السيد محمد حسين فضل الله: كل من دافع عن حرية وطنه هو شهيد

السيد محمد حسين فضل الله: كل من دافع عن حرية وطنه هو شهيد

السيد محمد حسين فضل الله:

كل من دافع عن حرية وطنه هو شهيد


فيما كان الشمال يضج بتمرد السجناء في سجن القبة، كنا نقابله في منـزله المتواضع حيث يقيم. حقاً إنه متواضع قياساً بما يملك من رصيد إنساني وديني وحتى مالي. فالمرجع، السيد محمد حسين فضل الله، رئيس جمعية "المبرات" صاحبة المؤسسات الكثيرة، وأيادي الخير الكثيرة، يبتعد عن كل مظاهر البذخ، وتواضعه ينعكس على كل ما يحيط به.

خبرته في الحياة، وتعمقه في الدين، أكسباه بعداً إنسانياً واسعاً يتخطى حدود الطائفة والمذهب، على رغم تحفظه عندما نأتي على ذكر خصوصيات شيعية. لا يهاب، لكنه يتجنب الجدال الذي لا طائل منه، ويحاول استيعاب كل أسباب الخلاف والانقسام.

تحدثنا معه في كل الموضوعات، وقد دهمنا الوقت، وتجاوزناه، لكننا ظللنا نحمل أسئلةً وتساؤلات كثيرةً تحتاج إلى وقت أطول، علّنا نستمتع بالحديث مع السيد، فلا يقتصر تواصلنا على قراءة منه، بل نزيد تفاعلاً في حضوره.

نهار الشباب حاورت العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، في شؤون لبنانية ودولية

وهذا نصّ الحوار:


واقع السجون والقضاء في لبنان

س: ما رأيكم في التمرد الحاصل في سجن القبة؟ وماذا تقولون للمساجين؟

ج: لعل المشكلة في نظام السجون في لبنان، سواء من حيث طبيعة مكان السجن، أو في الأساليب التي تستخدم فيه، أن الطائفية تتدخل من خلال المشرفين عليه، بحيث تؤثر في أسلوب المعاملة بين السجناء، ليكون هناك سجناء أبناء ست وسجناء أبناء جارية، وذلك بحسب المعلومات التي تصلنا في هذا المجال. فالسجون عندنا لا تسجن جسد المحكوم فحسب، بل تسجن روحه ومشاعره، والمفروض أن السجن للجسد فقط، وإن كان سجن الجسد يترك تأثيراته في نفسية الشخص.
السجون في لبنان تسجن روح السجين ومشاعره

ونحن نعتقد أن السجين إنسان، وفي تصوري أنه حتى المجرم يعيش ومضةً إنسانيةً في أعماقه، وعلينا أن نحركها ونكتشفها لنوجّهه، وهذا يحتاج إلى حوار بين السجين والمشرفين عليه، أو بين السجين والذين يقاضونه، لأنّ السياسة، مع احترامنا للقضاء، ما دخلت شيئاً إلا أفسدته.

س: سماحة السيد، هل هذا يعني أن علينا أن ننقض كل أسس الدولة إذا كان القضاء غير مستقيم، فاليوم هناك مفاوضات في السجون، وبدل أن تملك الدولة القدرة على قمع التمرد، صار السجين هو من يقرر، فأين مفهوم الدولة؟

ج: ليس بالضرورة أن يكون الحوار سلبياً في نتائجه، فمن الممكن أن يتقدم هؤلاء بطلباتهم، التي قد تكون معقولةً وقد تكون غير معقولة، المهم أن السجين نال عقوبته عندما سُجن، لذلك علينا أن نعامله داخل السجن كإنسان له حاجاته، كحال من هم خارج السجن. لذلك أقول إنّ علينا في كل حركتنا في المسؤوليات، سواء في هذا الإطار أو في إطار آخر، أن نؤكِّد الومضة الإنسانية عند الإنسان، وأن نحترمه، ونسمع منه عندما يتكلم، ونسمع منه حتى عندما يتحرك في الفوضى.

علاقة المرجع فضل الله بالأحزاب اللبنانية

س: ما هي طبيعة علاقتكم بـ "حزب الله"؟ وهل ما زلتم المرشد الروحي له؟

ج: كلمة المرشد الروحي لـ "حزب الله" منحني إياها الغرب غير مشكور، وسأخبركم قصة: في إحدى المرات، كان عندي أحد الصحافيين المعروفين، وكنا نتحدث، واتصلت مراسلة "وكالة الصحافة الفرنسية"، وطلبت أن تجري معي حديثاً، وقلت إني مستعد، ولكن بشرط ألا تعرِّفوا عني بأنني المرشد الروحي لـ "حزب الله"، لأنني لا أعترف بهذا، وليس لي أيّ وضع تنظيمي لدى الحزب، ولا لدى أيّ حزب آخر. فقالت سأتصل بوكالتي في المركز الرئيسي في باريس، ثم أجابت بأنهم لا يوافقون، والمطلوب الحوار معك على أساس أنك المرشد الروحي لـ "حزب الله".
   

علاقتي بحزب الله علاقة طبيعية، وهناك علاقة مثلها بحركة أمل


وعندي علاقة بكل الأطياف اللبنانية


أما الآن، فعلاقتي بـ"حزب الله" هي علاقة طبيعية، وهناك علاقة مثلها بـ "حركة أمل"، وعندي علاقة بكل الأطياف اللبنانية. حتى قبل مدة زارني وزير السياحة السابق (جو سركيس) وهو من "القوات اللبنانية"، وكانت جلسةً جيدةً ومنفتحةً. أنا شخصياً منذ أن انفتحت على العمل العام، أزلت أي عقدة تجاه أي شخص قد أختلف معه، وعندي شعار أنه إذا كان من حقي أن أختلف مع الآخرين، فمن حق الآخرين أن يختلفوا معي، والحوار هو الذي يمكن أن يعالج الاختلاف، وأنا متخصص في مسألة الحوار وقضاياه، وعندي كتاب ألّفته قبل خمسين سنة عن الحوار، وهو كتاب "أسلوب الدعوة في القرآن"، وكتب أخرى ككتاب "الحوار في القرآن"، و"تأملات في الحوار الإسلامي المسيحي".

س: أي حوار؟

ج: أنا أدعو إلى الحوار الإنساني الإنساني، والإسلامي الإسلامي، والإسلامي المسيحي، والإسلامي اليهودي ـ وليس الإسرائيلي ـ والإسلامي العلماني.

س: والحوار السياسي؟

ج: وحتى الحوار السياسي، أليس ما نجريه الآن حواراً سياسياً؟

س: نقصد في ما يخص إسرائيل...

ج: أنا أقول إن إسرائيل دولة غاصبة، ونحن نجمع على رفض التوطين، لماذا؟ لأننا نعتبر أن الفلسطينيين فرضوا على لبنان ليُقتطَع لهم جزء من أرضه على حساب اللبنانيين، وهناك جدل في لبنان أنه لا يجوز أن نبيع الأراضي للأجانب، وأنه يجب أن نبقي أرضنا ليسكنها شعبنا. وسبب هذا الجدل وهذه المشكلة، أن اليهود جاؤوا من كل أنحاء العالم إلى فلسطين وطردوا أهلها من أرضهم وبيوتهم، وهم لا يقبلون بعودتهم إلى أرضهم، ونحن عندنا آية قرآنية تقول: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت:46]، وهؤلاء ظالمون، فقد اغتصبوا الأرض والإنسان، ولم يقبلوا أن يعود المشرَّدون إلى بيوتهم وبلادهم. وأنا أقول دائماً إن من يطلق عليّ صاروخاً لا يمكن أن أقدم له إضمامة ورد.
نحن لا نحاور اليهود الإسرائيليين لأنهم ظالمون اغتصبوا أرض فلسطين وشردوا شعبها منها

س: كان لافتاً أن يزورك ممثل رئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" سمير جعجع. ماذا حمل إليك؟

ج: لم يكن يمثل الدكتور جعجع في زيارته، بل جاء بصفته الشخصية، ونقل إليَّ تحيات جعجع، ورددت التحية بمثلها، وأوصيته بأن يقول له إنّ عليه أن يطرّي أسلوبه، وأن ينطلق بأسلوب منفتح يمكن أن يدخل إلى العقل والقلب ولا يخلق عقدةً.

العلاقات اللبنانية ـ السورية

س: ماذا تقول في الحوار اللبناني ـ السوري الذي لم يصل إلى نتيجة بعد في ما يتعلق بترسيم الحدود وعودة المفقودين؟

ج: إنّ العلاقات السورية ـ اللبنانية هي علاقات تاريخية ومتداخلة من ناحية الأسَر اللبنانية والسورية وما أشبه ذلك. صحيح أن هناك مشكلات قائمة، لكنني أقول إنّ هذه المشكلات لا يمكن أن تُحَلَّ بأسلوب العنف، وحتى عنف الكلمة. وما نلاحظه الآن أن أوروبا انفتحت على سوريا، وأميركا سوف ترسل وفداً بعد مدة إلى دمشق.

س: ولكن أميركا لم تعانِ من تدخل سوري ونفوذ على أراضيها؟

ج: أنا أقول إنه ما دامت هناك علاقات دبلوماسية، فإن الحوار قد ينفتح في أي وقت، وسوريا لن تعود إلى لبنان قطعاً، لأنه ليس هناك أي وضع دولي أو إقليمي أو محلي يسمح لها بالعودة بجيشها إلى لبنان، أما فيما يخصّ المشكلة معها، فهي من قبيل مشكلات الشقيق مع شقيقه، وحتى لو كان الشقيق ظالماً لشقيقه، فإن المشكلة لا تحل بالعنف والتعقيدات. أما قصة المخابرات، فلبنان بلد المخابرات، ولربما اطّلعتم على مذكّرات جون كيلي عن فندق السان جورج الذي كان ملتقى المخابرات، وقوله إن بيروت أفضل مكان للتنصت. وأنا كنت أقول عن لبنان إنه الرئة التي تتنفس فيها مشكلات المنطقة. لذلك أقول إنه في قضايا الدول لا يوجد دولة منفتحة مئة في المئة على الدولة الأخرى، فالعلاقات بين الدول هي علاقات مصالح متبادلة واحترام متبادل.
لبنان بلد المخابرات وأفضل مكان للتنصت

الحوار بين اللبنانيين


 س: تستأنف جلسات الحوار بين السياسيين اليوم في قصر بعبدا، وقد ينتهي الأمر إلى لجنة لمتابعة درس الموضوعات، وخصوصاً الاستراتيجية الدفاعية، وأنتم تعلمون أن اللجان مقبرة المشاريع. هل ترون أن الحوار في لبنان لن يصل إلى نتيجة؟

ج: نعم، لأن لبنان مزرعة وليس دولةً.
لبنان يصبح دولة عندما ينطلق على أساس المواطنة لا على أساس النظام الطائفي

س: وكيف يمكن أن يصبح دولةً؟

ج: عندما ينطلق على أساس المواطنة لا على أساس النظام الطائفي الذي يؤدي بكل طائفة إلى أن تشعر باستقلالها، بحيث يكون لها رجال دينها وسياسيّوها ورجال اقتصادها ومناطقها. وأنا أقول في ذلك إن لبنان يمثّل ولايات غير متحدة. لقد أوجد النظام الطائفي ثغراً، بحيث جعل كل طائفة تستقوي بدولة ضد الطوائف الأخرى، وهو ما سمح للخارج بأن يدخل إلى لبنان من خلال هذه الثغر. لذلك كان يقال سابقاً إن للطائفة الفلانية علاقة ببريطانيا، وللثانية علاقة بفرنسا، قبل أن تأتي أميركا التي يتردد الحديث عن علاقة البعض بها، كما يتردد أيضاً عن علاقة بعض الطوائف بإيران أو ما شابه. لذلك لا وطن عندنا، لأنّ كل إنسان يلتزم طائفته أكثر مما يلتزم وطنه، وهذا ما نلاحظه في الوضع الانتخابي، فالكلام يدور عن حقوق المسيحيين، أو عن حقوق السنة والشيعة أو الدروز، أما الذين يتحدثون عن حقوق لبنان فهم قلة.

س: وما هو الحل إذاً؟

ج: في القرآن الكريم آية تقول: {إن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11].

س: هذا الكلام نسمعه منذ أكثر من ستين عاماً؟

ج: الخارج هو صورة الداخل، واللبنانيون لم يقتنعوا حتى الآن بأنهم لا يستطيعون أن ينشئوا وطناً من خلال الذهنية الطائفية، وأن لبنان الوطن هو الذي يوحِّدهم، وعليهم أن يتعاونوا للوصول إلى هذا المعنى الذي وضعوه في آخر ما ورد في الميثاق الوطني، أي مسألة إلغاء الطائفية السياسية. ولكن الظاهر أنّ الوقت لم يحن بعد لمناقشة هذا الأمر، لا عبر الحوار ولا عبر غيره، لأن المصالح الداخلية ما زالت تفرض نفسها، فالمسيحيون مثلاً يخافون من غلبة المسلمين.

 لذلك أنا أقول إن لبنان صُنِعَ من أجل أن يكون قاعدةً لكل المخابرات الإقليمية والدولية، ولذلك نلاحظ وجود مخابرات عربية وأخرى أميركية وفرنسية إلى آخر القائمة.

س: من هنا سماحة السيد، هل تدعون إلى تطبيق العلمنة وإلغاء الطائفية؟

ج: ثمة علمنة في لبنان باستثناء الأحوال الشخصية. فلبنان بلد علماني، وهو لم يأتِ بقوانينه لا من الإنجيل ولا من القرآن، أي هو علماني في قانونه. وثمة خصوصيات في قضايا الأحوال الشخصية، ولا أعتقد أن هذه المسألة تحدث مشكلةً. وهناك بعض الناس قد وجدوا حلاً لهذا الأمر بـ(الزواج المدني)، فهم يذهبون إلى قبرص وأماكن أخرى ليتزوّجوا.
 لبنان بلد علماني وهو لم يأت بقوانينه لا من الإنجيل ولا من القرآن

العلمنة والمؤسسة الدينية


س: المعروف أنّ الدولة في أوروبا لم تقم إلا عندما قُمِعت المؤسسة الدينية...

ج: بعدما عانت أوروبا من مشكلات كثيرة، وبعد عدة حروب خاضتها على أراضيها، وصلت أوروبا إلى قناعة أن لا حلّ إلا في المؤسسات.

س: وهل تستطيع أن تعزل الإسلام عن الدولة، لأن الإسلام يقدّم نفسه ديناً ودولةً؟

ج: لكن مفهوم الدين والدولة ليس مطبَّقاً في لبنان، وهو ـ الإسلام ـ موجود في الذهن مثل أي تفكير علماني.

س: لكن الفتوى غالباً ما تكون أقوى من القانون؟

ج: أدري هذا الأمر، لكن الفتوى غالباً ما تتعلق بالقضايا الشخصية ولا تتعلق بالقضايا العامة، والأمر يشبه ما هو موجود في العقيدة المسيحية، فالزواج في المسيحية سر ولا يحصل خارج نطاق الكنيسة، أو لا يجوز للمسيحي أن يتزوج امرأةً ثانيةً، وبعض الطوائف المسيحية لا تجيز لرجل الدين عندها أن يتزوّج. فقضية الفتاوى لها علاقة بحياة الإنسان الخاصة، وقد قرأت أن بعض المفكرين والقضاة في بريطانيا قالوا إنه لا مانع عندهم من تطبيق الدين الإسلامي في محاكمهم في ما خص الأحوال الشخصية، لأنهم رأوا أن بعض القضايا ربما تخلق تعقيدات ومشكلات. من هنا أقول إن الأحوال الشخصية حالة خاصة.

الحركات الإسلامية والقانون

س: نشرنا تحقيقاً في الأسبوع الفائت في "نهار الشباب" عن بعض الحركات الإسلامية، ومنها "حزب التحرير"، وهي حركة لا تعترف بالقانون، وأعضاؤها لا يقفون للنشيد الوطني اللبناني؟

ج: كثر من الناس لا يعترفون بالقانون وليس الحركات الإسلامية وحدها لا تؤمن بمثل هذا الأمر، فأكثر الشيوعيين لا يعترفون بالقانون. وأنا أقول من الناحية الفكرية، إنّ المتطرفين في الإسلام هم على غرار المتطرفين في اليهودية أو المسيحية أو العلمانية، وقد كان القوميون في الأربعينات يقولون إن العرب فوق الجميع، وبعضنا يردّد أن لبنان فوق الجميع. لذلك نحن نقول إنه في الجو الإسلامي العام، لا أحد يتحدث عن إقامة دولة إسلامية في لبنان. لكن نحن نتحدث عن الإسلام كحركة فكر وقانون ومفاهيم وشريعة، وليس عن الإسلام كحالة طائفية مختنقة.
المتطرفين في الإسلام هم على غرار المتطرفين في اليهودية أو المسيحية أو العلمانية

س: كيف تصفون علاقتكم بالمرجعيات الشيعية في العراق وإيران؟

ج: أنا لا أعلّق على الأشخاص.

س: سماحة السيد، يؤخذ على الحركات الإسلامية أنها توقفت عن إنتاج مشروع فكري وأصبح عملها سياسياً محضاً، وأنها توقفت عن طرح أي بديل فكري أو تطويري؟

ج: هناك عوائق داخلية وخارجية حالت دون تطور الحركات الإسلامية، سواء على مستوى تطبيق برنامجها أو في ما تفكر فيه، ورغم ذلك، يوجد مفكّرون إسلاميون بحثوا في قضايا الإسلام والنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهناك نتاجات فكرية جيدة في هذا الموضوع. والشريعة الإسلامية تمثل ثروةً قانونيةً اعترف بها حتى الغربيون، إلا أنّ الواقع لم يسمح لهذه الدراسات بالانتشار، على غرار ما حصل مع الواقع القومي الذي لم يستطع أن يقدم برنامجه، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الواقع الشيوعي الذي حكم مدةً طويلةً. وهذه القضايا تنطلق من خلال طبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية وما إلى ذلك.
الشريعة الإسلامية تمثل ثروة قانونية اعترف بها حتى الغربيون

النص بين الثبات والتغيير


س: كنتم تقولون إن النص خاضع للتغيير والتطوير والتفسير وفق الزمن الذي يتواجد فيه...

ج: هناك نقطة، وهي أن النص جامد، لكن مضمونه متحرك. ونستشهد لذلك بكلمة "عدل"، فهي مكونة من ثلاثة حروف جامدة، ولكن المجتهدين والعلمانيين والدينيين يجتهدون في تحديد مضمونها، وكل واحد يحاول أن يفسر العدل وفق طريقته. فكل نص ثابت مثل القانون، لكن مضمون المادة هو الذي يتحرّك. وهناك مجتهدون في مصر وإيران والعراق يعملون على أساس تحريك مضمون النصوص الشرعية. وأعطي مثلاً على ذلك، ما اعتمدته من مبنى فقهي في تحديد أوائل الشهور وأواخرها بالرجوع إلى الحسابات الفلكية وليس من خلال الرؤية، وما أفتيت به من حق المرأة في الدفاع عن نفسها إذا اعتدي عليها من قِبَل زوجها، وهناك رجال اعترضوا على هذا الأمر. وقد أفتيت أيضاً بطهارة كل إنسان، سواء كان ملحدا ًأو بوذياً أو أي إنسان آخر، مع أن هناك فتوى عند البعض بأن غير المسلم نجس. وهناك آخرون غيري لديهم فتاوى وحركة في الاجتهاد متطوّرة.
النص جامد ولكن مضمونه متحرك وهناك حركة في الاجتهاد متطورة

س: ارتفعت في الآونة الأخيرة وتيرة الخطاب الطائفي التي تحمل مستوًى مرتفعاً من المذهبية والمناطقية عند أكثر من طرف. ماذا تقولون ونحن على أبواب التحضيرات للانتخابات النيابية المقبلة؟

ج: أقول للبنانيين إنه منذ الاستقلال والطائفية تسحق كل مصالحكم، وتثير الكثير من الحروب فيما بينكم، وتعقّد علاقاتكم، وقد جعلت الآخرين، سواء من الشرق أو من الغرب، يتدخّلون في كل شؤونكم، حتى لنستطيع أن نقول إنه ليس هناك لبناني يعيش لبنانيته في مسؤوليته وأرضه. ولهذا نحن اليوم نتحدث عن الاستراتيجية الدفاعية ولا نفكّر بطريقة موضوعية، نقول إن الدولة ينبغي أن تحكم، ولكن لا نسأل كيف يمكن أن تحكم. لقد صفّقنا وهلّلنا للطائرات العشر الروسية من نوع "ميغ"، ولم نسأل هل إنّ هذه الطائرات تكفي للدفاع عن لبنان؟ لذلك عندما نبحث في الدفاع وغيره، لا ينبغي أن نبحث الأمر من خلال عقدنا الحزبية أو الطائفية وسواها، بل علينا أن نبحث من خلال الواقع، وأنا دائماً أقول إنه ينبغي أن نعمل على أسس واقعية لا تبتعد عن المبادىء.
من الضروري أن يكون هناك تنسيق حقيقي بين الجيش والمقاومة، لأن الجيش النظامي من الصعب أن يقاتل  جيشاً نظامياً أقوى منه، لكن المقاومة تمارس حرب العصابات

س: ما هو تصوّركم للاستراتيجية الدفاعية؟

ج: سيبحث السياسيون هذا الأمر. أنا أقول عندما يكون الجيش قوياً، فإنه يستطيع أن يدافع عن أرضه إذا اعتدت إسرائيل، فلا نحتاج حينها إلى المقاومة، لكن الجيش الآن غير قادر. ربما يتم البحث في ذلك إذا حصل السلام بين العرب وإسرائيل، ومع وجود اطمئنان بأن إسرائيل لن تعتدي على لبنان، مع أنها منذ قيامها وهي تنتقل من عدوان إلى آخر إلى أن وصلت إلى احتلال بيروت، وأرضنا اليوم مستباحة. وفي تصوري أن وجود اليونيفيل هو لحماية إسرائيل وليس لحماية لبنان. لذا من الضروري أن يكون هناك تنسيق حقيقي بين الجيش والمقاومة، لأن الجيش النظامي من الصعب أن يقابل جيشاً نظامياً أقوى منه، لكن المقاومة تمارس حرب العصابات، وهي تستطيع أن تخرق الجيش النظامي وتتغلب عليه، كما حصل في تموز 2006م. وهذه القضايا ينبغي أن تدرسها شخصيات عسكرية مختصة لا شخصيات سياسية، لأن العسكري يعرف ما هي طبيعة المقاومة ودورها.

س: نعرف مكانة الشهادة عندكم سماحة السيد، لكن هل تعتبرون الذين اغتيلوا عام 2005 شهداء؟ وفي سبيل ماذا؟ ولاسيما بعد استشهاد النائب جبران تويني؟

ج: أنا أعتبر أنّ كل من دافع عن حرّيّة وطنه وعن المستضعفين هو شهيد.

س: ماذا عن المحكمة الدولية التي نقبل عليها في آذار المقبل؟

ج: حتى الآن لم نعرف خير هذه المحكمة من شرها، ولكننا نعرف أن العالم ليس عالم الحقيقة دائماً، إذ من الممكن أن يتم التلاعب بالقضاء حتى على مستوى الدول الكبرى.
كل من دافع عن وطنه وعن المستضعفين وحرية وطنه هو شهيد

س: ما هي الضمانة إذا كان ثمة شك في القضاء المحلي وفي القضاء الدولي؟

ج: لا ضمانات، فالحرب اللبنانية التي قتل فيها عشرات الآلاف، جاء العفو وشطب كل شيء.

س: هل تخافون من فتنة بين السنة والشيعة في لبنان؟

ج: أنا أرى أن هذه المسألة يثيرها بعض الزعماء الطائفيين والمذهبيين، وأيضاً نجد داخل الطائفة الواحدة بعض المشاكل، فهناك مشاكل بين مسيحية كاثوليكية وأرثوذكسية كانت تحت الطاولة وليس فوقها. والحس الطائفي عندما تتوافر له عناصر الإثارة التي توقظ المشاعر السلبية، فإنه يخلق مشكلةً. علينا أن نكون لبنانيين، وأنا دائماً أدعو إلى أنسنة الأرض مثل ما أدعو إلى أنسنة الإنسان، فالأرض ليست صنماً نعبده.
أنا أدعو إلى أنسنة الأرض مثل ما أدعو إلى أنسنة الإنسان، فالأرض ليست صنماً نعبده

الشيعة والعمل السياسي في لبنان


س: تكلّمتم سابقاً عن القرصنة وأدنتموها وتحدثتم عن القرصنة السياسية، ألا ترون أن حال الطائفة الشيعية يوصف ببعض القرصنة السياسية من خلال ما حصل في مقاطعة مجلس الوزراء، وما حصل في 7 أيار الفائت، وفي الشياح (مار مخايل) وغيرها؟

ج: أنا دائماً أدعو إلى التفكير بطريقة قضائية، وأي حدث كان، سواء في السابع من أيار أو غيره، يجب أن نطّلع عليه بدقّة، وأن نعرف ما هي تفاصيله، ومن ذلك ما يتعلّق بالقرارين المعروفين اللّذين تراجعت عنهما الحكومة فيما بعد، وأن نعرف كم قتيلاً قتل في أحداث مار مخايل، ومن دخل على الخط. وأنا أقول إنّ علينا أن نناقش الأمور بطريقة وسائل الإثبات، وما يحصل أننا ننطلق بالطريقة الإعلامية الاستهلاكية التي تحاول أن توظّف الإعلام لصالح هذا الحزب أو ذاك، أو لإيقاظ هذه الفتنة أو تلك.

ولا تنسوا أن قضية 7 أيار والجو الذي كاد يقترب من الفتنة المسلّحة، انطلق من دول عربية وخارجية عدة. ونحن نعرف أن هناك بلداناً عربيةً لا تزال تموّل هؤلاء التكفيريين في العراق. هناك عقلية موجودة في هذه الدول العربية، وهي تستخدم أموالها بغية إبقاء الفوضى والفتنة في العالم العربي، ومنه لبنان.

س: ولكن المقصود وضع الشيعة في الدولة، فمثلاً الوزراء الشيعة يهدّدون بمقاطعة جلسات مجلس الوزراء والاستقالة...

ج: أنا لا أتابع هذه الخصوصيات، ولكن أعتقد أن اللعبة السياسية هي التي تحكم لبنان وليس الرسالة السياسية، سواء انطلقت هذه اللعبة من هذا الجانب أو من الجانب الآخر. فلبنان أشبه بالكرة التي تتقاذفها الأقدام لكي يسجل كل واحد نقطةً على الآخر.
اللعبة السياسية هي التي تحكم لبنان وليس الرسالة السياسية

س: ألا ترون أن المؤسسات الدينية في لبنان قد تحوّلت إلى منابر للزعماء السياسيين من كل طائفة، عدا أن لقاءات بعض رجال الدين من طوائف مختلفة تحولت فولكلوراً دون أن نلمس أي إيجابيات على الأرض؟

ج: في الواقع اللبناني نجد أن "النخبة السياسية" أو "القيادات السياسية" يتعايشون فيما بينهم، ولكنهم في المقابل يدعون قواعدهم إلى التقاتل لحسابهم. ثمة نوع من استغباء القاعدة. لذلك أنا أقول دائماً إن على القمة إذا أرادت أن ترتفع، أن ترتفع إلى مستوى القاعدة، لأن القاعدة أطهر من القمة.

س: هل تعتقدون أننا مقبلون على حرب أهلية في لبنان؟

ج: لن تحدث في لبنان أية فتنة طائفية أو حرب أهلية، لأن لبنان تحكمه ثلاث لاءات كنت أتحدث عنها منذ ما قبل الفتنة، وهي: (لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار).
النظام الطائفي سيبقى وهو سرطان لبنان

س: نحن مقبلون على انتخابات نيابية. في رأيك، إذا فازت الموالاة أو المعارضة بفارق بسيط، هل يمكن أن يغير ذلك في الواقع اللبناني؟

ج: أستبعد أن يتغير شيء جذري، لأن النظام الطائفي سيبقى، وهو سرطان لبنان.

حرب غزّة: تطويق لحركات التحرر في المنطقة

س: خلال العدوان على غزة قلتم: إن ما نشهده في غزة، يتجاوز الهجوم ليدخل في سياق الانقضاض على حركة التحرر في العالم العربي بأكمله. ما هي هذه الحركة؟ وكيف تراها على أرض الواقع؟ والتحرر من ماذا؟

ج: عندما ندرس العالم العربي والإسلامي، نجد أنه يُحكم إما من قِبَل شخص أو عائلة أو حزب معلّب، لذلك تمكنت الدول الأخرى من مصادرة ثرواته الطبيعية في شكل غير مباشر، من خلال التأثير على سياسته الداخلية، أو بتحويل البلد إلى سجن كبير من خلال تحالفات هذه الدول الكبرى مع الأنظمة التي تسيطر على العالم الإسلامي، فتحوّل هؤلاء الحكّام إلى موظفين يشرفون على هذا السجن الكبير الذي تتحرك فيه أجهزة المخابرات، وتسوده قوانين الطوارئ. وفي الوقت نفسه، نجد أن هناك ميثاقاً دولياً ينتقد بعض هذه الأنظمة، ولكنه يتحدث عنها بشكل سطحي بينما يدعمها بكل قوة.

أنا أتصور أن العالم العربي والإسلامي في أكثر من موقع هو عالم مستعبد، ليس بالمعنى التاريخي للعبودية، بل العبودية التي تمنع الشعب من أن يتحدث بحرية.
العالم العربي والإسلامي في أكثر مواقعه مستعبد بالعبودية التي تمنع الشعب من أن يتحدث بحرية

وأنا أعتقد أن مسألة الحرب على غزة لم تكن ناشئةً من وضع أمني تعاني منه إسرائيل كما روّج له الإعلام الإسرائيلي، بل إن هناك مشكلةً لا تزال تتحكم بمسار القضية الفلسطينية، وهي أن المطلوب إسرائيلياً هو مصادرة هذه القضية، فإسرائيل لا تريد الاعتراف للفلسطينيين بدولة قابلة للحياة، وقد استطاعت، ومعها أميركا ودول الغرب من خلال اللجنة الرباعية الدولية وخريطة الطريق، أن تطوّق السلطة الفلسطينية، وأن تسقط مسألة المقاومة من أجندتها، وبقيت مسألة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"كتائب الأقصى" وغيرها هي المشكلة، لأنها لا تعترف بإسرائيل، ولا توافق على المخطّط المطروح.

وكان من الممكن جداً أن توضع شروط معينة للتهدئة، باعتبار أن التهدئة السابقة خرقتها إسرائيل بشكل يفوق العادة، ما جعل قضية الصواريخ التي تطلق على مستوطنة سديروت وغيرها ردّ فعل، ولم تكن قضية فعل في الموضوع، حتى إن "حماس" كانت تتكلم بعنف مع الفصائل الأخرى التي كانت تطلق الصواريخ من هنا وهناك. لقد كان من الممكن جداً إيجاد وضع سلمي يؤدي إلى التهدئة، لكن بعض أجهزة الإعلام كان مخططاً لها سابقاً أن تقوم بهذا الدور، لذلك قالت إسرائيل كما سمعنا كلنا، إنها تريد تغيير الواقع تماماً في غزة، بحيث لا يكون هناك حماس أو أي فصيل من فصائل المقاومة، حتى تسير التسوية وفق الشروط الإسرائيلية، ولاحظنا أن عرب الاعتدال كانوا موافقين، بل حتى إن الإسرائيليين قالوا إنهم مكلَّفون بذلك، وإنّ هؤلاء كانوا يشجّعونهم على أن يستمرّوا إلى حين إسقاط حماس، ولم يصدر من العرب أيّ نفي رسمي، ما يدل على أن القضية كانت غربيةً إسرائيليةً عربيةً.

ولذلك أتصوّر أن المسألة تنطلق من قاعدة ألا تكون هناك أي مقاومة لتلك القرارات، لإبقاء العالم العربي والإسلامي خاضعاً للسياسة الدولية. حتى أوباما في تصريحه الأخير يقول نحن نضمن أمن إسرائيل بالمطلق، ولكننا نطلب المساعدات، بمعنى أنّ قصة الفلسطينيين هي قصة صدقات ومساعدات، أما قصة إسرائيل فهي قصة أمن.
ما حصل في غزة وحّد الأمة

س: ألا تعتقدون أن ما حصل في غزة خفّف من التشنج السني ـ الشيعي في المنطقة؟

ج: أنا أعتقد أن الذي حصل في غزّة وحَّد الأمة، على الرغم من أنّ بعض الإعلام المصريّ عملت على إثارة المسألة من باب عنصريّ طائفي، وذلك من خلال الحديث عن الفرس والشيعة في إيران، في مقابل مصر العربية السنية، مع أن القضايا كلها سياسية وليست دينيةً عقيديةً.

س: لكن واقع المنطقة ينقسم إلى محورين: فهناك المحور المصري ـ السعودي، مقابل المحور الإيراني ـ السوري، ألا يدخل هذا الأمر في الخلفية الطائفية؟

ج: لا، بل إنه يدخل من باب الخلفية السياسية.
الدولة التي تتحرك حدودها مع حركة دباباتها وطائراتها هي ليست دولة ولا يمكن أن تعيش في محيطها

س: كيف تنظرون إلى مستقبل إسرائيل؟

ج: أنا أرى المستقبل يتحرك لغير صالحها، حتى إن بعض المفكرين في إسرائيل يقولون: إذا خسرنا حروباً أخرى فهناك خوف من أن تزول الدولة، وحتى دينياً يتحدث بعضهم عن هذا الأمر. أنا لا أريد أن أتكلم بشعارات، لكنني أقول إن الدولة التي تتحرك حدودها مع حركة دباباتها وطائراتها هي ليست دولةً، ولا يمكن أن تعيش في محيطها. فمثلاً نحن في لبنان قد نختلف مع سوريا في مسألة الحدود، وهل إن هذه الأرض لبنانية أو سورية، ولكن هذا الخلاف قد يُحلّ بالمفاوضات، لكن إسرائيل أين حدودها؟!

س: هل توافقون القائلين إن "حماس" انتصرت في غزّة؟

ج: في قضية الانتصار هناك أكثر من جانب، فالمجازر التي ارتكبتها إسرائيل واستعملت فيها كل أسلحتها التي استعملتها أميركا أيضاً في العراق وأفغانستان وغيرها، وقتلت ودمرت الحجر والبشر، لا تعتبر انتصاراً. في المقابل، صمدت حماس وظلّت حتى آخر وقت تقصف إسرائيل، وحتى بعد وقف إطلاق النار، وعندما لم تستطع إسرائيل أن تحقق هدفها الذي أعلنت عنه في اليوم الأول، أي تغيير الواقع بالقضاء على حماس وإزالتها من الوجود، وتسليم غزة إلى "أبو مازن" (الرئيس محمود عباس)، فمعنى ذلك أن حماس انتصرت وصمدت أمام أقوى رابع جيش في العالم.
حماس انتصرت وصمدت أمام أقوى رابع جيش في العالم

موضوعات شبابية


س: بالعودة إلى الشؤون اللبنانية، هل تؤيدون خفض سن الاقتراع؟

ج: إذا كان الشخص يعتبر شخصيةً قانونيةً عندما يبلغ الثامنة عشرة من عمره، فلماذا يحرم حقّ التصويت في هذه السنّ؟

س: ما هو رأيكم في إلغاء الانتخابات الطلابية في الجامعات؟

ج: لم أدرس هذه القضية حتى أحكم.

س: هل أنتم مع الزواج المدني؟

ج: أنا مع الزواج الشرعي.
هناك ثوابت في الشريعتين الإسلامية والمسيحية يجب الالتزام بها حتى يكون الزواج شرعياً

س: أليس الزواج المدني شرعياً؟

ج: هناك ثوابت موجودة في الشريعتين الإسلامية والمسيحية يجب الالتزام بها حتى يكون الزواج شرعياً، وهذه قضايا خاصّة، لذلك لا أعتقد أنّ هذه المسألة تشكّل مشكلة للبنانيين.

س: حتى الآن نحن مختلفون على كتابة التاريخ. في رأيك، من سيكتب التاريخ في لبنان؟

ج: عندما نصل إلى مرحلة نعيش فيها معنى لبنان في الإشعاع الفكري، ولا نخاف من الحقيقة إذا كانت لا تنسجم مع ذهنيتنا العصبية والطائفية، يمكن حينها أن نكتب التاريخ.

ولكن مشكلتنا أننا سنظل نتخبط كأننا "والماء من حولنا، قوم جلوس حولهم ماء".
وصيتي للجيل الجديد أن يأخذ بأسباب العلم، لأن الصراع في العالم هو صراع العلم

س: ما هي وصاياك للجيل الجديد؟

ج: وصيّتي للجيل الجديد أن يأخذ بأسباب العلم، لأن الصراع في العالم هو صراع العلم، ولأنّ الأكثر علماً هو الأكثر إنتاجاً. فإسرائيل أصبحت قوةً تحتاجها حتى الدول الكبرى من خلال العلماء الذين يكتشفون وينتجون ويبدعون. أما نحن في لبنان، فإننا نحتقر العلم، ولذلك حاربنا الجامعة اللبنانية.

لذلك على الشباب أن يتعلموا حتى يصلوا إلى أعلى درجات العلم، ليكونوا مصداق الآية القرآنية: {وقل ربِّ زدني علماً} [طه:114]. كما عليهم أن يؤمنوا بأنفسهم، وأن يكونوا أنفسهم لا صدًى للآخرين، وأن لا يستعبدوا أنفسهم لزعاماتهم الطائفية، سواء كانت زعامات دينية أو سياسية.

وثالثاً أن يفكروا في مستقبلهم، أي أن يكونوا "مستقبليين" لا "ماضويين".

الأحرار في العالم


س: تتحدثون عن الأحرار في العالم، فمن هم الأحرار؟

ج: الحر هو الذي لا يبيع عقله، ولا فكره، ولا موقفه، ولا وطنه للآخرين. الإمام علي(ع) يقول: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". فحرية الإنسان تعني إنسانيته، وعلى هذا يجب أن نربي أجيالنا.
الحر هو الذي لا يبيع عقله ولا فكره ولا موقفه ولا وطنه

س: ماذا تقول لنهار الشباب؟

ج: يحتاج الصحافي، وخصوصاً الشباب منهم في هذا العصر الذي يضج بالتطورات المتلاحقة، سواء على المستوى الثقافي أو السياسي، إلى أن يعيش مسؤولية الصحافة، وأن يلاحق التطورات، لا أن ينقلها فقط، بل أن يفكر فيها وينقدها، لأنّ عملية النقد تعطي أصالة للفكر، سواء كان نقداً إيجابياً أو سلبياً. ومع الأسف، أصبحنا استهلاكيين لا منتجين، وأصبحنا نعلّم الشعب أن يرفع يديه فداءً للزعيم أياً يكن الزعيم، سواء السياسي أو الديني أو العشائري، لذلك أصبحت عملية النموّ محدودةً جداً، ونخشى في عملية الحصار التي يتعرض لها الجيل الجديد في أكثر البلدان، أن يصنع مستقبلاً مستنسخاً. وأتمنى لكم كل خير، وأجدّد تعازيّ بالمأساة التي عشناها جميعاً باغتيال الشهيد جبران تويني.
مسؤولية الصحافي أن يلاحق التطورات وأن يفكر فيها وينقدها، لأن عملية النقد تعطي أصالة للفكر

س: ماذا تقول لغسان وجبران تويني؟

ج: علاقتي بالأستاذ غسان تاريخية، والمقابلة التي تمّت بيني وبينه أصبحت تاريخيةً، وأيضاً في المقابلة التي أجراها معي المرحوم جبران وعنوانها "خميني لبنان يتكلم" في "النهار العربي والدولي"، يومها قلت له: إنني عندما أقرأ والدك أفكّر، وعندما أسمعك أشعر وكأني أخرج في تظاهرة، فقال: أنا ثائر مثلك، فقلت له: إنّ الثائر عليه أيضاً أن يخطِّط، ويجب أن يتعمّق حتى يقدم للناس فكراً ثورياً ناضجاً.

شارك في الحوار: (نايلة تويني ـ غسان حجار ـ رضوان عقيل ـ سلوى بعلبكي ـ إبراهيم دسوقي ـ وديع تويني ـ كريم أبو مرعي.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 03 صفر 1430 هـ  الموافق: 29/01/2009 م

السيد محمد حسين فضل الله:

كل من دافع عن حرية وطنه هو شهيد


فيما كان الشمال يضج بتمرد السجناء في سجن القبة، كنا نقابله في منـزله المتواضع حيث يقيم. حقاً إنه متواضع قياساً بما يملك من رصيد إنساني وديني وحتى مالي. فالمرجع، السيد محمد حسين فضل الله، رئيس جمعية "المبرات" صاحبة المؤسسات الكثيرة، وأيادي الخير الكثيرة، يبتعد عن كل مظاهر البذخ، وتواضعه ينعكس على كل ما يحيط به.

خبرته في الحياة، وتعمقه في الدين، أكسباه بعداً إنسانياً واسعاً يتخطى حدود الطائفة والمذهب، على رغم تحفظه عندما نأتي على ذكر خصوصيات شيعية. لا يهاب، لكنه يتجنب الجدال الذي لا طائل منه، ويحاول استيعاب كل أسباب الخلاف والانقسام.

تحدثنا معه في كل الموضوعات، وقد دهمنا الوقت، وتجاوزناه، لكننا ظللنا نحمل أسئلةً وتساؤلات كثيرةً تحتاج إلى وقت أطول، علّنا نستمتع بالحديث مع السيد، فلا يقتصر تواصلنا على قراءة منه، بل نزيد تفاعلاً في حضوره.

نهار الشباب حاورت العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، في شؤون لبنانية ودولية

وهذا نصّ الحوار:


واقع السجون والقضاء في لبنان

س: ما رأيكم في التمرد الحاصل في سجن القبة؟ وماذا تقولون للمساجين؟

ج: لعل المشكلة في نظام السجون في لبنان، سواء من حيث طبيعة مكان السجن، أو في الأساليب التي تستخدم فيه، أن الطائفية تتدخل من خلال المشرفين عليه، بحيث تؤثر في أسلوب المعاملة بين السجناء، ليكون هناك سجناء أبناء ست وسجناء أبناء جارية، وذلك بحسب المعلومات التي تصلنا في هذا المجال. فالسجون عندنا لا تسجن جسد المحكوم فحسب، بل تسجن روحه ومشاعره، والمفروض أن السجن للجسد فقط، وإن كان سجن الجسد يترك تأثيراته في نفسية الشخص.
السجون في لبنان تسجن روح السجين ومشاعره

ونحن نعتقد أن السجين إنسان، وفي تصوري أنه حتى المجرم يعيش ومضةً إنسانيةً في أعماقه، وعلينا أن نحركها ونكتشفها لنوجّهه، وهذا يحتاج إلى حوار بين السجين والمشرفين عليه، أو بين السجين والذين يقاضونه، لأنّ السياسة، مع احترامنا للقضاء، ما دخلت شيئاً إلا أفسدته.

س: سماحة السيد، هل هذا يعني أن علينا أن ننقض كل أسس الدولة إذا كان القضاء غير مستقيم، فاليوم هناك مفاوضات في السجون، وبدل أن تملك الدولة القدرة على قمع التمرد، صار السجين هو من يقرر، فأين مفهوم الدولة؟

ج: ليس بالضرورة أن يكون الحوار سلبياً في نتائجه، فمن الممكن أن يتقدم هؤلاء بطلباتهم، التي قد تكون معقولةً وقد تكون غير معقولة، المهم أن السجين نال عقوبته عندما سُجن، لذلك علينا أن نعامله داخل السجن كإنسان له حاجاته، كحال من هم خارج السجن. لذلك أقول إنّ علينا في كل حركتنا في المسؤوليات، سواء في هذا الإطار أو في إطار آخر، أن نؤكِّد الومضة الإنسانية عند الإنسان، وأن نحترمه، ونسمع منه عندما يتكلم، ونسمع منه حتى عندما يتحرك في الفوضى.

علاقة المرجع فضل الله بالأحزاب اللبنانية

س: ما هي طبيعة علاقتكم بـ "حزب الله"؟ وهل ما زلتم المرشد الروحي له؟

ج: كلمة المرشد الروحي لـ "حزب الله" منحني إياها الغرب غير مشكور، وسأخبركم قصة: في إحدى المرات، كان عندي أحد الصحافيين المعروفين، وكنا نتحدث، واتصلت مراسلة "وكالة الصحافة الفرنسية"، وطلبت أن تجري معي حديثاً، وقلت إني مستعد، ولكن بشرط ألا تعرِّفوا عني بأنني المرشد الروحي لـ "حزب الله"، لأنني لا أعترف بهذا، وليس لي أيّ وضع تنظيمي لدى الحزب، ولا لدى أيّ حزب آخر. فقالت سأتصل بوكالتي في المركز الرئيسي في باريس، ثم أجابت بأنهم لا يوافقون، والمطلوب الحوار معك على أساس أنك المرشد الروحي لـ "حزب الله".
   

علاقتي بحزب الله علاقة طبيعية، وهناك علاقة مثلها بحركة أمل


وعندي علاقة بكل الأطياف اللبنانية


أما الآن، فعلاقتي بـ"حزب الله" هي علاقة طبيعية، وهناك علاقة مثلها بـ "حركة أمل"، وعندي علاقة بكل الأطياف اللبنانية. حتى قبل مدة زارني وزير السياحة السابق (جو سركيس) وهو من "القوات اللبنانية"، وكانت جلسةً جيدةً ومنفتحةً. أنا شخصياً منذ أن انفتحت على العمل العام، أزلت أي عقدة تجاه أي شخص قد أختلف معه، وعندي شعار أنه إذا كان من حقي أن أختلف مع الآخرين، فمن حق الآخرين أن يختلفوا معي، والحوار هو الذي يمكن أن يعالج الاختلاف، وأنا متخصص في مسألة الحوار وقضاياه، وعندي كتاب ألّفته قبل خمسين سنة عن الحوار، وهو كتاب "أسلوب الدعوة في القرآن"، وكتب أخرى ككتاب "الحوار في القرآن"، و"تأملات في الحوار الإسلامي المسيحي".

س: أي حوار؟

ج: أنا أدعو إلى الحوار الإنساني الإنساني، والإسلامي الإسلامي، والإسلامي المسيحي، والإسلامي اليهودي ـ وليس الإسرائيلي ـ والإسلامي العلماني.

س: والحوار السياسي؟

ج: وحتى الحوار السياسي، أليس ما نجريه الآن حواراً سياسياً؟

س: نقصد في ما يخص إسرائيل...

ج: أنا أقول إن إسرائيل دولة غاصبة، ونحن نجمع على رفض التوطين، لماذا؟ لأننا نعتبر أن الفلسطينيين فرضوا على لبنان ليُقتطَع لهم جزء من أرضه على حساب اللبنانيين، وهناك جدل في لبنان أنه لا يجوز أن نبيع الأراضي للأجانب، وأنه يجب أن نبقي أرضنا ليسكنها شعبنا. وسبب هذا الجدل وهذه المشكلة، أن اليهود جاؤوا من كل أنحاء العالم إلى فلسطين وطردوا أهلها من أرضهم وبيوتهم، وهم لا يقبلون بعودتهم إلى أرضهم، ونحن عندنا آية قرآنية تقول: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت:46]، وهؤلاء ظالمون، فقد اغتصبوا الأرض والإنسان، ولم يقبلوا أن يعود المشرَّدون إلى بيوتهم وبلادهم. وأنا أقول دائماً إن من يطلق عليّ صاروخاً لا يمكن أن أقدم له إضمامة ورد.
نحن لا نحاور اليهود الإسرائيليين لأنهم ظالمون اغتصبوا أرض فلسطين وشردوا شعبها منها

س: كان لافتاً أن يزورك ممثل رئيس الهيئة التنفيذية في "القوات اللبنانية" سمير جعجع. ماذا حمل إليك؟

ج: لم يكن يمثل الدكتور جعجع في زيارته، بل جاء بصفته الشخصية، ونقل إليَّ تحيات جعجع، ورددت التحية بمثلها، وأوصيته بأن يقول له إنّ عليه أن يطرّي أسلوبه، وأن ينطلق بأسلوب منفتح يمكن أن يدخل إلى العقل والقلب ولا يخلق عقدةً.

العلاقات اللبنانية ـ السورية

س: ماذا تقول في الحوار اللبناني ـ السوري الذي لم يصل إلى نتيجة بعد في ما يتعلق بترسيم الحدود وعودة المفقودين؟

ج: إنّ العلاقات السورية ـ اللبنانية هي علاقات تاريخية ومتداخلة من ناحية الأسَر اللبنانية والسورية وما أشبه ذلك. صحيح أن هناك مشكلات قائمة، لكنني أقول إنّ هذه المشكلات لا يمكن أن تُحَلَّ بأسلوب العنف، وحتى عنف الكلمة. وما نلاحظه الآن أن أوروبا انفتحت على سوريا، وأميركا سوف ترسل وفداً بعد مدة إلى دمشق.

س: ولكن أميركا لم تعانِ من تدخل سوري ونفوذ على أراضيها؟

ج: أنا أقول إنه ما دامت هناك علاقات دبلوماسية، فإن الحوار قد ينفتح في أي وقت، وسوريا لن تعود إلى لبنان قطعاً، لأنه ليس هناك أي وضع دولي أو إقليمي أو محلي يسمح لها بالعودة بجيشها إلى لبنان، أما فيما يخصّ المشكلة معها، فهي من قبيل مشكلات الشقيق مع شقيقه، وحتى لو كان الشقيق ظالماً لشقيقه، فإن المشكلة لا تحل بالعنف والتعقيدات. أما قصة المخابرات، فلبنان بلد المخابرات، ولربما اطّلعتم على مذكّرات جون كيلي عن فندق السان جورج الذي كان ملتقى المخابرات، وقوله إن بيروت أفضل مكان للتنصت. وأنا كنت أقول عن لبنان إنه الرئة التي تتنفس فيها مشكلات المنطقة. لذلك أقول إنه في قضايا الدول لا يوجد دولة منفتحة مئة في المئة على الدولة الأخرى، فالعلاقات بين الدول هي علاقات مصالح متبادلة واحترام متبادل.
لبنان بلد المخابرات وأفضل مكان للتنصت

الحوار بين اللبنانيين


 س: تستأنف جلسات الحوار بين السياسيين اليوم في قصر بعبدا، وقد ينتهي الأمر إلى لجنة لمتابعة درس الموضوعات، وخصوصاً الاستراتيجية الدفاعية، وأنتم تعلمون أن اللجان مقبرة المشاريع. هل ترون أن الحوار في لبنان لن يصل إلى نتيجة؟

ج: نعم، لأن لبنان مزرعة وليس دولةً.
لبنان يصبح دولة عندما ينطلق على أساس المواطنة لا على أساس النظام الطائفي

س: وكيف يمكن أن يصبح دولةً؟

ج: عندما ينطلق على أساس المواطنة لا على أساس النظام الطائفي الذي يؤدي بكل طائفة إلى أن تشعر باستقلالها، بحيث يكون لها رجال دينها وسياسيّوها ورجال اقتصادها ومناطقها. وأنا أقول في ذلك إن لبنان يمثّل ولايات غير متحدة. لقد أوجد النظام الطائفي ثغراً، بحيث جعل كل طائفة تستقوي بدولة ضد الطوائف الأخرى، وهو ما سمح للخارج بأن يدخل إلى لبنان من خلال هذه الثغر. لذلك كان يقال سابقاً إن للطائفة الفلانية علاقة ببريطانيا، وللثانية علاقة بفرنسا، قبل أن تأتي أميركا التي يتردد الحديث عن علاقة البعض بها، كما يتردد أيضاً عن علاقة بعض الطوائف بإيران أو ما شابه. لذلك لا وطن عندنا، لأنّ كل إنسان يلتزم طائفته أكثر مما يلتزم وطنه، وهذا ما نلاحظه في الوضع الانتخابي، فالكلام يدور عن حقوق المسيحيين، أو عن حقوق السنة والشيعة أو الدروز، أما الذين يتحدثون عن حقوق لبنان فهم قلة.

س: وما هو الحل إذاً؟

ج: في القرآن الكريم آية تقول: {إن الله لا يغير بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11].

س: هذا الكلام نسمعه منذ أكثر من ستين عاماً؟

ج: الخارج هو صورة الداخل، واللبنانيون لم يقتنعوا حتى الآن بأنهم لا يستطيعون أن ينشئوا وطناً من خلال الذهنية الطائفية، وأن لبنان الوطن هو الذي يوحِّدهم، وعليهم أن يتعاونوا للوصول إلى هذا المعنى الذي وضعوه في آخر ما ورد في الميثاق الوطني، أي مسألة إلغاء الطائفية السياسية. ولكن الظاهر أنّ الوقت لم يحن بعد لمناقشة هذا الأمر، لا عبر الحوار ولا عبر غيره، لأن المصالح الداخلية ما زالت تفرض نفسها، فالمسيحيون مثلاً يخافون من غلبة المسلمين.

 لذلك أنا أقول إن لبنان صُنِعَ من أجل أن يكون قاعدةً لكل المخابرات الإقليمية والدولية، ولذلك نلاحظ وجود مخابرات عربية وأخرى أميركية وفرنسية إلى آخر القائمة.

س: من هنا سماحة السيد، هل تدعون إلى تطبيق العلمنة وإلغاء الطائفية؟

ج: ثمة علمنة في لبنان باستثناء الأحوال الشخصية. فلبنان بلد علماني، وهو لم يأتِ بقوانينه لا من الإنجيل ولا من القرآن، أي هو علماني في قانونه. وثمة خصوصيات في قضايا الأحوال الشخصية، ولا أعتقد أن هذه المسألة تحدث مشكلةً. وهناك بعض الناس قد وجدوا حلاً لهذا الأمر بـ(الزواج المدني)، فهم يذهبون إلى قبرص وأماكن أخرى ليتزوّجوا.
 لبنان بلد علماني وهو لم يأت بقوانينه لا من الإنجيل ولا من القرآن

العلمنة والمؤسسة الدينية


س: المعروف أنّ الدولة في أوروبا لم تقم إلا عندما قُمِعت المؤسسة الدينية...

ج: بعدما عانت أوروبا من مشكلات كثيرة، وبعد عدة حروب خاضتها على أراضيها، وصلت أوروبا إلى قناعة أن لا حلّ إلا في المؤسسات.

س: وهل تستطيع أن تعزل الإسلام عن الدولة، لأن الإسلام يقدّم نفسه ديناً ودولةً؟

ج: لكن مفهوم الدين والدولة ليس مطبَّقاً في لبنان، وهو ـ الإسلام ـ موجود في الذهن مثل أي تفكير علماني.

س: لكن الفتوى غالباً ما تكون أقوى من القانون؟

ج: أدري هذا الأمر، لكن الفتوى غالباً ما تتعلق بالقضايا الشخصية ولا تتعلق بالقضايا العامة، والأمر يشبه ما هو موجود في العقيدة المسيحية، فالزواج في المسيحية سر ولا يحصل خارج نطاق الكنيسة، أو لا يجوز للمسيحي أن يتزوج امرأةً ثانيةً، وبعض الطوائف المسيحية لا تجيز لرجل الدين عندها أن يتزوّج. فقضية الفتاوى لها علاقة بحياة الإنسان الخاصة، وقد قرأت أن بعض المفكرين والقضاة في بريطانيا قالوا إنه لا مانع عندهم من تطبيق الدين الإسلامي في محاكمهم في ما خص الأحوال الشخصية، لأنهم رأوا أن بعض القضايا ربما تخلق تعقيدات ومشكلات. من هنا أقول إن الأحوال الشخصية حالة خاصة.

الحركات الإسلامية والقانون

س: نشرنا تحقيقاً في الأسبوع الفائت في "نهار الشباب" عن بعض الحركات الإسلامية، ومنها "حزب التحرير"، وهي حركة لا تعترف بالقانون، وأعضاؤها لا يقفون للنشيد الوطني اللبناني؟

ج: كثر من الناس لا يعترفون بالقانون وليس الحركات الإسلامية وحدها لا تؤمن بمثل هذا الأمر، فأكثر الشيوعيين لا يعترفون بالقانون. وأنا أقول من الناحية الفكرية، إنّ المتطرفين في الإسلام هم على غرار المتطرفين في اليهودية أو المسيحية أو العلمانية، وقد كان القوميون في الأربعينات يقولون إن العرب فوق الجميع، وبعضنا يردّد أن لبنان فوق الجميع. لذلك نحن نقول إنه في الجو الإسلامي العام، لا أحد يتحدث عن إقامة دولة إسلامية في لبنان. لكن نحن نتحدث عن الإسلام كحركة فكر وقانون ومفاهيم وشريعة، وليس عن الإسلام كحالة طائفية مختنقة.
المتطرفين في الإسلام هم على غرار المتطرفين في اليهودية أو المسيحية أو العلمانية

س: كيف تصفون علاقتكم بالمرجعيات الشيعية في العراق وإيران؟

ج: أنا لا أعلّق على الأشخاص.

س: سماحة السيد، يؤخذ على الحركات الإسلامية أنها توقفت عن إنتاج مشروع فكري وأصبح عملها سياسياً محضاً، وأنها توقفت عن طرح أي بديل فكري أو تطويري؟

ج: هناك عوائق داخلية وخارجية حالت دون تطور الحركات الإسلامية، سواء على مستوى تطبيق برنامجها أو في ما تفكر فيه، ورغم ذلك، يوجد مفكّرون إسلاميون بحثوا في قضايا الإسلام والنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وهناك نتاجات فكرية جيدة في هذا الموضوع. والشريعة الإسلامية تمثل ثروةً قانونيةً اعترف بها حتى الغربيون، إلا أنّ الواقع لم يسمح لهذه الدراسات بالانتشار، على غرار ما حصل مع الواقع القومي الذي لم يستطع أن يقدم برنامجه، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على الواقع الشيوعي الذي حكم مدةً طويلةً. وهذه القضايا تنطلق من خلال طبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية وما إلى ذلك.
الشريعة الإسلامية تمثل ثروة قانونية اعترف بها حتى الغربيون

النص بين الثبات والتغيير


س: كنتم تقولون إن النص خاضع للتغيير والتطوير والتفسير وفق الزمن الذي يتواجد فيه...

ج: هناك نقطة، وهي أن النص جامد، لكن مضمونه متحرك. ونستشهد لذلك بكلمة "عدل"، فهي مكونة من ثلاثة حروف جامدة، ولكن المجتهدين والعلمانيين والدينيين يجتهدون في تحديد مضمونها، وكل واحد يحاول أن يفسر العدل وفق طريقته. فكل نص ثابت مثل القانون، لكن مضمون المادة هو الذي يتحرّك. وهناك مجتهدون في مصر وإيران والعراق يعملون على أساس تحريك مضمون النصوص الشرعية. وأعطي مثلاً على ذلك، ما اعتمدته من مبنى فقهي في تحديد أوائل الشهور وأواخرها بالرجوع إلى الحسابات الفلكية وليس من خلال الرؤية، وما أفتيت به من حق المرأة في الدفاع عن نفسها إذا اعتدي عليها من قِبَل زوجها، وهناك رجال اعترضوا على هذا الأمر. وقد أفتيت أيضاً بطهارة كل إنسان، سواء كان ملحدا ًأو بوذياً أو أي إنسان آخر، مع أن هناك فتوى عند البعض بأن غير المسلم نجس. وهناك آخرون غيري لديهم فتاوى وحركة في الاجتهاد متطوّرة.
النص جامد ولكن مضمونه متحرك وهناك حركة في الاجتهاد متطورة

س: ارتفعت في الآونة الأخيرة وتيرة الخطاب الطائفي التي تحمل مستوًى مرتفعاً من المذهبية والمناطقية عند أكثر من طرف. ماذا تقولون ونحن على أبواب التحضيرات للانتخابات النيابية المقبلة؟

ج: أقول للبنانيين إنه منذ الاستقلال والطائفية تسحق كل مصالحكم، وتثير الكثير من الحروب فيما بينكم، وتعقّد علاقاتكم، وقد جعلت الآخرين، سواء من الشرق أو من الغرب، يتدخّلون في كل شؤونكم، حتى لنستطيع أن نقول إنه ليس هناك لبناني يعيش لبنانيته في مسؤوليته وأرضه. ولهذا نحن اليوم نتحدث عن الاستراتيجية الدفاعية ولا نفكّر بطريقة موضوعية، نقول إن الدولة ينبغي أن تحكم، ولكن لا نسأل كيف يمكن أن تحكم. لقد صفّقنا وهلّلنا للطائرات العشر الروسية من نوع "ميغ"، ولم نسأل هل إنّ هذه الطائرات تكفي للدفاع عن لبنان؟ لذلك عندما نبحث في الدفاع وغيره، لا ينبغي أن نبحث الأمر من خلال عقدنا الحزبية أو الطائفية وسواها، بل علينا أن نبحث من خلال الواقع، وأنا دائماً أقول إنه ينبغي أن نعمل على أسس واقعية لا تبتعد عن المبادىء.
من الضروري أن يكون هناك تنسيق حقيقي بين الجيش والمقاومة، لأن الجيش النظامي من الصعب أن يقاتل  جيشاً نظامياً أقوى منه، لكن المقاومة تمارس حرب العصابات

س: ما هو تصوّركم للاستراتيجية الدفاعية؟

ج: سيبحث السياسيون هذا الأمر. أنا أقول عندما يكون الجيش قوياً، فإنه يستطيع أن يدافع عن أرضه إذا اعتدت إسرائيل، فلا نحتاج حينها إلى المقاومة، لكن الجيش الآن غير قادر. ربما يتم البحث في ذلك إذا حصل السلام بين العرب وإسرائيل، ومع وجود اطمئنان بأن إسرائيل لن تعتدي على لبنان، مع أنها منذ قيامها وهي تنتقل من عدوان إلى آخر إلى أن وصلت إلى احتلال بيروت، وأرضنا اليوم مستباحة. وفي تصوري أن وجود اليونيفيل هو لحماية إسرائيل وليس لحماية لبنان. لذا من الضروري أن يكون هناك تنسيق حقيقي بين الجيش والمقاومة، لأن الجيش النظامي من الصعب أن يقابل جيشاً نظامياً أقوى منه، لكن المقاومة تمارس حرب العصابات، وهي تستطيع أن تخرق الجيش النظامي وتتغلب عليه، كما حصل في تموز 2006م. وهذه القضايا ينبغي أن تدرسها شخصيات عسكرية مختصة لا شخصيات سياسية، لأن العسكري يعرف ما هي طبيعة المقاومة ودورها.

س: نعرف مكانة الشهادة عندكم سماحة السيد، لكن هل تعتبرون الذين اغتيلوا عام 2005 شهداء؟ وفي سبيل ماذا؟ ولاسيما بعد استشهاد النائب جبران تويني؟

ج: أنا أعتبر أنّ كل من دافع عن حرّيّة وطنه وعن المستضعفين هو شهيد.

س: ماذا عن المحكمة الدولية التي نقبل عليها في آذار المقبل؟

ج: حتى الآن لم نعرف خير هذه المحكمة من شرها، ولكننا نعرف أن العالم ليس عالم الحقيقة دائماً، إذ من الممكن أن يتم التلاعب بالقضاء حتى على مستوى الدول الكبرى.
كل من دافع عن وطنه وعن المستضعفين وحرية وطنه هو شهيد

س: ما هي الضمانة إذا كان ثمة شك في القضاء المحلي وفي القضاء الدولي؟

ج: لا ضمانات، فالحرب اللبنانية التي قتل فيها عشرات الآلاف، جاء العفو وشطب كل شيء.

س: هل تخافون من فتنة بين السنة والشيعة في لبنان؟

ج: أنا أرى أن هذه المسألة يثيرها بعض الزعماء الطائفيين والمذهبيين، وأيضاً نجد داخل الطائفة الواحدة بعض المشاكل، فهناك مشاكل بين مسيحية كاثوليكية وأرثوذكسية كانت تحت الطاولة وليس فوقها. والحس الطائفي عندما تتوافر له عناصر الإثارة التي توقظ المشاعر السلبية، فإنه يخلق مشكلةً. علينا أن نكون لبنانيين، وأنا دائماً أدعو إلى أنسنة الأرض مثل ما أدعو إلى أنسنة الإنسان، فالأرض ليست صنماً نعبده.
أنا أدعو إلى أنسنة الأرض مثل ما أدعو إلى أنسنة الإنسان، فالأرض ليست صنماً نعبده

الشيعة والعمل السياسي في لبنان


س: تكلّمتم سابقاً عن القرصنة وأدنتموها وتحدثتم عن القرصنة السياسية، ألا ترون أن حال الطائفة الشيعية يوصف ببعض القرصنة السياسية من خلال ما حصل في مقاطعة مجلس الوزراء، وما حصل في 7 أيار الفائت، وفي الشياح (مار مخايل) وغيرها؟

ج: أنا دائماً أدعو إلى التفكير بطريقة قضائية، وأي حدث كان، سواء في السابع من أيار أو غيره، يجب أن نطّلع عليه بدقّة، وأن نعرف ما هي تفاصيله، ومن ذلك ما يتعلّق بالقرارين المعروفين اللّذين تراجعت عنهما الحكومة فيما بعد، وأن نعرف كم قتيلاً قتل في أحداث مار مخايل، ومن دخل على الخط. وأنا أقول إنّ علينا أن نناقش الأمور بطريقة وسائل الإثبات، وما يحصل أننا ننطلق بالطريقة الإعلامية الاستهلاكية التي تحاول أن توظّف الإعلام لصالح هذا الحزب أو ذاك، أو لإيقاظ هذه الفتنة أو تلك.

ولا تنسوا أن قضية 7 أيار والجو الذي كاد يقترب من الفتنة المسلّحة، انطلق من دول عربية وخارجية عدة. ونحن نعرف أن هناك بلداناً عربيةً لا تزال تموّل هؤلاء التكفيريين في العراق. هناك عقلية موجودة في هذه الدول العربية، وهي تستخدم أموالها بغية إبقاء الفوضى والفتنة في العالم العربي، ومنه لبنان.

س: ولكن المقصود وضع الشيعة في الدولة، فمثلاً الوزراء الشيعة يهدّدون بمقاطعة جلسات مجلس الوزراء والاستقالة...

ج: أنا لا أتابع هذه الخصوصيات، ولكن أعتقد أن اللعبة السياسية هي التي تحكم لبنان وليس الرسالة السياسية، سواء انطلقت هذه اللعبة من هذا الجانب أو من الجانب الآخر. فلبنان أشبه بالكرة التي تتقاذفها الأقدام لكي يسجل كل واحد نقطةً على الآخر.
اللعبة السياسية هي التي تحكم لبنان وليس الرسالة السياسية

س: ألا ترون أن المؤسسات الدينية في لبنان قد تحوّلت إلى منابر للزعماء السياسيين من كل طائفة، عدا أن لقاءات بعض رجال الدين من طوائف مختلفة تحولت فولكلوراً دون أن نلمس أي إيجابيات على الأرض؟

ج: في الواقع اللبناني نجد أن "النخبة السياسية" أو "القيادات السياسية" يتعايشون فيما بينهم، ولكنهم في المقابل يدعون قواعدهم إلى التقاتل لحسابهم. ثمة نوع من استغباء القاعدة. لذلك أنا أقول دائماً إن على القمة إذا أرادت أن ترتفع، أن ترتفع إلى مستوى القاعدة، لأن القاعدة أطهر من القمة.

س: هل تعتقدون أننا مقبلون على حرب أهلية في لبنان؟

ج: لن تحدث في لبنان أية فتنة طائفية أو حرب أهلية، لأن لبنان تحكمه ثلاث لاءات كنت أتحدث عنها منذ ما قبل الفتنة، وهي: (لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار).
النظام الطائفي سيبقى وهو سرطان لبنان

س: نحن مقبلون على انتخابات نيابية. في رأيك، إذا فازت الموالاة أو المعارضة بفارق بسيط، هل يمكن أن يغير ذلك في الواقع اللبناني؟

ج: أستبعد أن يتغير شيء جذري، لأن النظام الطائفي سيبقى، وهو سرطان لبنان.

حرب غزّة: تطويق لحركات التحرر في المنطقة

س: خلال العدوان على غزة قلتم: إن ما نشهده في غزة، يتجاوز الهجوم ليدخل في سياق الانقضاض على حركة التحرر في العالم العربي بأكمله. ما هي هذه الحركة؟ وكيف تراها على أرض الواقع؟ والتحرر من ماذا؟

ج: عندما ندرس العالم العربي والإسلامي، نجد أنه يُحكم إما من قِبَل شخص أو عائلة أو حزب معلّب، لذلك تمكنت الدول الأخرى من مصادرة ثرواته الطبيعية في شكل غير مباشر، من خلال التأثير على سياسته الداخلية، أو بتحويل البلد إلى سجن كبير من خلال تحالفات هذه الدول الكبرى مع الأنظمة التي تسيطر على العالم الإسلامي، فتحوّل هؤلاء الحكّام إلى موظفين يشرفون على هذا السجن الكبير الذي تتحرك فيه أجهزة المخابرات، وتسوده قوانين الطوارئ. وفي الوقت نفسه، نجد أن هناك ميثاقاً دولياً ينتقد بعض هذه الأنظمة، ولكنه يتحدث عنها بشكل سطحي بينما يدعمها بكل قوة.

أنا أتصور أن العالم العربي والإسلامي في أكثر من موقع هو عالم مستعبد، ليس بالمعنى التاريخي للعبودية، بل العبودية التي تمنع الشعب من أن يتحدث بحرية.
العالم العربي والإسلامي في أكثر مواقعه مستعبد بالعبودية التي تمنع الشعب من أن يتحدث بحرية

وأنا أعتقد أن مسألة الحرب على غزة لم تكن ناشئةً من وضع أمني تعاني منه إسرائيل كما روّج له الإعلام الإسرائيلي، بل إن هناك مشكلةً لا تزال تتحكم بمسار القضية الفلسطينية، وهي أن المطلوب إسرائيلياً هو مصادرة هذه القضية، فإسرائيل لا تريد الاعتراف للفلسطينيين بدولة قابلة للحياة، وقد استطاعت، ومعها أميركا ودول الغرب من خلال اللجنة الرباعية الدولية وخريطة الطريق، أن تطوّق السلطة الفلسطينية، وأن تسقط مسألة المقاومة من أجندتها، وبقيت مسألة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"كتائب الأقصى" وغيرها هي المشكلة، لأنها لا تعترف بإسرائيل، ولا توافق على المخطّط المطروح.

وكان من الممكن جداً أن توضع شروط معينة للتهدئة، باعتبار أن التهدئة السابقة خرقتها إسرائيل بشكل يفوق العادة، ما جعل قضية الصواريخ التي تطلق على مستوطنة سديروت وغيرها ردّ فعل، ولم تكن قضية فعل في الموضوع، حتى إن "حماس" كانت تتكلم بعنف مع الفصائل الأخرى التي كانت تطلق الصواريخ من هنا وهناك. لقد كان من الممكن جداً إيجاد وضع سلمي يؤدي إلى التهدئة، لكن بعض أجهزة الإعلام كان مخططاً لها سابقاً أن تقوم بهذا الدور، لذلك قالت إسرائيل كما سمعنا كلنا، إنها تريد تغيير الواقع تماماً في غزة، بحيث لا يكون هناك حماس أو أي فصيل من فصائل المقاومة، حتى تسير التسوية وفق الشروط الإسرائيلية، ولاحظنا أن عرب الاعتدال كانوا موافقين، بل حتى إن الإسرائيليين قالوا إنهم مكلَّفون بذلك، وإنّ هؤلاء كانوا يشجّعونهم على أن يستمرّوا إلى حين إسقاط حماس، ولم يصدر من العرب أيّ نفي رسمي، ما يدل على أن القضية كانت غربيةً إسرائيليةً عربيةً.

ولذلك أتصوّر أن المسألة تنطلق من قاعدة ألا تكون هناك أي مقاومة لتلك القرارات، لإبقاء العالم العربي والإسلامي خاضعاً للسياسة الدولية. حتى أوباما في تصريحه الأخير يقول نحن نضمن أمن إسرائيل بالمطلق، ولكننا نطلب المساعدات، بمعنى أنّ قصة الفلسطينيين هي قصة صدقات ومساعدات، أما قصة إسرائيل فهي قصة أمن.
ما حصل في غزة وحّد الأمة

س: ألا تعتقدون أن ما حصل في غزة خفّف من التشنج السني ـ الشيعي في المنطقة؟

ج: أنا أعتقد أن الذي حصل في غزّة وحَّد الأمة، على الرغم من أنّ بعض الإعلام المصريّ عملت على إثارة المسألة من باب عنصريّ طائفي، وذلك من خلال الحديث عن الفرس والشيعة في إيران، في مقابل مصر العربية السنية، مع أن القضايا كلها سياسية وليست دينيةً عقيديةً.

س: لكن واقع المنطقة ينقسم إلى محورين: فهناك المحور المصري ـ السعودي، مقابل المحور الإيراني ـ السوري، ألا يدخل هذا الأمر في الخلفية الطائفية؟

ج: لا، بل إنه يدخل من باب الخلفية السياسية.
الدولة التي تتحرك حدودها مع حركة دباباتها وطائراتها هي ليست دولة ولا يمكن أن تعيش في محيطها

س: كيف تنظرون إلى مستقبل إسرائيل؟

ج: أنا أرى المستقبل يتحرك لغير صالحها، حتى إن بعض المفكرين في إسرائيل يقولون: إذا خسرنا حروباً أخرى فهناك خوف من أن تزول الدولة، وحتى دينياً يتحدث بعضهم عن هذا الأمر. أنا لا أريد أن أتكلم بشعارات، لكنني أقول إن الدولة التي تتحرك حدودها مع حركة دباباتها وطائراتها هي ليست دولةً، ولا يمكن أن تعيش في محيطها. فمثلاً نحن في لبنان قد نختلف مع سوريا في مسألة الحدود، وهل إن هذه الأرض لبنانية أو سورية، ولكن هذا الخلاف قد يُحلّ بالمفاوضات، لكن إسرائيل أين حدودها؟!

س: هل توافقون القائلين إن "حماس" انتصرت في غزّة؟

ج: في قضية الانتصار هناك أكثر من جانب، فالمجازر التي ارتكبتها إسرائيل واستعملت فيها كل أسلحتها التي استعملتها أميركا أيضاً في العراق وأفغانستان وغيرها، وقتلت ودمرت الحجر والبشر، لا تعتبر انتصاراً. في المقابل، صمدت حماس وظلّت حتى آخر وقت تقصف إسرائيل، وحتى بعد وقف إطلاق النار، وعندما لم تستطع إسرائيل أن تحقق هدفها الذي أعلنت عنه في اليوم الأول، أي تغيير الواقع بالقضاء على حماس وإزالتها من الوجود، وتسليم غزة إلى "أبو مازن" (الرئيس محمود عباس)، فمعنى ذلك أن حماس انتصرت وصمدت أمام أقوى رابع جيش في العالم.
حماس انتصرت وصمدت أمام أقوى رابع جيش في العالم

موضوعات شبابية


س: بالعودة إلى الشؤون اللبنانية، هل تؤيدون خفض سن الاقتراع؟

ج: إذا كان الشخص يعتبر شخصيةً قانونيةً عندما يبلغ الثامنة عشرة من عمره، فلماذا يحرم حقّ التصويت في هذه السنّ؟

س: ما هو رأيكم في إلغاء الانتخابات الطلابية في الجامعات؟

ج: لم أدرس هذه القضية حتى أحكم.

س: هل أنتم مع الزواج المدني؟

ج: أنا مع الزواج الشرعي.
هناك ثوابت في الشريعتين الإسلامية والمسيحية يجب الالتزام بها حتى يكون الزواج شرعياً

س: أليس الزواج المدني شرعياً؟

ج: هناك ثوابت موجودة في الشريعتين الإسلامية والمسيحية يجب الالتزام بها حتى يكون الزواج شرعياً، وهذه قضايا خاصّة، لذلك لا أعتقد أنّ هذه المسألة تشكّل مشكلة للبنانيين.

س: حتى الآن نحن مختلفون على كتابة التاريخ. في رأيك، من سيكتب التاريخ في لبنان؟

ج: عندما نصل إلى مرحلة نعيش فيها معنى لبنان في الإشعاع الفكري، ولا نخاف من الحقيقة إذا كانت لا تنسجم مع ذهنيتنا العصبية والطائفية، يمكن حينها أن نكتب التاريخ.

ولكن مشكلتنا أننا سنظل نتخبط كأننا "والماء من حولنا، قوم جلوس حولهم ماء".
وصيتي للجيل الجديد أن يأخذ بأسباب العلم، لأن الصراع في العالم هو صراع العلم

س: ما هي وصاياك للجيل الجديد؟

ج: وصيّتي للجيل الجديد أن يأخذ بأسباب العلم، لأن الصراع في العالم هو صراع العلم، ولأنّ الأكثر علماً هو الأكثر إنتاجاً. فإسرائيل أصبحت قوةً تحتاجها حتى الدول الكبرى من خلال العلماء الذين يكتشفون وينتجون ويبدعون. أما نحن في لبنان، فإننا نحتقر العلم، ولذلك حاربنا الجامعة اللبنانية.

لذلك على الشباب أن يتعلموا حتى يصلوا إلى أعلى درجات العلم، ليكونوا مصداق الآية القرآنية: {وقل ربِّ زدني علماً} [طه:114]. كما عليهم أن يؤمنوا بأنفسهم، وأن يكونوا أنفسهم لا صدًى للآخرين، وأن لا يستعبدوا أنفسهم لزعاماتهم الطائفية، سواء كانت زعامات دينية أو سياسية.

وثالثاً أن يفكروا في مستقبلهم، أي أن يكونوا "مستقبليين" لا "ماضويين".

الأحرار في العالم


س: تتحدثون عن الأحرار في العالم، فمن هم الأحرار؟

ج: الحر هو الذي لا يبيع عقله، ولا فكره، ولا موقفه، ولا وطنه للآخرين. الإمام علي(ع) يقول: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً". فحرية الإنسان تعني إنسانيته، وعلى هذا يجب أن نربي أجيالنا.
الحر هو الذي لا يبيع عقله ولا فكره ولا موقفه ولا وطنه

س: ماذا تقول لنهار الشباب؟

ج: يحتاج الصحافي، وخصوصاً الشباب منهم في هذا العصر الذي يضج بالتطورات المتلاحقة، سواء على المستوى الثقافي أو السياسي، إلى أن يعيش مسؤولية الصحافة، وأن يلاحق التطورات، لا أن ينقلها فقط، بل أن يفكر فيها وينقدها، لأنّ عملية النقد تعطي أصالة للفكر، سواء كان نقداً إيجابياً أو سلبياً. ومع الأسف، أصبحنا استهلاكيين لا منتجين، وأصبحنا نعلّم الشعب أن يرفع يديه فداءً للزعيم أياً يكن الزعيم، سواء السياسي أو الديني أو العشائري، لذلك أصبحت عملية النموّ محدودةً جداً، ونخشى في عملية الحصار التي يتعرض لها الجيل الجديد في أكثر البلدان، أن يصنع مستقبلاً مستنسخاً. وأتمنى لكم كل خير، وأجدّد تعازيّ بالمأساة التي عشناها جميعاً باغتيال الشهيد جبران تويني.
مسؤولية الصحافي أن يلاحق التطورات وأن يفكر فيها وينقدها، لأن عملية النقد تعطي أصالة للفكر

س: ماذا تقول لغسان وجبران تويني؟

ج: علاقتي بالأستاذ غسان تاريخية، والمقابلة التي تمّت بيني وبينه أصبحت تاريخيةً، وأيضاً في المقابلة التي أجراها معي المرحوم جبران وعنوانها "خميني لبنان يتكلم" في "النهار العربي والدولي"، يومها قلت له: إنني عندما أقرأ والدك أفكّر، وعندما أسمعك أشعر وكأني أخرج في تظاهرة، فقال: أنا ثائر مثلك، فقلت له: إنّ الثائر عليه أيضاً أن يخطِّط، ويجب أن يتعمّق حتى يقدم للناس فكراً ثورياً ناضجاً.

شارك في الحوار: (نايلة تويني ـ غسان حجار ـ رضوان عقيل ـ سلوى بعلبكي ـ إبراهيم دسوقي ـ وديع تويني ـ كريم أبو مرعي.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 03 صفر 1430 هـ  الموافق: 29/01/2009 م
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية