حديثنا في هذا اليوم عن فريق من النّاس فقدوا الأب، وربما فقدوا الأمّ معه، وهو فريق الأيتام، لأنَّ هذا الفريق يمثّل الإنسان الَّذي أراد الله للمجتمع كلّه أن يتولَّى أبوّته له ورعايته وحمايته وحفظه وتدبير أموره، من أجل أن ينشأ إنسانا ًصالحاً قويّاً عاملاً يمكن له أن يعطي الكثير لأمَّته ولمجتمعه.
ونحن هنا في البداية، نستعرض آيات الله في القرآن الكريم، كيف وجَّهنا الله للتَّعامل مع اليتيم كشخص، ثمّ مع أموال اليتيم في حال يتمه، ثمّ مع أموال اليتيم بعد أن يبلغ ويرشد، ثمّ بعد ذلك، نستعرض بعض كلمات النَّبيّ (ص) مما رواه الرواة عنه، وبعض كلمات أئمَّة أهل البيت (ع)، وكلامهم كلام رسول الله (ص)، وخطّهم خطّه.
حديثُ القرآنِ عن اليتيم
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}[الضّحى: 9].
إنّ هذه الآية توحي بأنَّ طبيعة اليتم قد تشجّع الكثير من النَّاس على قهر اليتيم، لأنَّه ضعيفٌ لا يملك قوّة الطّفل الَّذي يملك أباً. ومن هنا، فإنَّ النَّاس المعقَّدين قد يأخذون حرّيتهم في قهره إذا اصطدم الولد اليتيم مع أولادهم، لأنَّهم يعتبرون أنَّه ليس له مَنْ يدافع عنه، أو إذا أرادوا رعاية الواقع من حولهم.
إنَّ النَّاس غالباً ما تميل إلى قهر الضّعيف، يقول الشَّاعر:
والظُّلمُ مِن شِيَمِ النُّفوسِ فَإِن تَجِدْ ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ
ولهذا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى وجَّه هذا النِّداء: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}، لا تقهره في جسده لتؤذيه في جسده، ولا تقهره في معنويَّاته لتذلّه ولتسيء إلى معنويَّاته بالكلمات القاسية، لا تضغط ظروفه لتحاصره فيها، فتمنعه من أن يفتح لنفسه أبواب الحياة الواسعة، لا تقهر موقعه ومركزه، لا تقهر عقله لتمنعه من أن ينمّي عقله بالعلم، افسح له المجال لأن يتعلَّم... وهكذا، لا تقهره في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه لتحرمه من ذلك كلّه.
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}، كن رفيقاً به - هذه إيحاءات الآية - كن حنوناً عليه، ارحم ضعفه، وارحم هذه الحالة النفسيَّة الَّتي يعيشها من خلال فقده لأبيه، وربما لأمّه، كن إنساناً معه، لا تقهر إنسانيَّته بوحشيَّة طبعك وبعقدة ذاتك.
وهكذا، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وهذا الميثاق ليس مختصّاً بهم، ولكنَّه ميثاقٌ أخذه الله في رسالته على كلّ النَّاس - لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ}[البقرة: 83]، أن تحسنوا إلى هذه الفئات الّتي لا تملك فرصة العيش الكريم.
إنَّ أخذ الله الميثاق، معناه أنَّ هذا عهدٌ أخذه الله على عباده، كما عندما يدخل الإنسان في عهدٍ مع شخص آخر، ألا يلتزم بعهده وعقده معه، فكيف إذا كان العهد مع الله؟! {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، فقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل وعلى النَّاس كافَّة بالإحسان إلى الأيتام، بكلّ ما تعنيه كلمة الإحسان من الإحسان إلى عقله بالعلم، وإلى قلبه بالعاطفة، وإلى حياته بالرّعاية لكلّ المجالات العامَّة والخاصَّة.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ}[البقرة: 177]، أن تعطي من مالك للأيتام ما تسدُّ به جوعتهم، وتكسو بهم عورتهم، وتهيَّئ لهم المسكن اللَّائق والعيش الكريم.
ويقول الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ - كان المسلمون يسألون النّبيّ (ص) عن اليتامى، كأنَّهم يتحرَّجون من وجودهم بينهم، فيسألون ما العنوان الكبير الَّذي لا بدَّ لهم أن ينفتحوا عليه في حياتهم مع اليتامى - قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ.
أن تعملوا كمجتمع على أن تصلحوا أمرهم. ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ كلمة الإصلاح هي كلمة تشمل وجود الإنسان كلّه في كلّ مجالاته، فإصلاح الإنسان بتنمية عقله، وبإدخال الفرح والتَّوازن في العاطفة في قلبه، وبأن ننهج به الطَّريق المستقيم في حياته وعمله...
- وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ – بمعنى خالطوهم كما تخالطون إخوتكم، فكما تخالطون إخوتكم في الدّين، خالطوا اليتامى بالرّفق والمحبَّة، على أساس أنَّهم إخوانكم في الدّين - وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ - لفرض عليكم الكثير من المشقَّات، ولكنَّ الله لا يريد أن يشقَّ عليكم، بل جعل لكم خطّاً واضحاً طبيعياً يمكن لكلِّ إنسان أن يمارسه بحسب قدرته وبحسب ظروفه - وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ - فالله عندما يقول: {إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}، يعني أنّ الله مطّلع عليكم، فإذا أصلحتم، فإنَّ الله يعلم إصلاحكم، وإذا أفسدتم فإنَّ الله يعلم إفسادكم - إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة: 220].
هذه الآيات التي يريد الله أن يحمّلنا من خلالها مسؤوليَّة رعاية اليتيم في عقله وقلبه وحياته، بإصلاح أمره، والابتعاد عن قهره، وبالإحسان إليه.
أحاديثُ عن رعايةِ اليتيم
تعالوا في هذه النقطة نستمع إلى كلمات النَّبيّ (ص) والأئمَّة من أهل البيت (ع).
من وصايا أمير المؤمنين (ع): "أَللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ - وكلمة (الله الله) تستعمل للاستغاثة، ونحن نعرف أنَّ الاستغاثة إنَّما تكون في الأمور العظيمة والخطرة والمهمَّة. فعندما يقول الإمام (ع): "الله الله"، فكأنّه يريد أن يثير النَّاس، ويقول لهم اتَّقوا الله، وراقبوا الله في الأيتام - فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ - والغبّ هو فعل شيء يوماً وتركه يوماً، يقال: "زُرْ غبّاً تَزْدَدْ حُبّاً"، بمعنى أن تكون زيارتك يومًا بعد يوم وليس كلَّ يوم، فالإمام (ع) يقول لا تجعلوا إطعامكم لهم بأن يأكلوا يوماً ويجوعوا يوماً، بل أن يأكلوا دائماً.
- وَلَا يَضِيعُوا بِحَضرَتِكُمْ"، كيف يضيع اليتيم؟ إذا تركناه وأهملناه وأهملنا تربيته، فيمكن أن يضيع في الطّرقات ومع المجرمين، فالإمام (ع) يقول: ما دمتم موجودين، فوصيَّتي لكم أن لا يضيع الأيتام بحضرتكم، بل إنَّ عليكم أن تحوطوهم بالرعاية والحماية والتربية والتوجيه.
ويتحدَّث الإمام (سلام الله عليه) عمّا سمع من رسول الله (ص)، وهذه فيها بشارة، ولكنّها تحتاج إلى شيء من الكرم والجهد. يقول (ع): "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (ص) يَقُولُ: مَنْ عَالَ يَتِيماً حَتَّى يَسْتَغْنِيَ، أَوْجَبَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَه بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، كَمَا أَوْجَبَ لآِكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ النَّارَ"، كما يأتي في الآية الثّانية.
فعلى الإنسان الّذي يعول يتيماً، أن يعتبر وكأنّه رزق بولدٍ جديد، ألا تصرف على ولدك إلى أن يستغني عنك؟! فالنَّبيّ (ص) يقول إنّك إذا أعنت يتيماً ورعيته حتى يصبح رجلاً قادراً على رعاية حياته والاستقلال بها، فإنَّ الله يوجب لك بذلك الجنَّة.
هذا حديث، وهناك حديث ثانٍ أيضاً عن رسول الله (ص): "كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ"، فإذا زرعت في اليتيم كلَّ المعاني الطيّبة، تحصد رضوان الله سبحانه.
وهناك بعض الأشياء المستحبَّة في التّعامل مع اليتيم، كالمسح على رأسه، دلالة على الحنان والعاطفة. وفي حديث عن الإمام عليّ (ع): "ما مِن مُؤمِنٍ ولا مُؤمِنَةٍ يَضَعُ يَدَهُ عَلى رَأسِ يَتيمٍ تَرَحُّماً لَهُ، إِلَّا كَتَبَ اللّه لَهُ بِكُلِّ شَعرَةٍ مَرَّت يَدُهُ عَلَيها حَسَنَةً".
وعن النَّبيّ (ص): "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا. وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا".
وعنه (ص): "إنَّ في الجَنَّةِ داراً يُقالُ لَها دارُ الفَرَحِ، لا يَدخُلُها إلّا مَن فَرَّحَ يَتامَى المؤمنينَ".
وقال (ص): "مَنْ قَبَضَ يَتِيماً مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَلبَتَّة، إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ لَهُ"، يعني إلَّا في حال الشّرك بالله، فإذا كانت ذنوبه بسيطة، وعال يتيماً، وتكفّل بطعامه وشرابه، أدخله الله الجنّة.
"مَنْ عَالَ ثَلَاثَةً مِنْ الْأَيْتَامِ، كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ، وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِرًا سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَيْنِ كَمَا أنَّ هَاتَيْنِ أُخْتَانِ. وَأَلْصَقَ إِصْبَعَيْهِ السّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى"، فأيّ عظمة أعظم من أن تكون أخاً لرسول الله (ص)؟!
عن أبي الدّرداء قال: "أتَى النَّبيَّ (ص) رجلٌ يشكو قسوةَ قلبِهِ، قالَ (ص): أتحِبُّ أن يلينَ قلبُكَ وتُدرِكَ حاجتَك؟ ارحَمِ اليتيمَ، وامسَحْ رأسَهُ، وأطعِمْهُ منْ طعامِكَ، يلِنْ قلبُكَ، وتُدرِكْ حاجتَكَ".
مسؤوليّةُ حفظِ مالِ اليتيم
هذا فيما يتعلّق بجانب رعاية اليتيم وكفالته والرّحمة به والإحسان إليه.
تعالوا لنرى كيف نصنع بمال الأيتام. فقد يموت الأب، ويكون هناك الجدّ الّذي هو الوليّ الشَّرعيّ، وربما يستغلّ هذا الجدّ ضعف هذا اليتيم، فيتصرَّف في ماله بما يضيِّع ماله، أو يدفع بماله إلى أحد أولاده الَّذي لا أمانة له، وهذه أمورٌ تحصل كثيراً في مجتمعاتنا.
يقول الله سبحانه في هذا المجال: {وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ - عندما يبلغون - وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ - بأن تأخذوا المال الجيّد وتبدّلوه بالخبيث - وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ - بمعنى أن تسيطروا على أموالهم - إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النساء: 2] يعني ذنباً كبيراً.
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا – وانتبهوا إلى هذه الآية، فهي صعبة كثيراً، فقد تأكل مال اليتيم باعتبار أنَّه ضعيف ولا يستطيع أن يحاسبك، وأنت قد تكون الجدَّ أو العمَّ، أو في بعض الحالات، بعض المحاكم الّتي تضع أموال اليتامى عندها وتتصرَّف فيه بطريقة من الطّرق - إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا - تتحوَّل إلى نار - وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النّساء: 10]، فهذا يوجب دخول النّار لأنّه من الكبائر. قد تحصل على بعض المال في الدّنيا، ولكنّ هذا الأمر يؤدّي بك إلى نار جهنّم.
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ - إذا كان تحت تصرّفكم - إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الأنعام: 152].
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى - إذا صار اليتيم قريباً من سنّ البلوغ، اختبره لترى إذا كان قادراً على إدارة أموره بنفسه - حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ – إذا بلغ اليتيم الذّكر أو الأنثى سنّ البلوغ - فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا – رأيت عندهم القدرة على إدارة أمورهم - فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا - لا تستغلّ حالة عدم بلوغ اليتيم وضعفه لتأكل ماله في هذه الحالة - وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ – فالّذي يرعى مال اليتيم ويحميه، إذا كان مكتفياً فليستعفف ولا يأكل من هذا المال - وَمَن كَانَ فَقِيرًا – إذا كان فقيراً ويبذل الوقت في رعاية هذا اليتيم ورعاية شؤونه - فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ - حتّى تتخلّصوا من المسؤوليَّة - وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}[النساء: 6].
عاقبة أكل مال اليتيم
هذه الآيات الّتي تتَّصل بمال اليتيم. فلنلاحظ ماذا قال رسول الله (ص) في هذا الموضوع، في الحديث عن الّذين يأكلون مال اليتيم: "شرُّ المآكلِ أكلُ مالِ اليتيمِ".
وعن أبي جعفر (ع) قال رسول الله (ص): "يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا. فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (ص): أَلَمْ تَرَ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}؟!".
وعن أبي سعيد الخدري، قال: "رأيْتُ قوماً لهم مشافرُ كمشافرِ الإبلِ، وقد وكِّلَ بهم من يأخذُ بمشافرِهم، ثمَّ يجعلُ في أفواهِهم صخراً من نارٍ يخرجُ من أسافلِهم، فقلْتُ: يا جبريلُ، مَنْ هؤلاء؟ قال: هم الَّذين يأكلون أموالَ اليتامى ظلماً".
وعن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (ع)، قال: "سألْتُهُ عن الكبائرِ، فقالَ: منها أكلُ مالِ اليتيمِ ظلماً".
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، في نهاية المطاف في خطبة فاطمة الزهراء (ع): "فَرَضَ اللَّهُ مُجانَبَةَ أكلِ أموالِ اليَتامى إجارَةً مِن الظُّلمِ"، حتَّى لا يُظلَم الضعفاء كالأيتام في حياة النَّاس.
أيُّها الأحبَّة، هذه المسألة من المسائل التي أعطاها الله سبحانه وتعالى الكثير من الأهميَّة، بحيث جعلها من أفضل الأعمال الَّتي توجب دخول الجنَّة، كما أنَّ أكل مال اليتيم يوجب دخول النار، ولذلك لا بدّ من مراعاة حال الأيتام.
الولايةُ على اليتيمِ وحضانتُه
وعلينا أن نعرف حقيقة على هذا الهامش، وهي أنّ اليتيم إذا مات أبوه، فجدّه لأبيه هو وليّه، فإذا لم يكن جدٌّ لأبيه، فوليّه الشَّرعيّ هو الحاكم الشَّرعيّ المجتهد العادل، فلا يجوز لأمِّه ولا لعمِّه ولا لأخيه أن يتصرَّفوا في ماله، إلَّا إذا كان أبوه قد أوصى سابقاً، أو إذا أجازه الحاكم الشَّرعيّ في ذلك.
نقطة ثانية، وهي الآن محلّ ابتلاء، الآن هناك الكثير من الشباب يستشهدون في المعارك أو يموتون، في هذه الصورة، قد يعمل أهل الأب على أن يأخذوا أولاده من أمّهم، ولكنّ الحكم الشَّرعيّ الذي يُجمِع عليه كلُّ الفقهاء، أنّ الحضانة عند موت الأب للأمّ.. الولاية للجدّ في التصرف في الأموال، لكن لا يجوز أن يؤخذ الولد من أمّه إذا مات أبوه، حتَّى لو تزوَّجت، ومن أخَذَ الولدَ من أحضان أمّه بعد موت أبيه نتيجة قوَّة، كان ظالماً لها شرعاً. وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، أيّاً كان من تقلِّد، ففي حياة الأب، هناك من يقول إنَّ الحضانة للأمّ في عمر السنتين، وهناك من يقول في عمر السبع سنوات، ولكن بعد وفاة الأب، الحضانة للأمّ حتَّى يبلغ، ولا يجوز لأهل الأب أن يأخذوا الولد منها إلَّا برضاها.
هذا، أيُّها الأحبَّة، هو الخطّ الإسلاميّ في ذلك، علينا كمجتمع أن نرعى الأيتام، سواء كانت رعايتهم في بيوتهم، أو كانت عبر المؤسَّسات الخيريَّة التي ترعى الأيتام وتنفق عليهم، لأنَّ هذه المسؤوليّة هي مسؤوليَّة المجتمع كلّه، لا مسؤوليَّة شخص معيَّن، ولا مسؤوليَّة جمعيَّة معيَّنة، ولا جهة معيَّنة، إنَّها مسؤوليتكم جميعاً، لأنَّ الأيتام مسؤوليتنا جميعاً أمام الله وأمام الناس، وكما قال رسول الله (ص): "وتَحَنَّنوا عَلَى أيتامِ النّاسِ يُتَحَنَّن عَلَى أيتامِكُم"، "وَمَن أكرَمَ فيهِ يَتِيمًا – في شهر رمضان وفي غيره من الشّهور - أكرَمَهُ اللهُ يَومَ يَلقاهُ".
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتقوا الله في كلِّ ما تعيشونه في مجتمعكم من حالات صعبة، كحالات الفقراء والأيتام والمساكين وأبناء السبيل، فإنَّ الله يريد للمجتمع أن يتكافل في كلّ أفراده في كلّ الحاجات، أن لا يضيع إنسان في المجتمع، فإذا كان قادراً على أن يعول نفسه فيكلَّف نفسه، أمَّا إذا لم يكن قادراً على ذلك، فإنَّ الله جعل في أموالنا حقّاً معلوماً للسائل والمحروم، وأراد الله سبحانه وتعالى أن ننفق من أموالنا، كلّ بحسب طاقته، وكلّ بحسب قدرته. هناك فرضٌ في الأموال لا بدَّ أن ننفقه من خمسنا وزكاتنا، وهناك ندبٌ واستحباب فيما أرادنا الله أن نتصدَّق به. إنَّ الله يريدنا أن نعيش التَّكافل الاجتماعي، وقد ورد في الحديث عن أئمَّة أهل البيت (ع): "إِنَّ اللَّه فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ فِي مَالِ الأَغْنِيَاءِ مَا يَسَعُهُمْ، ولَوْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُمْ لَزَادَهُمْ".
لا بدَّ لنا من أن نعمل على أساس التَّكافل الاجتماعي في الحاجات الاجتماعيَّة العامَّة للنَّاس، والتَّكافل الاجتماعي في الحاجات العامَّة التي تتحرَّك في خطّ الحريَّة للنَّاس جميعاً، والعدالة للنَّاس جميعاً، أن نتحمَّل المسؤوليَّة في أن نقوم جميعاً في مجتمعنا بكلِّ ما يجعل المجتمع حراً، وفي أمَّتنا بكلِّ ما يجعل الأمَّة حرَّة، وأن نتضافر ونتكافل من أجل أن يسود العدل المجتمع كلَّه، وأن نهتمَّ بكلّ أمور المسلمين، وأن نواجه كلّ الذين يريدون الكيد لعباد الله سبحانه وتعالى.
علينا، أيُّها الأحبَّة، أن ننظر ماذا هناك مما يتحرَّك في هذا الأسبوع، لأنَّ الخطبة الثانية في صلاة الجمعة، لا بدَّ أن تكون خطبة سياسيَّة يعرف النَّاس فيها ماذا هناك، ليتَّخذوا الموقف الإسلاميَّ السَّليم في ذلك.
العدوُّ الإسرائيليُّ يعقّدُ الحلول
لا يزال الوضع الفلسطيني في دائرة الألاعيب الأمريكيّة الإسرائيليّة، فلا أفق حتى للمبادرة الأمريكيَّة إلا بشروط إسرائيل، ولا أمل بالإعلان الأمريكي عن المبادرة، لأنَّ ذلك يمثِّل إدانةً لإسرائيل، وأمريكا لا توافق على ذلك. أمَّا المفاوضات الفلسطينية الصهيونية، فإنها تدور في حلقة مفرغة، لأنَّ دورها إخضاع الفلسطينيّين للشروط الصهيونيَّة، والإيحاء إلى الرأي العام العالمي بأنَّ إسرائيل لا تزال في خطِّ السَّلام، ولذلك يراد أن تكون المفاوضات للمفاوضات، لا لتؤدِّي إلى نتيجة.
إنَّ العدوَّ يعمل على تعقيد كلّ عملية التسوية التي نرفضها جملةً وتفصيلاً، ولأنها تمثِّل الاستسلام، ولذلك بادر الكنيست الإسرائيلي إلى إقرار اقتراح قانون يقضي بمعارضة أيّ انسحاب من الجولان المحتلّ، في إطار المحاولات الصهيونية لإضعاف نتائج زيارة الرَّئيس الأسد إلى باريس، والتي استطاعت أن تكشف اللّعبة الصهيونيَّة في هذا المجال.
إنَّ العدوَّ يستفيد من الضَّوء الأخضر الأمريكي الَّذي أعطاه كلَّ الفرص للوصول إلى تحقيق استراتيجيَّته في السيطرة على الأرض المحتلَّة في فلسطين وخارجها، مستفيداً من الضعف العربي أمام مخطَّطاته العدوانية.
تهديدٌ أمنيٌّ ضدَّ إيران
وليس بعيداً من ذلك، فإنَّ الإدارة الأمريكية على لسان رئيسها كلينتون، تحاول إثارة التَّهديد الأمني ضدّ إيران، من خلال الحديث عن تجربة صاروخ متوسّط المدى، قادر على الوصول إلى إسرائيل والسعودية وروسيا وتركيا، كما تقول الأنباء، زاعمة أنَّ ذلك يؤدِّي إلى الإخلال بميزان القوى في المنطقة، وخطر زعزعة منطقة الشَّرق الأوسط، وتعديل ديناميكيَّة الاستقرار الإقليمي فيها. وقد علَّق وزير الحرب الصهيوني على ذلك، بأنَّه يشكِّل خطراً على أمن إسرائيل وأمن المنطقة، طالباً من أمريكا ومن الدول الكبرى الضَّغطَ على روسيا حتى لا تقدِّم خبرتها الصاروخية إلى إيران.
إنَّ من اللَّافت أنَّ أمريكا لا ترى في السلاح النَّووي، ولا في الصَّواريخ البعيدة المدى لدى العدوّ الصهيوني، ما يخلّ بتوازن أمن المنطقة الَّتي لا تزال تواجه منذ مدة خطر السلاح الإسرائيلي على الأمن كلّه، لأنَّ أمريكا لا ترى في المنطقة إلا الأمن الإسرائيلي، ولا قيمة لأمن آخر. أمَّا إشارة الإعلام الأمريكي إلى الخطر على السعودية، فإنَّ إيران أعلنت دائماً أنها لا تفكِّر في التعرّض لأيّ بلد عربي، ولا سيَّما إذا كان خليجياً، بل تعمل على التعاون معه في حماية أمن الخليج الَّذي لا يحميه إلَّا الخليجيّون، كما هو الشّعار الإيراني، وقد بلغت العلاقات العربيَّة مع إيران، ولا سيَّما السعوديَّة، مستوى كبيراً من التقارب في أكثر من مجال.
حمايةُ السّلم الأهليّ
وفي موازاة ذلك، فإنَّ نجاح لبنان وسوريا في تفكيك الرّهان الصّهيوني على دور أوروبي أو فرنسي ضاغط لمصلحة العدوّ في مناوراته حيال القرار 425، لا يقلّ أهميّةً عن النجاح في تفكيك الشَّبكات الإسرائيليَّة التي كانت تستهدف أمن المقاومة وأمن المواطن وخلخلة السِّلم الأهلي الدَّاخلي. وعلينا أمام ذلك كلّه، أن نعمل على حماية السِّلم الأهلي من كلّ الأيدي الَّتي تحاول العبث به، وذلك بالتعاون الوثيق بين الشَّعب والدولة في كلِّ المجالات، من أجل تأكيد الوحدة الداخليَّة في مواجهة كلِّ الخطط الخارجيَّة المشبوهة. وعلى الدولة أن تضرب بيد من حديد كلَّ الذين يمارسون الجريمة قتلاً وسرقةً واغتصاباً، لأنَّ النَّاس لا تستطيع أن تتحمَّل عدواناً إسرائيلياً في الجنوب، ومشاكل أمنيَّة في الداخل، ولا سيَّما أنَّ هذه الأحداث تحصل في موسم الاصطياف، مما قد يسيء إلى إحساس السَّائح بالأمن في البلد.
سلسلةُ الرّتبِ والرّواتب
وأخيراً، لا يزال موضوع سلسلة الرتب والرواتب، مع ما يترتَّب عليه من حقوق للموظَّفين، عالقاً في دائرة التَّسويف، ونخشى أن يطول الجدل حوله، لفقدان التغطية له في الميزانية، كما نخشى أن يكون الحلّ له بفرض ضرائب جديدة، ولا سيَّما على البنزين، مما لا يتحمَّله المواطن أمام الصعوبات الاقتصاديَّة، وهناك خوف من خطّةٍ لطرد الكثير من الموظَّفين في الدولة، إلى جانب الصرف الكيفي لبعض الشركات العاملة لطرد موظَّفيها، في الوقت الَّذي تستعر نار البطالة للمواطنين، مع فتح أبواب العمل للأجانب على حساب العمالة المحليَّة.
إنَّ المطلوب هو سياسية اقتصادية توفِّر فرص العمل للنَّاس، ولا سيَّما أنَّ الديون المتراكمة التي ألقيت على عاتق الدَّولة، لن توظَّف للإنتاج من أجل زيادة الدَّخل الوطني، بل للاستهلاك. إنَّ الواقع يعيش في هاجس الإفلاس الوطني أمام السياسة الاقتصادية الحالية، فهل من حلٍّ للإنقاذ؟! إنَّه السؤال الكبير الَّذي يبحث عن جواب، ومع الأسف، لا جواب حتَّى الآن.
مع المجاهدين ضدَّ العدوان
ويبقى الهمّ الأكبر في الاحتلال الصهيوني، وفي عدوانه على جبل عامل والبقاع الغربي الممتدّ إلى مواقع المدنيّين، وعلينا أن نتذكَّر الدَّعم الأمريكي عندما نتذكَّر عدوان إسرائيل علينا، وأن نقف مع المجاهدين في المواجهة البطوليَّة لاحتلاله وعدوانه، ليعرف العالم كلُّه أنَّ لبنان يقف بجميع طوائفه وأحزابه في خطِّ المواجهة سياسياً وعسكرياً.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 24/ 07/1998م.
حديثنا في هذا اليوم عن فريق من النّاس فقدوا الأب، وربما فقدوا الأمّ معه، وهو فريق الأيتام، لأنَّ هذا الفريق يمثّل الإنسان الَّذي أراد الله للمجتمع كلّه أن يتولَّى أبوّته له ورعايته وحمايته وحفظه وتدبير أموره، من أجل أن ينشأ إنسانا ًصالحاً قويّاً عاملاً يمكن له أن يعطي الكثير لأمَّته ولمجتمعه.
ونحن هنا في البداية، نستعرض آيات الله في القرآن الكريم، كيف وجَّهنا الله للتَّعامل مع اليتيم كشخص، ثمّ مع أموال اليتيم في حال يتمه، ثمّ مع أموال اليتيم بعد أن يبلغ ويرشد، ثمّ بعد ذلك، نستعرض بعض كلمات النَّبيّ (ص) مما رواه الرواة عنه، وبعض كلمات أئمَّة أهل البيت (ع)، وكلامهم كلام رسول الله (ص)، وخطّهم خطّه.
حديثُ القرآنِ عن اليتيم
يقول الله سبحانه وتعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}[الضّحى: 9].
إنّ هذه الآية توحي بأنَّ طبيعة اليتم قد تشجّع الكثير من النَّاس على قهر اليتيم، لأنَّه ضعيفٌ لا يملك قوّة الطّفل الَّذي يملك أباً. ومن هنا، فإنَّ النَّاس المعقَّدين قد يأخذون حرّيتهم في قهره إذا اصطدم الولد اليتيم مع أولادهم، لأنَّهم يعتبرون أنَّه ليس له مَنْ يدافع عنه، أو إذا أرادوا رعاية الواقع من حولهم.
إنَّ النَّاس غالباً ما تميل إلى قهر الضّعيف، يقول الشَّاعر:
والظُّلمُ مِن شِيَمِ النُّفوسِ فَإِن تَجِدْ ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ
ولهذا، فإنَّ الله سبحانه وتعالى وجَّه هذا النِّداء: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}، لا تقهره في جسده لتؤذيه في جسده، ولا تقهره في معنويَّاته لتذلّه ولتسيء إلى معنويَّاته بالكلمات القاسية، لا تضغط ظروفه لتحاصره فيها، فتمنعه من أن يفتح لنفسه أبواب الحياة الواسعة، لا تقهر موقعه ومركزه، لا تقهر عقله لتمنعه من أن ينمّي عقله بالعلم، افسح له المجال لأن يتعلَّم... وهكذا، لا تقهره في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه لتحرمه من ذلك كلّه.
{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ}، كن رفيقاً به - هذه إيحاءات الآية - كن حنوناً عليه، ارحم ضعفه، وارحم هذه الحالة النفسيَّة الَّتي يعيشها من خلال فقده لأبيه، وربما لأمّه، كن إنساناً معه، لا تقهر إنسانيَّته بوحشيَّة طبعك وبعقدة ذاتك.
وهكذا، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ - وهذا الميثاق ليس مختصّاً بهم، ولكنَّه ميثاقٌ أخذه الله في رسالته على كلّ النَّاس - لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ}[البقرة: 83]، أن تحسنوا إلى هذه الفئات الّتي لا تملك فرصة العيش الكريم.
إنَّ أخذ الله الميثاق، معناه أنَّ هذا عهدٌ أخذه الله على عباده، كما عندما يدخل الإنسان في عهدٍ مع شخص آخر، ألا يلتزم بعهده وعقده معه، فكيف إذا كان العهد مع الله؟! {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، فقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل وعلى النَّاس كافَّة بالإحسان إلى الأيتام، بكلّ ما تعنيه كلمة الإحسان من الإحسان إلى عقله بالعلم، وإلى قلبه بالعاطفة، وإلى حياته بالرّعاية لكلّ المجالات العامَّة والخاصَّة.
ويقول الله سبحانه وتعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ}[البقرة: 177]، أن تعطي من مالك للأيتام ما تسدُّ به جوعتهم، وتكسو بهم عورتهم، وتهيَّئ لهم المسكن اللَّائق والعيش الكريم.
ويقول الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ - كان المسلمون يسألون النّبيّ (ص) عن اليتامى، كأنَّهم يتحرَّجون من وجودهم بينهم، فيسألون ما العنوان الكبير الَّذي لا بدَّ لهم أن ينفتحوا عليه في حياتهم مع اليتامى - قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ.
أن تعملوا كمجتمع على أن تصلحوا أمرهم. ونحن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ كلمة الإصلاح هي كلمة تشمل وجود الإنسان كلّه في كلّ مجالاته، فإصلاح الإنسان بتنمية عقله، وبإدخال الفرح والتَّوازن في العاطفة في قلبه، وبأن ننهج به الطَّريق المستقيم في حياته وعمله...
- وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ – بمعنى خالطوهم كما تخالطون إخوتكم، فكما تخالطون إخوتكم في الدّين، خالطوا اليتامى بالرّفق والمحبَّة، على أساس أنَّهم إخوانكم في الدّين - وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ - لفرض عليكم الكثير من المشقَّات، ولكنَّ الله لا يريد أن يشقَّ عليكم، بل جعل لكم خطّاً واضحاً طبيعياً يمكن لكلِّ إنسان أن يمارسه بحسب قدرته وبحسب ظروفه - وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ - فالله عندما يقول: {إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}، يعني أنّ الله مطّلع عليكم، فإذا أصلحتم، فإنَّ الله يعلم إصلاحكم، وإذا أفسدتم فإنَّ الله يعلم إفسادكم - إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[البقرة: 220].
هذه الآيات التي يريد الله أن يحمّلنا من خلالها مسؤوليَّة رعاية اليتيم في عقله وقلبه وحياته، بإصلاح أمره، والابتعاد عن قهره، وبالإحسان إليه.
أحاديثُ عن رعايةِ اليتيم
تعالوا في هذه النقطة نستمع إلى كلمات النَّبيّ (ص) والأئمَّة من أهل البيت (ع).
من وصايا أمير المؤمنين (ع): "أَللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ - وكلمة (الله الله) تستعمل للاستغاثة، ونحن نعرف أنَّ الاستغاثة إنَّما تكون في الأمور العظيمة والخطرة والمهمَّة. فعندما يقول الإمام (ع): "الله الله"، فكأنّه يريد أن يثير النَّاس، ويقول لهم اتَّقوا الله، وراقبوا الله في الأيتام - فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ - والغبّ هو فعل شيء يوماً وتركه يوماً، يقال: "زُرْ غبّاً تَزْدَدْ حُبّاً"، بمعنى أن تكون زيارتك يومًا بعد يوم وليس كلَّ يوم، فالإمام (ع) يقول لا تجعلوا إطعامكم لهم بأن يأكلوا يوماً ويجوعوا يوماً، بل أن يأكلوا دائماً.
- وَلَا يَضِيعُوا بِحَضرَتِكُمْ"، كيف يضيع اليتيم؟ إذا تركناه وأهملناه وأهملنا تربيته، فيمكن أن يضيع في الطّرقات ومع المجرمين، فالإمام (ع) يقول: ما دمتم موجودين، فوصيَّتي لكم أن لا يضيع الأيتام بحضرتكم، بل إنَّ عليكم أن تحوطوهم بالرعاية والحماية والتربية والتوجيه.
ويتحدَّث الإمام (سلام الله عليه) عمّا سمع من رسول الله (ص)، وهذه فيها بشارة، ولكنّها تحتاج إلى شيء من الكرم والجهد. يقول (ع): "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه (ص) يَقُولُ: مَنْ عَالَ يَتِيماً حَتَّى يَسْتَغْنِيَ، أَوْجَبَ اللَّه عَزَّ وجَلَّ لَه بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، كَمَا أَوْجَبَ لآِكِلِ مَالِ الْيَتِيمِ النَّارَ"، كما يأتي في الآية الثّانية.
فعلى الإنسان الّذي يعول يتيماً، أن يعتبر وكأنّه رزق بولدٍ جديد، ألا تصرف على ولدك إلى أن يستغني عنك؟! فالنَّبيّ (ص) يقول إنّك إذا أعنت يتيماً ورعيته حتى يصبح رجلاً قادراً على رعاية حياته والاستقلال بها، فإنَّ الله يوجب لك بذلك الجنَّة.
هذا حديث، وهناك حديث ثانٍ أيضاً عن رسول الله (ص): "كُنْ لِلْيَتِيمِ كَالْأَبِ الرَّحِيمِ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ كَمَا تَزْرَعُ كَذَلِكَ تَحْصُدُ"، فإذا زرعت في اليتيم كلَّ المعاني الطيّبة، تحصد رضوان الله سبحانه.
وهناك بعض الأشياء المستحبَّة في التّعامل مع اليتيم، كالمسح على رأسه، دلالة على الحنان والعاطفة. وفي حديث عن الإمام عليّ (ع): "ما مِن مُؤمِنٍ ولا مُؤمِنَةٍ يَضَعُ يَدَهُ عَلى رَأسِ يَتيمٍ تَرَحُّماً لَهُ، إِلَّا كَتَبَ اللّه لَهُ بِكُلِّ شَعرَةٍ مَرَّت يَدُهُ عَلَيها حَسَنَةً".
وعن النَّبيّ (ص): "أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا. وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا".
وعنه (ص): "إنَّ في الجَنَّةِ داراً يُقالُ لَها دارُ الفَرَحِ، لا يَدخُلُها إلّا مَن فَرَّحَ يَتامَى المؤمنينَ".
وقال (ص): "مَنْ قَبَضَ يَتِيماً مِنْ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ أَلبَتَّة، إِلَّا أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا لَا يُغْفَرُ لَهُ"، يعني إلَّا في حال الشّرك بالله، فإذا كانت ذنوبه بسيطة، وعال يتيماً، وتكفّل بطعامه وشرابه، أدخله الله الجنّة.
"مَنْ عَالَ ثَلَاثَةً مِنْ الْأَيْتَامِ، كَانَ كَمَنْ قَامَ لَيْلَهُ وَصَامَ نَهَارَهُ، وَغَدَا وَرَاحَ شَاهِرًا سَيْفَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَكُنْتُ أَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ أَخَوَيْنِ كَمَا أنَّ هَاتَيْنِ أُخْتَانِ. وَأَلْصَقَ إِصْبَعَيْهِ السّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى"، فأيّ عظمة أعظم من أن تكون أخاً لرسول الله (ص)؟!
عن أبي الدّرداء قال: "أتَى النَّبيَّ (ص) رجلٌ يشكو قسوةَ قلبِهِ، قالَ (ص): أتحِبُّ أن يلينَ قلبُكَ وتُدرِكَ حاجتَك؟ ارحَمِ اليتيمَ، وامسَحْ رأسَهُ، وأطعِمْهُ منْ طعامِكَ، يلِنْ قلبُكَ، وتُدرِكْ حاجتَكَ".
مسؤوليّةُ حفظِ مالِ اليتيم
هذا فيما يتعلّق بجانب رعاية اليتيم وكفالته والرّحمة به والإحسان إليه.
تعالوا لنرى كيف نصنع بمال الأيتام. فقد يموت الأب، ويكون هناك الجدّ الّذي هو الوليّ الشَّرعيّ، وربما يستغلّ هذا الجدّ ضعف هذا اليتيم، فيتصرَّف في ماله بما يضيِّع ماله، أو يدفع بماله إلى أحد أولاده الَّذي لا أمانة له، وهذه أمورٌ تحصل كثيراً في مجتمعاتنا.
يقول الله سبحانه في هذا المجال: {وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ - عندما يبلغون - وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ - بأن تأخذوا المال الجيّد وتبدّلوه بالخبيث - وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَىٰ أَمْوَالِكُمْ - بمعنى أن تسيطروا على أموالهم - إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا}[النساء: 2] يعني ذنباً كبيراً.
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا – وانتبهوا إلى هذه الآية، فهي صعبة كثيراً، فقد تأكل مال اليتيم باعتبار أنَّه ضعيف ولا يستطيع أن يحاسبك، وأنت قد تكون الجدَّ أو العمَّ، أو في بعض الحالات، بعض المحاكم الّتي تضع أموال اليتامى عندها وتتصرَّف فيه بطريقة من الطّرق - إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا - تتحوَّل إلى نار - وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النّساء: 10]، فهذا يوجب دخول النّار لأنّه من الكبائر. قد تحصل على بعض المال في الدّنيا، ولكنّ هذا الأمر يؤدّي بك إلى نار جهنّم.
{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ - إذا كان تحت تصرّفكم - إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[الأنعام: 152].
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى - إذا صار اليتيم قريباً من سنّ البلوغ، اختبره لترى إذا كان قادراً على إدارة أموره بنفسه - حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ – إذا بلغ اليتيم الذّكر أو الأنثى سنّ البلوغ - فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا – رأيت عندهم القدرة على إدارة أمورهم - فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُوا - لا تستغلّ حالة عدم بلوغ اليتيم وضعفه لتأكل ماله في هذه الحالة - وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ – فالّذي يرعى مال اليتيم ويحميه، إذا كان مكتفياً فليستعفف ولا يأكل من هذا المال - وَمَن كَانَ فَقِيرًا – إذا كان فقيراً ويبذل الوقت في رعاية هذا اليتيم ورعاية شؤونه - فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ - حتّى تتخلّصوا من المسؤوليَّة - وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا}[النساء: 6].
عاقبة أكل مال اليتيم
هذه الآيات الّتي تتَّصل بمال اليتيم. فلنلاحظ ماذا قال رسول الله (ص) في هذا الموضوع، في الحديث عن الّذين يأكلون مال اليتيم: "شرُّ المآكلِ أكلُ مالِ اليتيمِ".
وعن أبي جعفر (ع) قال رسول الله (ص): "يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ تَأَجَّجُ أَفْوَاهُهُمْ نَارًا. فَقِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (ص): أَلَمْ تَرَ اللَّهَ يَقُولُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}؟!".
وعن أبي سعيد الخدري، قال: "رأيْتُ قوماً لهم مشافرُ كمشافرِ الإبلِ، وقد وكِّلَ بهم من يأخذُ بمشافرِهم، ثمَّ يجعلُ في أفواهِهم صخراً من نارٍ يخرجُ من أسافلِهم، فقلْتُ: يا جبريلُ، مَنْ هؤلاء؟ قال: هم الَّذين يأكلون أموالَ اليتامى ظلماً".
وعن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله (ع)، قال: "سألْتُهُ عن الكبائرِ، فقالَ: منها أكلُ مالِ اليتيمِ ظلماً".
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، في نهاية المطاف في خطبة فاطمة الزهراء (ع): "فَرَضَ اللَّهُ مُجانَبَةَ أكلِ أموالِ اليَتامى إجارَةً مِن الظُّلمِ"، حتَّى لا يُظلَم الضعفاء كالأيتام في حياة النَّاس.
أيُّها الأحبَّة، هذه المسألة من المسائل التي أعطاها الله سبحانه وتعالى الكثير من الأهميَّة، بحيث جعلها من أفضل الأعمال الَّتي توجب دخول الجنَّة، كما أنَّ أكل مال اليتيم يوجب دخول النار، ولذلك لا بدّ من مراعاة حال الأيتام.
الولايةُ على اليتيمِ وحضانتُه
وعلينا أن نعرف حقيقة على هذا الهامش، وهي أنّ اليتيم إذا مات أبوه، فجدّه لأبيه هو وليّه، فإذا لم يكن جدٌّ لأبيه، فوليّه الشَّرعيّ هو الحاكم الشَّرعيّ المجتهد العادل، فلا يجوز لأمِّه ولا لعمِّه ولا لأخيه أن يتصرَّفوا في ماله، إلَّا إذا كان أبوه قد أوصى سابقاً، أو إذا أجازه الحاكم الشَّرعيّ في ذلك.
نقطة ثانية، وهي الآن محلّ ابتلاء، الآن هناك الكثير من الشباب يستشهدون في المعارك أو يموتون، في هذه الصورة، قد يعمل أهل الأب على أن يأخذوا أولاده من أمّهم، ولكنّ الحكم الشَّرعيّ الذي يُجمِع عليه كلُّ الفقهاء، أنّ الحضانة عند موت الأب للأمّ.. الولاية للجدّ في التصرف في الأموال، لكن لا يجوز أن يؤخذ الولد من أمّه إذا مات أبوه، حتَّى لو تزوَّجت، ومن أخَذَ الولدَ من أحضان أمّه بعد موت أبيه نتيجة قوَّة، كان ظالماً لها شرعاً. وهذا لا خلاف فيه بين العلماء، أيّاً كان من تقلِّد، ففي حياة الأب، هناك من يقول إنَّ الحضانة للأمّ في عمر السنتين، وهناك من يقول في عمر السبع سنوات، ولكن بعد وفاة الأب، الحضانة للأمّ حتَّى يبلغ، ولا يجوز لأهل الأب أن يأخذوا الولد منها إلَّا برضاها.
هذا، أيُّها الأحبَّة، هو الخطّ الإسلاميّ في ذلك، علينا كمجتمع أن نرعى الأيتام، سواء كانت رعايتهم في بيوتهم، أو كانت عبر المؤسَّسات الخيريَّة التي ترعى الأيتام وتنفق عليهم، لأنَّ هذه المسؤوليّة هي مسؤوليَّة المجتمع كلّه، لا مسؤوليَّة شخص معيَّن، ولا مسؤوليَّة جمعيَّة معيَّنة، ولا جهة معيَّنة، إنَّها مسؤوليتكم جميعاً، لأنَّ الأيتام مسؤوليتنا جميعاً أمام الله وأمام الناس، وكما قال رسول الله (ص): "وتَحَنَّنوا عَلَى أيتامِ النّاسِ يُتَحَنَّن عَلَى أيتامِكُم"، "وَمَن أكرَمَ فيهِ يَتِيمًا – في شهر رمضان وفي غيره من الشّهور - أكرَمَهُ اللهُ يَومَ يَلقاهُ".
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتقوا الله في كلِّ ما تعيشونه في مجتمعكم من حالات صعبة، كحالات الفقراء والأيتام والمساكين وأبناء السبيل، فإنَّ الله يريد للمجتمع أن يتكافل في كلّ أفراده في كلّ الحاجات، أن لا يضيع إنسان في المجتمع، فإذا كان قادراً على أن يعول نفسه فيكلَّف نفسه، أمَّا إذا لم يكن قادراً على ذلك، فإنَّ الله جعل في أموالنا حقّاً معلوماً للسائل والمحروم، وأراد الله سبحانه وتعالى أن ننفق من أموالنا، كلّ بحسب طاقته، وكلّ بحسب قدرته. هناك فرضٌ في الأموال لا بدَّ أن ننفقه من خمسنا وزكاتنا، وهناك ندبٌ واستحباب فيما أرادنا الله أن نتصدَّق به. إنَّ الله يريدنا أن نعيش التَّكافل الاجتماعي، وقد ورد في الحديث عن أئمَّة أهل البيت (ع): "إِنَّ اللَّه فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ فِي مَالِ الأَغْنِيَاءِ مَا يَسَعُهُمْ، ولَوْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُمْ لَزَادَهُمْ".
لا بدَّ لنا من أن نعمل على أساس التَّكافل الاجتماعي في الحاجات الاجتماعيَّة العامَّة للنَّاس، والتَّكافل الاجتماعي في الحاجات العامَّة التي تتحرَّك في خطّ الحريَّة للنَّاس جميعاً، والعدالة للنَّاس جميعاً، أن نتحمَّل المسؤوليَّة في أن نقوم جميعاً في مجتمعنا بكلِّ ما يجعل المجتمع حراً، وفي أمَّتنا بكلِّ ما يجعل الأمَّة حرَّة، وأن نتضافر ونتكافل من أجل أن يسود العدل المجتمع كلَّه، وأن نهتمَّ بكلّ أمور المسلمين، وأن نواجه كلّ الذين يريدون الكيد لعباد الله سبحانه وتعالى.
علينا، أيُّها الأحبَّة، أن ننظر ماذا هناك مما يتحرَّك في هذا الأسبوع، لأنَّ الخطبة الثانية في صلاة الجمعة، لا بدَّ أن تكون خطبة سياسيَّة يعرف النَّاس فيها ماذا هناك، ليتَّخذوا الموقف الإسلاميَّ السَّليم في ذلك.
العدوُّ الإسرائيليُّ يعقّدُ الحلول
لا يزال الوضع الفلسطيني في دائرة الألاعيب الأمريكيّة الإسرائيليّة، فلا أفق حتى للمبادرة الأمريكيَّة إلا بشروط إسرائيل، ولا أمل بالإعلان الأمريكي عن المبادرة، لأنَّ ذلك يمثِّل إدانةً لإسرائيل، وأمريكا لا توافق على ذلك. أمَّا المفاوضات الفلسطينية الصهيونية، فإنها تدور في حلقة مفرغة، لأنَّ دورها إخضاع الفلسطينيّين للشروط الصهيونيَّة، والإيحاء إلى الرأي العام العالمي بأنَّ إسرائيل لا تزال في خطِّ السَّلام، ولذلك يراد أن تكون المفاوضات للمفاوضات، لا لتؤدِّي إلى نتيجة.
إنَّ العدوَّ يعمل على تعقيد كلّ عملية التسوية التي نرفضها جملةً وتفصيلاً، ولأنها تمثِّل الاستسلام، ولذلك بادر الكنيست الإسرائيلي إلى إقرار اقتراح قانون يقضي بمعارضة أيّ انسحاب من الجولان المحتلّ، في إطار المحاولات الصهيونية لإضعاف نتائج زيارة الرَّئيس الأسد إلى باريس، والتي استطاعت أن تكشف اللّعبة الصهيونيَّة في هذا المجال.
إنَّ العدوَّ يستفيد من الضَّوء الأخضر الأمريكي الَّذي أعطاه كلَّ الفرص للوصول إلى تحقيق استراتيجيَّته في السيطرة على الأرض المحتلَّة في فلسطين وخارجها، مستفيداً من الضعف العربي أمام مخطَّطاته العدوانية.
تهديدٌ أمنيٌّ ضدَّ إيران
وليس بعيداً من ذلك، فإنَّ الإدارة الأمريكية على لسان رئيسها كلينتون، تحاول إثارة التَّهديد الأمني ضدّ إيران، من خلال الحديث عن تجربة صاروخ متوسّط المدى، قادر على الوصول إلى إسرائيل والسعودية وروسيا وتركيا، كما تقول الأنباء، زاعمة أنَّ ذلك يؤدِّي إلى الإخلال بميزان القوى في المنطقة، وخطر زعزعة منطقة الشَّرق الأوسط، وتعديل ديناميكيَّة الاستقرار الإقليمي فيها. وقد علَّق وزير الحرب الصهيوني على ذلك، بأنَّه يشكِّل خطراً على أمن إسرائيل وأمن المنطقة، طالباً من أمريكا ومن الدول الكبرى الضَّغطَ على روسيا حتى لا تقدِّم خبرتها الصاروخية إلى إيران.
إنَّ من اللَّافت أنَّ أمريكا لا ترى في السلاح النَّووي، ولا في الصَّواريخ البعيدة المدى لدى العدوّ الصهيوني، ما يخلّ بتوازن أمن المنطقة الَّتي لا تزال تواجه منذ مدة خطر السلاح الإسرائيلي على الأمن كلّه، لأنَّ أمريكا لا ترى في المنطقة إلا الأمن الإسرائيلي، ولا قيمة لأمن آخر. أمَّا إشارة الإعلام الأمريكي إلى الخطر على السعودية، فإنَّ إيران أعلنت دائماً أنها لا تفكِّر في التعرّض لأيّ بلد عربي، ولا سيَّما إذا كان خليجياً، بل تعمل على التعاون معه في حماية أمن الخليج الَّذي لا يحميه إلَّا الخليجيّون، كما هو الشّعار الإيراني، وقد بلغت العلاقات العربيَّة مع إيران، ولا سيَّما السعوديَّة، مستوى كبيراً من التقارب في أكثر من مجال.
حمايةُ السّلم الأهليّ
وفي موازاة ذلك، فإنَّ نجاح لبنان وسوريا في تفكيك الرّهان الصّهيوني على دور أوروبي أو فرنسي ضاغط لمصلحة العدوّ في مناوراته حيال القرار 425، لا يقلّ أهميّةً عن النجاح في تفكيك الشَّبكات الإسرائيليَّة التي كانت تستهدف أمن المقاومة وأمن المواطن وخلخلة السِّلم الأهلي الدَّاخلي. وعلينا أمام ذلك كلّه، أن نعمل على حماية السِّلم الأهلي من كلّ الأيدي الَّتي تحاول العبث به، وذلك بالتعاون الوثيق بين الشَّعب والدولة في كلِّ المجالات، من أجل تأكيد الوحدة الداخليَّة في مواجهة كلِّ الخطط الخارجيَّة المشبوهة. وعلى الدولة أن تضرب بيد من حديد كلَّ الذين يمارسون الجريمة قتلاً وسرقةً واغتصاباً، لأنَّ النَّاس لا تستطيع أن تتحمَّل عدواناً إسرائيلياً في الجنوب، ومشاكل أمنيَّة في الداخل، ولا سيَّما أنَّ هذه الأحداث تحصل في موسم الاصطياف، مما قد يسيء إلى إحساس السَّائح بالأمن في البلد.
سلسلةُ الرّتبِ والرّواتب
وأخيراً، لا يزال موضوع سلسلة الرتب والرواتب، مع ما يترتَّب عليه من حقوق للموظَّفين، عالقاً في دائرة التَّسويف، ونخشى أن يطول الجدل حوله، لفقدان التغطية له في الميزانية، كما نخشى أن يكون الحلّ له بفرض ضرائب جديدة، ولا سيَّما على البنزين، مما لا يتحمَّله المواطن أمام الصعوبات الاقتصاديَّة، وهناك خوف من خطّةٍ لطرد الكثير من الموظَّفين في الدولة، إلى جانب الصرف الكيفي لبعض الشركات العاملة لطرد موظَّفيها، في الوقت الَّذي تستعر نار البطالة للمواطنين، مع فتح أبواب العمل للأجانب على حساب العمالة المحليَّة.
إنَّ المطلوب هو سياسية اقتصادية توفِّر فرص العمل للنَّاس، ولا سيَّما أنَّ الديون المتراكمة التي ألقيت على عاتق الدَّولة، لن توظَّف للإنتاج من أجل زيادة الدَّخل الوطني، بل للاستهلاك. إنَّ الواقع يعيش في هاجس الإفلاس الوطني أمام السياسة الاقتصادية الحالية، فهل من حلٍّ للإنقاذ؟! إنَّه السؤال الكبير الَّذي يبحث عن جواب، ومع الأسف، لا جواب حتَّى الآن.
مع المجاهدين ضدَّ العدوان
ويبقى الهمّ الأكبر في الاحتلال الصهيوني، وفي عدوانه على جبل عامل والبقاع الغربي الممتدّ إلى مواقع المدنيّين، وعلينا أن نتذكَّر الدَّعم الأمريكي عندما نتذكَّر عدوان إسرائيل علينا، وأن نقف مع المجاهدين في المواجهة البطوليَّة لاحتلاله وعدوانه، ليعرف العالم كلُّه أنَّ لبنان يقف بجميع طوائفه وأحزابه في خطِّ المواجهة سياسياً وعسكرياً.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 24/ 07/1998م.