المرجع الإسلامي السيد فضل الله: المشكلة ليست مع الدين اليهودي وإنما مع الصهيونية

المرجع الإسلامي السيد فضل الله: المشكلة ليست مع الدين اليهودي وإنما مع الصهيونية

المرجع الإسلامي السيد فضل الله:

المشكلة ليست مع الدين اليهودي وإنما مع الصهيونية


حملت مجلة "فكر" مجموعةً من الأسئلة إلى العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، محاولةً استطلاع رأيه حول موضوع التكفير، وغيره من المواضيع، وهذا نصّ الحوار:

التكفير في المنظور القرآني


س: كثرت الآيات القرآنية التي استُخدمت فيها ألفاظ من الحقل المعجمي للتكفير، هل الإسلام يكفِّر؟

ج: عندما ندرس القرآن الكريم، نجد أنه أكد العقيدة الإسلامية في أصلين أساسيين ثابتين يتفرع منهما أصل ثالث، وأول هذه الأصلين هو توحيد الله الذي يمثل جوهر رسالات الأنبياء كلّهم، والذي يعبر عن أن الله سبحانه وتعالى هو سر الوجود والخلق والنعمة وسر الحياة بشكل عام، وأنه لا اله إلا هو ولا عبادة لغيره ولا طاعة لسواه في ما أمر به أو نهى عنه. والثابت الثاني، هو الإيمان برسول الله باعتباره الرسول الذي يتحرك من خلال الرسالة التي أوحى الله بها إليه.

وعلى هذا الأساس، فإنّ الرسول ينطلق في رسالته من خلال ما أوحى الله به إليه وما رخّصه له، وما ألهمه إياه من أسس ترتكز عليها الأحكام الشرعية والمفاهيم الأخلاقية مما يدخل في حساب السُنّة فيما لم يُفَصّله القرآن، لأنّ السُنّة النبوية الشريفة تمثل خطاً لبيان ما أجمله القرآن من التفاصيل...

 ونحن نقرأ في القرآن: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7]. ونقرأ أيضاً: {قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله} [آل عمران:31]، لأنّ اتّباعكم لي ليس اتّباعاً لذاتي، وإنما هو اتّباعٌ للرسالة التي أوحى الله بها إليّ، وما أكلّفكم به هو ما كلّفكم به الله.

أمّا الأصل الثالث الذي يتفرع من هذين الأصلين، فهو الإيمان باليوم الآخر.

ومن الطبيعي أنّ الإيمان بالرسول يفرض الإيمان بحقائق العقيدة وحقائق الشريعة التي بلغها، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون هناك مجال للاجتهاد في فهم التفاصيل التي جاءت بها الآيات أو السنة النبوية، لأنّ النص ثابت في مفرداته، لكن المعاني التي يشتمل عليها النص متحرّكة، كما أنّ فهم النصّ يخضع لاجتهاد المجتهدين ممّا يختلف باختلاف القدرات والملكات التي يتمتّع بها كلّ منهم.

فعندما نتحدث عن العدل مثلاً، فإن مفهوم العدل في اللغة يعني الاستقامة على الخط، ولكن حركة العدل فيما يتعلّق بحقوق الناس وفي علاقات بعضهم ببعض وما إلى ذلك، هو مما يمكن للإنسان أن ينفتح عليه بكثير من الاجتهاد. لذلك، من آمن بالله والرسول واليوم الآخر فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وليس لأحد أن يكفِّره، لأن النبي(ص) قال: "كل المسلم على المسلم حرام"، وقال: "لا ترجعنّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
من آمن بالله والرسول واليوم الآخر فهو مسلم وليس لأحد أن يكفّره

توافق أصول وتباين مفاهيم


س: اليهودية والمسيحية تتفقان مع الإسلام في الأصل الأول والثالث في العقيدة: الإيمان بإله واحد وبيوم الحساب، ولكنهما لا تؤمنان بالرسول، فهل يُكفَّرون؟

ج: اليهوديّة والمسيحية تؤمنان بالله الواحد، وهذا ما أكده القرآن الكريم، حيث قال: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران:64]، إلا أنّ المسيحية تؤمن بالتجسد، بأنّ الله تجسد في السيد المسيح، بينما لا يؤمن الإسلام بذلك، بل يرى أن السيد المسيح هو {رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء:171]، وقد قال القرآن على لسانه وهو في المهد: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم:31]. وكذلك اليهود؛ فإنهم يؤمنون بالله الواحد، ولكن اليهودية دخل عليها كثير من المفاهيم التي لا تنسجم مع ما جاء به النبي موسى وما جاءت به التوراة، لأننا نرى أن التوراة قد حُرّفت كثيراً.

التجسّد مخالفٌ للحقيقة الإلهية

س: بما أن غيب الله وسره لم يُعطيا لأحد من البشر، فإذا شاءت مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهو كلي القدرة ومطلق المشيئة، أن يتجسَّد، فهل لأحد أن ينفي رغبته، إن شاء، في التجسّد؟

ج: المسألة لا تُصاغ بهذه الطريقة؛ لأن القضايا في كل مواقع المعرفة تنطلق من الحقيقة، فإذا كانت الحقيقة هي أن الله هو الأحد الذي {لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص:3-4]، وهو الذي {ليس كمثله شيء} [الشورى:11]، و{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام:103]، فمعنى ذلك أنّ مسألة التجسد هي مسألة مخالفة للحقيقة الغيبية التي تحدث عنها الله سبحانه وتعالى.
التجسد هي مسألة مخالفة للحقيقة الغيبية التي تحدث عنها الله سبحانه وتعالى

وعليه، فإن فرضية التجسّد هي فرضية غير واقعية وغير صحيحة، ولاسيّما أنّ طبيعة الألوهيّة قد تنافي فكرة التجسّد؛ لأنّه ما هي حاجة الله إلى التجسّد طالما أنّ الأمر كلّه بيده، وطالما يمكن للرسالة أن تصل عبر البشر، كما أنّ التجسّد يقتضي تحديد المطلق، وهذا خلاف طبيعة الألوهيّة.

لذلك، نعتقد أنّ فكرة التجسّد فكرة لا واقعية لها، ولا حاجة إليها، والأدلّة قامت على خلافها.

القصاص والقتل

س: هل أعطي حقّ القصاص والحكم بالتكفير وبغيره للمؤسسة الدينية فضلاً عن رجال الدين؟

ج: هناك مبدأ قرآني يقول: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق} [الأنعام:151]، فالإنسان محترم، وقد ورد في السنّة الشريفة: "كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه". ولكنّ القرآن الكريم تحدّث عن مبدأ القصاص بقوله: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179]، {وكتبنا عليهم فيها أنّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص} [المائدة:45]. أما قضية القتل لمجرد أن الإنسان لا يؤمن بالله أو لا يؤمن بالرسول أو باليوم الآخر، فهذا أمر نفاه القرآن بقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم} [الممتحنة:8-9].
    القتال في الإسلام دفاعي، والمرتدّ لا يحاسب بمجرّد ارتداده

إذاً المسألة ليست أنه إذا آمن أي إنسان بما لا يؤمن به المسلمون يُقتل، بل إذا حارب المسلمين واعتدى عليهم بإخراجهم من ديارهم أو بمساعدة الآخرين على إخراجهم من ديارهم، عندها يحقّ للمسلم أن يقاتل دفاعاً عن النفس وعن العقيدة. أما في مسألة الارتداد، فالمرتد الذي كان مسلماً ثم ارتدّ، لا يُحاسب بمجرد ارتداده ابتداءً، ففي حال بقي مرتداً في نفسه ولم يعلن ذلك ولم يتحرك لجلب الناس إلى ارتداده، فلا يحقّ لأحد محاسبته، لأنّ الله لا يحاسب على ما في النفس، ولكن يُستتاب، وعلى العلماء أن يحاوروه ويسألوه: لماذا خرجت عن الإسلام؟ وما هي حجتك؟ وما هي أدلتك؟ وما هي شبهاتك؟ فإذا أقنعوه بالرجوع عن ارتداده، فإن عليه أن يقتنع بالدليل القاطع، لا بالفرض أو الترهيب أو الترغيب أو التخويف وما إلى ذلك، وإذا لم يستطيعوا إقناعه، فليس لهم عليه حجة، ولاسيما في عصر تكثر فيه الشبهات. ولكن يبقى على المتخصصين الإسلاميين في الجانب الثقافي أن يتابعوه في الحوار.

سلطة رجال الدين

س: هل هناك كهنوت في الإسلام؟

ج: لا كهنوت في الإسلام، فرجال الدين هم علماء متخصّصون بعلوم الشريعة، كما هناك آخرون متخصصون بعلوم الهندسة والطب والكيمياء والفيزياء، وليست لهم أي سلطة على الناس في هذا المقام، وإنما السلطة هي للحاكم الشرعي. وقد ورد عندنا حديث عن الإمام الصادق(ع) وقد سُئِل: "من يقيم الحدود؛ السلطان أو القاضي؟ فقال: "إقامة الحدود إلى من إليه الحكم". والمقصود هنا هو الشخص الذي يملك السلطة الشرعية في تنفيذ القوانين.
التكفيريّون الذين يقتلون من يخالفونهم في الرأي مجرمون

ولذلك، فما يقوم به بعض المتطرّفين التكفيريين الّذين يبررون لأنفسهم قتل المسلم الذي يختلف معهم في بعض الآراء المذهبية أو في بعض التفسيرات للنصوص وما إلى ذلك، هو إجرام، وليس لهم في ذلك أيّ مبرّر أو حقّ، حتى إنهم لا يملكون الحق في أن يقتلوا مسيحياً أو يهودياً إذا لم يكن معتدياً.

 إنّ الحرب في الإسلام ليست حرباً عدوانيةً، لأنّ الله يقول: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة:190] {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} [النساء:75].
غير الملتـزم فاسق وليس كافراً

المؤمن والفاسق


س: هل يكفر المؤمن إذا لم يلتزم بفرائض الدين؟

ج: قلنا: إن من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر هو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وليس لأحد أن يكفِّره. نعم، هناك حالة يتحدث بها الفقهاء، وهي أنّ من أنكر ضرورةً من ضرورات الدين، أي ما ثبت في الدين بالبداهة، مثل الصلاة، كأن يقول إنّ الصلاة ليست واجبةً أو إنّ الصوم ليس واجباً أو إنّ القرآن ليس من الله، فهذا يؤدّي إلى تكذيب الرسول، وهو وإن لم يكن كفراً بذاته، إلا أنّه يستلزم الكفر، باعتبار أن من يقول إن الصلاة ليست واجبةً، والنبي قال إنها واجبة، والقرآن قال إنها واجبة، فهذا يعني تكذيب النبي وبالتالي يؤدي إلى إنكار رسالته. وأمّا مع عدم استلزام ذلك تكذيب النبيّ، فلا يكون ذلك إنكاراً لضرورة من ضرورات الدين، وبالتالي لا يكون ذلك مستلزماً للكفر؛ وهذا قد يحصل في حال الجهل بالملازمة بين إنكار الضروري وتكذيب النبيّ، أو في حال عدم الالتفات إلى الملازمة، بحيث قد نجد بعض الناس ينكرون الضرورات وهم ملتزمون بنبوّة النبيّ(ص) أو بالتوحيد أو ما إلى ذلك من أسس العقيدة.

 س: وإذا شاء المؤمن المسلم أداء الصلاة من دون ركوع وسجود وتلاوة؟

ج: هذا لا يُعتبر كافراً، ولكنه يُعتبر، بحسب المصطلح الفقهي، فاسقاً، والفاسق هو الذي يتجاوز الحدّ الشرعي في عمله، فلا يلتزم بأوامر الله ونواهيه.
الإسلام ليس بدعةً نصرانيةً

الإسلام والنصرانية


س: هناك نقطة ما بين المسيحية والإسلام، هي أن المسيحيين ليس عندهم في كتابهم المقدَّس نصٌ في نبوة النبي محمد؟

ج: لا، بل هم يحكمون أنه ليس نبياً، وأنه ليس رسولاً من الله، وإنما يعتبرون في بعض ما وصل إلينا من كتبهم المتأخرة، أن الإسلام هو بدعة النصرانية، وأن النبي تأثر بورقة بن نوفل النصراني، وأن النبيّ تنصّر، ولكنه أخذ بالبدعة، أي هو نصراني مبتدع، أي سائر في خط الضلال! وفي ما خص مسألة ورقة بن نوفل، فإنّ النبي لم يلتقِ به إلا مرة واحدة، وهو قريب السيّدة خديجة زوجة النبيّ، علماً أنّ ما ينقله التاريخ من ذلك اللقاء فيه الكثير من المغالطات، إضافةً إلى أن المشركين لم يتحدّثوا عن النبيّ بأنّه نصرانيّ، وإلا لكان ذلك إحدى وسائل التشكيك بنبوّته، بل إنّ النبيّ(ص) كان يدين بدين إبراهيم وهو الحنيفية؛ لأن الدين الإبراهيمي يدخل في كل مفاصل الأديان.

اعتراف الفاتيكان بالإسلام

س: ولكن هناك وثيقة فاتيكانية تقول إن في الإسلام شيئاً من المسيحية وإنّ في المسيحية شيئاً من الإسلام، أي أنها تقرّ بالإسلام؟

ج: الرسالات السماوية ليست متناقضةً، وليست متضادّةً، وإن كل رسول يأتي ليكمل ما اقتضت الظروف عدم إكماله من الرسالة السابقة، فمثلاً عيسى(ع) قال: "جئت لأكمل الناموس"، وفي القرآن الكريم عنه: {مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف:6]. وهكذا يقول النبي(ص): {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}. ولذلك فإن الرسالات السماوية ليست متناقضةً، وإنما هي متكاملة، وكل رسالة تكمل الرسالة السابقة بتشريعات ومفاهيم جديدة، ولكن المسيحية الحالية تمثل عدة مذاهب في فهم المسيحية، ولا يمكن أن نقول إن المسيحية الموجودة بطوائفها ومذاهبها تمثل السيد المسيح مثلاً، لأنّ كل واحد يفهم السيد المسيح ويعتقد به بشكل مختلف، فهناك فرق بين البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، كما هو الأمر بين السنة والشيعة فيما يتعلّق ببعض الفروع أو الأصول.

س: ولكن الفاتيكان يعترف بالإسلام.

ج: الفاتيكان لا يعترف بالإسلام ولا يعتبره ديناً شرعياً يمثّل الحقيقة الرسولية، لأنه يؤمن ببشارة السيد المسيح بالمعنى الذي يفهمونه هم من حيث كونه ابن الله أو كونه تجسيداً لله، ولكنهم ينظرون إلى الإسلام على أنّه دين يؤمن به الكثير من الناس...

 س: كأمر واقع؟

ج: نعم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليهودية، مع أنهم يؤمنون بالعهد القديم، ولكنهم لا يؤمنون باليهودية الرسمية التي يؤمن بها اليهود الآن، بل يختلفون معها تماماً كما هي البوذية والهندوسية وما إلى ذلك، أي أنهم يعتبرون الأديان الأخرى عندما يتحدثون عن حوار الأديان، أديان الأمر الواقع.

أصل التوحيد في الأديان

س: هل هذه المسائل تشكل مادةً لحوار جدّي وبنَّاء؟

ج: القرآن الكريم أكّد الحوار، خلافاً لمن يقولون إن أسلوب الدعوة في الإسلام هو فرضه بالقوة، فقد قال تعالى: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل:124]، وقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46]، وقال: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران:64].

ثم نحن نلاحظ أن الإسلام يؤكّد في منهجه الحواري قاعدةً لم تصل إليها مناهج الحوار الحديثة، فمنهج الحوار الموجود ينطلق من قاعدة: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب، أي أنا مصيب بنسبة ثمانين في المئة وأنت مصيب بنسبة عشرين في المئة، أي أنني مصيب بنسبة كبيرة وأنت بنسبة صغيرة، وأنا مخطئ بنسبة صغيرة وأنت مخطئ بنسبة كبيرة، أما القرآن فماذا يقول؟: {وإنّا أو إيّاكم لَعلى هدًى أو في ضلال مبين} [سبأ:24]، أي أنني قد أكون مصيباً وقد أكون مخطئاً، وقد أكون ضالاً وقد أكون مهتدياً، وأنت قد تكون ضالاً وقد تكون مهتدياً، إذاً هناك حقيقة ضائعة بيننا، وعلينا أن نترافق من أجل اكتشافها.
رجال الدين بشر، وعلينا أن ننقدهم ونحاسبهم

س: وكيف نكتشفها؟

ج: نكتشفها بالحوار، بأن تعرض وجهة نظرك وأعرض وجهة نظري، وأن تبين نقاط الضعف في وجهة نظري وأبين نقاط القوة فيها والعكس، ونقيم الحوار لنصل إما إلى التقارب أو التفاهم أو اللقاء؛ لأنّ كلّ إنسانٍ ينطلق ليُحاور من وجهة نظره، وبالحوار يُمكن أن يكتشف زوايا لم يكن قد انتبه لها، أو قد يكتشف خطأً في فكرته لم يكن قد التفت إليه.

محاسبة رجال الدين

س: لكن أليس هناك دور سلبي لرجال الدين؟

ج: كل ما يعيشه رجال الدين من نقاط سلبية يعيشه أيضاً رجال السياسة ورجال الاجتماع وغيرهم. وأن يكون الشخص رجل دين لا يعني أنه معصوم أو أنه يجسد الدين، ولذلك كنت أدعو دائماً إلى أن يُنتقد رجال الدين من المسيحيين والمسلمين واليهود والبوذيين، تماماً كما يُنتقد بقية الناس، لأنهم بشر يفكرون كما يفكر البشر، فهم قد يخطئون في تفكيرهم وقد يصيبون، وعلينا أن نناقشهم حتى في فهمهم للدين، إذا كنا نملك الثقافة الدينية، كما نناقشهم في فهمهم للسياسة والقضايا الاجتماعية.

س: أليس رجال الدين حرّاس السماء؟

ج: ليس هناك حرّاس للسماء بالمعنى الواقعي العملي، وإنما هناك أناس إذا أخلصوا لله وكانوا في مستوى المسؤولية وفي مستوى العدالة والاستقامة، فإننا نأخذ بآرائهم وأفكارهم في ما نجهله، باعتبارهم أهل معرفة، كما نأخذ بآراء الأطباء في المسائل الطبية، وبآراء المهندسين في المسائل الهندسية، وذلك من باب الرجوع إلى أهل الخبرة في ما لا خبرة لنا فيه.

 س: ولكن الفارق بين رأي رجال الدين ورأي رجال العلم، أن رأي رجال الدين يستند إلى مقدّس؟!

ج: نحن نؤمن بالمقدَّس، وهو الله ودينه ورسوله، أما الشخص المثقف دينياً فهو ليس مقدساً، بل هو مجرد شخص مثقف ثقافة دينية قد يخلص لها وقد لا يخلص، وقد يستغلها وقد يحترمها. فرجال الدين هم بشر كبقية البشر، وعلينا أن نحاسبهم كما نحاسب بقية البشر، مع البقاء على احترام الرمز، وهناك فرق بين أن تحترم الرمز وبين أن تقدّسه.
الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان هو حوار سياسي

الحوار الإسلامي المسيحي في لبنا
ن

س: نشأ حوار عبر لجنة الحوار المسيحي الإسلامي في لبنان، واليوم يُطرح مؤتمر لحوار الأديان، هل للملوك أن يحاوروا في الدين؟

ج: أنا كنت من أوائل الذين كتبوا في الحوار الإسلامي المسيحي في كتابي "تأملات في الحوار الإسلامي المسيحي"، ولكن الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان هو حوار سياسي، فهو يبحث في حصص الطوائف ومواقعها في الحكم، فالمسيحيون يسعون للحفاظ على موقع رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، وطبعاً أقصد الموارنة، والسنة يتمسّكون برئاسة الوزراء، والشيعة لهم رئاسة المجلس النيابي، فالحوار في لبنان هو حوار سياسي حول المراكز والمواقع على قاعدة النظام الطائفي، وليس حواراً ينطلق من البحث حول ما هي المسيحية في عقائدها ومفاهيمها وأخلاقياتها، وما هو الإسلام في عقائده ومفاهيمه وأخلاقياته.

ولذا كنت أقول: لا تُسمّوا هذا الحوار في لبنان حواراً إسلامياً مسيحياً، بل حواراً لبنانياً ـ لبنانياً، لأنّ الحوار الموجود في لبنان هو تماماً كالحوار العشائري بين عشيرة وعشيرة، أو في داخل العشيرة الواحدة بين فريق وفريق آخر. ولذا أنا كنت أقول، إن الطائفية ليست ديناً، وإنما هي قبلية وعشائرية على مستوى جاهلي وليست على مستوى حضاري.

مؤتمر حوار الأديان سياسي لا ديني

س: ما رأيكم في المؤتمر الذي انعقد في نيويورك وسمي مؤتمر حوار الأديان؟

ج: هو مؤتمر من أجل تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربيّة؛ وإلا كيف يمكن أن نفهم دعوة شخص ليمثل الدين اليهودي وهو جزار مسؤول عن مجزرة قانا وعن الكثير من المجازر إضافةً إلى أنه رجل منافق؟! لذلك أنا أفهم أنّ الحوار بين الأديان، إنما يكون بين المثقفين دينياً، بحيث يدرسون ماذا يجمع بينها وماذا يفرقها، وكيف يمكن أن نصل إلى الكلمة السواء أو لا نصل، ولا يكون بين السياسيين؛ ولذلك فإننا نرى أن هذا المؤتمر كان سياسياً ولم يكن دينياً.
السياسة تعطّل قيام حوار ديني منتج

س: إذاً، لماذا قصّر رجال الدين ولم يفتحوا قناة حوار موازية لقناة الحوار السياسي؟

ج: هناك بعض الحوارات الصغيرة بين المسلمين والمسيحيين في الغرب، ولكن الفوضى التي جعلت السياسة تدخل في الدين، وأعني سياسة الدول الكبرى والدول التابعة لها، عقّدت الحوار الذي يمكن أن يحقق النتائج؛ لأن الحوار ليس أن يقف أحدهم ويلقي خطباً في المسيحية أو في الإسلام، أو أن يتكلم عن خطوط احتفالية أو استهلاكية أخلاقية، وإنما هو أن نبحث، مثلاً، في مسألة هل صُلب السيد المسيح أو لم يُصلَب، من وجهة نظر الإسلام والمسيحية؟ وهل تجسَّد الله في السيد المسيح أو لم يتجسد؟ وما هي نظرية الفداء التي يؤمن بها المسيحيون بالنسبة إلى السيد المسيح ولا يؤمن بها المسلمون؟ أو أن نبحث في الخطوط الأخلاقيّة في المسيحية وفي الإسلام مثلاً، وكيف يُمكن أن نوحّد بعض الخطوط الدينية فيما يتّصل بحركة السياسة العالميّة؟ أو كيف يُمكن أن نمنع الظلم والاضطهاد والإبادة والتدمير للحجر والبشر، مما يُمكن أن يُفعل باسم الدين والمتديّنين... وإلاّ، فهل يُمكن أن يكون إيجاد كيانٍ مغتصب للأرض، مدمّر للحجر، قاتلٍ للشعب الفلسطيني، شرعيّاً ومقبولاً دينيّاً؟! أيّ دينٍ هذا الذي يشرّع الغصب والقتل والتدمير؟!

نحن نعتقد أنّ ما يسمّى حوار الأديان الذي يتحرّك اليوم يقفز عن الدين نفسه، ويتجاوزه ليستغلّ عناوينه المقدّسة، ليشرّع ما يصطدم بالدين بإضفاء لمسة من القداسة الدينية عليه، أو بالاعترافٍ به ممّن ينتسبون إلى هذا الدين أو ذاك، في الوقت الذي لا يملك أدنى قيمة دينية أو أخلاقيّة.
المتعصّبون لا يعترفون بالآخر من أيّ دين كان

إنّ مشكلة الإسلام ليست مع اليهودية كدين، وإنما هي مع الصهيونية. فبوش لا يمثل الدين المسيحي، وبيريز أو شارون لا يمثلان الدين اليهودي بالمعنى القيمي للدين. وهكذا أيضاً رؤساء الدول الإسلامية لا يمثلون الإسلام في هذا المجال، وإنما يمثلون مراكز سياسية معينة في ظروف معينة، ولذلك فإنّ مسألة حوار الأديان تفرض أن يكون الحوار ثقافياً، بينما نجد الحوار الذي يُطرح الآن يغلب عليه الجانب السياسي بنسبة تسعين في المئة.

العصبية والحوار

س: ما العوائق التي يمكن أن تعترض إيجاد حالة حوارية دينية؟

ج: نحن نرحب بأي حوار ديني، ولكن العوائق التي يمكن أن تعترض مثل هذا الحوار هي العصبيات، فهناك تيارات يهودية ومسيحية وإسلامية ترفض اللقاء مع الآخر والاعتراف به.

 س: والتيار الذي يوافق على اللقاء مع الآخر؟

ج: إذا كان يوافق فنحن نرحّب به، ونحن نعتبر أن القرآن هو كتاب حوار، لأنه حاور المسيحيين واليهود، وحاور المشركين والمنافقين، وقد ألّفت كتاباً سمّيته: "الحوار في القرآن".

س: حتى لو كان الحوار بتمثيل إسرائيلي؟

ج: هناك فرق بين إسرائيل واليهوديّة كدين، والله تعالى يقول: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت:46]، لأنّ الظالم لا يفهم لغة الحوار، بل يستغلّ الحوار لمآرب أخرى، ولذلك نرفض الحوار مع إسرائيل قبل أن ترجع عن ظلمها للشعب واغتصابها للأرض.

س: هل حاخامات اليوم يمثلون اليهودية؟

ج: هم يمثلون ما يعتقدونه في الدين، ولكن الآن هناك بعض الحاخامات يفتون لليهود بجواز قتل الفلسطينيين وأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وبإبعادهم عن أرضهم ومنعهم من استثمارها وما إلى ذلك، فهؤلاء لا يمكن أن يمثلوا شيئاً دينياً.

اليهودية والصهيونية

س: ولكن هناك قاعدة يهودية دينية تقول: أقتلوا كل نسمة حي في أرض كنعان، فاليهودية إن اعتبرتها ديناً، فهي دين سفك دماء وقتل؟!

ج: إذا كانت اليهودية تنطلق من هذه القاعدة فهي ليست ديناً. ولكن هناك يهود لا يفكرون بهذه الطريقة، وهناك يهود ضد الصهيونية وضد دولة إسرائيل، وإذا كان هؤلاء يلتزمون التوراة كما أنزلها الله سبحانه وتعالى، وكما قال تعالى: {إنّا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربّانيّون والأحبار} [المائدة:44]، وكانوا يتحدثون عنها كما نتحدث عن القرآن وكما يتحدث المسيحيون عن الإنجيل، فنحن حينها مستعدون للحوار معهم.
اليهودية التي تقرّ المجازر وتشريد الناس ليست ديناً

من يعترف بالآخر مستعدون لمحاورته


س: ومن هنا معضلة التمثيل، فإذا وُجد واحد في المئة من اليهود المنفتحين دينياً وروحياً فسيقول اليهود الباقون لهم: أنتم مَن تمثلون، والأمر نفسه في كل الأديان والطوائف؟!

ج: هذا معناه أنهم لا يعترفون بالآخر، ونحن نتحدث عن الذي يعترف بالآخر. وعندما يكون هناك واحد في المئة من اليهود فقط يعترف بالآخر، فمعنى ذلك أن اليهود لا يعترفون بالآخرين، ونحن نتكلم عن فرضية السؤال، وعلى هذا الأساس يكون الجواب أنه إذا كان هناك واحد يعترف بالآخر، فنحن مستعدون للحوار معه.

استنكرنا الإرهاب ضد المسيحيين

س: يعتب المسيحيون ضمن مقابلتين مع الأب مونّس والأب مسّوح، أن المسلمين لم يعترضوا عملياً وبحزم على ما أصاب مسيحيي الموصل، فمثلاً، لم يكن هناك تظاهرة تستنكر ذلك؟

ج: أنا أول من أدان واستنكر ما حصل في الموصل، في خطبة الجمعة في أول أسبوع حدث ذلك، استنكرت ذلك بكل قسوة، وهناك أيضاً علماء في النجف استنكروا ذلك، ولكن ما حيلتنا مع الذي لا يقرأ ولا يسمع؟!

 س: ألا يجب الحفاظ على مسيحيي المشرق كمكوّن تاريخي في نسيجنا القومي والشعبي؟

ج: أنا من الأساس كنت أقول إنّ علينا أن نحافظ على مسيحيي الشرق قبل أن يحدث ما حدث.
    القاعدة - وليس المسلمون - تتحمل مسؤولية المجازر ضدّ المسيحيّين

س: ولكن ما الموقف الذي تعدى القول والاستنكار؟

ج: أولاً، ليس العراقيون حكومةً وشعباً من قام بالمجازر بحق المسيحيين، بل تنظيم القاعدة الذي يقتل المسلمين قبل المسيحيين. وإلا فلماذا نرى العالم الآن مملوءاً بالمهجَّرين العراقيين، وفيهم المسلمون من السنة والشيعة، وفيهم الكلدان وفيهم الآشوريون؟ فالمشكلة هي مشكلة العراق كله، ولا يجوز لنا أن نربط قضية الموصل بالمسلمين، فالقضية هي قضية سياسية، وقد يكون المتّهم بها جماعة من الأكراد، وهؤلاء علمانيون وليسوا دينيين.

س: لماذا لا يكون هناك لجنة قيادة تنسيق عليا بين مكوّنات شعبنا الدينية لتقطع الطريق على الفتنة؟

ج: يصعب إيجاد هكذا قيادة مع وجود حركة الدول الكبرى، وفي مقدّمهم أميركا التي عبّر رئيسها الحالي عن أنه يريد أن ينشر الفوضى البناءة والخلاقة في المنطقة، وأنا لا أعرف كيف يمكن للفوضى أن تكون خلاقةً، إلا إذا كان المقصود أنها تخلق الفتن وتخلق الظروف للمستكبرين وللدول الكبرى التي تريد أن تستغل العالم الثالث.

الأديان وتحقيق الغايات

س: هل حققت الأديان غايتها أم أُحبطت بالفرقة؟

ج: حققت غايتها بشكل جزئي، والأمر ذاته بالنسبة إلى أي مبدأ علماني أو ديني، فليس هناك من خطّ حقق غايته بشكل كامل.

س: وهل تستطيع هذه الأديان أن تستكمل ما لم تحققه من غايتها حتى الآن؟

ج: هناك عوائق كثيرة تقف حاجزاً أمام أية حركة كبرى توافقية أو إصلاحية، سواء بين الأديان أو حتى بين التيارات العلمانية، ومنها الصراع على النفوذ وسرعة الاقتصاد وغيرهما. وإلا بماذا نفسر حركة الأحزاب المتناحرة حتى بالنسبة إلى الديمقراطيين والجمهوريين والمحافظين والعمال، أو بالنسبة إلى الانتخابات في داخل الحزب الاشتراكي في فرنسا؟ هناك حركة عالمية تقودها الدول الكبرى، وفي مقدمها أميركا التي تريد أن تكون إمبراطورية العالم وقائدته، لا تسمح بوجود عالم موحد على أساس القيم المشتركة التي تربط الشعوب بعضها ببعض لتكون علاقات الشعوب علاقات تعاون وتكامل وتواصل.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 05 صفر 1430 هـ  الموافق: 31/01/2009 م

المرجع الإسلامي السيد فضل الله:

المشكلة ليست مع الدين اليهودي وإنما مع الصهيونية


حملت مجلة "فكر" مجموعةً من الأسئلة إلى العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، محاولةً استطلاع رأيه حول موضوع التكفير، وغيره من المواضيع، وهذا نصّ الحوار:

التكفير في المنظور القرآني


س: كثرت الآيات القرآنية التي استُخدمت فيها ألفاظ من الحقل المعجمي للتكفير، هل الإسلام يكفِّر؟

ج: عندما ندرس القرآن الكريم، نجد أنه أكد العقيدة الإسلامية في أصلين أساسيين ثابتين يتفرع منهما أصل ثالث، وأول هذه الأصلين هو توحيد الله الذي يمثل جوهر رسالات الأنبياء كلّهم، والذي يعبر عن أن الله سبحانه وتعالى هو سر الوجود والخلق والنعمة وسر الحياة بشكل عام، وأنه لا اله إلا هو ولا عبادة لغيره ولا طاعة لسواه في ما أمر به أو نهى عنه. والثابت الثاني، هو الإيمان برسول الله باعتباره الرسول الذي يتحرك من خلال الرسالة التي أوحى الله بها إليه.

وعلى هذا الأساس، فإنّ الرسول ينطلق في رسالته من خلال ما أوحى الله به إليه وما رخّصه له، وما ألهمه إياه من أسس ترتكز عليها الأحكام الشرعية والمفاهيم الأخلاقية مما يدخل في حساب السُنّة فيما لم يُفَصّله القرآن، لأنّ السُنّة النبوية الشريفة تمثل خطاً لبيان ما أجمله القرآن من التفاصيل...

 ونحن نقرأ في القرآن: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7]. ونقرأ أيضاً: {قل إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني يحببكم الله} [آل عمران:31]، لأنّ اتّباعكم لي ليس اتّباعاً لذاتي، وإنما هو اتّباعٌ للرسالة التي أوحى الله بها إليّ، وما أكلّفكم به هو ما كلّفكم به الله.

أمّا الأصل الثالث الذي يتفرع من هذين الأصلين، فهو الإيمان باليوم الآخر.

ومن الطبيعي أنّ الإيمان بالرسول يفرض الإيمان بحقائق العقيدة وحقائق الشريعة التي بلغها، ومن الطبيعي أيضاً أن يكون هناك مجال للاجتهاد في فهم التفاصيل التي جاءت بها الآيات أو السنة النبوية، لأنّ النص ثابت في مفرداته، لكن المعاني التي يشتمل عليها النص متحرّكة، كما أنّ فهم النصّ يخضع لاجتهاد المجتهدين ممّا يختلف باختلاف القدرات والملكات التي يتمتّع بها كلّ منهم.

فعندما نتحدث عن العدل مثلاً، فإن مفهوم العدل في اللغة يعني الاستقامة على الخط، ولكن حركة العدل فيما يتعلّق بحقوق الناس وفي علاقات بعضهم ببعض وما إلى ذلك، هو مما يمكن للإنسان أن ينفتح عليه بكثير من الاجتهاد. لذلك، من آمن بالله والرسول واليوم الآخر فهو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وليس لأحد أن يكفِّره، لأن النبي(ص) قال: "كل المسلم على المسلم حرام"، وقال: "لا ترجعنّ بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".
من آمن بالله والرسول واليوم الآخر فهو مسلم وليس لأحد أن يكفّره

توافق أصول وتباين مفاهيم


س: اليهودية والمسيحية تتفقان مع الإسلام في الأصل الأول والثالث في العقيدة: الإيمان بإله واحد وبيوم الحساب، ولكنهما لا تؤمنان بالرسول، فهل يُكفَّرون؟

ج: اليهوديّة والمسيحية تؤمنان بالله الواحد، وهذا ما أكده القرآن الكريم، حيث قال: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران:64]، إلا أنّ المسيحية تؤمن بالتجسد، بأنّ الله تجسد في السيد المسيح، بينما لا يؤمن الإسلام بذلك، بل يرى أن السيد المسيح هو {رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه} [النساء:171]، وقد قال القرآن على لسانه وهو في المهد: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} [مريم:31]. وكذلك اليهود؛ فإنهم يؤمنون بالله الواحد، ولكن اليهودية دخل عليها كثير من المفاهيم التي لا تنسجم مع ما جاء به النبي موسى وما جاءت به التوراة، لأننا نرى أن التوراة قد حُرّفت كثيراً.

التجسّد مخالفٌ للحقيقة الإلهية

س: بما أن غيب الله وسره لم يُعطيا لأحد من البشر، فإذا شاءت مشيئة الله سبحانه وتعالى، وهو كلي القدرة ومطلق المشيئة، أن يتجسَّد، فهل لأحد أن ينفي رغبته، إن شاء، في التجسّد؟

ج: المسألة لا تُصاغ بهذه الطريقة؛ لأن القضايا في كل مواقع المعرفة تنطلق من الحقيقة، فإذا كانت الحقيقة هي أن الله هو الأحد الذي {لم يلد ولم يولد* ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص:3-4]، وهو الذي {ليس كمثله شيء} [الشورى:11]، و{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام:103]، فمعنى ذلك أنّ مسألة التجسد هي مسألة مخالفة للحقيقة الغيبية التي تحدث عنها الله سبحانه وتعالى.
التجسد هي مسألة مخالفة للحقيقة الغيبية التي تحدث عنها الله سبحانه وتعالى

وعليه، فإن فرضية التجسّد هي فرضية غير واقعية وغير صحيحة، ولاسيّما أنّ طبيعة الألوهيّة قد تنافي فكرة التجسّد؛ لأنّه ما هي حاجة الله إلى التجسّد طالما أنّ الأمر كلّه بيده، وطالما يمكن للرسالة أن تصل عبر البشر، كما أنّ التجسّد يقتضي تحديد المطلق، وهذا خلاف طبيعة الألوهيّة.

لذلك، نعتقد أنّ فكرة التجسّد فكرة لا واقعية لها، ولا حاجة إليها، والأدلّة قامت على خلافها.

القصاص والقتل

س: هل أعطي حقّ القصاص والحكم بالتكفير وبغيره للمؤسسة الدينية فضلاً عن رجال الدين؟

ج: هناك مبدأ قرآني يقول: {ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق} [الأنعام:151]، فالإنسان محترم، وقد ورد في السنّة الشريفة: "كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه". ولكنّ القرآن الكريم تحدّث عن مبدأ القصاص بقوله: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} [البقرة:179]، {وكتبنا عليهم فيها أنّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص} [المائدة:45]. أما قضية القتل لمجرد أن الإنسان لا يؤمن بالله أو لا يؤمن بالرسول أو باليوم الآخر، فهذا أمر نفاه القرآن بقوله تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم} [الممتحنة:8-9].
    القتال في الإسلام دفاعي، والمرتدّ لا يحاسب بمجرّد ارتداده

إذاً المسألة ليست أنه إذا آمن أي إنسان بما لا يؤمن به المسلمون يُقتل، بل إذا حارب المسلمين واعتدى عليهم بإخراجهم من ديارهم أو بمساعدة الآخرين على إخراجهم من ديارهم، عندها يحقّ للمسلم أن يقاتل دفاعاً عن النفس وعن العقيدة. أما في مسألة الارتداد، فالمرتد الذي كان مسلماً ثم ارتدّ، لا يُحاسب بمجرد ارتداده ابتداءً، ففي حال بقي مرتداً في نفسه ولم يعلن ذلك ولم يتحرك لجلب الناس إلى ارتداده، فلا يحقّ لأحد محاسبته، لأنّ الله لا يحاسب على ما في النفس، ولكن يُستتاب، وعلى العلماء أن يحاوروه ويسألوه: لماذا خرجت عن الإسلام؟ وما هي حجتك؟ وما هي أدلتك؟ وما هي شبهاتك؟ فإذا أقنعوه بالرجوع عن ارتداده، فإن عليه أن يقتنع بالدليل القاطع، لا بالفرض أو الترهيب أو الترغيب أو التخويف وما إلى ذلك، وإذا لم يستطيعوا إقناعه، فليس لهم عليه حجة، ولاسيما في عصر تكثر فيه الشبهات. ولكن يبقى على المتخصصين الإسلاميين في الجانب الثقافي أن يتابعوه في الحوار.

سلطة رجال الدين

س: هل هناك كهنوت في الإسلام؟

ج: لا كهنوت في الإسلام، فرجال الدين هم علماء متخصّصون بعلوم الشريعة، كما هناك آخرون متخصصون بعلوم الهندسة والطب والكيمياء والفيزياء، وليست لهم أي سلطة على الناس في هذا المقام، وإنما السلطة هي للحاكم الشرعي. وقد ورد عندنا حديث عن الإمام الصادق(ع) وقد سُئِل: "من يقيم الحدود؛ السلطان أو القاضي؟ فقال: "إقامة الحدود إلى من إليه الحكم". والمقصود هنا هو الشخص الذي يملك السلطة الشرعية في تنفيذ القوانين.
التكفيريّون الذين يقتلون من يخالفونهم في الرأي مجرمون

ولذلك، فما يقوم به بعض المتطرّفين التكفيريين الّذين يبررون لأنفسهم قتل المسلم الذي يختلف معهم في بعض الآراء المذهبية أو في بعض التفسيرات للنصوص وما إلى ذلك، هو إجرام، وليس لهم في ذلك أيّ مبرّر أو حقّ، حتى إنهم لا يملكون الحق في أن يقتلوا مسيحياً أو يهودياً إذا لم يكن معتدياً.

 إنّ الحرب في الإسلام ليست حرباً عدوانيةً، لأنّ الله يقول: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة:190] {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربّنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها} [النساء:75].
غير الملتـزم فاسق وليس كافراً

المؤمن والفاسق


س: هل يكفر المؤمن إذا لم يلتزم بفرائض الدين؟

ج: قلنا: إن من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر هو مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وليس لأحد أن يكفِّره. نعم، هناك حالة يتحدث بها الفقهاء، وهي أنّ من أنكر ضرورةً من ضرورات الدين، أي ما ثبت في الدين بالبداهة، مثل الصلاة، كأن يقول إنّ الصلاة ليست واجبةً أو إنّ الصوم ليس واجباً أو إنّ القرآن ليس من الله، فهذا يؤدّي إلى تكذيب الرسول، وهو وإن لم يكن كفراً بذاته، إلا أنّه يستلزم الكفر، باعتبار أن من يقول إن الصلاة ليست واجبةً، والنبي قال إنها واجبة، والقرآن قال إنها واجبة، فهذا يعني تكذيب النبي وبالتالي يؤدي إلى إنكار رسالته. وأمّا مع عدم استلزام ذلك تكذيب النبيّ، فلا يكون ذلك إنكاراً لضرورة من ضرورات الدين، وبالتالي لا يكون ذلك مستلزماً للكفر؛ وهذا قد يحصل في حال الجهل بالملازمة بين إنكار الضروري وتكذيب النبيّ، أو في حال عدم الالتفات إلى الملازمة، بحيث قد نجد بعض الناس ينكرون الضرورات وهم ملتزمون بنبوّة النبيّ(ص) أو بالتوحيد أو ما إلى ذلك من أسس العقيدة.

 س: وإذا شاء المؤمن المسلم أداء الصلاة من دون ركوع وسجود وتلاوة؟

ج: هذا لا يُعتبر كافراً، ولكنه يُعتبر، بحسب المصطلح الفقهي، فاسقاً، والفاسق هو الذي يتجاوز الحدّ الشرعي في عمله، فلا يلتزم بأوامر الله ونواهيه.
الإسلام ليس بدعةً نصرانيةً

الإسلام والنصرانية


س: هناك نقطة ما بين المسيحية والإسلام، هي أن المسيحيين ليس عندهم في كتابهم المقدَّس نصٌ في نبوة النبي محمد؟

ج: لا، بل هم يحكمون أنه ليس نبياً، وأنه ليس رسولاً من الله، وإنما يعتبرون في بعض ما وصل إلينا من كتبهم المتأخرة، أن الإسلام هو بدعة النصرانية، وأن النبي تأثر بورقة بن نوفل النصراني، وأن النبيّ تنصّر، ولكنه أخذ بالبدعة، أي هو نصراني مبتدع، أي سائر في خط الضلال! وفي ما خص مسألة ورقة بن نوفل، فإنّ النبي لم يلتقِ به إلا مرة واحدة، وهو قريب السيّدة خديجة زوجة النبيّ، علماً أنّ ما ينقله التاريخ من ذلك اللقاء فيه الكثير من المغالطات، إضافةً إلى أن المشركين لم يتحدّثوا عن النبيّ بأنّه نصرانيّ، وإلا لكان ذلك إحدى وسائل التشكيك بنبوّته، بل إنّ النبيّ(ص) كان يدين بدين إبراهيم وهو الحنيفية؛ لأن الدين الإبراهيمي يدخل في كل مفاصل الأديان.

اعتراف الفاتيكان بالإسلام

س: ولكن هناك وثيقة فاتيكانية تقول إن في الإسلام شيئاً من المسيحية وإنّ في المسيحية شيئاً من الإسلام، أي أنها تقرّ بالإسلام؟

ج: الرسالات السماوية ليست متناقضةً، وليست متضادّةً، وإن كل رسول يأتي ليكمل ما اقتضت الظروف عدم إكماله من الرسالة السابقة، فمثلاً عيسى(ع) قال: "جئت لأكمل الناموس"، وفي القرآن الكريم عنه: {مصدّقاً لما بين يديّ من التوراة ومبشّراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد} [الصف:6]. وهكذا يقول النبي(ص): {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}. ولذلك فإن الرسالات السماوية ليست متناقضةً، وإنما هي متكاملة، وكل رسالة تكمل الرسالة السابقة بتشريعات ومفاهيم جديدة، ولكن المسيحية الحالية تمثل عدة مذاهب في فهم المسيحية، ولا يمكن أن نقول إن المسيحية الموجودة بطوائفها ومذاهبها تمثل السيد المسيح مثلاً، لأنّ كل واحد يفهم السيد المسيح ويعتقد به بشكل مختلف، فهناك فرق بين البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، كما هو الأمر بين السنة والشيعة فيما يتعلّق ببعض الفروع أو الأصول.

س: ولكن الفاتيكان يعترف بالإسلام.

ج: الفاتيكان لا يعترف بالإسلام ولا يعتبره ديناً شرعياً يمثّل الحقيقة الرسولية، لأنه يؤمن ببشارة السيد المسيح بالمعنى الذي يفهمونه هم من حيث كونه ابن الله أو كونه تجسيداً لله، ولكنهم ينظرون إلى الإسلام على أنّه دين يؤمن به الكثير من الناس...

 س: كأمر واقع؟

ج: نعم، وكذلك الأمر بالنسبة إلى اليهودية، مع أنهم يؤمنون بالعهد القديم، ولكنهم لا يؤمنون باليهودية الرسمية التي يؤمن بها اليهود الآن، بل يختلفون معها تماماً كما هي البوذية والهندوسية وما إلى ذلك، أي أنهم يعتبرون الأديان الأخرى عندما يتحدثون عن حوار الأديان، أديان الأمر الواقع.

أصل التوحيد في الأديان

س: هل هذه المسائل تشكل مادةً لحوار جدّي وبنَّاء؟

ج: القرآن الكريم أكّد الحوار، خلافاً لمن يقولون إن أسلوب الدعوة في الإسلام هو فرضه بالقوة، فقد قال تعالى: {ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل:124]، وقال: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46]، وقال: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله} [آل عمران:64].

ثم نحن نلاحظ أن الإسلام يؤكّد في منهجه الحواري قاعدةً لم تصل إليها مناهج الحوار الحديثة، فمنهج الحوار الموجود ينطلق من قاعدة: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب، أي أنا مصيب بنسبة ثمانين في المئة وأنت مصيب بنسبة عشرين في المئة، أي أنني مصيب بنسبة كبيرة وأنت بنسبة صغيرة، وأنا مخطئ بنسبة صغيرة وأنت مخطئ بنسبة كبيرة، أما القرآن فماذا يقول؟: {وإنّا أو إيّاكم لَعلى هدًى أو في ضلال مبين} [سبأ:24]، أي أنني قد أكون مصيباً وقد أكون مخطئاً، وقد أكون ضالاً وقد أكون مهتدياً، وأنت قد تكون ضالاً وقد تكون مهتدياً، إذاً هناك حقيقة ضائعة بيننا، وعلينا أن نترافق من أجل اكتشافها.
رجال الدين بشر، وعلينا أن ننقدهم ونحاسبهم

س: وكيف نكتشفها؟

ج: نكتشفها بالحوار، بأن تعرض وجهة نظرك وأعرض وجهة نظري، وأن تبين نقاط الضعف في وجهة نظري وأبين نقاط القوة فيها والعكس، ونقيم الحوار لنصل إما إلى التقارب أو التفاهم أو اللقاء؛ لأنّ كلّ إنسانٍ ينطلق ليُحاور من وجهة نظره، وبالحوار يُمكن أن يكتشف زوايا لم يكن قد انتبه لها، أو قد يكتشف خطأً في فكرته لم يكن قد التفت إليه.

محاسبة رجال الدين

س: لكن أليس هناك دور سلبي لرجال الدين؟

ج: كل ما يعيشه رجال الدين من نقاط سلبية يعيشه أيضاً رجال السياسة ورجال الاجتماع وغيرهم. وأن يكون الشخص رجل دين لا يعني أنه معصوم أو أنه يجسد الدين، ولذلك كنت أدعو دائماً إلى أن يُنتقد رجال الدين من المسيحيين والمسلمين واليهود والبوذيين، تماماً كما يُنتقد بقية الناس، لأنهم بشر يفكرون كما يفكر البشر، فهم قد يخطئون في تفكيرهم وقد يصيبون، وعلينا أن نناقشهم حتى في فهمهم للدين، إذا كنا نملك الثقافة الدينية، كما نناقشهم في فهمهم للسياسة والقضايا الاجتماعية.

س: أليس رجال الدين حرّاس السماء؟

ج: ليس هناك حرّاس للسماء بالمعنى الواقعي العملي، وإنما هناك أناس إذا أخلصوا لله وكانوا في مستوى المسؤولية وفي مستوى العدالة والاستقامة، فإننا نأخذ بآرائهم وأفكارهم في ما نجهله، باعتبارهم أهل معرفة، كما نأخذ بآراء الأطباء في المسائل الطبية، وبآراء المهندسين في المسائل الهندسية، وذلك من باب الرجوع إلى أهل الخبرة في ما لا خبرة لنا فيه.

 س: ولكن الفارق بين رأي رجال الدين ورأي رجال العلم، أن رأي رجال الدين يستند إلى مقدّس؟!

ج: نحن نؤمن بالمقدَّس، وهو الله ودينه ورسوله، أما الشخص المثقف دينياً فهو ليس مقدساً، بل هو مجرد شخص مثقف ثقافة دينية قد يخلص لها وقد لا يخلص، وقد يستغلها وقد يحترمها. فرجال الدين هم بشر كبقية البشر، وعلينا أن نحاسبهم كما نحاسب بقية البشر، مع البقاء على احترام الرمز، وهناك فرق بين أن تحترم الرمز وبين أن تقدّسه.
الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان هو حوار سياسي

الحوار الإسلامي المسيحي في لبنا
ن

س: نشأ حوار عبر لجنة الحوار المسيحي الإسلامي في لبنان، واليوم يُطرح مؤتمر لحوار الأديان، هل للملوك أن يحاوروا في الدين؟

ج: أنا كنت من أوائل الذين كتبوا في الحوار الإسلامي المسيحي في كتابي "تأملات في الحوار الإسلامي المسيحي"، ولكن الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان هو حوار سياسي، فهو يبحث في حصص الطوائف ومواقعها في الحكم، فالمسيحيون يسعون للحفاظ على موقع رئاسة الجمهورية وقيادة الجيش، وطبعاً أقصد الموارنة، والسنة يتمسّكون برئاسة الوزراء، والشيعة لهم رئاسة المجلس النيابي، فالحوار في لبنان هو حوار سياسي حول المراكز والمواقع على قاعدة النظام الطائفي، وليس حواراً ينطلق من البحث حول ما هي المسيحية في عقائدها ومفاهيمها وأخلاقياتها، وما هو الإسلام في عقائده ومفاهيمه وأخلاقياته.

ولذا كنت أقول: لا تُسمّوا هذا الحوار في لبنان حواراً إسلامياً مسيحياً، بل حواراً لبنانياً ـ لبنانياً، لأنّ الحوار الموجود في لبنان هو تماماً كالحوار العشائري بين عشيرة وعشيرة، أو في داخل العشيرة الواحدة بين فريق وفريق آخر. ولذا أنا كنت أقول، إن الطائفية ليست ديناً، وإنما هي قبلية وعشائرية على مستوى جاهلي وليست على مستوى حضاري.

مؤتمر حوار الأديان سياسي لا ديني

س: ما رأيكم في المؤتمر الذي انعقد في نيويورك وسمي مؤتمر حوار الأديان؟

ج: هو مؤتمر من أجل تطبيع العلاقات الإسرائيلية العربيّة؛ وإلا كيف يمكن أن نفهم دعوة شخص ليمثل الدين اليهودي وهو جزار مسؤول عن مجزرة قانا وعن الكثير من المجازر إضافةً إلى أنه رجل منافق؟! لذلك أنا أفهم أنّ الحوار بين الأديان، إنما يكون بين المثقفين دينياً، بحيث يدرسون ماذا يجمع بينها وماذا يفرقها، وكيف يمكن أن نصل إلى الكلمة السواء أو لا نصل، ولا يكون بين السياسيين؛ ولذلك فإننا نرى أن هذا المؤتمر كان سياسياً ولم يكن دينياً.
السياسة تعطّل قيام حوار ديني منتج

س: إذاً، لماذا قصّر رجال الدين ولم يفتحوا قناة حوار موازية لقناة الحوار السياسي؟

ج: هناك بعض الحوارات الصغيرة بين المسلمين والمسيحيين في الغرب، ولكن الفوضى التي جعلت السياسة تدخل في الدين، وأعني سياسة الدول الكبرى والدول التابعة لها، عقّدت الحوار الذي يمكن أن يحقق النتائج؛ لأن الحوار ليس أن يقف أحدهم ويلقي خطباً في المسيحية أو في الإسلام، أو أن يتكلم عن خطوط احتفالية أو استهلاكية أخلاقية، وإنما هو أن نبحث، مثلاً، في مسألة هل صُلب السيد المسيح أو لم يُصلَب، من وجهة نظر الإسلام والمسيحية؟ وهل تجسَّد الله في السيد المسيح أو لم يتجسد؟ وما هي نظرية الفداء التي يؤمن بها المسيحيون بالنسبة إلى السيد المسيح ولا يؤمن بها المسلمون؟ أو أن نبحث في الخطوط الأخلاقيّة في المسيحية وفي الإسلام مثلاً، وكيف يُمكن أن نوحّد بعض الخطوط الدينية فيما يتّصل بحركة السياسة العالميّة؟ أو كيف يُمكن أن نمنع الظلم والاضطهاد والإبادة والتدمير للحجر والبشر، مما يُمكن أن يُفعل باسم الدين والمتديّنين... وإلاّ، فهل يُمكن أن يكون إيجاد كيانٍ مغتصب للأرض، مدمّر للحجر، قاتلٍ للشعب الفلسطيني، شرعيّاً ومقبولاً دينيّاً؟! أيّ دينٍ هذا الذي يشرّع الغصب والقتل والتدمير؟!

نحن نعتقد أنّ ما يسمّى حوار الأديان الذي يتحرّك اليوم يقفز عن الدين نفسه، ويتجاوزه ليستغلّ عناوينه المقدّسة، ليشرّع ما يصطدم بالدين بإضفاء لمسة من القداسة الدينية عليه، أو بالاعترافٍ به ممّن ينتسبون إلى هذا الدين أو ذاك، في الوقت الذي لا يملك أدنى قيمة دينية أو أخلاقيّة.
المتعصّبون لا يعترفون بالآخر من أيّ دين كان

إنّ مشكلة الإسلام ليست مع اليهودية كدين، وإنما هي مع الصهيونية. فبوش لا يمثل الدين المسيحي، وبيريز أو شارون لا يمثلان الدين اليهودي بالمعنى القيمي للدين. وهكذا أيضاً رؤساء الدول الإسلامية لا يمثلون الإسلام في هذا المجال، وإنما يمثلون مراكز سياسية معينة في ظروف معينة، ولذلك فإنّ مسألة حوار الأديان تفرض أن يكون الحوار ثقافياً، بينما نجد الحوار الذي يُطرح الآن يغلب عليه الجانب السياسي بنسبة تسعين في المئة.

العصبية والحوار

س: ما العوائق التي يمكن أن تعترض إيجاد حالة حوارية دينية؟

ج: نحن نرحب بأي حوار ديني، ولكن العوائق التي يمكن أن تعترض مثل هذا الحوار هي العصبيات، فهناك تيارات يهودية ومسيحية وإسلامية ترفض اللقاء مع الآخر والاعتراف به.

 س: والتيار الذي يوافق على اللقاء مع الآخر؟

ج: إذا كان يوافق فنحن نرحّب به، ونحن نعتبر أن القرآن هو كتاب حوار، لأنه حاور المسيحيين واليهود، وحاور المشركين والمنافقين، وقد ألّفت كتاباً سمّيته: "الحوار في القرآن".

س: حتى لو كان الحوار بتمثيل إسرائيلي؟

ج: هناك فرق بين إسرائيل واليهوديّة كدين، والله تعالى يقول: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} [العنكبوت:46]، لأنّ الظالم لا يفهم لغة الحوار، بل يستغلّ الحوار لمآرب أخرى، ولذلك نرفض الحوار مع إسرائيل قبل أن ترجع عن ظلمها للشعب واغتصابها للأرض.

س: هل حاخامات اليوم يمثلون اليهودية؟

ج: هم يمثلون ما يعتقدونه في الدين، ولكن الآن هناك بعض الحاخامات يفتون لليهود بجواز قتل الفلسطينيين وأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وبإبعادهم عن أرضهم ومنعهم من استثمارها وما إلى ذلك، فهؤلاء لا يمكن أن يمثلوا شيئاً دينياً.

اليهودية والصهيونية

س: ولكن هناك قاعدة يهودية دينية تقول: أقتلوا كل نسمة حي في أرض كنعان، فاليهودية إن اعتبرتها ديناً، فهي دين سفك دماء وقتل؟!

ج: إذا كانت اليهودية تنطلق من هذه القاعدة فهي ليست ديناً. ولكن هناك يهود لا يفكرون بهذه الطريقة، وهناك يهود ضد الصهيونية وضد دولة إسرائيل، وإذا كان هؤلاء يلتزمون التوراة كما أنزلها الله سبحانه وتعالى، وكما قال تعالى: {إنّا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربّانيّون والأحبار} [المائدة:44]، وكانوا يتحدثون عنها كما نتحدث عن القرآن وكما يتحدث المسيحيون عن الإنجيل، فنحن حينها مستعدون للحوار معهم.
اليهودية التي تقرّ المجازر وتشريد الناس ليست ديناً

من يعترف بالآخر مستعدون لمحاورته


س: ومن هنا معضلة التمثيل، فإذا وُجد واحد في المئة من اليهود المنفتحين دينياً وروحياً فسيقول اليهود الباقون لهم: أنتم مَن تمثلون، والأمر نفسه في كل الأديان والطوائف؟!

ج: هذا معناه أنهم لا يعترفون بالآخر، ونحن نتحدث عن الذي يعترف بالآخر. وعندما يكون هناك واحد في المئة من اليهود فقط يعترف بالآخر، فمعنى ذلك أن اليهود لا يعترفون بالآخرين، ونحن نتكلم عن فرضية السؤال، وعلى هذا الأساس يكون الجواب أنه إذا كان هناك واحد يعترف بالآخر، فنحن مستعدون للحوار معه.

استنكرنا الإرهاب ضد المسيحيين

س: يعتب المسيحيون ضمن مقابلتين مع الأب مونّس والأب مسّوح، أن المسلمين لم يعترضوا عملياً وبحزم على ما أصاب مسيحيي الموصل، فمثلاً، لم يكن هناك تظاهرة تستنكر ذلك؟

ج: أنا أول من أدان واستنكر ما حصل في الموصل، في خطبة الجمعة في أول أسبوع حدث ذلك، استنكرت ذلك بكل قسوة، وهناك أيضاً علماء في النجف استنكروا ذلك، ولكن ما حيلتنا مع الذي لا يقرأ ولا يسمع؟!

 س: ألا يجب الحفاظ على مسيحيي المشرق كمكوّن تاريخي في نسيجنا القومي والشعبي؟

ج: أنا من الأساس كنت أقول إنّ علينا أن نحافظ على مسيحيي الشرق قبل أن يحدث ما حدث.
    القاعدة - وليس المسلمون - تتحمل مسؤولية المجازر ضدّ المسيحيّين

س: ولكن ما الموقف الذي تعدى القول والاستنكار؟

ج: أولاً، ليس العراقيون حكومةً وشعباً من قام بالمجازر بحق المسيحيين، بل تنظيم القاعدة الذي يقتل المسلمين قبل المسيحيين. وإلا فلماذا نرى العالم الآن مملوءاً بالمهجَّرين العراقيين، وفيهم المسلمون من السنة والشيعة، وفيهم الكلدان وفيهم الآشوريون؟ فالمشكلة هي مشكلة العراق كله، ولا يجوز لنا أن نربط قضية الموصل بالمسلمين، فالقضية هي قضية سياسية، وقد يكون المتّهم بها جماعة من الأكراد، وهؤلاء علمانيون وليسوا دينيين.

س: لماذا لا يكون هناك لجنة قيادة تنسيق عليا بين مكوّنات شعبنا الدينية لتقطع الطريق على الفتنة؟

ج: يصعب إيجاد هكذا قيادة مع وجود حركة الدول الكبرى، وفي مقدّمهم أميركا التي عبّر رئيسها الحالي عن أنه يريد أن ينشر الفوضى البناءة والخلاقة في المنطقة، وأنا لا أعرف كيف يمكن للفوضى أن تكون خلاقةً، إلا إذا كان المقصود أنها تخلق الفتن وتخلق الظروف للمستكبرين وللدول الكبرى التي تريد أن تستغل العالم الثالث.

الأديان وتحقيق الغايات

س: هل حققت الأديان غايتها أم أُحبطت بالفرقة؟

ج: حققت غايتها بشكل جزئي، والأمر ذاته بالنسبة إلى أي مبدأ علماني أو ديني، فليس هناك من خطّ حقق غايته بشكل كامل.

س: وهل تستطيع هذه الأديان أن تستكمل ما لم تحققه من غايتها حتى الآن؟

ج: هناك عوائق كثيرة تقف حاجزاً أمام أية حركة كبرى توافقية أو إصلاحية، سواء بين الأديان أو حتى بين التيارات العلمانية، ومنها الصراع على النفوذ وسرعة الاقتصاد وغيرهما. وإلا بماذا نفسر حركة الأحزاب المتناحرة حتى بالنسبة إلى الديمقراطيين والجمهوريين والمحافظين والعمال، أو بالنسبة إلى الانتخابات في داخل الحزب الاشتراكي في فرنسا؟ هناك حركة عالمية تقودها الدول الكبرى، وفي مقدمها أميركا التي تريد أن تكون إمبراطورية العالم وقائدته، لا تسمح بوجود عالم موحد على أساس القيم المشتركة التي تربط الشعوب بعضها ببعض لتكون علاقات الشعوب علاقات تعاون وتكامل وتواصل.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 05 صفر 1430 هـ  الموافق: 31/01/2009 م
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية