رمضان
21/03/2025

ليلةُ القدر: ألطافٌ إلهيَّةٌ ومضاعفةٌ للأجر

ليلةُ القدر: ألطافٌ إلهيَّةٌ ومضاعفةٌ للأجر

ليس هناك أيّ فارق مادّيّ بين زمنٍ وزمن، وبين سنةٍ وسنة، وبين يومٍ ويوم، وليلة وليلة، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي يعطي الزَّمن سرَّه، عندما يحشد فيه بعض أسراره وألطافه ورحمته. ومن هذه اللَّيالي، ليلة القدر الَّتي جعلها الله تختصر في ساعاتها ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
ميزةُ ليلةِ القدر
وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه اللَّيلة أنَّه أنزل فيها القرآن الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}(القدر: 1)، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}(الدّخان: 3)، فقد جعل الله تعالى هذه اللَّيلة ليلة مباركة، يمنح فيها عباده البركة في أرزاقهم وأوضاعهم، وفي كلّ أمورهم، بحيث يبارك النَّاس من خلال رحمته. ومن البركة الإلهيَّة، رضوان الله تعالى.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}(القدر: 2). وفي سورة القدر، نلاحظ أنَّ هناك عالماً متحركاً غيبيّاً لم يعهد النَّاس مثله، وهو أنَّه في هذه اللَّيلة، تحتشد الملائكة، فتنـزل إلى الأرض، وتنفتح على ما قدَّره الله للنَّاس، بحيث ينطلق كلُّ ملك بحسب الوظيفة الَّتي وظَّفه الله فيها، لأنَّ دور الملائكة فيما يتَّصل بالإنسان، أنَّهم {عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}(ق: 17)، وأنّهم، كما جاء في الدّعاء: "وَجَعَلْتُهُمْ شُهُودًا عَلَيَّ مَعَ جَوَارِحِي"، وهكذا في حركة الواقع الإنسانيّ كلّه.
تقديرُ أمورِ العباد
وقد ورد عن الإمام محمَّد الباقر (ع)، وقد سأله بعض أصحابه عن ليلة القدر، قال: "يُقَدِّرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلَّ شَيْءٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ.
ولتقريب الفكرة، ألا تقوم الدَّولة في كلّ سنة بوضع ميزانيَّة تتوزَّع على كلّ المشاريع الَّتي تريد أن تحقّقها في هذه السَّنة؟ فالله سبحانه وتعالى في ليلة القدر يوزّع كلَّ الخيرات والمهمَّات والأحداث والأوضاع، من هذه اللَّيلة إلى اللَّيلة الَّتي ستأتي في السَّنة المقبلة. ففي ليلة القدر، ينـزّل اللهُ الملائكةَ والرّوح الَّذي قيل إنَّه جبرائيل، وقيل إنَّه عظيم من الملائكة، ليوزّع المهمَّات.
وهكذا، يتابع الإمام (ع) كلامه - مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ - فالله تعالى يقدّر ماذا يحدث في الكون من خير أو شرّ، والشَّرّ لا يصدر عن الله تعالى، ولكنَّه يصدر عن النَّاس، فالله تعالى يعرف أنَّ النَّاس سوف يفعلون شرّاً، أو سوف يفعلون خيراً - وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ وَمَوْلُودٍ – فالله يقدّر ما يولد لهذا الإنسان أو ذاك الإنسان - وَأَجَلٍ - أيضاً يقدّر الله تعالى في هذه اللّيلة آجال النَّاس الَّذين يخرجون من الحياة فيما بين هذه اللَّيلة وتلك اللَّيلة في السَّنة المقبلة - وَرِزْقٍ. فَمَا قَدَّرَ في تِلْكَ السَّنةِ وَقَضَى، فَهُوَ المحْتُومُ، وَللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ المشِيئَةُ - لأنَّه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس: 82).
مضاعفةُ الأجرِ والثَّواب
- قَالَ: قُلْتُ لَهُ - للإمام الباقر (ع) -: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(القدر: 3)، أَيُّ شَيْءٍ عَنَى بِذَلِكَ؟ - كيف لليلة واحدة أن تكون أفضل من ألف شهر؟ قال (ع): - الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ، خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ - بحيث إنَّ الله يضاعف للإنسان في هذه اللّيلة صلاته كما لو أنَّه صلَّى في ألف شهر، ويضاعف له أجرَ الزكاة كما لو كان يزكّي في ألف شهر، ويضاعف أعمال الخير الصَّادرة عنه كما لو كانت قد صدرت عنه في ألف شهر.
ويكمل (ع) - لَوْلَا مَا يُضَاعِفُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا بَلَغُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ لَهُمْ الْحَسَنَاتِ"، فالله سبحانه وتعالى من كرمه وجوده واهتمامه بأن يتعبَّد المؤمنون له، ويخلصوا له التَّوحيد والعبادة والطَّاعة، ويتوبوا إليه من كلّ خطاياهم وسيّئاتهم، يتفضَّل عليهم بأن يضاعف لهم هذا العمل بمقدار ألف شهر.
الملائكةُ في ليلةِ القدر
{تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}(القدر: 4)، لأنَّهم عباد مكرمون، فالملائكة موظَّفون، وهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(الأنبياء: 26 - 27). ففي ليلة القدر، يأذن الله لهم بأن ينطلقوا في هذا الكون، من أجل أن يقوم كلّ واحد منهم بوظيفته ومهمَّته الَّتي جعلها الله له.
وفي الآية الثَّانية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(الدّخان: 3-5)، فالله هو الَّذي يصدر الأوامر في كلّ ما يحصل من فيوضاته وألطافه ورحماته في هذه اللَّيلة.
ليلةُ القدرِ والسَّلام
ثمَّ نقرأ: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر: 5]. هنا في هذه الحالة، هناك تفسيران، فإمَّا أنَّ المقصود بالسَّلام أنَّ الملائكة عندما ينـزلون ويصعدون، يتحركون بالسَّلام، أو أنّهم يريدون أن يحقّقوا السَّلام للإنسان، ولعلَّه سلام الرّوح، يعني أنَّهم يجعلون الإنسان يعيش في سلامٍ في عقله من جهة الحقّ الَّذي يدركه عقله، وسلامٍ في قلبه من خلال المحبَّة والخير الَّذي ينبض به قلبه، وسلامٍ في حياته من خلال حركته في الحياة مع النَّاسِ الآخرين.
تحديدُ ليلةِ القدر
أمَّا ما يتعلَّق بتحديد ليلة القدر، أيّ ليلة هي، فالنَّاس يحيون ليلة التَّاسع عشر وليلة الواحد والعشرين وليلة الثَّالث والعشرين، وهناك رواية يرويها بعض الشّيعة، وإخواننا من أهل السنَّة، أنَّها ليلة السَّابع والعشرين. بعضهم يقول إنَّ الله أخفى ليلة القدر حتّى يشتغل النَّاس بالعبادة في العشر الأواخر في كلّ هذه اللَّيالي، حتَّى يدركوا هذه اللَّيلة الخفيَّة الَّتي لم يحدّدها الله سبحانه وتعالى، وهي ليلة القدر، ولذلك ورد عندنا أنَّ على الإنسان في العشر الأواخر أن يفرّغ نفسه لعبادة الله سبحانه، وكان هذا منهج رسول الله (ص)، فكان يعتزلُ أهلَه، ويقضي اللَّيل في العبادة، باعتبار أنَّ العشر الأواخر تمثّل أفضل أيَّام الشَّهر.
ولذا، ينبغي للإنسان أن ينتهزها فرصة، فيشغل نفسه بعبادة الله وطاعته، وبأعمال الخير في هذه العشر الأواخر، حتَّى يحصل على فيوضات الله.
وكان بعض النَّاس يأتون إلى الأئمَّة من أهل البيت (ع) يسألونهم حول ليلة القدر وإحيائها، فكانوا يردّون بأنَّه لا مشكلة في إحياء ليلتين؛ ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان وليلة الثَّالث والعشرين منه.
قالَ أحدهم: "كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع)، فَقَالَ لَه أَبُو بَصِيرٍ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، اللَّيْلَةُ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا مَا يُرْجَى – أي ليلة القدر - فَقَالَ فِي إِحْدَى وعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وعِشْرِينَ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَقْوَ عَلَى كِلْتَيْهِمَا، فَقَالَ مَا أَيْسَرَ لَيْلَتَيْنِ فِيمَا تَطْلُبُ. قُلْتُ: فَرُبَّمَا رَأَيْنَا الْهِلَالَ عِنْدَنَا وجَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى. فَقَالَ: مَا أَيْسَرَ أَرْبَعَ لَيَالٍ تَطْلُبُهَا فِيهَا"، فلا مشكلة، ما دام كلّ ذلك عبادة لله.
ولذلك، أنا أحبُّ أن أنبّه كلَّ إخواننا وأخواتنا الَّذين يلتزمون مراجع نحترمهم جميعاً، أن لا يتعاطوا مع المسائل بعصبيَّة، حتَّى إنَّه، مثلاً، عندما قيل إنَّ أوَّل شهر رمضان يوم الثّلاثاء، ورأى آخرون أنَّه ليس من شهر رمضان، كان البعض يأتون إلى جماعتهم ويقولون لهم أفطروا يوم الثَّلاثاء، مع أنَّه يستحبّ للإنسان أن يوصل شعبان برمضان، ويستحبّ الصّيام يوم الشَّكّ مثلاً، لكنَّ فعل العصبيَّة يدفع البعض إلى أن يفطروا في هذا اليوم كإثبات للنَّفس، وهذا من العصبيَّة، والعصبيَّة يبغضها الله سبحانه وتعالى.
هنا توجد رواية تعتمد في هذا المجال عن الإمام محمَّد الباقر (ع)، عندما سئل: في أيّ ليلة تكون ليلة القدر؟ قال لهم الإمام (ع): "إنَّ الجُهَنِيَّ أتى إلى رَسولِ اللّهِ (ص) فَقالَ لَهُ: يا رَسولَ اللّهِ، إنَّ لي إبِلًا وغَنَما وغِلمَةً، فَأحِبُّ أن تَأمُرَني لَيلَةً أدخُلُ فيها فَأَشهَدُ الصَّلاةَ، وذلِكَ في شَهرِ رَمَضانَ، فَدَعاهُ رَسولُ اللّهِ (ص) فَسارَّهُ في أذُنِهِ. قالَ: فَكانَ الجُهَنِيُّ إذا كانَت لَيلَةُ ثَلاثٍ وعِشرينَ، دَخَلَ بِإِبِلِهِ وغَنَمِهِ وأهلِهِ ووُلدِهِ وغِلمَتِهِ، فَكانَ تِلكَ اللَّيلَةُ لَيلَةَ ثَلاثٍ وعِشرينَ بِالمَدينَةِ، فَإِذا أصبَحَ، خَرَجَ بِأَهلِهِ وغَنَمِهِ وإبِلِهِ إلى مَكانِهِ".
ليلة السَّلام
وعندما نقرأ في آخر هذه السّورة {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، نستوحي منها أنَّ على الإنسان في ليلة القدر أن يفرّغ نفسه من كلّ إحساس بالعداوة والبغضاء والحقد وما إلى ذلك، بل أن ينطلق قلبه ليكون قلب الخير والمحبَّة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يحبّ الَّذين يحبّون النَّاس ولا يضمرون لهم أيّ شرّ، ونحن نقرأ في حديث النَّبيّ (ص): "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِهَا".
تحيَّةُ السَّلام
وعلينا أن نتدرّب على كلمة السَّلام وروحيَّة السَّلام، حتَّى إذا قسم الله تعالى لنا الجنَّة، نكون مدرَّبين على السَّلام، ألا نقول في إلقاء التّحيَّة: صباح الخير ومساء الخير، أو نأتي ببعض الكلمات من الفرنسيَّة والإنكليزيَّة؟ ولكنَّ القرآن يقول: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}[يونس: 10]، والملائكة عندما يدخلون على المؤمنين ويزورونهم يقولون لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(الرَّعد: 24).
ولذلك، علينا أيُّها الأحبَّة، استيحاءً من ذلك، أن نؤكّد تقاليدنا الإسلاميَّة. صحيح أنَّنا نعيش في مجتمعٍ مختلط، وهذا المجتمع المختلط قد لا يكون مستعدّاً أن يعتمد هذه الكلمة، مع أنّها كلمة تعتبر إنسانيَّة عامَّة، ولكن علينا نحن، على الأقلّ، أن نعتمد هذه التَّحيَّة فيما بيننا.
أنت عندما تلتقي بشخص وتقول له: السَّلام عليكم، فإنَّك بذلك تقول له أنا مسالمٌ لك ولست محارباً، وأنا محبّ لك. بعض المسيحيّين في بعض المؤتمرات رفضوا أن يبدأ مؤتمر مقارنة الأديان بـ "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم"، ولكنّي أسأل: ألا تعتقدون بالله، وأنتم تقولون نحن نعتقد بالله، فإذا كنتم تعتقدون بالله، فلماذا ترفضون كلمة "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم".
لذلك، علينا، أيَّها الأحبَّة، أن نؤكّد الشَّخصيَّة الإسلاميَّة في الالتزام بتعاليم الإسلام، سواء كان ذلك في التَّحيَّة، أو في غيرها مما أراد الله تعالى لنا أن نتكلَّم به.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصَّالحين على أنفسهم، وأن يسلك بنا سبيل الصَّالحين، وأن يتقبَّل أعمالنا جميعاً، وأن يكشف هذه الغمَّة عن هذه الأمَّة، وأن ينصر المجاهدين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا سيَّما في لبنان وفلسطين، وأن ينطلق النَّاس ليعيشوا روحيَّة المقاومة وثقافتها، وثقافة الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
* موعظة رمضانيَّة لسماحته، بتاريخ: 23 - 9- 2008م / الموافق 23 شهر رمضان 1429هـ.
 
ليس هناك أيّ فارق مادّيّ بين زمنٍ وزمن، وبين سنةٍ وسنة، وبين يومٍ ويوم، وليلة وليلة، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي يعطي الزَّمن سرَّه، عندما يحشد فيه بعض أسراره وألطافه ورحمته. ومن هذه اللَّيالي، ليلة القدر الَّتي جعلها الله تختصر في ساعاتها ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
ميزةُ ليلةِ القدر
وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه اللَّيلة أنَّه أنزل فيها القرآن الكريم: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ}(القدر: 1)، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}(الدّخان: 3)، فقد جعل الله تعالى هذه اللَّيلة ليلة مباركة، يمنح فيها عباده البركة في أرزاقهم وأوضاعهم، وفي كلّ أمورهم، بحيث يبارك النَّاس من خلال رحمته. ومن البركة الإلهيَّة، رضوان الله تعالى.
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}(القدر: 2). وفي سورة القدر، نلاحظ أنَّ هناك عالماً متحركاً غيبيّاً لم يعهد النَّاس مثله، وهو أنَّه في هذه اللَّيلة، تحتشد الملائكة، فتنـزل إلى الأرض، وتنفتح على ما قدَّره الله للنَّاس، بحيث ينطلق كلُّ ملك بحسب الوظيفة الَّتي وظَّفه الله فيها، لأنَّ دور الملائكة فيما يتَّصل بالإنسان، أنَّهم {عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}(ق: 17)، وأنّهم، كما جاء في الدّعاء: "وَجَعَلْتُهُمْ شُهُودًا عَلَيَّ مَعَ جَوَارِحِي"، وهكذا في حركة الواقع الإنسانيّ كلّه.
تقديرُ أمورِ العباد
وقد ورد عن الإمام محمَّد الباقر (ع)، وقد سأله بعض أصحابه عن ليلة القدر، قال: "يُقَدِّرُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ كُلَّ شَيْءٍ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهَا مِنْ قَابِلٍ.
ولتقريب الفكرة، ألا تقوم الدَّولة في كلّ سنة بوضع ميزانيَّة تتوزَّع على كلّ المشاريع الَّتي تريد أن تحقّقها في هذه السَّنة؟ فالله سبحانه وتعالى في ليلة القدر يوزّع كلَّ الخيرات والمهمَّات والأحداث والأوضاع، من هذه اللَّيلة إلى اللَّيلة الَّتي ستأتي في السَّنة المقبلة. ففي ليلة القدر، ينـزّل اللهُ الملائكةَ والرّوح الَّذي قيل إنَّه جبرائيل، وقيل إنَّه عظيم من الملائكة، ليوزّع المهمَّات.
وهكذا، يتابع الإمام (ع) كلامه - مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ - فالله تعالى يقدّر ماذا يحدث في الكون من خير أو شرّ، والشَّرّ لا يصدر عن الله تعالى، ولكنَّه يصدر عن النَّاس، فالله تعالى يعرف أنَّ النَّاس سوف يفعلون شرّاً، أو سوف يفعلون خيراً - وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ وَمَوْلُودٍ – فالله يقدّر ما يولد لهذا الإنسان أو ذاك الإنسان - وَأَجَلٍ - أيضاً يقدّر الله تعالى في هذه اللّيلة آجال النَّاس الَّذين يخرجون من الحياة فيما بين هذه اللَّيلة وتلك اللَّيلة في السَّنة المقبلة - وَرِزْقٍ. فَمَا قَدَّرَ في تِلْكَ السَّنةِ وَقَضَى، فَهُوَ المحْتُومُ، وَللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ المشِيئَةُ - لأنَّه {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}(يس: 82).
مضاعفةُ الأجرِ والثَّواب
- قَالَ: قُلْتُ لَهُ - للإمام الباقر (ع) -: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}(القدر: 3)، أَيُّ شَيْءٍ عَنَى بِذَلِكَ؟ - كيف لليلة واحدة أن تكون أفضل من ألف شهر؟ قال (ع): - الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا مِنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَأَنْوَاعِ الْخَيْرِ، خَيْرٌ مِنَ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ - بحيث إنَّ الله يضاعف للإنسان في هذه اللّيلة صلاته كما لو أنَّه صلَّى في ألف شهر، ويضاعف له أجرَ الزكاة كما لو كان يزكّي في ألف شهر، ويضاعف أعمال الخير الصَّادرة عنه كما لو كانت قد صدرت عنه في ألف شهر.
ويكمل (ع) - لَوْلَا مَا يُضَاعِفُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، مَا بَلَغُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ لَهُمْ الْحَسَنَاتِ"، فالله سبحانه وتعالى من كرمه وجوده واهتمامه بأن يتعبَّد المؤمنون له، ويخلصوا له التَّوحيد والعبادة والطَّاعة، ويتوبوا إليه من كلّ خطاياهم وسيّئاتهم، يتفضَّل عليهم بأن يضاعف لهم هذا العمل بمقدار ألف شهر.
الملائكةُ في ليلةِ القدر
{تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}(القدر: 4)، لأنَّهم عباد مكرمون، فالملائكة موظَّفون، وهم {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}(الأنبياء: 26 - 27). ففي ليلة القدر، يأذن الله لهم بأن ينطلقوا في هذا الكون، من أجل أن يقوم كلّ واحد منهم بوظيفته ومهمَّته الَّتي جعلها الله له.
وفي الآية الثَّانية: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}(الدّخان: 3-5)، فالله هو الَّذي يصدر الأوامر في كلّ ما يحصل من فيوضاته وألطافه ورحماته في هذه اللَّيلة.
ليلةُ القدرِ والسَّلام
ثمَّ نقرأ: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر: 5]. هنا في هذه الحالة، هناك تفسيران، فإمَّا أنَّ المقصود بالسَّلام أنَّ الملائكة عندما ينـزلون ويصعدون، يتحركون بالسَّلام، أو أنّهم يريدون أن يحقّقوا السَّلام للإنسان، ولعلَّه سلام الرّوح، يعني أنَّهم يجعلون الإنسان يعيش في سلامٍ في عقله من جهة الحقّ الَّذي يدركه عقله، وسلامٍ في قلبه من خلال المحبَّة والخير الَّذي ينبض به قلبه، وسلامٍ في حياته من خلال حركته في الحياة مع النَّاسِ الآخرين.
تحديدُ ليلةِ القدر
أمَّا ما يتعلَّق بتحديد ليلة القدر، أيّ ليلة هي، فالنَّاس يحيون ليلة التَّاسع عشر وليلة الواحد والعشرين وليلة الثَّالث والعشرين، وهناك رواية يرويها بعض الشّيعة، وإخواننا من أهل السنَّة، أنَّها ليلة السَّابع والعشرين. بعضهم يقول إنَّ الله أخفى ليلة القدر حتّى يشتغل النَّاس بالعبادة في العشر الأواخر في كلّ هذه اللَّيالي، حتَّى يدركوا هذه اللَّيلة الخفيَّة الَّتي لم يحدّدها الله سبحانه وتعالى، وهي ليلة القدر، ولذلك ورد عندنا أنَّ على الإنسان في العشر الأواخر أن يفرّغ نفسه لعبادة الله سبحانه، وكان هذا منهج رسول الله (ص)، فكان يعتزلُ أهلَه، ويقضي اللَّيل في العبادة، باعتبار أنَّ العشر الأواخر تمثّل أفضل أيَّام الشَّهر.
ولذا، ينبغي للإنسان أن ينتهزها فرصة، فيشغل نفسه بعبادة الله وطاعته، وبأعمال الخير في هذه العشر الأواخر، حتَّى يحصل على فيوضات الله.
وكان بعض النَّاس يأتون إلى الأئمَّة من أهل البيت (ع) يسألونهم حول ليلة القدر وإحيائها، فكانوا يردّون بأنَّه لا مشكلة في إحياء ليلتين؛ ليلة الواحد والعشرين من شهر رمضان وليلة الثَّالث والعشرين منه.
قالَ أحدهم: "كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع)، فَقَالَ لَه أَبُو بَصِيرٍ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، اللَّيْلَةُ الَّتِي يُرْجَى فِيهَا مَا يُرْجَى – أي ليلة القدر - فَقَالَ فِي إِحْدَى وعِشْرِينَ أَوْ ثَلَاثٍ وعِشْرِينَ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ أَقْوَ عَلَى كِلْتَيْهِمَا، فَقَالَ مَا أَيْسَرَ لَيْلَتَيْنِ فِيمَا تَطْلُبُ. قُلْتُ: فَرُبَّمَا رَأَيْنَا الْهِلَالَ عِنْدَنَا وجَاءَنَا مَنْ يُخْبِرُنَا بِخِلَافِ ذَلِكَ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى. فَقَالَ: مَا أَيْسَرَ أَرْبَعَ لَيَالٍ تَطْلُبُهَا فِيهَا"، فلا مشكلة، ما دام كلّ ذلك عبادة لله.
ولذلك، أنا أحبُّ أن أنبّه كلَّ إخواننا وأخواتنا الَّذين يلتزمون مراجع نحترمهم جميعاً، أن لا يتعاطوا مع المسائل بعصبيَّة، حتَّى إنَّه، مثلاً، عندما قيل إنَّ أوَّل شهر رمضان يوم الثّلاثاء، ورأى آخرون أنَّه ليس من شهر رمضان، كان البعض يأتون إلى جماعتهم ويقولون لهم أفطروا يوم الثَّلاثاء، مع أنَّه يستحبّ للإنسان أن يوصل شعبان برمضان، ويستحبّ الصّيام يوم الشَّكّ مثلاً، لكنَّ فعل العصبيَّة يدفع البعض إلى أن يفطروا في هذا اليوم كإثبات للنَّفس، وهذا من العصبيَّة، والعصبيَّة يبغضها الله سبحانه وتعالى.
هنا توجد رواية تعتمد في هذا المجال عن الإمام محمَّد الباقر (ع)، عندما سئل: في أيّ ليلة تكون ليلة القدر؟ قال لهم الإمام (ع): "إنَّ الجُهَنِيَّ أتى إلى رَسولِ اللّهِ (ص) فَقالَ لَهُ: يا رَسولَ اللّهِ، إنَّ لي إبِلًا وغَنَما وغِلمَةً، فَأحِبُّ أن تَأمُرَني لَيلَةً أدخُلُ فيها فَأَشهَدُ الصَّلاةَ، وذلِكَ في شَهرِ رَمَضانَ، فَدَعاهُ رَسولُ اللّهِ (ص) فَسارَّهُ في أذُنِهِ. قالَ: فَكانَ الجُهَنِيُّ إذا كانَت لَيلَةُ ثَلاثٍ وعِشرينَ، دَخَلَ بِإِبِلِهِ وغَنَمِهِ وأهلِهِ ووُلدِهِ وغِلمَتِهِ، فَكانَ تِلكَ اللَّيلَةُ لَيلَةَ ثَلاثٍ وعِشرينَ بِالمَدينَةِ، فَإِذا أصبَحَ، خَرَجَ بِأَهلِهِ وغَنَمِهِ وإبِلِهِ إلى مَكانِهِ".
ليلة السَّلام
وعندما نقرأ في آخر هذه السّورة {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}، نستوحي منها أنَّ على الإنسان في ليلة القدر أن يفرّغ نفسه من كلّ إحساس بالعداوة والبغضاء والحقد وما إلى ذلك، بل أن ينطلق قلبه ليكون قلب الخير والمحبَّة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يحبّ الَّذين يحبّون النَّاس ولا يضمرون لهم أيّ شرّ، ونحن نقرأ في حديث النَّبيّ (ص): "لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَيَكْرَهُ لَهُ مَا يَكْرَهُ لِهَا".
تحيَّةُ السَّلام
وعلينا أن نتدرّب على كلمة السَّلام وروحيَّة السَّلام، حتَّى إذا قسم الله تعالى لنا الجنَّة، نكون مدرَّبين على السَّلام، ألا نقول في إلقاء التّحيَّة: صباح الخير ومساء الخير، أو نأتي ببعض الكلمات من الفرنسيَّة والإنكليزيَّة؟ ولكنَّ القرآن يقول: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ}[يونس: 10]، والملائكة عندما يدخلون على المؤمنين ويزورونهم يقولون لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}(الرَّعد: 24).
ولذلك، علينا أيُّها الأحبَّة، استيحاءً من ذلك، أن نؤكّد تقاليدنا الإسلاميَّة. صحيح أنَّنا نعيش في مجتمعٍ مختلط، وهذا المجتمع المختلط قد لا يكون مستعدّاً أن يعتمد هذه الكلمة، مع أنّها كلمة تعتبر إنسانيَّة عامَّة، ولكن علينا نحن، على الأقلّ، أن نعتمد هذه التَّحيَّة فيما بيننا.
أنت عندما تلتقي بشخص وتقول له: السَّلام عليكم، فإنَّك بذلك تقول له أنا مسالمٌ لك ولست محارباً، وأنا محبّ لك. بعض المسيحيّين في بعض المؤتمرات رفضوا أن يبدأ مؤتمر مقارنة الأديان بـ "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم"، ولكنّي أسأل: ألا تعتقدون بالله، وأنتم تقولون نحن نعتقد بالله، فإذا كنتم تعتقدون بالله، فلماذا ترفضون كلمة "بسم الله الرَّحمن الرَّحيم".
لذلك، علينا، أيَّها الأحبَّة، أن نؤكّد الشَّخصيَّة الإسلاميَّة في الالتزام بتعاليم الإسلام، سواء كان ذلك في التَّحيَّة، أو في غيرها مما أراد الله تعالى لنا أن نتكلَّم به.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصَّالحين على أنفسهم، وأن يسلك بنا سبيل الصَّالحين، وأن يتقبَّل أعمالنا جميعاً، وأن يكشف هذه الغمَّة عن هذه الأمَّة، وأن ينصر المجاهدين في مشارق الأرض ومغاربها، ولا سيَّما في لبنان وفلسطين، وأن ينطلق النَّاس ليعيشوا روحيَّة المقاومة وثقافتها، وثقافة الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى.
* موعظة رمضانيَّة لسماحته، بتاريخ: 23 - 9- 2008م / الموافق 23 شهر رمضان 1429هـ.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية