الإصلاح الديني
السيد فضل الله: لتأصيل النصّ الديني بالانفتاح عليه والتعمّق في مفرداته وامتداداته
الإصلاح الديني، التجديد الديني، الأصولية... مصطلحات شغلت مساحات واسعة في المعالجات الفكرية والفلسفية الإسلامية. مجلة "الآداب" أفردت عددها الأخير للإطلالة على أهم الآراء وأبرزها حول مسألتي الإصلاح والتجديد، فكان هذا الحوار مع سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله...
مفهوم الإصلاح والتجديد الديني
س: سماحة السيّد العلاّمة، أودّ أن أبدأ معكَ بتعريف مصطلح "الإصلاح الدينيّ"، فهذا المصطلح كثيراً ما يمرّ على ألسنة المثقّفين والعلماء من دون تدقيقٍ ومساءلة. فما هو؟ وما الفارق بينه وبين مفهوم "التجديد الدينيّ"؟
ج: عندما نفكّر في الدِّين؛ في مفهومه الأصيل الذي ينطلق من خلال القاعدة التي تحكم مفاهيمَه وشرائعَه وحركيّتَه وأسلوبَه وأهدافَه، فإنّ علينا أن نقفَ عند مسألة الأصالة الدينيّة؛ فالدين الإسلاميّ انطلق من القرآن الذي يراه المسلمون كتاباً معصوماً {
لا يأتيه الباطلُ من بين يديْه ولا من خلفه} [فصّلت:42]، لأنّه كلامُ الله، وهو الذي يمنحه القداسة التي تضفي عليه الحقيقةَ المطْلقة.
لكنّ القرآن كلمات، وللكلمات حركيّةٌ في المعنى؛ فالكلمة حروفٌ تختزن المعاني. وعندما يتحرّك القرآنُ في علاقة اللّفظ بالمعنى، فلأنّ اللغة العربيّة التي نزل بها تمثِّل حركةً فنيّةً لا تتجمّد عند المعنى اللغويّ، بل هناك الإيحاءاتُ القرآنيّة؛ إيحاءاتُ الكلمة التي يمكنها أن تطلق العقل في آفاقٍ واسعةٍ تتحرّك في كلّ الأجواء التي يمكن أن يُطلَّ عليها المعنى اللغويّ، وهذا ما يصطلح عليه في الأبحاث العلميّة الفقهيّة اللغويّة بـ"الذوق العرْفيّ".
القرآن كلمات، والكلمة لا تأخذ معناها من المصطلح اللغوي الجامد، وإنما من خلال حركة الكلمة في ممارسة المجتمع
إذاً، الكلمة لا تأخذ معناها من المصطلح اللّغويّ الجامد، وإنّما من خلال حركة الكلمة في ممارسة المجتمع؛ فالمجتمع يوسِّع الكلمةَ إلى أبعد من معناها اللّغويّ. ولهذا، عندما نريد أن ندرس النصّ، فلا بدّ من أن ندرسَه في معناه اللغويّ، وفي مسيرته التاريخيّة أيضاً، أيْ في ما يستوحيه الناسُ منه، وفي ما يستعملونه.
ولذلك، فإنّ المسألة، بالنسبة إلى التأصيل الدينيّ، هي أن ننطلق إلى المصادر الأساسيّة. والكتاب هو الكلماتُ المقدّسةُ التي أوحى بها اللهُ سبحانه وتعالى، والتي لا يمْكن حتى للرسول نفسه أن يتصرّفَ بها زيادةً أو نقصاناً. لكنّ معنى الكلمات التي وردت في الكتاب هو من الأمور البشريّة التي تتّصل بوعي الإنسان لامتدادات الكلمة في استعمالاتها وفي حركيّتها. ومن هنا رأينا أنّ المفسِّرين اختلفوا في تفسير هذه الآية أو تلك، وربّما دَخَلَ بعضُهم في أجواء التخلّف، لأنه حاول أن يفسّر الكلمةَ من منطلق خلفيّاته الثقافيّة التي قد تكون متخلّفةً في هذا المجال.
التأصيل الديني يجب أن ينطلق من المصادر الأساسية للكتاب والسنّة
ولا بدّ من تأصيل الحديث النبوي من خلال صحة السند ودلالة المعنى
لذا عندما نَدْرس السُنّةَ، وهي نتاجُ أحاديث النبيّ محمّد(ص)، والتي أكّدها القرآنُ بقوله تعالى: {
وما آتاكم الرسولُ فخُذوه وما نهاكم عنه فانتهُوا} [الحشر:7]، فلا بدّ من أن نصحِّحَ نسبةَ الحديث إلى النبيّ؛ ذلك لأنّ الكثيرَ من الوضّاعين وضعوا الأحاديثَ ونسبوها إلى النبيّ(ص)، إمّا لأسبابٍ ذاتيّة، أو بسبب خضوعهم لبعض السلطات التي تريد أن تعطي لنفسها قداسةً معيّنةً، من خلال ربط هذه السلطة بالحديث النبويّ ـ وهذا كثيرٌ في التاريخ الإسلاميّ ـ. لذلك لا بدّ من أن نؤصِّل (نوثّق) الحديثَ النبويّ من خلال السَّنَد، ومن خلال المعنى أيضاً.
ولذلك، فإنه من الطبيعيّ جدّاً أنّ الذهنيّةَ التي تؤصّل النصّ، عندما تكون محدودةً متخلّفةً، فإنّها تَمْنحنا نصّاً متخلّفاً محدوداً لا علاقة له بالتأصيل الدينيّ الحقيقيّ. وهذا جَعَلَ التفكيرَ الدينيّ تفكيراً مثيراً للتساؤلات والجدل، بل مؤكِّداً للتخلّف في بعض الحالات، بسبب الفهم الضيّق الذي ينطلق منه بعضُ الناس الذين يعيشون في زنزاناتهم الثقافيّة التي وَرِثوها عن مصادرَ جاهلةٍ أو لا تمْلك الوعيَ الأدبيّ.
ولهذا، فإنّ عمليّة إنقاذ الدين من الإفساد الثقافيّ والحركيّ، تحتاج إلى جهد كبير جدّاً في مجال تأصيل الفكر الدينيّ، بحيث يكون وعيُنا للدِّين منفتحاً على أفضل القواعد الفنّيّة في اللّغة العربيّة، ومنفتحاً على الجانب التاريخيّ الذي نزلتْ فيه الآيةُ أو انطلق منه الحديثُ الشريف.
الإصلاح الديني هو ما أفتى به الكثير من المسلمين واجتهد به الكثير من المجتهدين ممن كانت اجتهاداتهم تابعة لحجم ثقافتهم
ومن هنا، فإنّ مسألة "الإصلاح الدينيّ" قد توحي بمفهومٍ غير دقيق؛ ذلك لأنّ الدين لا يَختزن الفسادَ في ذاته، لكونه شريعةَ الله باعتقاد المسلمين. إنّ الإصلاح الدينيّ هو ما أفتى به الكثيرُ من المسلمين، واجتَهد به الكثيرُ من المجتهدين ممّن كانت اجتهاداتُهم تابعةً لحجم ثقافتهم، أو كانت التزاماتُهم تابعةً لظروفهم. لذلك لا بدّ من أن نَدْخل إلى واقع الثقافة الدينيّة التي تَجْمع كلَّ هذا الرّكام من الفتاوى الفكريّة، سواء على مستوى الفقه، أو على مستوى علم الكلام، أو على مستوى حركة المفاهيم التي تتّصل بالإنسان والحياة.
ولذلك كنتُ أحاول دائماً أن أدرسَ الدينَ على أساس ربط معنى الكلمة بالإيحاء، فعندما تنفتح على المعنى اللّغوي للكلمة، فإنّ عليكَ أن تدرس إيحاءات هذه الكلمة، كي لا يكون القرآنُ مجرّدَ كتابٍ يتحدّث عن التاريخ، بينما هو في الحقيقة كتابٌ يمتدّ إلى الحاضر، ويَدْخل في التكوين الحركيّ للإنسان، وهذا ما نصطفيه من قوله تعالى: {
لقد كان في قصصهم عبرةٌ لأولي الألباب} [يوسف:111].
إنّنا حين نَدْرس القضايا التاريخيّة للأنبياء ولأممهم، لا نريد أن نستغرقَ في التاريخ، بل نريد أن ننقل التجربة التي عاشها الأنبياءُ، ونأخذ خصوصيّاتِها التي لا تموت بموت الزمن، وإنّما تمتدّ إلى الحياة، لأنّها خصوصيّاتُ الإنسانيّة. ولهذا كان تفسيري، "من وحي القرآن"، يحاول أن يستوحي الآية من خلال ما نعيشه الآن في الواقع، بحيث نَشْعر بأنّها تتحرّك في واقعنا، في الحركة الميدانيّة، وفي الصراعات الإنسانيّة.
إصلاح الفكر الديني
لذا، أتصوّر أنّ القضيّة هي إصلاحُ الفكر الدينيّ وإصلاح الاجتهاد الدينيّ. وهذه من العمليّات المعقّدة الصعبة، التي قد تثير الفتنةَ عندما تنْقض خطّاً متخلّفاً في الفهم الدينيّ هنا، أو خطّاً منحرفاً في الفتوى هناك، وهو ما لاحظناه في استغلال الآخرين للهوامش المذهبيّة الخلافية التي تدور بين المسلمين أنفسِهم.
الإصلاح الديني في فهمنا هو أن نؤصّل الفهم الديني من خلال التعمّق في النص في امتداداته حتى يكون نصاً للحياة كلّها، لا أن نحبسه في زنزانة ضيّقة من خلفيّاتنا الضيّقة
الإصلاحُ الدينيّ في فهمنا، هو أن نؤصِّلَ الفهمَ الدينيّ من خلال التعمّق في النصّ الدينيّ، وفي امتداداته، حتى يكون نصاً للحياة كلّها، لا أن نحبسَه في زنزانةٍ ضيّقةٍ من خلفيّاتنا الضيّقة، التي قد تكون ممّا نعيش معه في الماضي، أو نسقط بسببه في وحول الواقع!
س: استخدمتم كلمة "تأصيل"، ومن مشتقّات التأصيل مصطلحُ "الأصوليّة" التي تُستخدم الآن، وهي مفهومٌ مناقضٌ تماماً لما تَطْرحونه؟
ج: المقصود بـ"التأصيل" إرجاعُ الفكرة إلى جذورها الثقافيّة التي انطلقتْ منها، وعاشت في ظروفها، وامتدّتْ في حركيّتها، بحيث تجسِّد الفكرةَ في كلّ عناصرها المختلفة، فتواجهها كما لو كانت شيئاً حيّاً تخاطبه ويخاطبكَ. لذلك فإنّ المسألة التي نواجهها هي: ما الجذورُ الدينيّة؟ فنحن نلاحظ أنّ في الأوساط الاجتهاديّة الشيعيّة أو السُّنّيّة نوعاً من التخلّف في فهم الفكرة وفي الانفتاح على جذورها، إذ إنّ الكثيرين يأخذون النصّ فلا يتدبّرونه {
أفلا يتدبّرونَ القرآنَ أمْ على قلوبٍ أقفالُها} [محمد:24]. هؤلاء لا يمارسون التدبّرَ الذي يجعل من النصّ كوناً ينفتح على قضايا الحياة؛ فالنصّ قد ينطلق من حادثة معيّنة، لكنّ هذه الحادثة تمثّل النموذجَ الذي ينفتح على الامتدادات التي تلتقي بخصوصيّة النموذج وبعناصره.
الأصولية في مفهومه اللّغوي تعني رجوع الناس إلى الأصول، بمعنى أنه على الأصولي أن يرجع إلى الإسلام في أصوله العقائدية والمفاهيمية والشرعية
ولهذا، فإنّ مسألة الأصوليّة تختلف عن مسألة التأصيل؛ فالأصوليّة، في مفهومها اللغويّ، هي رجوعُ الناس إلى الأصول. لكنّ السؤال هو: كيف نفهم الأصول؟ فالذين يتحدّثون عن الأصوليّة مطالبون بأن نرجعَ إلى ما قاله الرسولُ(ص)، أو ما أَخذ به المسلمون من الكتاب، لا أن يخوضوا في الظروف التي أحاطت بكلامه(ص)، وهي ظروفٌ قد تجعل لكلامه امتداداً أوسعَ من طبيعة الحادثة التي انطلق منها.
وكذلك الأمرُ بالنّسبة إلى القرآن؛ فالقرآن هو كتابُ الحركيّة الإسلاميّة، لأنّه كان يلاحق الدّعوةَ الإسلاميّة، عندما كان المسلمون ينتصرون أو ينهزمون، أو عندما كان الإسلام يدخل في صراع مع أهل الكتاب أو المنافقين أو المشركين، أو عندما يتحدّث عن الخطوط الأخلاقيّة أو السلوكيّة، وما إلى ذلك.
لهذا لا بدّ من أن نفهم الظروفَ التي انطلقتْ منها كلُّ هذه المفردات، والتي تشكّل منها النصّ القرآنيّ. وهذا يعني أن ندرس ما صَحّ من أسباب النزول في القرآن، حتى نستطيعَ أن ننفتحَ على الآفاق القرآنيّة في هذا المجال، أيْ على الآفاق الممتدّة التي يمكن بموجبها للعناصر الخاصة أن تحمل في داخلها العناصرَ العامّةَ.
وحين يكون المسلم "أصوليّاً"، فإنّ عليه أن يفهم ما هي الأصول، فمن الطبيعيّ عندما نكون مسلمين، أن نرجعَ إلى الإسلام في أصوله العقائديّة والمفاهيميّة والشرعيّة؛ لكنّ السؤال هو: كيف نفهم هذه الأصول؟ هل الإسلام دينُ العنف أم الرفق مثلاً؟ أهو دينُ التخلّف أمِ التطوّر؟ دينُ الانفتاح أمِ الانغلاق؟ دينُ الحرب أم السِّلم؟ ما هي أساليبُ الإسلام في الدعوة، وفي إدارة الصراع؟... وما إلى ذلك من المبادئ التي يمْكنها أن تؤسّس "الإسلامَ الحضاريّ." ولهذا نحن لا نعتبر أنّ "الأصوليّين" ـ ممّن يروْن العنفَ أساساً في الإسلام، ويكفّرون مَن يختلف معهم في الرأي، ويستحِلّون دماءهم ـ يفهمون الإسلام، لأنّهم عاشوا في بيئاتٍ حاولتْ أن تسجنَهم داخلَ بعض المفاهيم الّتي استوردوها عن طريق بعض الدراسات، أو نتيجة فهم معيّن.
ولعلّ إطلاقَ كلمة "الأصوليّة" على "المتطرّفين المسلمين" هو اصطلاحٌ غربيّ، باعتبار أنّ الغرب هو الذي عاش الأصوليّة. فالغرب كان يمثّل العنفَ في كلّ تاريخه، وبين أفراده أنفسهم. ونحن نَعْرف أنّ هناك حروباً عاشها الغربيّون حتى وصلوا إلى دَور المؤسّسات، وهو لا يزال يختزن هذا العنف، ولكنْ بطريقةٍ يُبرِّره بها لحماية مصالحه الاستراتيجيّة، كما حدث في احتلالاته في القرن الماضي، وكذلك في احتلالاته في هذا القرن؛ وكما نلاحظ هذا العنفَ أيضاً في المافيات الموجودة في الغرب، وفي الحروب الصليبيّة التي كان يقودها الباباواتُ من أجل السيطرة على الأماكن المقدّسة في القدس وغيرها.
الثقافة الإسلامية قائمة على الرفق، والعنف فيها إنما هو عنف وقائي ودفاعي
لذلك نقول إنّ مفهوم "الأصوليّة" لا يتّفق مع مفهوم هؤلاء؛ فالمسلمون أصوليّون يرجعون إلى الأصول، لكنْ ليس كلُّ المسلمين مؤمنين بأنّ أصوليّتهم تَفْرض عليهم العنفَ في أيّ مقام. فالثقافة الإسلاميّة قائمةٌ على الرفق، والعنفُ فيها إنّما هو عنفٌ وقائيٌّ ودفاعيّ، ذلك لأنّ مَنْ أَطْلق عليك صاروخاً لا يمكن أن تقدِّمَ إليه إضمامةَ ورد!
ظاهرة الأصولية
س: هنا نجد أنفسَنا في المأزق نفسه يا سماحة السيّد؛ ففي معرض تفسيركم لظاهرة "الأصوليين" أو الحركات العنفيّة، قلتم إنهم لا يتدبّرون النصَّ الديني، ولا يتفاعلون مع العنصر التاريخيّ الكامن فيه، لكنّ المشكلة أنهم يعتمدون في ما يقومون به من قتلٍ للأبرياء ـ المسلمين قبل غير المسلمين ـ على فتاوى واجتهاداتٍ تجيز ذلك، بل توجبه. فما هي معاييرُ ذلك "التدبّر"؟
ج: المعايير الأساسيّة التي أكّدها القرآن الكريم، أنّه لا يجوز أن تَقتل مسلماً ولا مسالماً، فالله تعالى يقول: {
ومَنْ يَقْتلْ مؤْمناً متعمِّداً فجَزاؤهُ جهنّمُ خالداً فيها} [النساء:93]؛ ويقول أيضاً: {
ولا تقتلوا النّفسَ التي حَرّم اللهُ إلاّ بالحقّ} [الأنعام:151]. كما أكّد النبيّ أنّ المسلم، كلّ المسلم، حرامٌ دمه وماله وعِرْضِه وأهله.
وبالعودة إلى الآية السابقة، فإنّها تؤكّد أنه لا يجوز للمسلم أن يقتل المسلمَ إلاّ بالحقّ؛ والحقّ هو حال الدفاع عن النّفس، وحال الدفاع عن المستضعَفين الذين لا يستطيعون حيلةً ولا يجدون سبيلاً، وحال مواجهة الذين يَقْطعون الطريقَ ويثيرون الفسادَ في الأرض، بحيث يَختلّ نظام المجتمع كلّه، كما أنّنا نقع في القرآن الكريم على الآية: {
لا ينهاكُمُ اللهُ عنِ الّذينَ لم يقاتلوكُمْ في الدين ولم يخرجوكُمْ من ديارِكُمْ أن تَبَرُّوهُمْ وتُقْسِطُوا إليهم إنّ اللهَ يحبُّ المُقْسِطين} [الممتحنة:8]؛ فالشّخص المسالم الذي لا يقاتلكَ ولا يطردكَ من أرضك، لا يجوز لك الاعتداءُ عليه، {إ
نّما ينهاكُمُ اللهُ عنِ الّذينَ قاتلوكُمْ في الدين وأخرجوكُمْ من ديارِكُمْ وظاهَروا على إخراجِكُمْ أنْ تَوَلَّوْهُمْ ومَن يتولَّهُمْ فأُولئكَ هُمُ الظالمون} [الممتحنة:9].
فالمسألة، إذاً، ليست أن يكون كافراً حتى تقتله أو تقاتلَه، بل أن يكون محارباً، فتدافع عن نفسك إذا قاتلكَ أو طردكَ من أرضك أو تحالفَ مع الآخرين على إخراجك منها، كما فيما تقوم به إسرائيل بالتّعاون مع فريق غربي، في طرد الفلسطينيين من ديارهم.
نحن نقول إنّ أصحاب الفتاوى الذين أشار إليهم السؤال، لم يَفهموا القرآنَ ولا السّنّةَ جيّداً؛ ذلك لأنّ مجرّد اختلافي مع أحدٍ في الرأي المذهبيّ، أو في تفسير آيةٍ أو حديثٍ نبويّ، لا يجعلني كافراً، وإنّما مجتهداً، قد أُخطئ أو أصيب، تماماً كما قد يكون هو مخطئاً أو مصيباً، والله يقول: {
فإنْ تنازعتُمْ في شيءٍ فرُدّوهُ إلى اللهِ والرسول} [النّساء:61].
في الإسلام هناك فرق بين الحرابة والكفر، والكفر وحده ليس مبرراً لأن نعتدي على الكافر
المسألة في الإسلام ليست أن تقتل الكافرَ، بل أن تقتل كفرَه، ولا أن تقتلَ المجرم، بل أن تقتل إجرامَه. ولهذا نقول إنّ المسألة هي قتلُ المحارب لا قتل الكافر؛ والله سبحانه وتعالى يقول: {
إنّما جزاءُ الّذين يحاربون اللهَ ورسولَهُ ويسعوْن في الأرضِ فساداً أن يُقَتّلوا أو يُصَلّبوا...} [المائدة:33]. هناك فرقٌ بين الحرابة والكفر، الكفر وحده ليس مبرِّراً لأن تعتدي على الكافر في هذا المقام، لأنّ الكافر إذا كان مسالماً، فلا يجوز لك أن تتعرّضَ له بسوء، لا في نفسه ولا في ماله ولا في عِرْضه، بل إنّنا نلاحظ أنّ النبيّ(ص) عندما دخل المدينة، عقد معاهدةً بينه وبين أهلها، وقد انطلق في هذه المعاهدة لتأكيد فكرة "المواطَنة" في الإسلام، إذ أَدخلَ اليهودَ في وثيقة العهد التي أجراها بينهم من جهة، وبين الأنصار والمهاجرين من جهة أخرى، فلمّا نقض اليهودُ العهد وتحالفوا مع المشركين في وقعة الخندق أو وقعة الأحزاب، حاربهم النبيُّ نتيجةً لنقضهم العهدَ، ولاستخدامهم الحربَ ضدّ الإسلام بَدَلَ السِّلم الذي منحهم إيّاه. المفتي هو المجتهد الذي يملك الثقافة الإسلامية الواسعة في فهم الكتاب والسنّة وفي تأصيل القواعد الفقهية التي تمكّنه من استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيلية
س: وماذا عن فوضى الفتوى؟ ومَنِ المختصُّ بالفتوى؟
ج: المفتي هو المجتهد الذي يمْلك الثقافةَ الإسلاميّةَ الواسعة في فهم الكتاب والسنّة، وفي تأصيل القواعد الفقهيّة التي تمكّنه ـ بحسب ثقافته وأمانته العلميّة ـ من استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها التفصيليّة. ولذلك ليس من حقّ أيّ شخصٍ كان أن يفتي. ونحن نعتبر أنّ مراكزَ المفتين الرسميّة لا تجعلهم جديرين بأن يطْلقوا الفتاوى، لأنّ موقعَهم الفتوائيّ إنما انطلق من خلال تعيين الدولة لهم لا من خلال كفاءتهم الذاتيّة!
الاجتهاد في قراءة النصّ
س: مَنْ يقوم بإعادة التأصيل وتطوير الاجتهاد؛ أهُمْ رجالُ الدين وحدهم، أمْ بإمكان العلمانيين المختلفين فكريّاً أن يقوموا بذلك أيضاً... علماً أنّ بعضَ هؤلاء حاولوا إعادة قراءة النصّ القرآنيّ، لكنّ محاولاتهم قوبلتْ بعنفٍ شديد (نموذج د. نصر حامد أبي زيد، ونموذج د. محمد شحرور...)؟
ج: عندما انطلق القرآنُ، توجّه إلى النّاس كافّةً، وهذا يعني أنه يخاطب كلّ فكر، وينفتح على كلّ موقع من مواقع الوعي. وحين نقرأ قولَه تعالى: {
أفلا يتدبّرون القرآنَ أمْ على قلوبٍ أقفالُها} [محمد:24]، و{
أفلا يتدبّرون القرآنَ ولو كان من عندِ غيرِ اللهِ لوَجدوا فيه اختلافاً كثيراً} [النساء:82]، فإنّنا نستوحي من هذه الآيات، أنّ من واجب كلّ الناس أن يقرأوا القرآن، ومن حقّهم أن يتفهّموه، ويتدبّروه، ويدْرسوا المفرداتِ التي انطلق منها. ومن الطبيعيّ أن كلّ موقع من مواقع المسؤوليّة، أكان نصّاً ثقافيّاً أمْ مقدّساً، لا بدّ للّذين يلتزمون به، أو يُخاطَبون به، أن يتفهّموه وأن يثيروا علامات الاستفهام. وعندما أثار المشركون علاماتِ الاستفهام حول بعض القضايا الاعتقادية والاجتماعية، كان القرآنُ يجيبهم من خلال النبيّ، وكانت للناس حريّةُ أن يسألوا النبيّ ما يشاؤون، فالقرآن لم يَمنع أيّ إنسان من أن يسألَ عمّا جاء به التشريعُ الإسلاميّ، بل حاول أن يفسّر لهم ذلك.
القرآن نصّ إلهي ولكنّ تفسيره بشريّ، ما عدا تفسير النبي له، وتفسير من نعتقد عصمتهم
ومن خلال هذا العرض، نعتقد أنّ من حق كلّ مثقّفٍ يمتلك المعرفةَ الدينيّة من خلال أصولها، ويمتلك اللّغةَ العربيّة، ويمتلك الآفاقَ التي تتحرّك فيها تلك المعرفةُ الدينيّة، أن يفسّر القرآنَ بحسب ثقافته، سواء كان مسلماً أو غيرَ مسلم، متديّناً أو علمانيّاً؛ إذ ليس في الإسلام كهنوت، بل إنّ القرآن نزل للناس كافّةً. فالقرآن نصّ إلهيّ، ولكنّ تفسيرَه بشريّ، ما عدا تفسيرَ النبيّ له وتفسيرَ من نعتقد عصمتهم، ذلك لأنّ النبيّ لم يكن دورُه أن يتلو القرآنَ، بل أن يعلّمهم الكتابَ، ومن الطبيعيّ أنّ التعليم ليس إعطاءَ الكلمة، بل إعطاء الفكرة والمعنى.
وهذا ما كنتُ أتحدّث به مع د. نصر حامد أبي زيد عندما زارني وجرى حوارٌ بيننا، فقد قلتُ له إنّكَ تعتبر تفسيرَ النبيّ بشريّاً، وهذا ليس دقيقاً، لأنّ دور النبيّ هو أن يثقّفَ الناسَ بالقرآن ويعلّمهم، لذلك فهو يفسّر لهم ما أجمله القرآن، وما كان متشابهاً من آياته، ولذلك فإنّ دور النبي(ص) التفسيري يُعتبر مقدّساً، تماماً كما إنّ تلاوته تُعتبر مقدّسةً. أما ما عدا المعصوم، فمن الطبيعيّ جدّاً أن يكون تفسيرُه قابلاً للجدل، ويمكن أن يَخضع للخطأ والصواب.
لذلك نقول إنّ التفسير البشريّ للقرآن يَخْضع للنقد والمناقشة والتأمّل. من هنا، لا نعتبر أنّ تفسيرَ علماء الدين للقرآن يمثّل الحقيقةَ المطلقة؛ فقد يخطئون في التفسير، لأنّ تفسير النّصّ يخضع للجانب الثقافيّ الذي يسيطر على ذهنية المفسِّر، سواء من خلال البيئة التي عاش فيها، أو من خلال الدراسات التي درسها.
وأمّا بصدد الأسلوب الذي اتُّبع ضدّ الذين فسّروا القرآنَ، فإنّنا لا نوافق على العنف الذي تمثّل في ردّ فعل كثيرٍ من رجال الدين، بل إنّ المفروض عليهم، من الموقع الثقافيّ والعلميّ، أن يناقشوا الفكرةَ، كما حدث في زيارة نصر حامد أبي زيد لي، إذ كنتُ أناقشه مناقشةً علميّةً، وكان يتقبّل ذلك!
س: وماذا لو اعتبَرت المؤسّسةُ الدينيّة أنّ تفسير العلمانيّين هو تخطّ للحدود كما جرى؟
ج: القرآن نصٌّ مقدّس، وهو وحيٌ من الله، لكنّه، في الوقت نفسه، نصٌّ ثقافيٌّ نزل بلغةٍ عربيّة، وهذا يعني أنّه يَخْضع للقواعد العربيّة في دلالات اللّفظ على المعنى.
ليست هناك مؤسسة مغلقة تعطي الكلمة الفاصلة التي تمثل الحقيقة المطلقة
ليس في الإسلام مؤسّسةٌ دينيّة، بل مثقّفون دينيّون. بكلام آخر، ليست هناك مؤسّسة مغلقة تعطي الكلمةَ الفاصلةَ التي تمثّل الحقيقةَ المطْلقة، بل إنّ المؤسسات الدينيّة، كالحوزات الدينيّة العلميّة، هي مدارسُ لدراسة الدين من خلال ما جاء في الكتاب والسّنّة، وما استنبطه العلماء المجتهدون من القواعد الفقهيّة والكلاميّة. وعليه، فإنّ أيّ مدرسة علميّة، دينيّةً أو غير دينيّة، تخضع آراؤها لاحتمالات الخطأ والصواب، ومن الطبيعيّ جدّاً أن تتقبّل النقد. وهذا ما لاحظناه في الامتداد التاريخيّ لما يسمّى "المؤسّسة الدينيّة"، إذ نرى أنّ العلماء، سنّةً أو شيعةً، يناقشون بعضهم بعضاً.
ولذلك نجد أكثر من تفسيرٍ للقرآن من علماء سنّة وشيعة، وربّما يَعتبر العلماءُ أنّ كثيراً من الأحاديث والروايات موضوعة ولا تتناسب مع النصّ القرآنيّ بحسب ما يُفْهم منه، لأنّ كثيرين قد وضعوا الأحاديثَ التي تعكس تأييدَ التزاماتهم المذهبيّة المختلفة في هذا المجال. ولذلك نجد أنّ التفسير بالمأثور، وهو ما ألّفه بعضُ الشيعة وبعضُ السّنّة، يخضع للعديد من التساؤلات، ولعدم الثقة به، لأنّه لا يتناسب مع الجوّ القرآنيّ والفهم القرآنيّ.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 09 جمادى الأول 1430 هـ الموافق: 04/05/2009 م