله، وكان عليّ (ع) في المقدّمة - نَقْتُلُ آبَاءَنا وَأَبْنَاءَنَا وَإخْوَانَنا وَأَعْمَامَنَا، مَا يَزِيدُنَا ذلِكَ إلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً، وَمُضِيّاً عَلَى اللَّقَمِ، وَصَبْراً عَلى مَضَضِ الألَمِ، وَجِدّاً عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ؛ وَلَقَدْ کَانَ الرَّجُلُ مِنَّا، وَالآخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا، يَتَصَاوَلاَنِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ، يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا أيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ کَأْسَ الْمَنُونِ، فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا، وَمَرَّةً لِعَدُوِّنا مِنَّا، فَلَمَّا رَأَى اللهُ صِدْقَنَا، أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْکَبْتَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ، حَتَّى اسْتَقَرَّ الإِسْلامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ، وَمُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ. وَلَعَمْرِي، لَوْ کُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ – لو كان واقعنا مثل واقعكم الآن - مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ، وَلَا اخْضَرَّ لِلإيمَانِ عُودٌ. وَأَيْمُ اللهِ، لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً، وَلَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً!".
فهل كان عليّ (ع) يتحدَّث عنَّا، ونحن نعيش مثل هذه الأخلاق الَّتي تمزّق واقعنا ومجتمعنا، والَّتي تنحرف عن الإسلام في كلّ خطوطه الأخلاقيَّة؟! هل كان عليّ يتحدَّث عنَّا، والمسلمون يحارب بعضهم بعضاً، ويكفّر بعضهم بعضاً؟ هل كان عليّ يتحدَّث عنَّا، ونحن نتحاور مع الكافرين والمستكبرين ولا نتحاور مع المسلمين؟ هل كان عليّ يتحدَّث عنّا، ونحن نختزن في قلوبنا الحقد والبغضاء للمؤمنين، وفي الوقت نفسه نفتح قلوبنا لغير المؤمنين؟!
هذا حديث عليّ لمن سقطوا في التَّجربة في عهده، وهو حديثه لمن يعيش هذه التَّجربة في هذا العصر.
المحجَّةُ الواضحة
ثمَّ يحدّثنا عليّ (ع) عمَّا يأتي من بعده، كأنَّه يريد أن يقول للنَّاس: أنا المحجَّة الواضحة، أنا الَّذي حمل الحقَّ في عقله وقلبه وفي حياته. يقول (ع):
"وَإِنَّهُ سَيَأْتي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ أَخْفَى مِنَ الْـحَقِّ، وَلا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ، وَلا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ وَرَسُولِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ، وَلا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَلا فِي الْبِلاَدِ شَيءٌ أنْكَرَ مِنَ الْـمَعْرُوفِ، وَلا أَعْرَفَ مِنَ الْـمُنكَرِ! فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ، وَتَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ؛ فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَأَهْلُهُ مَنْفِيَّانِ طَرِيْدَانِ، وَصَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ، لا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ؛ فَالْكِتَابُ وَأَهْلُهُ فِي ذلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَلَيْسَا فِيهِمْ، وَمَعَهُمْ وَلَيْسَا مَعَهُم، لأنَّ الضَّلاَلَةَ لا تُوَافِقُ الْـهُدَى وَإِنِ اجْتَمَعَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ - فهل نحن مجتمعون على الوحدة؟ - وَافْترَقُوا عَنِ الْـجَمَاعَةِ، كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ وَلَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إلَّا اسْمُهُ، وَلا يَعْرِفُونَ إلَّا خَطَّهُ وَزَبْرَهُ، وَمِنْ قَبْلُ مَا مَثَّلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ، وَسَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللهِ فِرْيَةً".
وهكذا يقول الإمام (ع): "وَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ، وَتَغَيُّبِ آجَالِهِمْ، حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْـمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْـمَعْذِرَةُ، وَتُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ، وَتَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَالنِّقْمَةُ".
إنَّ عليّاً (ع) يتحدَّث عن المرحلة الَّتي فقده النَّاس فيها، وفقدوا نهجه وإخلاصه. وعليّ (ع) يقول لكم ليست العبرة في أن تنادوا باسمي إذا ناديتم، ولكنَّ العبرة أن تعملوا بنهجي، لأنَّ عليّاً كان حقّاً كلّه، فلا يمكن أن يكون شيعة عليّ وأتباعه باطلاً كلّهم، أو أن يمزجوا بين الحقَّ والباطل.
الوصايا الأخيرة
هذه هي رسالة عليّ (ع) في ذكرى استشهاده، عليّ الّذي كانت دماؤه تنزف، وجسده يضعف، وهو في آخر لحظات حياته، ومع ذلك، كان يتوجَّه إلى النَّاس، يعظهم ويوصيهم. كان (ع) قمَّة المسؤوليَّة، كان الإنسان الَّذي لا يترك لحظةً إلّا ويعطيها جهاداً، ولا يترك إنساناً إلَّا ويعطيه علماً، ولا يترك مرحلةً إلَّا ويعطيها خطّاً وبرنامجاً. ولذلك قال لهم وهو في آخر لحظات حياته: "أَيُّهَا النَّاسُ، كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ، الْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ، وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ. كَمْ أَطْرَدْتُ الْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الْأَمْرِ، فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا إِخْفَاءَهُ، هَيْهَاتَ! عِلْمٌ مَخْزُونٌ. أَمَّا وَصِيَّتِي، فَاللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَمُحَمَّداً (ص) فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ، أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ، وَأَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ – الكتاب والسنَّة - وَخَلَاكُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا، حُمِّلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ، وَخفَّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ رَبٌّ رَحِيمٌ، وَدِينٌ قَوِيمٌ، وَإِمَامٌ عَلِيمٌ. أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ، وَأَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ، وَغَداً مُفَارِقُكُمْ... إنْ أَبْقَ فَأنَا وَلِيُّ دَمِي، وَإِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي، وَإِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ، وَهُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ، فاعْفُوا {أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ}[النّور: 22] - تعاملوا في حياتكم في كلّ خلافاتكم بالعفو، لأنَّ الله يعطي العافين عن النَّاس مغفرته وعفوه في مقابل ذلك - وَاللّهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ، وَلاَ طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ؛ وَمَا كُنْتُ إِلَّا كَقَارِبٍ وَرَدَ، وَطَالِبٍ وَجَدَ {وَمَا عِنْدَ اللّهِ خَيْرٌ لِـلْأَبْرَارِ}[آل عمران: 198]... وَدَاعِيكُم وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلاَقِي، غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي، وَيُكْشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي، وَقِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي".
كأنَّه (ع) يريد أن يقول، إنَّكم عندما تعيشون مع أئمَّتكم، فقد لا تعرفون مقامهم، ولكن بعد أن يرحلوا وتجرّبوا غيرهم، وعندما يخلو المكان منهم، وعندما تتعقَّد فيكم الأمور، وتنظرون فلا تجدون لكم مصدر وعي ورشاد، فإنَّكم تتذكَّرون من كان معكم. كان عليّ (ع) يقول ذلك وهو ينزف ويضعف، ويلتفت إلى كلّ النَّاس من حوله، وهو ينظر إليهم بكلّ وداعة وحنان، وكان يقول لهم، وهو يقترب من الاحتضار الَّذي يريد أن يلقى به وجه ربّه: "سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، وَخَفِّفُوا سُؤَالَكُمْ لِمُصِيبَةِ إِمَامِكُمْ".
على نهجِ عليّ (ع)
وعلينا دائماً أن نسأل عليّاً، فإن لم يكن معنا بجسده، إلَّا أنّه معنا بخطبه وكتبه ومواعظه ووصاياه، ليبقى عليّ عندنا مصدر إيمان ووعي وجهاد وبطولة.
التزموا عليّاً فكراً، والتزموه فكراً وروحانيّةً تنفتح على الله، والتزموه معرفةً، وهو القائل: "لَوْ كُشِفَ لِيَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِينًا"، كونوا صورة من عليّ ولو بنسبة الواحد إلى الألف:
فَتَشَبَّهوا إِنْ لَم تَكُونوا مِثلَهُم إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاحُ
"أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَلَا وَإِنَّكُمْ لا تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَعٍ – عن الحرام – وَاجْتِهَادٍ – في طاعة الله - وَعِفَّةٍ - عن كلّ ما لا يرضاه الله – وَسَدَادٍ" في الرَّأي.
فهل تعينون عليّاً؟ إنَّه يطلب مساعدتكم على أنفسكم وعلى السَّير في الخطّ.
يا سماءُ اشهَدِي ويَا أرضُ قَرِّي واخشَعِي إنَّني ذَكَرتُ عَليَّا
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله، فإنَّ التَّقوى تقودكم إلى أن يتحسَّس كلّ واحد منكم مسؤوليَّته أمام الله في الدّنيا، ليقدّم حسابه بين يدي الله في الآخرة، عندما ينطلق النّداء: {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصّافّات: 24]، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النّحل: 111].
عباد الله، انفتحوا من خلال هذه المسؤوليَّة التَّقوائيَّة على كلّ قضاياكم الَّتي هي قضايا المسلمين جميعاً، وقضايا المستضعفين جميعاً.
القدسُ: القضيَّةُ الكبرى
ونحن الآن في يوم القدس، ونريد أن نستوحي هذا اليوم في طبيعة معناه وامتداداته، وفي طبيعة كلّ القضايا الَّتي تنطلق منه وتحيط به.
إنَّ للقدسِ في وجداننا الدّينيّ معنى حركة الأنبياء مع أكثر من نبيّ، ومعنى القبلة في تاريخ أكثر من صلاة، ووحي الرّسالة في أكثر من كتاب. وبذلك كانت القدس جزءاً من شخصيَّتنا التاريخيَّة الدينيَّة الَّتي تمتدّ من الماضي لتطلَّ على الحاضر والمستقبل، فهي مهد الأنبياء، ومسرى النَّبيّ محمَّد (ص)، ومنطلق معراجه، وساحة الصّراع المرير بيننا وبين أكثر من محور عالميّ استهدف السَّيطرة عليها؛ إنَّها القضيَّة الكبرى للصّراع الدَّامي المتحرّك بكلّ قسوة، في حرب سياسيَّة وعسكريَّة بيننا وبينَ اليهود الَّذين خطَّطوا للاستيلاء عليها، وإخراج أهلها منها، وتحويلها إلى عاصمةٍ لكيانهم، بحيث اختصرت في معنى القضيَّة في داخلها، كلَّ تأريخنا المعاصر في مدى النّصف القرن الماضي، ولا تزال تمتدّ إلى أكثر من تاريخ في المستقبل.
وهذا يوم القدس الَّذي أطلقه الإمام الخميني (قده)، لتبقى القدس المدينة المقدَّسة، والقضيَّة الحيويَّة، والتَّاريخَ الحركيَّ في الوجدان، حتَّى لا تغيبَ تحت تأثير الأمر الواقع، بل تبقى هدفاً أكبر للجهاد في واقع المسلمين والعرب وطلَّاب الحريَّة في العالم، كقضيَّةٍ تختزن معنى القداسة في داخلها، ومعنى المصير في امتدادها. لهذا، كان إحياء هذا اليوم مهمَّة حيويَّة يمتزج فيها الدّينيّ بالسياسيّ، والحاضر بالمستقبل.
التَّضامنُ لتحريرِ القدس
إنَّنا في يوم القدس، نتطلَّع إلى أن يلتقي المسلمون من خلاله على الوحدة الإسلاميَّة، وينفتح النَّصارى على المسلمين، من خلال هذه القضيَّة المشتركة، على الكلمة السّواء، من أجل تحريرها الَّذي يمثّل تحرير السيّد المسيح (ع)، ومسرى النَّبيّ محمَّد (ص)، فإنَّ اليهود قد استطاعوا السَّيطرة على قدس فلسطين، وفلسطين القدس، من خلال التمزّق العربي والإٍسلاميّ.
إنَّنا نعتقد أنَّ على الجميع أن يخرجوا مسألة القدس من دائرة المدينة إلى دائرة القضيَّة، لتمتدَّ في حركتها إلى مواجهة الاستكبار العالميّ الَّذي كانت له اليد الطّولى في وصولها إلى هذا الصّعيد من السَّيطرة اليهوديَّة عليها. ثمَّ لا بدَّ من الخطَّة السياسيَّة والعسكريَّة بالتحرير في مدى الزَّمن، فلا تبقى القضيَّة معلَّقة انفعالاً تطلقه حناجر المتحمّسين، بل أن تكون خطَّة دقيقة تتحرّك في تفكير المخطّطين الحركيّين.
ونحن نجد في أيّ انطلاقة جهاديَّة لجعل الاحتلال اليهوديّ لفلسطين وما حولها، يعيش الاهتزاز في واقعه الأمنيّ والعسكريّ والسياسيّ، كما في المقاومة في لبنان، ولا سيَّما المقاومة الإسلاميَّة، والانتفاضة الإسلاميَّة في فلسطين، حركةً في هذا الاتجاه، ولا بدَّ للعرب والمسلمين أن يستهدوا هاتين النقطتين المهمّتين المضيئتين للانطلاق نحو مرحلة التَّحرير الشَّامل.
مؤامرةٌ لتهويدِ فلسطين
لا تزال في القدس المدينة بقيَّة للعرب والمسلمين، ولكنَّ اليهود يعملون على تهويدها بالتَّعاون مع أمريكا الَّتي تخطّط للضَّغط على الفلسطينيَّين والعرب، من أجل تقديم التَّنازلات باسم الواقعيَّة الَّتي تتمثَّل في المنطق الأمريكيّ بالخضوع للأمر الواقع المتمثّل بالكيان الغاصب، وبالعناوين الأمنيَّة الَّتي تفترس كلَّ أراضيهم، وتحاصر كلّ قراهم. وهذا ما لاحظناه في لقاء واشنطن الَّذي فرض فيه نتنياهو شروطه على الرَّئيس الأمريكيّ وإدارته، ما جعله يتحدَّث مع عرفات بلغة إسرائيليَّة في حديثه معه عن الواقعيَّة في تحديد الانسحابات من جهة، وفي شروطه السياسيَّة من جهة أخرى، وفي العمل على حماية أمن الكيان الصّهيونيّ من الفلسطينيّين الَّذين يريدون تحرير بلادهم باسم محاربة الإرهاب، باعتبار ذلك الشَّرط الأساس لكلّ خطوة إسرائيليَّة في اتجاه الانسحاب والتَّفاوض، مع العلم أنَّ إسرائيل أعلنت عن ثوابت نهائيَّة في تهويد القدس، وإعطاء الفلسطينيّين بعض الجزر السّكّانيَّة المحاصرة في الضفَّة الغربيَّة، مع إبقاء السيطرة الأمنيَّة للعدوّ على كلّ مفاصل الضفّة الغربيّة وغزّة، ومع إبقاء الحدود تحت سيطرة الجيش الصهيوني.
إننا نقول للفلسطينيّين، أوّلاً، في يوم القدس، لن يمنحكم اليهود شيئاً في معنى القدس ومعنى فلسطين، ونقول للعرب والمسلمين، ثانياً، لن تحصلوا من أمريكا الإسرائيليَّة على أيّ شيء. لذلك، لا بدَّ من إعادة الصّراع من جديد في السياسة والأمن والاقتصاد، لأنَّ إسرائيل وأمريكا تعملان وتخطّطان لأن تكون إسرائيل هي الأقوى، ولا سيَّما في التفوّق العسكريّ الَّذي يجعلها في موقع الخطر المستقبليّ على العرب والمسلمين، في نطاق التحالف الاستراتيجيّ بينها وبين أمريكا، الَّذي يطلّ على التحالف مع تركيا، في عمليَّة تطويقٍ لأكثر من بلد عربيّ وإسلاميّ، ما يفرض على الجميع الاستعداد للمرحلة المقبلة وحدةً أو تعاوناً أو تنسيقاً، للحفاظ على القدس المدينة والمنطقة والمستقبل.
خطرٌ على إيران
ونلاحظ أنَّ أمريكا قدَّمت في هذه الأيَّام إلى إسرائيل طائرتين من أحدث الطَّائرات الَّتي تملك إمكانيّة الوصول إلى المسافات البعيدة، ما يشكّل خطراً جديداً من إسرائيل على الجمهوريَّة الإسلاميَّة في إيران.
ضغطٌ تركيٌّ على الإسلاميّين
وليس بعيداً من ذلك، نطلّ على ما يجري في تركيا، بعد حلّ حزب الرّفاه الإسلاميّ، وتحرّك الحكومة التركيَّة لتمزيق قاعدته الإسلاميَّة، في محاولةٍ لانضمام نوَّابه إلى هذا الحزب أو ذاك، والضَّغط على الإسلاميّين بأكثر من وسيلة. إنَّنا نتصوَّر أنَّ علاقة تركيا بإسرائيل وأمريكا، لم تكن بعيدةً عن هذا الإجراء الَّذي يتنافى مع أبسط الحريَّات السياسيّة للدّيمقراطيّة في حقوق الإنسان الَّتي تنادي بها أمريكا.
إنَّنا ندعو المسلمين في تركيا إلى وعي طبيعة اللّعبة السياسيَّة وامتداداتها، ليكونوا في موقع التصدّي الواعي الَّذي يبقي القاعدة الإسلاميَّة هناك في مواقعها، ويدفع بها إلى مستقبل قويّ مشرق حركيّ واعد.
إرهاقُ المواطنِ بالضَّرائب
وأخيراً، إنَّنا لا نزال نستمع إلى النّقاشات الدَّائرة في المجلس النيابيّ، والَّتي تتحدَّث بلغة الأرقام عن الفساد المتحرّك في مفاصل الدَّولة، وعن السياسة الاقتصاديَّة الفاشلة للدَّولة المستمرَّة في الوتيرة نفسها، وبدلاً من إصلاحها، تلقي المسألة على عاتق المواطن، من خلال فرض الضَّرائب المستمرَّة، وآخرها على رسوم الميكانيك، ولا نعرف ماذا يليها، وأصبح شعار الحلّ الَّذي تطرحه الدَّولة: إمَّا الضَّرائب، وإمَّا القروض، وهو الشّعار الَّذي يقود البلد إلى المجهول، حيث لا تنمية ولا موارد إنتاجيَّة جديدة.
لقد آن الأوان لكي تتحرَّك الدَّولة بكلّ مفاصلها، في إطار خطَّة اقتصاديَّة سياسيَّة من أجل رسم المعالم الأساسيَّة لمستقبل البلد، في ظلّ الأخطار المحدقة في الدَّاخل والخارج، لأنَّ هذا السّجال الَّذي لا ينطلق من خطَّة تتعاون فيها الموالاة والمعارضة للخروج من المأزق الحاليّ، لن يفضي إلى نتائج حاسمة لمصلحة البلد في حاضره ومستقبله.
أزمةُ السَّيرِ في الضَّاحية
وأخيراً، أحبّ أن أنبّه إلى نقطة، وهي أنَّ الضَّاحية الجنوبيَّة، هذه المنطقة الَّتي تضمّ المستضعفين المشرَّدين من بلادهم، والباحثين عن لقمة عيش في غير قراهم ومواقعهم، لا تلقى من الدَّولة في خدماتها إلَّا القليل القليل.
وهناك نقطة حيويَّة مهمَّة يعانيها كلّ النَّاس، وهي مسألة أزمة السَّير الخانقة الَّتي تمنع النَّاس من التّحرّك إلى أعمالهم، قد يقولون إنَّ هناك مشاريع لمصلحة الضَّاحية في مسألة الحفريَّات، نحن لا نرفض ذلك، وإن كنَّا ننتقد هذه الخطى السلحفاتيَّة الَّتي لا تسرّع العمل بالشَّكل المطلوب، لكنَّنا نقول إنَّ هناك قوى الأمن الدّاخليّ، وهناك البلديَّات، وكلاهما يملك عناصر يمكن أن تخفّف من أزمة السَّير، على أساس نشر عناصر قوى الأمن الدَّاخليّ وشرطة البلديات، ليقفوا في المفارق هنا وهناك من أجل تنظيم السَّير، لأنَّ كثيراً من أزمة السَّير يأتي من عدم وجود من ينظّم لهم السّير، حيث يتحوَّل النَّاس في سياراتهم إلى ما يشبه الفوضى.
يومٌ للوحدة
وفي خاتمة المطاف، إنَّنا ونحن نعيش يوم القدس، نقول إنّه لا بدَّ أن يكون هذا اليوم يوم وحدة لا يوم تفرّق. ونحن نريد أن نؤكّد أنَّ يوم القدس في عمق معناه هو يوم المقاومة، فلا يجوز تحت أيّ اعتبار أن تُضعَفَ المقاومة، أو تشغل بخلافات أو هامشيَّات لا تفيد أحداً شيئاً.
إنَّ معنى القدس يعني الوحدة؛ الوحدة على مستوى الحالة الإسلاميَّة، والوحدة على مستوى كلّ الواقع العربيّ والإِسلاميّ. إنَّنا نقول {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، ونقول إنَّ القوم قد توحَّدوا على باطلهم، فلماذا لا نتوحَّد على حقّنا؟ ولماذا لا يتنازل أحدنا للآخر عمَّا يكون فيه المصلحة العليا؟!
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 23/01/ 1998م.