السيد محمد حسين فضل الله في لقاء خاص مع "الأنباء":
لبنان يعيش في حال نقاهة أمنية واهتزاز سياسي
قراءة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، لنتائج القمة العربية، وآفاق المصالحات العربية ـ العربية، والعربية ـ الإيرانية، ورؤيته للسياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة، وقدرة الرئيس أوباما على إعادة وصل ما انقطع بين الغرب والمسلمين، وانعكاس ذلك على لبنان والمنطقة... كلها محاور مقابلة صحيفة "الأنباء" مع سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، والتي قارب من خلالها تأثير العلاقات الشخصية في مصالح الشعوب والأنظمة العربية، والتأثير الإسرائيلي في دوائر القرار الأمريكي.
وهذا نصّ الحوار:
آفاق القمم العربية
س: هل ترون أن النتائج التي توصّلت إليها القمّة العربية في الدوحة كانت على مستوى التحدّي، وعلى مستوى توقّعات شعوب المنطقة؟
ج: عندما ندرس الواقع العربي على مستوى الأنظمة من خلال الذين يقودونها، نلاحظ أنّ العالم العربي كعالم موحّد غير موجود بالنسبة إلى هذه الأنظمة، لأن العلاقات بين أي دولة عربية ودولة أخرى، لا تنطلق من عمق العروبة التي تمثل الامتداد في الأمة وفي مصالحها الحيوية وقضاياها المصيرية، بل قد نرى أن المسألة القومية تغيب أمام التعقيدات السياسية الثنائية في الموضوع، وهذا ما نلاحظه في أكثر القمم العربية التي قد يغيب عنها رجال كبار على مستوى الأنظمة، لأن عندهم مشكلةً حول المكان الذي تعقد فيه القمة، على أساس التعقيدات بين حاكم هذا البلد والأشخاص الآخرين الذين يفترض حضورهم في هذا المجال.
العلاقات بين الدول العربية لا تنطلق من عمق العروبة التي تمثل الامتداد في الأمة وفي مصالحها الحيوية وقضاياها المصيرية
وقد لاحظنا، مثلاً، في القمة العربية التي عقدت في سوريا، وأيضاً في القمّة التي انعقدت أخيراً في الدوحة، أنّ العلاقات السياسية السيئة بين حاكم عربي وآخر قد تترك تأثيراتها السلبية على قضايا الشعوب ومصالحها.
وحتى الذين حضروا القمّة، نجد أنّ الكثيرين منهم كان حضورهم غائباً، لأنهم لم يدخلوا إلى القضايا المصيرية دخولاً فاعلاً، فنحن نلاحظ، مثلاً، في توصيات مؤتمر الدوحة، استخدام كلمات مثل: "نطلب"، "ندعو"، "نؤكّد"، أما "نفعل" فهي غير موجودة، مع أنّ انعقاد هذه القمّة جاء بعد اجتياح غزّة مباشرةً، والذي كان تعاطي الواقع العربي السياسي معه واقعاً بارداً في أغلب مواقعه...
إنني أعتقد أنّ هذه القمة لم تكن قمةً عربيةً فاعلةً، ولذلك نجد البنود التي تنشر في الإعلام لا تزال تتكرّر في كل مؤتمرات وزراء الخارجية العرب، وهذا ما نرصده في حركة الجامعة العربية التي تعيش حالاً من الاسترخاء النائم إذا صحّ التعبير، ولا تستيقظ إلا بالطريقة التي تعبّر عن علاقات شخصية لا عن علاقات قومية.
المصالحات التي تحدّث عنها الإعلام واعتبرت قمة المصالحات العربية، لم تكن مصالحات في العمق وإنما كانت سطحية
لذلك أتصوّر أن المصالحات التي تحدّث عنها الإعلام، واعتبرت قمة المصالحات العربية، لم تكن مصالحات في العمق، إنما كانت سطحيةً، وهذا ما لاحظناه في الأسلوب الذي أديرت به المصالحة بين بعض الحكام العرب.
شرعية العلاقات الإيرانية ـ العربية
س: يقال إنّ أحد أبرز مسائل الخلاف بين الدول العربية، هو العامل الإيراني، وشكل العلاقات العربية ـ الإيرانية، وهناك اعتراض من بعض الأنظمة العربية لكون الدخول الإيراني على الخطّ العربي لم يكن من البوّابات الشرعية العربية؟
ج: عندما نريد أن ندرس المسألة في هذا الجانب، فإنّنا نتساءل: لماذا لا يعترض الحكّام العرب على الدخول الأمريكي والأوروبي على خطّ الأحزاب والشخصيات السياسية في العالم العربي؟ ولعلّنا نلاحظ هنا في لبنان، أن المندوبين الأوروبيين والأمريكيين، وحتى الروس، يلتقون مع الشخصيات السياسية والأحزاب، كما يلتقون مع الحكومات، وهذا يعني أن هناك لقاءات مع غير الشرعية الرسمية، وحتى هناك علاقات مع بعض الشخصيات السياسية التي تقوم بزيارات متكررة إلى أوروبا وأمريكا، ويتم التحدث معهم عن القضايا اللبنانية، بما في ذلك المسائل الخاصة كمسألة الانتخابات.
فنحن نلاحظ أن أغلب الدول تدخل من خارج البوّابة الشرعية، وقد تدخل من باب الشرعية، إلا أن علاقاتها خارج إطار الشرعية تكون أحياناً أكثر من علاقاتها مع الشرعية، ويتحدث الإعلام دائماً عن السفراء الأمريكيين وعن السفراء الآخرين، ونحن عندنا خصوصية لبنانية ليست موجودةً في أيّ مكان آخر، وهي أن الإعلاميين اللبنانيين دأبوا على استصراح السفراء في القضايا اللبنانية الخاصة، مع أن الوضع الدبلوماسي لا يسمح للسفراء بأن يدلوا برأيهم إلا من خلال وزارة الخارجية.
مسألة الدخول من باب الشرعية وحدها ليست موجودة في العالم كله، بل إن العالم يحاول أن يوجد علاقات مع المنظمات من غير باب الشرعية إذا كانت تتفق مع سياستها
لذلك، أتصوّر أنّ مسألة الدخول من باب الشرعية وحدها ليست موجودةً في العالم، بل إنّ العالم كلّه، سواء العالم الغربي أو الشرقي، يحاول أن يوجد علاقات مع المنظمات أو الشخصيات من غير باب الشرعية إذا كانت تتّفق مع سياسة هذه الدولة أو تلك في عدد من المواضيع.
وإيران لا تشكّل بدعةً بين الدول في هذا المقام، لأنها دولة تحاول أن تحمي مصالحها وتطوّرها كما تفعل بقية الدول الأخرى، مع ملاحظة أخرى، وهي أنّ إيران الآن تتبنّى القضايا التي لا بدّ للعرب من أن يتبنّوها، وهي القضيّة الفلسطينية مثلاً، أو قضية المقاومة اللبنانية، باعتبار أنّ العرب لم يقدّموا شيئاً في هذا المجال، فقد انسحبوا علناً من القضيّة الفلسطينية، وبدأ البعض منهم درس مفرداتها الجزئية بعيداً عن الخطّ الاستراتيجي للقضية.
لذلك فنحن نلاحظ أن إيران اليوم، بقطع النظر عن الصواب أو الخطأ في سياستها، بحسب اختلاف النظرة السياسية من قِبَل هذه الجهة أو تلك، تحاول التقرب من العالم العربي، وهناك علاقات اقتصادية بينها وبين الإمارات، وعلاقات أمنية مع بعض الدول العربية، كما حدث بينها وبين السعودية في مرحلة من المراحل. لذلك فإن إيران تعمل على أن لا تمثل خطراً على المصالح العربية، ولا سيّما أنها أكبر دولة خليجية، فهي تمتدّ إلى أكثر من ألف كيلومتر في الخليج. لذلك أتصور أن المسألة هي مسألة العلاقات الأمريكية ـ الإيرانية السلبية، إذ إنّ أمريكا حاولت من خلال الرئيس السابق بوش ووزيرة الخارجية رايس، أن تعزل العرب عن إيران، وأن توحي إليهم بأن إيران هي العدو والخطر، مقابل الإيحاء بأنّ إسرائيل هي الصديق وهي دولة السلام.
الإدارة الأمريكية السابقة حاولت أن تعزل العرب عن إيران وأوحت إليهم بأن إيران العدو وهي الخطر
التّقارب الأمريكي ـ الإيراني
س: قبل أن نستكمل تطورات العلاقة الأمريكية ـ الإيرانية؛ هل يمكن أن نتحدث عن آفاق تقارب عربي ـ إيراني، أو مصالحة عربية ـ إيرانية؟ وما هي مقوّمات تقارب مثل هذا؟
ج: في تصوّري، عندما تتغيّر السياسة الأمريكية تجاه إيران، فإنّ الحاجز الأمريكي الذي يحجب العلاقات العربية الإيرانية سوف يسقط، لأنّ القضية هي قضية السياسة الأمريكية. ولهذا علينا أن نراقب تطوّر العلاقات الأمريكية الإيرانية، وخصوصاً بعد ما استمعنا إليه في الإعلام قبل أيام، بأنه كان هناك لقاء مباشر بين المندوب الإيراني والمندوب الأمريكي في لاهاي على هامش مؤتمر أفغانستان، والذي عبَّرت عنه هيلاري كلينتون بأنه كان لقاءً ودياً.
الحوار الأمريكي الإيراني سوف يستمر، لأن إيران استطاعت أن تثبت أنها قوة إقليمية كبرى ودولة عظمى
فإذا قدّمت إيران وجهة نظرها في المسألة الأفغانية، واستطاعت أن تقنع أمريكا بأنّها قد تلتقي معها حول السياسة الأفغانية، وخصوصاً فيما يتعلّق بالفوضى التي تحكم أفغانستان، من خلال الذهنية التي تدير بها طالبان الحكم، والتي شكّلت مشكلةً للشعب الأفغاني وللعالم الإسلامي في تخلّفها الثقافي والإسلامي أيضاً، فإني أتصوّر أن هذا الحوار الأمريكي ـ الإيراني سوف يستمرّ، لأن هناك نقطةً لا بدّ من ملاحظتها، وهي أيضاً تستدعي أن نتساءل: لماذا أقبل الرئيس الأمريكي الجديد أوباما على إيران؟ لأنّها استطاعت أن تثبت أنّها قوة إقليمية كبرى وأنها دولة عظمى، سواء من خلال تقدّمها العلمي في صناعة الأسلحة ووصولها إلى الفضاء، أو في امتدادها الجغرافي في أكثر من بلد في المنطقة، ولا سيّما العراق، فلقد أثبتت أنها القوة التي لا تستطيع أمريكا أو إسرائيل أن تسقطها، حتى إنّنا استمعنا إلى تصريح مسؤول أمريكي قبل مدة، بأنّ أي هجوم إسرائيلي على إيران سوف يربك المنطقة كلّها.
وأمريكا دولة براغماتية تتعامل مع الأقوياء من خلال مصالحها، فهي تحترم إيران حتى وهي تهاجمها، كما تحترم إسرائيل التي تتمرّد على قراراتها، ولا تحترم العرب، لأنّ ضعفهم يجعلهم لا يملكون أيّ موقف قوّة في هذا المجال. لهذا فإنّني أتصور أنه عندما تتطور العلاقات الأمريكية الإيرانية، فقد يصبح المدخل لتوازن العلاقات العربية الإيرانية ممكناً حينها.
عندما تتطور العلاقات الأمريكية الإيرانية، فقد يصبح المدخل لتوازن العلاقات العربية الإيرانية ممكناً حينها
س: ألا يستبطن هذا القول إيحاءً بأنّ العرب هم مجرّد تابعين للإدارة الأمريكية وليس لديهم أيّ رأي في هذه المسألة؟
ج: هذه حقيقة، لأنّ ما نلاحظه مثلاً تجاه القضية المركزية للعرب، وهي قضية فلسطين، أنّ العرب لم يستطيعوا أن يتحركوا خطوةً واحدةً باتجاه حلّها، بل إنّ مندوبي الإدارة الأمريكية استطاعوا أن يجمّدوا الحركة السياسية العربية في الضّغط على إسرائيل، فحين تحدث مثلاً مجزرة كمجزرة غزّة الأخيرة، وعندما تحاصَر غزّة وتجوَّع وتُحرَم حتى من الدواء والغذاء، نجد أنّ العرب لم يقوموا بأيّ عمل فاعل.
وقد كان من المفترض أن يقوم بعض العرب ممّن لهم علاقات مع إسرائيل، بعملٍ ضاغطٍ تجاه حكومة العدوّ أو بتجميد علاقاتهم معها، بينما لاحظنا أن مؤتمر شرم الشيخ الذي جاء بعد مؤتمر غزّة كان لمصلحة إسرائيل، فقد ذهب الأوروبيون الذين حضروا المؤتمر إلى إسرائيل ليتناولوا العشاء مع أولمرت، وليشيدوا بإسرائيل، من دون أن يترك هذا المؤتمر أي أثر في المسألة التي كانت أساس المؤتمر، حتى إن المؤتمر الذي يراد من خلاله دعوة الدول المانحة لإعمار غزّة، يتحرك سلحفاتياً، وستبقى غزّة تحت الضغوط الإسرائيلية وقتاً طويلاً بفعل الصمت الأمريكي والأوروبي.
المؤتمر الذي يراد من خلاله دعوة الدول المانحة لإعمار غزة يتحرك سلحفاتياً، وستبقى غزة تحت الضغوط الإسرائيلية وقتاً طويلاً بفعل الصمت الأمريكي والأوروبي
القضية الفلسطينية في حركة السياسة الإيرانية
س: فيما يتعلّق بمسألة الدعم الإيراني لقضية فلسطين، هناك وجهة نظر تقول إن إيران تحارب في ساحات الآخرين وعبر الآخرين. ما رأيكم في هذا الكلام؟
ج: علينا أن ندقّق في هذا الكلام أكثر، فنحن نعرف أن إيران ليست هي التي تحارب في فلسطين، بل الفصائل الفلسطينية وفصائل الانتفاضة التي تقف حماس في مقدّمتها، ولم يكن من إيران إلا أنها زوّدت حماس بالمال والسلاح، وحماس كانت تقاتل قبل أن تكون لديها علاقة مع إيران، وإيران إنّما تساعد المقاومة الفلسطينية لتقوّي موقفها في مواجهة إسرائيل، ولأنّها تلتقي مع المقاومة الفلسطينية في الهدف، وإلا يمكن أن يقال في هذا المجال إنّ الدول العربية أيضاً تحارب مع إسرائيل، باعتبار أنها جمّدت المقاومة، ولم تستطع أن تحصِّل من المفاوضات شيئاً، بل إن المفاوضات كانت لتقطيع الوقت.
إننا الآن أمام حكومة إسرائيلية يمينية متطرّفة ـ وكل الإسرائيليين يمينيون متطرفون ـ هذه الحكومة التي يؤمن رئيسها برفض مبدأ الدولتين، ويهرب إلى المسألة الاقتصادية، ويعطي المجال لحركة الاستيطان ولاستكمال الجدار الفاصل وتهويد القدس، فما هو الموقف من هذا الأمر؟ إنّ البعض يتحدث عن المجتمع الدولي، ونحن نعرف أن المجتمع الدولي مع إسرائيل، لأنّ إسرائيل هي القوة في المنطقة ولا يشكّل العرب أيّ قوة فيها.
المجتمع الدولي مع إسرائيل لأنها هي القوة في المنطقة ولا يشكل العرب أي قوة فيها
لهذا، فإني أتصوّر أن المقاومة، بقطع النظر عن السلبيات التي قد تحدث في بعض ممارساتها، هي وسيلة الضغط الوحيدة التي يمكن أن تربك الأمن الإسرائيلي، وتدفع الشعب الفلسطيني إلى الصمود. لهذا فالهدف الآن ينبغي أن يكون أن لا تستقر إسرائيل، وأن تبقى في قلق أمني ولو من خلال عملية هنا في القدس وعملية هناك في تل أبيب، أو في إطلاق التهديدات من قبل المقاومة الإسلامية اللبنانية، أو من خلال بعض الأوضاع الأخرى، لأنّ بقاء إسرائيل في حال الاهتزاز الأمنيّ، ربّما يقنع الشّعب اليهودي في الكيان الصّهيوني بأن يعترف بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، ودون ذلك، سوف ننتقل من مفاوضات إلى مفاوضات، ومن زيارات إلى أمريكا وأوروبا دون فائدة، لأنّ الفرق بين إسرائيل والعرب، أنّ العرب ترفعهم الكلمة وتسقطهم الكلمة، فيما إسرائيل تظل متمسّكةً بالمواقف. العرب ترفعهم الكلمة وتسقطهم الكلمة، فيما إسرائيل تظل متمسكة بالمواقف
الظّروف الموضوعية للمقاومة
س: قبل أن ننتقل إلى ملفّ آخر، هناك ملاحظات على أداء بعض الدول العربيّة تجاه القضيّة الفلسطينيّة، فبعض هذه الدول لها أراضٍ محتلّة من قِبَل العدوّ الإسرائيلي، ولكنّها تمنع انطلاق المقاومة من أراضيها، وتنادي بالسّلام وتسعى إليه، وهذا حقّ من حقوقها، ولكنّها ترفع شعار الممانعة، وتمنع المقاومة على أرضها؟
ج: نحن لا نريد أن نعطي العذر لأيّة دولةٍ في أن تقف ضدّ المقاومة إذا كانت تملك الظروف الموضوعية لها، ولكن ربّما تؤدّي المقاومة على مستوى الدولة إلى أن يكون هناك حربٌ بين دولة ودولة، ونحن نعرف أن الظروف السياسية الدولية أو الإقليمية أو الظروف العسكرية من جهة التسلّح، تجعل إسرائيل في موقع التفوّق العسكري، بحيث لا تكون الحرب العسكرية بين دولة ودولة أمراً مفيداً على مستوى القضية، ولكن عندما تكون القضية قضية حرب العصابات، فإن إسرائيل عند ذلك لا تملك إلا الاهتزاز الأمني، كما حصل عام 2006م في الحرب بين المقاومة الإسلامية في لبنان وإسرائيل. لذلك ليست هناك أي ظروف واقعية لفتح جبهة مقاومة من تلك الدولة مع إسرائيل، بل يمكن أن تفسح في المجال أمام المقاومة الشعبية.
علاقة الإدارة الأمريكية الجديدة مع العالم الإسلامي
س: تعرّضت صورة الإسلام إلى تشوّه كبير بعد أحداث 11أيلول، وتعقَّدت بعدها العلاقات الإسلامية الغربية. اليوم، هناك رئيس أمريكي جديد من خارج النادي السياسي للرؤساء، ومن خارج الطبقات التي تنتج الرؤساء في الولايات المتحدة، وهو يبادر إلى مخاطبة العالم الإسلامي، ومخاطبة إيران، ويسعى ربما إلى انتهاج سياسة جديدة لن تكون مفصولةً طبعاً عن المصالح الأمريكية، فهل ترون في ظلّ ذلك إمكانيةً جديدةً لبناء علاقات مختلفة بين الغرب والعالم الإسلامي؟
ج: هناك نقطتان في السؤال؛ النقطة الأولى هي الأحداث التي أعقبت ما حصل في 11أيلول في أمريكا، وانعكست سلباً على العلاقات الأمريكية الإسلامية. إنّنا في الواقع نلاحظ أن هناك شيئاً خفياً في خلفيات السياسة الأمريكية فيما يتعلّق بهذه المسألة، وخصوصاً في دهاليز المخابرات الأمريكية C.I.A، يوحي بأنّ القضيّة انطلقت من بعض الأشخاص الذين يتبعون دولاً متحالفةً مع أمريكا. ثم إن المسألة انطلقت من خلال جماعة معيّنة، وهناك كلام قد يكون واقعياً أو غير واقعي، وهو أنّ شيئاً إسرائيلياً له بعض العلاقة بهذه الأحداث ولو بشكل غير مباشر، وربما انطلقت المخابرات الأمريكية والإعلام الأمريكي بعد هذه المعلومات لتغطّي ذلك، لأنّ ما يتعلق بإسرائيل لا يمكن أن يواجه بأيّ شيء يفضحها.
لذلك، فإن السياسة الأمريكية التي قد يخرج بعضها إلى العلن، أرادت أن تستفيد من هذه المسألة لتسيطر على العالم، ولا سيّما العالم الثالث، وفي مقدّمه العالم العربي والإسلامي، تحت عنوان مكافحة الإرهاب، حيث اعتبر العالم الإسلامي بأجمعه إرهابياً، وهو العنوان الذي تسقط أمامه كل الحواجز، سواء كانت أوروبيةً أو شرقيةً أو غير ذلك، لأنه من العناوين التي تخوِّف بها أمريكا كل العالم، بما في ذلك الدول العربية التي تختزن شعوبها مفاهيم التطرف وما شابه.
العلاقات الأمريكية الإسلامية لم تنشأ من طبيعة أحداث أيلول وما بعدها، ولكن هذه الأحداث أعطت أمريكا فرصة إضافية للتحرك في استراتيجيتها لقيادة العالم
إنّ العلاقات الأمريكية الإسلامية لم تنشأ من طبيعة أحداث أيلول وما بعدها، ولكنّ هذه الأحداث أعطت أمريكا فرصةً إضافيةً للتحرك في استراتيجيتها لقيادة العالم، ولا سيّما العالم الإسلامي الذي يختزن الثروات البترولية والمواقع الاستراتيجية التي تريد أمريكا السيطرة عليها، وهذا ما لاحظناه من خلال احتلالها العراق، والذي انطلق من أكذوبة كبرى هي وجود أسلحة الدمار الشامل، بينما صرّح أحد قادة الجيش الأمريكي في العراق، جون أبي زيد: "بأنّنا دخلنا العراق من أجل السيطرة على نفطه".
وهكذا بالنسبة إلى أفغانستان التي تبرّر أمريكا حربها عليها بأنها تريد أن تقضي على القاعدة التي يقودها بن لادن، والتي تمثل خطراً على أمريكا، ولكن الواقع أن أفغانستان تمثل المنطقة الجغرافية التي يمكن لأمريكا من خلالها ومن خلال باكستان أن تسيطر على المنطقة الآسيوية، باعتبار أنها تحدّ الصين وروسيا، وهذا ما جعل أمريكا تستقدم الحلف الأطلسي، وهي تتحرك الآن من أجل الخروج من المأزق مع إبقاء سيطرتها السياسية الاستراتيجية على المنطقة.
مجيء الرئيس الجديد والإدارة الأمريكية الجديدة يمكن أن يساهم في تغيير الأسلوب مع بقاء المضمون
لهذا، فإنّني أتصوّر أن مجيء الرئيس الجديد والإدارة الجديدة يمكن أن يساهم في تغيير الأسلوب، أما التغيير الجذري للسياسة الأمريكية، فهو أمر يحتاج إلى مراقبة وتأمّل، لأن أمريكا ليست دولة شخص كما هو الحال في العالم العربي، ولربما الإسلامي، بل هي دولة مؤسسات، ونحن نعرف أن الكونغرس، سواء مجلس النواب أو مجلس الشيوخ، هو الذي يضغط على الإدارة وعلى الرئيس في هذا المجال. كما أنّ العلاقات الأمريكية الإسرائيلية هي علاقات عميقة الجذور، حتى إنّ البعض يقول إنّ إسرائيل هي التي تحكم أمريكا بدلاً من أن تحكم أمريكا إسرائيل، لأنّ اليهود دخلوا في مفاصل الحياة الأمريكية؛ في الإعلام والاقتصاد والسياسة والحرب. فالرئيس الجديد يحاول الآن تغيير الأسلوب الذي سار عليه الرئيس بوش، خصوصاً أنّ هذا الأسلوب العسكري الحربي الاستباقي استطاع أن ينسف علاقة الشعوب بأمريكا، حتى أصبح الأمريكيون يتساءلون عن سبب كره هذه الشعوب لهم.
وإن كان أوباما يملك بعض الجذور بسبب تربيته في العالم الثالث، أي في أندونيسيا، وخصوصاً أنه من الطبقة الفقيرة، إلا أنّنا نتساءل: هل يستطيع أن يغيّر السياسة الأمريكية التي تعمل على أن تقود العالم؟ لذلك فهو الآن يضع كلّ جهده وطاقته من أجل حلّ الأزمة المالية الكبرى التي وقعت فيها أمريكا من خلال سياسة بوش، باعتبار أنّ أمريكا كانت تملك السيطرة على العالم، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي من ناحية القوة الاقتصادية، وسقوط هذه القوّة أو ضعفها قد يضعف التأثير الأمريكي على الدول الأخرى، ولا سيّما دول الاتحاد الأوروبي، لذلك فهو يقوم بمبادرة توازن الواقع الاقتصادي الأمريكي، كي تبقى أمريكا الدولة القائدة للعالم.
أوباما يقوم بمبادرة توازن الواقع الاقتصادي الأمريكي، كي تبقى أمريكا الدولة القائدة للعالم
لبنان في خضمّ المتغيّرات الدولية
س: إزاء كل هذه المتغيّرات الدولية والإقليمية والعربية، أين يقف لبنان؟ وكيف السبيل لتحصين ساحته الداخلية بعد الانقسام الحادّ الذي حصل ووصل إلى استخدام السلاح؟
ج: كانت عندي في أيّام الحرب مقولة، وهي أن لبنان تحكمه لاءات ثلاث: لا تقسيم ـ لا انهيار ـ لا استقرار، وكنت أقول إنّ لبنان هو الرئة التي تتنفّس فيها مشاكل المنطقة. ومشكلة لبنان الأساسيّة هي في نظامه الطائفي الّذي يجعل كلّ طائفة دولةً مستقلةً لها مناطقها الخاصة، بحيث تمنع الطائفة الأخرى من أن تتدخّل في شؤونها الداخلية، حتى أصبح لكلّ طائفة سياسيوها ورجال دينها وتقاليدها التاريخية وغير التاريخية.
ولذلك، فإنّ هذه الثغرات بين الطوائف، تجعل الدول الكبرى تجد في لبنان الساحة المثلى لحركة المخابرات الدولية، هذا إضافةً إلى الخطوط الإقليمية التي لها مصالح في المواقع اللّبنانية، ما يجعلها تتحرك مع هذا الفريق أو ذاك، لتموّل الانتخابات أو المبادرات الحزبية لهذه الجهة أو تلك.
لبنان سوف يبقى في حال نقاهة أمنية واهتزاز سياسي
لذا من الصعب جداً أن يستقرّ لبنان من الناحية السياسية، لكن من الممكن جداً أن يستقر من الناحية الأمنية مع بعض الأحداث الصغيرة هنا وهناك، كما يحدث في أيّ بلد آخر، لأنه ليست هناك مصلحة لأي دولة إقليمية أو أجنبية بالخلل الأمني في لبنان، لذلك فإنّ لبنان سوف يبقى في حال نقاهة أمنية، واهتزاز سياسي، لأنّ السياسيين غالباً ما يتحركون من خلال شخصياتهم وطوائفهم، ولا يتحركون من خلال وطنيتهم، وقد كنت أقول على طريقة ديوجين: أحمل مصباحاً فلا أجد لبنانياً، بل أرى طائفياً.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 11 ربيع الثاني 1431 هـ الموافق: 07/04/2009 م