فضل الله لـ «الراي» الكويتية: العالم العربي قد مات منذ مؤتمر مدريد، لأن إسرائيل رفضت منذ ذلك الوقت أن تفاوض العرب مجتمعين

فضل الله لـ «الراي» الكويتية: العالم العربي قد مات منذ مؤتمر مدريد، لأن إسرائيل رفضت منذ ذلك الوقت أن تفاوض العرب مجتمعين

فضل الله لـ «الراي» الكويتية:

العالم العربي قد مات منذ مؤتمر مدريد، لأن إسرائيل رفضت منذ ذلك الوقت أن تفاوض العرب مجتمعين


عن تطييف الانتخابات في العالم العربي، والأزمة المستجدة بين مصر وحزب الله، وعمّا إذا كان هناك مشروع شيعي خاص في المنطقة، وإمكان إقامة حوار بين الأديان... محاور المقابلة التي أجرتها صحيفة "الراي" الكويتية، مع سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله. وفي ما يأتي وقائع الحديث مع سماحته:

واقع الانتخابات في العالم العربي

س: في الكويت الآن انتخابات، واللافت أن معظم أصوات المقترعين السنّة تذهب إلى الأكثر تشدداً من المرشّحين السنة، وأصوات المقترعين الشيعة تذهب أيضاً إلى الأكثر تشدداً من المرشّحين الشيعة، لماذا؟

ج: لعل من سلبيات الأوضاع في الدول العربية والكثير من الدول الإسلامية، أنها فقدت الإحساس بالانتماء إلى الوطن، وغرقت في وحول الماضي وتعقيداته المذهبية التاريخية، بحيث أصبحت المسألة عند المواطن العربي في هذا البلد أو ذاك، أن يكون هذا البلد على صورة طائفته ومذهبه.

وفي ضوء هذا، فقد أخذت المذهبية في جانب، والطائفية في جانب آخر، عنوان القبلية؛ فهناك قبيلة السنة التي قد تجد فيها أشخاصاً لا يؤمنون بالإسلام حتى على الطريقة السنية، وقبيلة الشيعة التي قد ترى فيها أشخاصاً لا يعرفون شيئاً عن التشيع ولا ينتمون إلى خطوطه القيمية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسيحيين، إضافة إلى اليهود الذين سيطروا على فلسطين، وربما على الغرب أيضاً، وقد لاحظنا في مؤتمر مناهضة العنصرية (دوربان2)، كيف وقف الغرب كله مع إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني والعرب.
العقلية التي تحكم الانتخابات في هذا البلد أو ذاك هي العقلية القبلية

ولذلك، فإن العقلية التي تحكم الانتخابات في هذا البلد أو ذاك هي العقلية القبلية التي تشعر بالحاجة إلى أن تكون القبيلة هي الطابع الذي يطبع البلد، في حين أننا نعرف أن الديمقراطية التي يتحدث عنها الكثيرون، تعني اختيار الشعب لقوانينه وممثليه، ليصنع هو مستقبله بطريقة أفضل. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، دخلت الشخصانية على مضمون القبيلة، حتى أصبح رئيس الطائفة أو رئيس المذهب يختزن في شخصيته معنى رئيس القبيلة.

ولذلك، عندما ندرس الأشخاص الذين يرشّحون أنفسهم في الانتخابات، نجد أن زعيم القبيلة الدينية يختار أشخاصاً معينين من طائفته، بحيث يكونون أرقاماً في زعامته، فينتخبهم الناس على اسمه. وبذلك نرى أنّ المجالس النيابية لا تضم العدد المقرّر للنوّاب، إنّما تضم في حقيقة الأمر رؤساء القبائل فقط، لأن الآخرين هم مجرد أرقام عند هؤلاء الرؤساء، أو مجرد أصفار على الشمال.
الانتخابات التي تجري في العالم العربي ليست ديمقراطية في المضمون، بل ديمقراطية في الشكل

ولهذا فإنّنا لا نجد في الانتخابات التي تجري في العالم العربي ديمقراطيةً في المضمون، بل ديمقراطيةً في الشّكل، حتى أصبحنا نرى أنّ هذا البلد أو ذاك قد اختُصر شعبه في شخص واحد، وهو الذي يحكم كملك، ولكن بصفة رئيس، ما يعني أنّه ليس هناك جمهوريّات، بل هناك ملكيّات ولكن بطريقة ديمقراطية لا تحمل أيّ معنى حقيقي للديمقراطية...

أمّا بالنسبة إلى صعود السلفيات وتقدّمها في العملية الانتخابية عند السنّة أو الشّيعة، فإنّنا نرى أنّ السلفية لا تنطلق من مضمون قيميّ في الخطّ العام للقيم الإسلامية، لأنّ القيم الإسلامية تمنع التكفير بين المسلمين، إضافةً إلى أنّ التكفير المتبادل يمثل رفضاً للكتاب والسنّة، لأنّ الحديث النبويّ الشريف يقول: «من قال: لا إله إلا الله، محمّد رسول الله، حقن بها دمه وماله وعرضه»، بحيث يكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، بينما نرى أنّ بعض السلفيّات تستحلّ قتل المسلمِ المسلمَ الآخر بسبب خلافٍ اجتهاديّ حول تفسير حديث أو آية قرآنية ممّا يعتبره هؤلاء كفراً بالكتاب والسنّة. فمشكلتنا أنّنا لا نزال نستهلك الماضي بكلّ نقاط ضعفه، ولا نزال نعيش أحقاده التاريخية، ولذلك نسينا الحاضر، لا بل أصبحنا نعمل على أن ندمّر الحاضر ونتنكّر لصناعة المستقبل.

س: ما رسالتكم إلى الشّعب الكويتي في هذا الإطار؟

ج: لا أريد أن أتحدّث بصراحة في هذا المجال، ولكنّني أرى أنّ العالم العربي لا تحكمه عقليّة مؤسّسات، إنّما يحكمه أشخاص أو عوائل.
الأزمة بين مصر وحزب الله سياسية بامتياز وليست جنائية بالمعنى القانوني

الأزمة بين مصر وحزب الله


س: الأزمة المستجدّة بين مصر و«حزب الله» بسبب ما يسمى «خليّة حزب الله»، أعادت مجدّداً طرح المسألة الشيعيّة في المنطقة، كيف تنظرون إلى مسار هذه القضيّة؟

ج: نحن نعتقد أنّ هذه القضيّة سياسية بامتياز وليست جنائيّةً بالمعنى القانوني، لأنّنا إذا درسنا الظروف التي تحيط بهذه المسألة، والاتّهامات المطروحة في الإعلام المصري وتوابعه، نجد أنّ جذر المشكلة يعود إلى وجود خيارين في التعاطي مع القضية؛ خيار الذين يعملون من أجل تحرير فلسطين، وخيار الذين يريدون التحرّر من فلسطين، ولذلك فإنّ التنازلات العربيّة التي انطلقت من خلال الهزائم العربيّة ومن نقاط الضّعف، دفعت إلى اعتبار المقاومة جريمةً واعتبار المفاوضات هي الحلّ.

ونحن نعرف أنّ المفاوضات منذ مؤتمر مدريد حتى الآن، لم تقدِّم إلى العرب إلا الوقت الضائع الذي يمثل عنوان المفاوضات للمفاوضات، ولمصلحة إسرائيل وليس العرب، لأن إسرائيل تحاول أن تقدم نفسها إلى العالم على أنّها الدولة الباحثة عن السلام، حتى الحكومة الإسرائيلية اليمينيّة المتطرفة ـ وكلّ الإسرائيليين يمينيون متطرفون ـ تتحدّث الآن عن السّلام وتطلب المفاوضات مع السّلطة الفلسطينيّة من أجل السّلام، وقد رأينا كيف أنّ دولةً عربيّةً انطلقت لزيارة هذه الحكومة والاجتماع بوزير خارجيتها الذي كان قد هدَّد بتدمير السدّ العالي، بينما تحدّث رئيسها عن رئيس هذا البلد العربي المسلم وقال: ليذهب إلى الجحيم إلا إذا زار إسرائيل.

لذلك، فإنّ التطوّرات التي أحاطت بالقضيّة الفلسطينية خلال محرقة غزّة، وغياب مصر عن مؤتمر القمّة العربية في قطر، وحملة الاحتجاجات العربية الشعبيّة على إغلاقها معبر رفح خلال الحرب على غزّة واستمرارها بهذا الإغلاق، كل ذلك جعل النّاس يتذكّرون الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يتدخّل في كل البلاد العربية من أجل القضايا القومية ومن أجل القضيّة الفلسطينية بالذات.

ولذا في تصوّري، إذا صحّ الكلام الإسرائيلي عن أنّ إسرائيل هي التي سرّبت، بواسطة مخابراتها، معلومات عن وجود ما يسمى خليّة «حزب الله» في مصر، وأنّها طلبت من المصريين أن يشارك الموساد الإسرائيلي في التحقيق مع أفراد الخليّة، فإنّ ذلك يدلّ على وضعٍ لا تُحمَد عليه مصر التي نريدها أن تكون بلداً قيادياً، لأنّها تمثل، كما تحدّث الرئيس عبد الناصر، الأفق الأفريقي والإسلامي والعربي.

ولذلك أعتقد أن القضية سياسية وليست جنائيةً. ومن الطّريف جداً، أنّهم يتحدّثون عن أنّ الشابّ اللّبناني الذي ينتمي إلى حزب الله، قد جاء من أجل أن يقلب النظام المصري، ومن أجل الدعوة إلى التشيّع، في حين أنّ هذا الشابّ يعمل من أجل الدفاع عن مليون ونصف المليون مسلم سني، فكيف يقال إنّه جاء لنشر التشيّع في مصر؟ ثم أيّ قوّة سنيّة يمكن أن يهدّدها شخص واحد؟ إنّ هذا الحديث يشبه النكتة وليس حديثاً موضوعياً يستدعي أن يحترمه الناس.
العالم العربي قد مات منذ مؤتمر مدريد، لأن إسرائيل رفضت منذ ذلك الوقت أن تفاوض العرب مجتمعين

حدود دعم المقاومة

س: لنفترض أنّ القضية هي قضّية دعمٍ للمقاومة في غزّة، فإلى أيّ حدّ يجوز للمقاومة، في رأيكم، أن  تتخطّى إرادة هذه الدولة أو تلك التي لا تقبل بذلك العمل انطلاقاً من أراضيها؟

ج: هناك نقطة أحبّ أن أؤكّدها، وهي أنّ العالم العربي قد مات منذ مؤتمر مدريد، لأنّ إسرائيل رفضت منذ ذلك الوقت أن تفاوض العرب مجتمعين، وأصرّت على أن تفاوض كلّ بلد عربيّ بمفرده، لتلعب على التناقضات العربيّة، فالعالم العربي، ومنذ احتلال اليهود لفلسطين، يملك قضيّةً مركزيّةً تختصر كلّ التاريخ العربي في الأعوام الستين الماضية، بحيث إنّ العرب منذ جمال عبد الناصر وقبله، كانوا يعتبرون أنّ القضية الفلسطينية تختصر كلّ المشاكل العربية، وأنّ إسرائيل تمثّل الدولة التي أراد لها الغرب أن تكون الفاصل بين دولة عربية هنا ودولة عربية هناك، حتى تمنع الأحلام الوحدوية العربية.
العرب منذ جمال عبد الناصر كانوا يعتبرون أن القضية الفلسطينية تختصر المشاكل العربية

لذلك عملت أميركا، ومعها الدول الغربية، على تقسيم العالم العربي إلى أقاليم، وأصبحت الإقليمية مقدّسةً وحلّت بدلاً من القومية وحتى بدلاً من الإسلام، وأصبحت المسألة هل يجب على الأمة أن تدافع هي عن قضاياها التي يمثل الدفاع عنها دفاعاً عن كل دولة أو إقليم عربي، لأن الأمة عندما تكون قويةً فإن كل بلد عربي يكون قوياً من خلال ذلك؟!

إذاً، هناك قضايا الأمّة، وهناك قضايا تفصيلية لمسألة الدول الإقليمية والواقع العربي، وهذا ما لاحظناه في مؤتمرات القمّة العربية التي لم يحضرها بعض الزعماء العرب بسبب وجود خلاف بينهم وبين البلد المضيف للقمّة، في الوقت الذي نعرف أنّ القمم العربيّة تعالج القضايا الكبرى وليس المشاكل التي تقع بين بلد عربي وبلد عربي آخر، بينما نرى أنّ الكثير من الزعماء العرب يغلِّبون التّعقيدات الثنائيّة على التعقيدات مع العدوّ الإسرائيليّ ومع المجتمع الدوليّ الذي ينحاز إلى إسرائيل ضدّ العرب، لأنّ إسرائيل تمثّل القوّة والعرب يمثّلون الضعف.

فالقضية أنه لم يحدث شيء في مصر، وأنّ هذه الخليّة أو هذا الشخص المتَّهم، إنما جاء لنقل السلاح والمؤن إلى المجاهدين في غزّة...

س: ولكن هل هذا يجيز تخطّي إرادة الدولة المعنية؟

ج: إننا نقول: عندما تكون القضيّة قضيّة الأمّة فكلّ شيء جائز، والمشكلة الآن أنّ العالم أصبح يحتقر الأمّة العربيّة لأنّها لم تدافع عن قضاياها المقدّسة، وإنّما خضعت للخطّة الأميركية التي قادتها وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس التي قسّمت العالم العربي بين ما تسميه دول الاعتدال ودول التطرف، وهذا ما جعل العرب يركّزون على ما يدّعونه من خطر إيراني وتركوا الخطر الإسرائيلي؛ فأن تقصف إسرائيل سورية تحت عنوان قصف مفاعل نووي فلا مشكلة عندهم في ذلك، وأن تقصف السودان فهذه ليست مشكلةً أيضاً، وقد قرأنا تقرير لافي دختر، وهو رئيس الشاباك السابق، يقول فيه: إنّ إسرائيل هي التي تتدخّل في أكثر من قضيّة عربيّة، سواء في المسألة الفلسطينية أو في السودان أو في لبنان... الخ.
العالم أصبح يحتقر الأمة العربية لأنها لم تدافع عن قضاياها المقدسة إنما خضعت للخطة الأمريكية

فإذا كان هناك عالم عربي وجامعة عربية، فلا بدّ من أن يرتفع الصوت في هذا المجال، ولكنّ هذا العالم لا يجد أيّ مشكلة في قيام إسرائيل بأيّ عمل أو عدوان. وكمثال على ذلك، ما قامت به إسرائيل من قصف قافلة شاحنات تحمل السلاح للمجاهدين في غزّة، على الحدود بين السودان ومصر، بحجّة أنّها من إيران بحسب الاتّهامات التي أطلقت، دون أن يجد أحد في ذلك مشكلةً، وكأن إسرائيل تنوب مناب العرب في مواجهة المقاومة ومواجهة إيران، وقد رأينا كيف خاضت إسرائيل في السنتين الماضيتين حربين ضدّ لبنان وغزّة في فلسطين، في شكل وحشي لا مثيل له، ولم يتحرّك العرب باتّجاه إحداث أيّ ضغط على إسرائيل. ولذلك نقول إنّ على العرب أن يرتفعوا إلى مستوى القضايا الكبرى التي تمثّل قضايا الأمة.

ثم هناك مسألة أخرى: أيّ دولة عربية لا تتدخّل في شؤون دول عربية أخرى من خلال استخباراتها؟! نحن في لبنان، مثلاً، نعرف تماماً أنّ هناك مخابرات عربية تتدخل في قضايانا الأمنية والسياسية، وتموّل الكثير من الخطوط السياسية في الانتخابات الحاليّة من خلال ما يطلق عليه بعضهم وصف "المال السياسي".

لا مشروع شيعياً في المنطقة

س: من خليّة «حزب الله» في مصر، إلى القافلة العسكرية الإيرانية على أرض السودان وغير ذلك، تثار مسألة وجود مشروع شيعيّ خاصّ في المنطقة العربية ذات الغالبية السنّيّة، فما رأيكم في ذلك؟

ج: لا أبداً، فالشيعة هم إحدى فئات المسلمين والعرب، وهم ليسوا كلّهم عجماً، فهناك شيعة عرب وشيعة غير عرب، وهم يرون أنّ اليهود خطر على العالم كلّه، وقد قرأنا منذ بضع سنين الاستفتاء الذي أجري في الاتّحاد الأوروبي حول إسرائيل، وكانت نتيجته أنّ نصف الأوروبيين يرون أنّ إسرائيل تشكّل خطراً على السّلام العالمي. ثم هل الفلسطينيون شيعة؟ فالفلسطينيون الذين يهرَّب إليهم السلاح من مصر أو من لبنان أو من أيّ بلد آخر ليسوا شيعةً.
الفلسطينيون الذين يهرَّب إليهم السلاح من مصر أو من لبنان أو من أي بلد آخر ليسوا شيعة

ولذلك، فإنّ اعتبار الشيعة بعبعاً يخوَّف به الآخرون، هو أمر يريد الغرب، وفي مقدّمه أميركا، وضمناً دول الاعتدال العربي، إثارته، على أساس أنّ هذه المسألة هي التي تمثّل الخطر عليهم وليس إسرائيل، وهكذا لاحظنا كيف أصبحت قضيّة التشيّع عند بعض الدول العربية أخطر من قضيّة التبشير المسيحي. ونحن نعرف أنّه في بعض الأقطار العربية، يخرج كلّ سنة أكثر من ألفي مسلم من الإسلام ويدخلون في النصرانية من خلال حركة المبشّرين الذين ترعاهم أميركا، أضف إلى ذلك، أنّ الدولة التي تحاول أن تتّهم الشيعة بأنهم يريدون أن يغيّروا مذهبها الخاص، هذه الدولة نفسها يعيش فيها الآن المثليون ويتحركون بحرية ويتحدثون في الإعلام وعلى المنابر بصوت عالٍ، ويطالبون بأن تمنحهم الدولة الحرية في ممارسة نزعاتهم الجنسية وغير ذلك.    
الشيعة الذين عانوا من الاضطهاد التاريخي لا يطلبون إلا أن يكونوا مواطنين كبقية المواطنين

أمّا بالنسبة إلى وجود مشروع خاصّ للشّيعة في المنطقة، فنحن قلنا ونؤكّد منذ سنوات، أنّ الشّيعة الذين عانوا من الاضطهاد التاريخي، لا يطلبون إلا أن يكونوا مواطنين كبقيّة المواطنين، لهم حقوق المواطنة، وعليهم المسؤوليّات الوطنيّة، ولا يطلبون أن يكونوا دولةً ضمن الدّولة، كما يتحدّث بعضهم عن المقاومة الإسلامية في لبنان أنّها دولة ضمن دولة، من دون أن يلتفتوا إلى التّهديد الإسرائيلي الدائم والاعتداءات المتكرّرة على لبنان، وإلى أنّ الجيش اللّبناني كجيش نظامي لا يستطيع أن يواجه وحده بما لديه من قوّة عدوان إسرائيل، ولا بدّ من وجود مقاومة لصدّ هذا العدوان من خلال أسلوبها الخاصّ في حرب العصابات، ونحن نقول دائماً: فليعطَ الجيش اللبناني القوّة التي تمكّنه من أن يردع العدوان الإسرائيلي ويصدّه، ولا حاجة عندها إلى المقاومة.

إسرائيل عدوّ الأمة

س: أنتم كمرجع إسلامي كبير، ترون أنّ كل شيء جائز عندما تكون القضيّة إحدى قضايا الأمة الكبرى...؟

ج: جائز في الشّكل الذي لا يخلّ بأمن البلدان، وبقدر ما يحمي قضيّة الأمة، أمّا إثارة الفوضى وإسقاط الأمن لأيّ بلد، فهذا يسيء إلى قضايا الأمّة ولا يخدمها...

س: أنتم تقولون ذلك، لكن كيف تفسّر أنّ مرجعاً إسلامياً كبيراً آخر، كمفتي مصر الشيخ علي جمعة، يرى في ذلك إدانةً؟

ج: لقد فوجئت بما نسب إلى مفتي مصر، سماحة الشيخ علي جمعة، لأنّ الرجل عندما زارني، رأيته وحدوياً في المسألة الإسلامية، كما رأيته منفتحاً على القضايا الإسلامية، ولا سيّما قضية فلسطين. نحن نتمنّى أن يقرأوا قوله تعالى: {لَتَجِدَنّ اشدَّ الناسِ عداوةً للذين آمنوااليهود والذين أشركوا} [المائدة:82]، ونقول لهم: إذا كنتم منفتحين على الخطّ الإسلامي الأصيل، وكان أمر الإسلام والمسلمين يهمّكم، فعليكم أن تطالبوا بإلغاء الصلح مع الكيان الغاصب، باعتبار أنّ إسرائيل لا تملك أيّ شرعية في وجودها في فلسطين، لأنّ فلسطين ليست أرضاً خاليةً من السكان ليصدق عليها القول اليهودي: «أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض»، خصوصاً أنّهم ركّزوا أسطورةً دينيةً عن أنّ الله جعل فلسطين حقاً مقدّساً قومياً لليهود الذين هم شعب الله المختار الذي يحتقر كلّ الشعوب الأخرى.
مشكلتنا مع الصهيونية التي تمثل طموحات اليهود الإلغائية في احتلالهم الاستيطاني لفلسطين

ونحن لا مشكلة عندنا في العلاقة مع اليهود أو الحوار معهم من النّاحية الدينية، ولكنّ مشكلتنا هي مع الصهيونيّة التي تمثّل طموحات اليهود الإلغائية في احتلالهم الاستيطاني لفلسطين، فإسرائيل تمثّل الخطر على المنطقة وعلى العالم الإسلامي كلّه.

س: على ذكر الحوار مع اليهود، هل تؤيّدون دعوة رئيس الجمهورية ميشال سليمان إلى جعل لبنان مركزاً لحوار الأديان في العالم؟

ج: نحن نقول إنّ القرآن هو كتاب الحوار، وقد تحدّث عن الحوار مع أهل الكتاب، أي اليهود والنصارى، ومن آياته: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلابالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكموإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46]، {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بينناوبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دونالله} [آل عمران:64].

فنحن لا مانع عندنا من الحوار الديني مع اليهود، لكنّ هناك فرقاً بين اليهود وإسرائيل، فإسرائيل تمثّل موقعاً سياسياً غاصباً ظالماً استطاع أن يدمّر العالم العربي في حروب متتالية عليه، ومن خلال الدّعم الغربي المطلق له. ونحن مع الحوار في أيّ مكان، ولكن ليس على طريقة الحوار بين الأديان الذي عقد في أميركا، لأنه كان وسيلةً من الوسائل السياسية، لجعل بعض المسؤولين العرب يحضرون جنباً إلى جنب مع الرئيس الصهيوني شيمون بيريز، واستغلّ ذلك للتّمهيد لشنّ حرب على غزّة التي لم يستنكرها أيّ بلد عربي. ولنتذكّر هنا أن الغرب الأوروبي هو الذي قام باحتلال البلدان العربيّة، وبعض البلدان الإسلامية، واستطاع أن يدمّر اقتصادها ويسلبها هويتها.
نحن مع الحوار في أي مكان ولكن ليس على طريقة الحوار بين الأديان الذي عقد في أميركا لأنه كان وسيلة من الوسائل السياسية

لذلك فإنني أتصوّر أن الأوروبيين يعيشون تلك العقلية التي تحتقر العالم العربي، رغم أن الأوروبيين يتحدّثون بلغة لا يُخفى على ذكي فطن أنها مجرد دبلوماسية مخادعة منافقة تريد استغلال العالم العربي كبقرة حلوب، وهذا ما لاحظناه عندما حصلت الأزمة العالمية المالية، إذ جاء رئيس وزراء بريطانيا وغيره يطلبون من دول العرب الخليجية أن تقدّم المليارات إلى الغرب ليحلّ مشكلته المالية، حتى إنّنا سمعنا أنه طلب في قمة العشرين من أحد المسؤولين العرب مئتي مليار من أجل المشاركة في حل تلك الأزمة. فالعرب، والبتروليون منهم بشكلٍ خاص، يتعامل الغرب معهم كالبقرة الحلوب، يحيطون بها كلّما درّت حليبها، أما إذا جفّ حليبها، فلا عرب ولا من «يعربون».

بيروت: وسام أبو حرفوش ـ أحمد الموسوي

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 28 ربيع الثاني 1430 هـ  الموافق: 24/04/2009 م

فضل الله لـ «الراي» الكويتية:

العالم العربي قد مات منذ مؤتمر مدريد، لأن إسرائيل رفضت منذ ذلك الوقت أن تفاوض العرب مجتمعين


عن تطييف الانتخابات في العالم العربي، والأزمة المستجدة بين مصر وحزب الله، وعمّا إذا كان هناك مشروع شيعي خاص في المنطقة، وإمكان إقامة حوار بين الأديان... محاور المقابلة التي أجرتها صحيفة "الراي" الكويتية، مع سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله. وفي ما يأتي وقائع الحديث مع سماحته:

واقع الانتخابات في العالم العربي

س: في الكويت الآن انتخابات، واللافت أن معظم أصوات المقترعين السنّة تذهب إلى الأكثر تشدداً من المرشّحين السنة، وأصوات المقترعين الشيعة تذهب أيضاً إلى الأكثر تشدداً من المرشّحين الشيعة، لماذا؟

ج: لعل من سلبيات الأوضاع في الدول العربية والكثير من الدول الإسلامية، أنها فقدت الإحساس بالانتماء إلى الوطن، وغرقت في وحول الماضي وتعقيداته المذهبية التاريخية، بحيث أصبحت المسألة عند المواطن العربي في هذا البلد أو ذاك، أن يكون هذا البلد على صورة طائفته ومذهبه.

وفي ضوء هذا، فقد أخذت المذهبية في جانب، والطائفية في جانب آخر، عنوان القبلية؛ فهناك قبيلة السنة التي قد تجد فيها أشخاصاً لا يؤمنون بالإسلام حتى على الطريقة السنية، وقبيلة الشيعة التي قد ترى فيها أشخاصاً لا يعرفون شيئاً عن التشيع ولا ينتمون إلى خطوطه القيمية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسيحيين، إضافة إلى اليهود الذين سيطروا على فلسطين، وربما على الغرب أيضاً، وقد لاحظنا في مؤتمر مناهضة العنصرية (دوربان2)، كيف وقف الغرب كله مع إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني والعرب.
العقلية التي تحكم الانتخابات في هذا البلد أو ذاك هي العقلية القبلية

ولذلك، فإن العقلية التي تحكم الانتخابات في هذا البلد أو ذاك هي العقلية القبلية التي تشعر بالحاجة إلى أن تكون القبيلة هي الطابع الذي يطبع البلد، في حين أننا نعرف أن الديمقراطية التي يتحدث عنها الكثيرون، تعني اختيار الشعب لقوانينه وممثليه، ليصنع هو مستقبله بطريقة أفضل. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، دخلت الشخصانية على مضمون القبيلة، حتى أصبح رئيس الطائفة أو رئيس المذهب يختزن في شخصيته معنى رئيس القبيلة.

ولذلك، عندما ندرس الأشخاص الذين يرشّحون أنفسهم في الانتخابات، نجد أن زعيم القبيلة الدينية يختار أشخاصاً معينين من طائفته، بحيث يكونون أرقاماً في زعامته، فينتخبهم الناس على اسمه. وبذلك نرى أنّ المجالس النيابية لا تضم العدد المقرّر للنوّاب، إنّما تضم في حقيقة الأمر رؤساء القبائل فقط، لأن الآخرين هم مجرد أرقام عند هؤلاء الرؤساء، أو مجرد أصفار على الشمال.
الانتخابات التي تجري في العالم العربي ليست ديمقراطية في المضمون، بل ديمقراطية في الشكل

ولهذا فإنّنا لا نجد في الانتخابات التي تجري في العالم العربي ديمقراطيةً في المضمون، بل ديمقراطيةً في الشّكل، حتى أصبحنا نرى أنّ هذا البلد أو ذاك قد اختُصر شعبه في شخص واحد، وهو الذي يحكم كملك، ولكن بصفة رئيس، ما يعني أنّه ليس هناك جمهوريّات، بل هناك ملكيّات ولكن بطريقة ديمقراطية لا تحمل أيّ معنى حقيقي للديمقراطية...

أمّا بالنسبة إلى صعود السلفيات وتقدّمها في العملية الانتخابية عند السنّة أو الشّيعة، فإنّنا نرى أنّ السلفية لا تنطلق من مضمون قيميّ في الخطّ العام للقيم الإسلامية، لأنّ القيم الإسلامية تمنع التكفير بين المسلمين، إضافةً إلى أنّ التكفير المتبادل يمثل رفضاً للكتاب والسنّة، لأنّ الحديث النبويّ الشريف يقول: «من قال: لا إله إلا الله، محمّد رسول الله، حقن بها دمه وماله وعرضه»، بحيث يكون له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، بينما نرى أنّ بعض السلفيّات تستحلّ قتل المسلمِ المسلمَ الآخر بسبب خلافٍ اجتهاديّ حول تفسير حديث أو آية قرآنية ممّا يعتبره هؤلاء كفراً بالكتاب والسنّة. فمشكلتنا أنّنا لا نزال نستهلك الماضي بكلّ نقاط ضعفه، ولا نزال نعيش أحقاده التاريخية، ولذلك نسينا الحاضر، لا بل أصبحنا نعمل على أن ندمّر الحاضر ونتنكّر لصناعة المستقبل.

س: ما رسالتكم إلى الشّعب الكويتي في هذا الإطار؟

ج: لا أريد أن أتحدّث بصراحة في هذا المجال، ولكنّني أرى أنّ العالم العربي لا تحكمه عقليّة مؤسّسات، إنّما يحكمه أشخاص أو عوائل.
الأزمة بين مصر وحزب الله سياسية بامتياز وليست جنائية بالمعنى القانوني

الأزمة بين مصر وحزب الله


س: الأزمة المستجدّة بين مصر و«حزب الله» بسبب ما يسمى «خليّة حزب الله»، أعادت مجدّداً طرح المسألة الشيعيّة في المنطقة، كيف تنظرون إلى مسار هذه القضيّة؟

ج: نحن نعتقد أنّ هذه القضيّة سياسية بامتياز وليست جنائيّةً بالمعنى القانوني، لأنّنا إذا درسنا الظروف التي تحيط بهذه المسألة، والاتّهامات المطروحة في الإعلام المصري وتوابعه، نجد أنّ جذر المشكلة يعود إلى وجود خيارين في التعاطي مع القضية؛ خيار الذين يعملون من أجل تحرير فلسطين، وخيار الذين يريدون التحرّر من فلسطين، ولذلك فإنّ التنازلات العربيّة التي انطلقت من خلال الهزائم العربيّة ومن نقاط الضّعف، دفعت إلى اعتبار المقاومة جريمةً واعتبار المفاوضات هي الحلّ.

ونحن نعرف أنّ المفاوضات منذ مؤتمر مدريد حتى الآن، لم تقدِّم إلى العرب إلا الوقت الضائع الذي يمثل عنوان المفاوضات للمفاوضات، ولمصلحة إسرائيل وليس العرب، لأن إسرائيل تحاول أن تقدم نفسها إلى العالم على أنّها الدولة الباحثة عن السلام، حتى الحكومة الإسرائيلية اليمينيّة المتطرفة ـ وكلّ الإسرائيليين يمينيون متطرفون ـ تتحدّث الآن عن السّلام وتطلب المفاوضات مع السّلطة الفلسطينيّة من أجل السّلام، وقد رأينا كيف أنّ دولةً عربيّةً انطلقت لزيارة هذه الحكومة والاجتماع بوزير خارجيتها الذي كان قد هدَّد بتدمير السدّ العالي، بينما تحدّث رئيسها عن رئيس هذا البلد العربي المسلم وقال: ليذهب إلى الجحيم إلا إذا زار إسرائيل.

لذلك، فإنّ التطوّرات التي أحاطت بالقضيّة الفلسطينية خلال محرقة غزّة، وغياب مصر عن مؤتمر القمّة العربية في قطر، وحملة الاحتجاجات العربية الشعبيّة على إغلاقها معبر رفح خلال الحرب على غزّة واستمرارها بهذا الإغلاق، كل ذلك جعل النّاس يتذكّرون الراحل جمال عبد الناصر الذي كان يتدخّل في كل البلاد العربية من أجل القضايا القومية ومن أجل القضيّة الفلسطينية بالذات.

ولذا في تصوّري، إذا صحّ الكلام الإسرائيلي عن أنّ إسرائيل هي التي سرّبت، بواسطة مخابراتها، معلومات عن وجود ما يسمى خليّة «حزب الله» في مصر، وأنّها طلبت من المصريين أن يشارك الموساد الإسرائيلي في التحقيق مع أفراد الخليّة، فإنّ ذلك يدلّ على وضعٍ لا تُحمَد عليه مصر التي نريدها أن تكون بلداً قيادياً، لأنّها تمثل، كما تحدّث الرئيس عبد الناصر، الأفق الأفريقي والإسلامي والعربي.

ولذلك أعتقد أن القضية سياسية وليست جنائيةً. ومن الطّريف جداً، أنّهم يتحدّثون عن أنّ الشابّ اللّبناني الذي ينتمي إلى حزب الله، قد جاء من أجل أن يقلب النظام المصري، ومن أجل الدعوة إلى التشيّع، في حين أنّ هذا الشابّ يعمل من أجل الدفاع عن مليون ونصف المليون مسلم سني، فكيف يقال إنّه جاء لنشر التشيّع في مصر؟ ثم أيّ قوّة سنيّة يمكن أن يهدّدها شخص واحد؟ إنّ هذا الحديث يشبه النكتة وليس حديثاً موضوعياً يستدعي أن يحترمه الناس.
العالم العربي قد مات منذ مؤتمر مدريد، لأن إسرائيل رفضت منذ ذلك الوقت أن تفاوض العرب مجتمعين

حدود دعم المقاومة

س: لنفترض أنّ القضية هي قضّية دعمٍ للمقاومة في غزّة، فإلى أيّ حدّ يجوز للمقاومة، في رأيكم، أن  تتخطّى إرادة هذه الدولة أو تلك التي لا تقبل بذلك العمل انطلاقاً من أراضيها؟

ج: هناك نقطة أحبّ أن أؤكّدها، وهي أنّ العالم العربي قد مات منذ مؤتمر مدريد، لأنّ إسرائيل رفضت منذ ذلك الوقت أن تفاوض العرب مجتمعين، وأصرّت على أن تفاوض كلّ بلد عربيّ بمفرده، لتلعب على التناقضات العربيّة، فالعالم العربي، ومنذ احتلال اليهود لفلسطين، يملك قضيّةً مركزيّةً تختصر كلّ التاريخ العربي في الأعوام الستين الماضية، بحيث إنّ العرب منذ جمال عبد الناصر وقبله، كانوا يعتبرون أنّ القضية الفلسطينية تختصر كلّ المشاكل العربية، وأنّ إسرائيل تمثّل الدولة التي أراد لها الغرب أن تكون الفاصل بين دولة عربية هنا ودولة عربية هناك، حتى تمنع الأحلام الوحدوية العربية.
العرب منذ جمال عبد الناصر كانوا يعتبرون أن القضية الفلسطينية تختصر المشاكل العربية

لذلك عملت أميركا، ومعها الدول الغربية، على تقسيم العالم العربي إلى أقاليم، وأصبحت الإقليمية مقدّسةً وحلّت بدلاً من القومية وحتى بدلاً من الإسلام، وأصبحت المسألة هل يجب على الأمة أن تدافع هي عن قضاياها التي يمثل الدفاع عنها دفاعاً عن كل دولة أو إقليم عربي، لأن الأمة عندما تكون قويةً فإن كل بلد عربي يكون قوياً من خلال ذلك؟!

إذاً، هناك قضايا الأمّة، وهناك قضايا تفصيلية لمسألة الدول الإقليمية والواقع العربي، وهذا ما لاحظناه في مؤتمرات القمّة العربية التي لم يحضرها بعض الزعماء العرب بسبب وجود خلاف بينهم وبين البلد المضيف للقمّة، في الوقت الذي نعرف أنّ القمم العربيّة تعالج القضايا الكبرى وليس المشاكل التي تقع بين بلد عربي وبلد عربي آخر، بينما نرى أنّ الكثير من الزعماء العرب يغلِّبون التّعقيدات الثنائيّة على التعقيدات مع العدوّ الإسرائيليّ ومع المجتمع الدوليّ الذي ينحاز إلى إسرائيل ضدّ العرب، لأنّ إسرائيل تمثّل القوّة والعرب يمثّلون الضعف.

فالقضية أنه لم يحدث شيء في مصر، وأنّ هذه الخليّة أو هذا الشخص المتَّهم، إنما جاء لنقل السلاح والمؤن إلى المجاهدين في غزّة...

س: ولكن هل هذا يجيز تخطّي إرادة الدولة المعنية؟

ج: إننا نقول: عندما تكون القضيّة قضيّة الأمّة فكلّ شيء جائز، والمشكلة الآن أنّ العالم أصبح يحتقر الأمّة العربيّة لأنّها لم تدافع عن قضاياها المقدّسة، وإنّما خضعت للخطّة الأميركية التي قادتها وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس التي قسّمت العالم العربي بين ما تسميه دول الاعتدال ودول التطرف، وهذا ما جعل العرب يركّزون على ما يدّعونه من خطر إيراني وتركوا الخطر الإسرائيلي؛ فأن تقصف إسرائيل سورية تحت عنوان قصف مفاعل نووي فلا مشكلة عندهم في ذلك، وأن تقصف السودان فهذه ليست مشكلةً أيضاً، وقد قرأنا تقرير لافي دختر، وهو رئيس الشاباك السابق، يقول فيه: إنّ إسرائيل هي التي تتدخّل في أكثر من قضيّة عربيّة، سواء في المسألة الفلسطينية أو في السودان أو في لبنان... الخ.
العالم أصبح يحتقر الأمة العربية لأنها لم تدافع عن قضاياها المقدسة إنما خضعت للخطة الأمريكية

فإذا كان هناك عالم عربي وجامعة عربية، فلا بدّ من أن يرتفع الصوت في هذا المجال، ولكنّ هذا العالم لا يجد أيّ مشكلة في قيام إسرائيل بأيّ عمل أو عدوان. وكمثال على ذلك، ما قامت به إسرائيل من قصف قافلة شاحنات تحمل السلاح للمجاهدين في غزّة، على الحدود بين السودان ومصر، بحجّة أنّها من إيران بحسب الاتّهامات التي أطلقت، دون أن يجد أحد في ذلك مشكلةً، وكأن إسرائيل تنوب مناب العرب في مواجهة المقاومة ومواجهة إيران، وقد رأينا كيف خاضت إسرائيل في السنتين الماضيتين حربين ضدّ لبنان وغزّة في فلسطين، في شكل وحشي لا مثيل له، ولم يتحرّك العرب باتّجاه إحداث أيّ ضغط على إسرائيل. ولذلك نقول إنّ على العرب أن يرتفعوا إلى مستوى القضايا الكبرى التي تمثّل قضايا الأمة.

ثم هناك مسألة أخرى: أيّ دولة عربية لا تتدخّل في شؤون دول عربية أخرى من خلال استخباراتها؟! نحن في لبنان، مثلاً، نعرف تماماً أنّ هناك مخابرات عربية تتدخل في قضايانا الأمنية والسياسية، وتموّل الكثير من الخطوط السياسية في الانتخابات الحاليّة من خلال ما يطلق عليه بعضهم وصف "المال السياسي".

لا مشروع شيعياً في المنطقة

س: من خليّة «حزب الله» في مصر، إلى القافلة العسكرية الإيرانية على أرض السودان وغير ذلك، تثار مسألة وجود مشروع شيعيّ خاصّ في المنطقة العربية ذات الغالبية السنّيّة، فما رأيكم في ذلك؟

ج: لا أبداً، فالشيعة هم إحدى فئات المسلمين والعرب، وهم ليسوا كلّهم عجماً، فهناك شيعة عرب وشيعة غير عرب، وهم يرون أنّ اليهود خطر على العالم كلّه، وقد قرأنا منذ بضع سنين الاستفتاء الذي أجري في الاتّحاد الأوروبي حول إسرائيل، وكانت نتيجته أنّ نصف الأوروبيين يرون أنّ إسرائيل تشكّل خطراً على السّلام العالمي. ثم هل الفلسطينيون شيعة؟ فالفلسطينيون الذين يهرَّب إليهم السلاح من مصر أو من لبنان أو من أيّ بلد آخر ليسوا شيعةً.
الفلسطينيون الذين يهرَّب إليهم السلاح من مصر أو من لبنان أو من أي بلد آخر ليسوا شيعة

ولذلك، فإنّ اعتبار الشيعة بعبعاً يخوَّف به الآخرون، هو أمر يريد الغرب، وفي مقدّمه أميركا، وضمناً دول الاعتدال العربي، إثارته، على أساس أنّ هذه المسألة هي التي تمثّل الخطر عليهم وليس إسرائيل، وهكذا لاحظنا كيف أصبحت قضيّة التشيّع عند بعض الدول العربية أخطر من قضيّة التبشير المسيحي. ونحن نعرف أنّه في بعض الأقطار العربية، يخرج كلّ سنة أكثر من ألفي مسلم من الإسلام ويدخلون في النصرانية من خلال حركة المبشّرين الذين ترعاهم أميركا، أضف إلى ذلك، أنّ الدولة التي تحاول أن تتّهم الشيعة بأنهم يريدون أن يغيّروا مذهبها الخاص، هذه الدولة نفسها يعيش فيها الآن المثليون ويتحركون بحرية ويتحدثون في الإعلام وعلى المنابر بصوت عالٍ، ويطالبون بأن تمنحهم الدولة الحرية في ممارسة نزعاتهم الجنسية وغير ذلك.    
الشيعة الذين عانوا من الاضطهاد التاريخي لا يطلبون إلا أن يكونوا مواطنين كبقية المواطنين

أمّا بالنسبة إلى وجود مشروع خاصّ للشّيعة في المنطقة، فنحن قلنا ونؤكّد منذ سنوات، أنّ الشّيعة الذين عانوا من الاضطهاد التاريخي، لا يطلبون إلا أن يكونوا مواطنين كبقيّة المواطنين، لهم حقوق المواطنة، وعليهم المسؤوليّات الوطنيّة، ولا يطلبون أن يكونوا دولةً ضمن الدّولة، كما يتحدّث بعضهم عن المقاومة الإسلامية في لبنان أنّها دولة ضمن دولة، من دون أن يلتفتوا إلى التّهديد الإسرائيلي الدائم والاعتداءات المتكرّرة على لبنان، وإلى أنّ الجيش اللّبناني كجيش نظامي لا يستطيع أن يواجه وحده بما لديه من قوّة عدوان إسرائيل، ولا بدّ من وجود مقاومة لصدّ هذا العدوان من خلال أسلوبها الخاصّ في حرب العصابات، ونحن نقول دائماً: فليعطَ الجيش اللبناني القوّة التي تمكّنه من أن يردع العدوان الإسرائيلي ويصدّه، ولا حاجة عندها إلى المقاومة.

إسرائيل عدوّ الأمة

س: أنتم كمرجع إسلامي كبير، ترون أنّ كل شيء جائز عندما تكون القضيّة إحدى قضايا الأمة الكبرى...؟

ج: جائز في الشّكل الذي لا يخلّ بأمن البلدان، وبقدر ما يحمي قضيّة الأمة، أمّا إثارة الفوضى وإسقاط الأمن لأيّ بلد، فهذا يسيء إلى قضايا الأمّة ولا يخدمها...

س: أنتم تقولون ذلك، لكن كيف تفسّر أنّ مرجعاً إسلامياً كبيراً آخر، كمفتي مصر الشيخ علي جمعة، يرى في ذلك إدانةً؟

ج: لقد فوجئت بما نسب إلى مفتي مصر، سماحة الشيخ علي جمعة، لأنّ الرجل عندما زارني، رأيته وحدوياً في المسألة الإسلامية، كما رأيته منفتحاً على القضايا الإسلامية، ولا سيّما قضية فلسطين. نحن نتمنّى أن يقرأوا قوله تعالى: {لَتَجِدَنّ اشدَّ الناسِ عداوةً للذين آمنوااليهود والذين أشركوا} [المائدة:82]، ونقول لهم: إذا كنتم منفتحين على الخطّ الإسلامي الأصيل، وكان أمر الإسلام والمسلمين يهمّكم، فعليكم أن تطالبوا بإلغاء الصلح مع الكيان الغاصب، باعتبار أنّ إسرائيل لا تملك أيّ شرعية في وجودها في فلسطين، لأنّ فلسطين ليست أرضاً خاليةً من السكان ليصدق عليها القول اليهودي: «أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض»، خصوصاً أنّهم ركّزوا أسطورةً دينيةً عن أنّ الله جعل فلسطين حقاً مقدّساً قومياً لليهود الذين هم شعب الله المختار الذي يحتقر كلّ الشعوب الأخرى.
مشكلتنا مع الصهيونية التي تمثل طموحات اليهود الإلغائية في احتلالهم الاستيطاني لفلسطين

ونحن لا مشكلة عندنا في العلاقة مع اليهود أو الحوار معهم من النّاحية الدينية، ولكنّ مشكلتنا هي مع الصهيونيّة التي تمثّل طموحات اليهود الإلغائية في احتلالهم الاستيطاني لفلسطين، فإسرائيل تمثّل الخطر على المنطقة وعلى العالم الإسلامي كلّه.

س: على ذكر الحوار مع اليهود، هل تؤيّدون دعوة رئيس الجمهورية ميشال سليمان إلى جعل لبنان مركزاً لحوار الأديان في العالم؟

ج: نحن نقول إنّ القرآن هو كتاب الحوار، وقد تحدّث عن الحوار مع أهل الكتاب، أي اليهود والنصارى، ومن آياته: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلابالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنّا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكموإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون} [العنكبوت:46]، {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بينناوبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دونالله} [آل عمران:64].

فنحن لا مانع عندنا من الحوار الديني مع اليهود، لكنّ هناك فرقاً بين اليهود وإسرائيل، فإسرائيل تمثّل موقعاً سياسياً غاصباً ظالماً استطاع أن يدمّر العالم العربي في حروب متتالية عليه، ومن خلال الدّعم الغربي المطلق له. ونحن مع الحوار في أيّ مكان، ولكن ليس على طريقة الحوار بين الأديان الذي عقد في أميركا، لأنه كان وسيلةً من الوسائل السياسية، لجعل بعض المسؤولين العرب يحضرون جنباً إلى جنب مع الرئيس الصهيوني شيمون بيريز، واستغلّ ذلك للتّمهيد لشنّ حرب على غزّة التي لم يستنكرها أيّ بلد عربي. ولنتذكّر هنا أن الغرب الأوروبي هو الذي قام باحتلال البلدان العربيّة، وبعض البلدان الإسلامية، واستطاع أن يدمّر اقتصادها ويسلبها هويتها.
نحن مع الحوار في أي مكان ولكن ليس على طريقة الحوار بين الأديان الذي عقد في أميركا لأنه كان وسيلة من الوسائل السياسية

لذلك فإنني أتصوّر أن الأوروبيين يعيشون تلك العقلية التي تحتقر العالم العربي، رغم أن الأوروبيين يتحدّثون بلغة لا يُخفى على ذكي فطن أنها مجرد دبلوماسية مخادعة منافقة تريد استغلال العالم العربي كبقرة حلوب، وهذا ما لاحظناه عندما حصلت الأزمة العالمية المالية، إذ جاء رئيس وزراء بريطانيا وغيره يطلبون من دول العرب الخليجية أن تقدّم المليارات إلى الغرب ليحلّ مشكلته المالية، حتى إنّنا سمعنا أنه طلب في قمة العشرين من أحد المسؤولين العرب مئتي مليار من أجل المشاركة في حل تلك الأزمة. فالعرب، والبتروليون منهم بشكلٍ خاص، يتعامل الغرب معهم كالبقرة الحلوب، يحيطون بها كلّما درّت حليبها، أما إذا جفّ حليبها، فلا عرب ولا من «يعربون».

بيروت: وسام أبو حرفوش ـ أحمد الموسوي

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 28 ربيع الثاني 1430 هـ  الموافق: 24/04/2009 م
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية