محمد حسين فضل الله في ختام مكاشفاته : القائلون بتحريف القرآن يسيرون في خط الكفر

محمد حسين فضل الله في ختام مكاشفاته : القائلون بتحريف القرآن يسيرون في خط الكفر

محمد حسين فضل الله في ختام مكاشفاته :

القائلون بتحريف القرآن يسيرون في خط الكفر


س: سنبدأ حلقتنا الأخيرة هذه، بقضية مفصلية أخرى معكم، وهي مسألة تحريف القرآن الكريم، والذي يقول به بعض أئمتكم، نأمل أن تحدثنا عن هذه القضية من وجهة نظركم؟


ج: عندما تعدَّدت الاتجاهات الكلامية والمذهبية الفقهية وغير الفقهية، حاول كل فريق أن يأخذ من القرآن ما يستدلّ به على صوابية الرأي الذي يرتأيه، ما أدى إلى فهم مذهبي محدود للقرآن، وربما خرج الكثيرون عن ظواهر القرآن وأوّلوه على خلاف ظواهره، ومن خلال ذلك، انطلقت الروايات الموضوعة التي وضعها الرواة حول هذه الآية أو تلك لإغاثة بعض الأسماء التي يقدسونها ويحترمونها، أو بعض الأفكار التي يلتزمونها، وهذا ما أدّى إلى الكثير من الأحاديث الموضوعة عن النبي(ص) وأهل البيت(ع) والصحابة، والتي كانت تحرِّف القرآن عن مساره الطبيعي، ومن خلال كل هذه الفوضى المذهبية، ظهرت بعض الروايات التي تتحدث عن تحريف القرآن لتأكيد مذهب هنا أو مذهب هناك.    


كل من يلتزم القول بتحريف القرآن هو إنسان ينحرف عن النصّ القرآني وعن مسلّمة إسلامية


ولكنّ المسلّم به عند علماء المسلمين الشيعة، كما هو عند علماء السنة، أن القرآن هو كتاب الله المعصوم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصّلت:42]، وأن الله نص على ذلك في قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9]. لذلك، فإننا نعتبر أن كل من يلتزم القول بتحريف القرآن، هو إنسان ينحرف عن النص القرآني وعن مسلّمة إسلامية. ثم إننا عندما ندرس بعض هذه النصوص التي يدّعي البعض لأنّها تنسب إلى القرآن، هي نصوص لا تنسجم مع القرآن في بلاغته وإعجازه، حتى إن الإنسان الذي يملك الثقافة البلاغية يرفض أن تنسب إليه، فكيف يمكن أن تنسب إلى الله؟ إننا نؤكد أن القرآن هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن كل من ذهب إلى التحريف، هو منحرف عن الخط الأصيل للعصمة القرآنية.


س: هل يعني كلامك أنّ القول بتحريف القرآن، يستلزم تكفير صاحبه؟


ج: إن مسألة الكفر تنطلق من إنكار الله وإنكار رسوله وإنكار الضروري من الدين الذي يستلزم تكذيب الرسول(ص). لذلك، فإذا كان هؤلاء يتعمدون الأمر، فإنهم يسيرون في خط الكفر، أما إذا كانوا ينطلقون من اجتهاد خاطئ، فلا بد من مناقشتهم في هذا الاجتهاد الخاطئ.


س: ذكرت في إجابتك، أن (غالبية) علماء الشيعة لا يقولون بتحريف القرآن، في حين نرى أنّ السيد عبدالحسين شرف الدين والسيد محسن الأمين وغيرهما، ينفون وجود هذا التحريف أصلاً لدى علماء الشيعة، فما تعليقك على ذلك؟


ج: هذا صحيح؛ لأنّه حتى من يُنسب إليه القول بالتحريف، وهو الشيخ النوري، الذي ألّف كتاباً عنوانه (تحريف كتاب ربّ الأرباب)، يقول إنّه لم يقل بالتحريف، بل كان يقصد الردّ على القائلين به؛ وهذا ما تحدّث به عنه تلميذه الطهراني في كتابه (الذريعة إلى تصانيف الشيعة).


وقد ذكرنا أنّ الكفر هو عبارة عن إنكار النبوّة أو ما يؤدّي إلى إنكارها أو إنكار التوحيد والمعاد، أمّا من كان له رأي اجتهادي حول تحريف القرآن، فهو مخطئ وضالّ في هذه المسألة، ولكنّه لا يعتبر كافراً. وبعض الناس يرون أن نسخ التلاوة عبارة عن تحريف للقرآن، كما أن اختلاف القراءات العشر قد يفهمها بعض الناس أنّها نوعٌ من التحريف. لذلك فإن اجتهادنا وفهمنا للآية القرآنية: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] أو {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصّلت:42]، هو أنّ الله تعالى تكفّل بحماية القرآن من الزيادة والنقصان، ولكنّ هذه المسألة كانت محلّ جدل، أمّا الرأي العام الذي يؤمن به الشيعة، فهو أن القرآن هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله، وأنّه مصون من أي تحريف.

   


القرآن الذي يتداوله الشيعة في كل أنحاء العالم لا يختلف عن القرآن الذي يتداوله السنة


ونحن نقرأ في كلّ أحاديث أهل البيت(ع)، أنّهم يطلبون من أتباعهم دوماً أن يرجعوا إلى القرآن في تقويم الأحاديث، فكانوا يقولون لهم: "ما خالف كتاب الله فهو زخرف"، أو "اضربوا به عرض الجدار"، أو: لا تقبلوا علينا إلا حديثاً وافق كتاب الله. وقد سمعتُ من المرحوم الشيخ محمد الغزالي قوله: لو كان عند الشيعة زيادات في القرآن، لرأينا ولو نسخة واحدة منه، حتّى إنّ الذين يُنسب إليهم القول بالزيادة أو بالنقصان، لم يؤكّدوا ذلك بأي دليل. والقرآن الذي يتداوله الشيعة في كلّ أنحاء العالم لا يختلف عن القرآن الذي يتداوله السنّة.


لذلك، فإن إثارة هذا الموضوع بالشكل الذي يثيره البعض من المتعصّبين، لا يُراد منه إلا تعقيد الأمور؛ وأنا أطلب ممّن ينسب إلى الشيعة ذلك، أن يدلّنا على نسخة واحدة من القرآن في كلّ العالم تختلف عن النسخة التي بين أيدي المسلمين. وألفت إلى أن كثيراً من النسخ المتداولة عندنا هي ممّا تطبعه المملكة العربية السعودية.


إهمال دراسة القرآن الكريم


س: ليست إثارة هذا الموضوع من باب تعقيد الأمور بقدر ما وددنا إيضاح الحقائق، ودعني أقول إنّ هناك إهمالاً للقرآن من قِبَل المسلمين الشيعة، وأستشهد على ذلك بما قلته شخصياً عبر نصّ لكم يقول: (نفاجأ بأن الحوزة العلمية في النجف أو في قم لم تمتلك منهجاً دراسياً للقرآن). إلى أين يمكن أن يطل بنا إهمال القرآن في الحوزات الشيعية؟


ج: إنّ هذه المسألة ليست منطلقةً من نظرة شيعية سلبية تجاه القرآن، بل إنّ البعض في الحوزات كان يتصور أن القرآن لا يحتاج إلى دراسة عميقة دقيقة علمية، لأنه من حيث الظاهر يمكن أن يفهمه كل الناس. وأذكر أن أستاذنا المحقق، السيد أبو القاسم الخوئي(قده)، درس تفسير القرآن عند أحد علماء النجف ممّن كانت له تجارب تفسيرية، وهو المرحوم الشيخ جواد البلاغي، كما أنه حاول بعد كتابة مقدمة كتابه التفسيري "البيان في تفسير القرآن"، أن يعطي دروساً في القرآن على الطريقة التي كان يعطي فيها دروس الأصول والفقه، ولكن أغلب الطلاب لم يحضروا ذلك الدرس، لأنهم كانوا يعتبرون أنه لا يمثل الدرس العلمي الذي يحتاج الطالب إلى متابعته مع الأستاذ، ما دفع السيد الخوئي(قده) إلى التوقف عن إعطاء الدرس.


لكننا في الوقت نفسه، عندما ندرس ما كتبه علماء الشيعة في التفسير، نجد أنّ هناك الكثير من التفاسير المميّزة لهم، ولاسيما ما كتبه الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان)، الذي اختارت جماعة التقريب في مصر أن تطبعه لكونه الكتاب الذي يمكن أن ينفتح عليه السنة والشيعة معاً، والذي يمكن أن ينقل آراء السنة والشيعة، إضافةً إلى تفاسير أخرى، منها "جوامع الجامع" و"التبيان في تفسير القرآن" للطوسي.


وأظن أن التطورات الأخيرة في انفتاح الشيعة على الحركة الإسلامية، ولاسيما في إيران، جعلت إيران توجّه الكثير من اهتمامها لعلوم القرآن ولاسيما في مجالي التجويد والتفسير.


القرآن وإجازة المجتهد


س: هل عدم اهتمامكم بمسائل القرآن الكريم، وصل إلى حدّ أن يصل المجتهد لديكم إلى مرتبة الاجتهاد دون أن يلمّ جيداً بالقرآن الكريم؟ وأنا أسوق لك نصاً لمرشد الجمهورية الإيرانية علي الخامنئي يقول فيه: "مما يؤسف له، أن بإمكاننا بدء الدراسة ومواصلتنا لها إلى حين استلام إجازة الاجتهاد من دون أن نرجع إلى القرآن ولو لمرة واحدة. لماذا هكذا؟ لأن دروسنا لا تعتمد على القرآن".


ج: في دراسة الفقه والأصول عندنا، نجد أنّ التركيز على الأحاديث أكثر من التركيز على القرآن، ربما لأنّهم كانوا يجدون أن الأحاديث أكثر تفصيلاً من القرآن، وأنها تفسر القرآن، كما أنّ هناك بعض النظريات الأصولية التي تقول بإمكانية تخصيص الكتاب بخبر الواحد وما إلى ذلك من الأمور، إضافةً إلى وجود جدل حول بعض الأبحاث الأصولية، بأنه هل لنا أن نعتمد على ظاهر القرآن، وهل إنّ حجيّة هذه الأبحاث في نفسها، أو أنّها تعتمد على النصوص الحديثية؟... هذه المسائل جعلت المدرسة الفقهية الأصولية تنفتح على الحديث أكثر مما تنفتح على القرآن.    


في منهجنا القرآني نؤكد أن العناوين القرآنية هي التي تحكم على الأحاديث الواردة في تحريم الشيء أو تحليله


ولكننا في منهجنا القرآني، حتى على مستوى الفتوى، نؤكّد أن العناوين القرآنية هي التي تحكم على الأحاديث الواردة في تحريم شيء أو تحليله، لأنّ القرآن هو الأساس في التشريع. ولذلك فإننا لا نرفض الحديث، لأن السنة أساسٌ للخط الإسلامي في الجوانب الكلامية والفقهية وغيرها، ولكننا نعتقد أن العناوين القرآنية لمواضيع الحلية والحرمة هي الأصل، وهي التي تفسر الحديث وتعطيه السعة أو الضيق. فمثلاً، نحن أفتينا بحلية "لعبة الشطرنج" إذا لم يكن ذلك مرتكزاً على أساس تقديم مال للرابح، باعتبار أن العنوان القرآني هو الميسر، والميسر هو القمار الذي يرتكز على أساس الربح والخسارة، ولذلك فإنّ لعبة الشطرنج إذا لم تكن مستندةً على أساس الربح والخسارة، فإنه لا يصدق عليها أنها من الميسر، وإنّما كانت ميسراً في وقت سابق، فتكون الأحاديث التي استفاد منها العلماء الحرمة، ناظرةً إلى اللعب المتعارف في زمان صدور النص.


ولذا ورد في بعض الأحاديث، أن الشطرنج ميسر العجم، فمع عدم صدق الميسر على اللعب، لا يكون منطبقاً على العنوان القرآني الذي هو الأساس في سعة الحرمة وضيقها في نص الحديث الوارد في السنّة، ولذلك لا مانع من الرجوع إلى أصالة الإباحة في حليتها إذا كانت للتسلية وبغير رهن.


س: لكن أمام دفاعكم هذا، فإنّكم في بعض كتاباتكم الشخصية تشككون في اجتهاد من لم يحط بعلوم القرآن؟


ج: ليست المسألة بهذه الدقة، ولكنني أتصور أن من لا يفهم القرآن لا يستطيع أن ينفتح على الإسلام، سواء على المستوى العقيدي أو الفقهي.


س: سامحني على صراحتي، ولكن هذا الإهمال للالتزام بالقرآن دراسياً وبحثياً...ألا يشير من جهة ما إلى أن في الشيعة من يقول بالتحريف، وبسببه كان هذا الإهمال؟


ج: أنا لا أعتقد أن التحريف يمثل تياراً شيعياً غالباً، بل حتى الذي ينسب إليه القول بالتحريف، حاول أن يقول إنني تحدثت عن التحريف من أجل أن أرفضه، وأبين عدم صحته. لذلك فإنّ التحريف لا يمثل تياراً شيعياً، ولكن ربما كانت المسألة هي الاهتمام بالجوانب الحديثية أكثر من الاهتمام بالجوانب القرآنية لظروف معينة أشرنا إلى بعضها.


مصحف فاطمة


س: سآتي إلى قضية مفصلية في الموضوع نفسه، وهي مصحف فاطمة(ع)، هل لديكم مصحف بهذا الاسم غير المصحف الذي نتداوله ونعرفه؟


ج: لا. إنّ كلّ الجدل الذي يدور، والاتهامات التي تنسب إلى الشيعة في قضية مصحف فاطمة، سببها كلمة المصحف، وكلمة المصحف بحسب معناها اللغوي، هي عبارة عن الكتاب الذي يشتمل على صحف، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): «لا أزعم أن فيه قرآناً»، بل كان مصحف فاطمة، بحسب ما كان أئمة أهل البيت(ع) يشرحونه، يشتمل على وصية فاطمة كما ذُكِر في بعض الروايات، أو على الأحكام الصادرة عنها مما كان يمليه عليها رسول الله(ص) ويكتبه علي(ع) كما جاء في روايات أخرى. وقد جاء في بعض الروايات، أنّه عندما اشتد حزن فاطمة(ع) على رسول الله، أرسل الله إليها من يؤانسها ويحدّثها عن أبيها وهو في الجنة... فهذه القضية تعيش في دائرة الروايات، ونحن ليس لدينا قرآن غير هذا القرآن. وأذكر أنني اجتمعت بالمرحوم الشيخ محمد الغزالي في الجزائر، وقال لي إنه كان يتحدث مع كثير من علماء السنة في العالم، ويقول لهم: لو ذهبتم إلى كل أنحاء العالم، فلن تجدوا هناك قرآناً عند الشيعة يزيد ضمةً أو فتحةً عن القرآن الموجود بين أيدي المسلمين جميعاً. وحتى مصحف فاطمة المزعوم؛ ليس لدى الشيعة نسخة منه، فإن الحديث عنه يشبه محاولة تسجيل النقاط على الشيعة، من خلال اتّهامهم بأن لهم قرآناً آخر غير هذا القرآن، وهذا كلام يدخل في باب الافتراء.

    الحديث عن مصحف فاطمة(ع) عند الشيعة يدخل في باب الافتراء


س: ولكن سامحني، لأنني سأردُّ على قولك هذا بما قاله الخميني، فالرجل لديه قول في أحد كتبه يقول فيه إنّ جبريل(ع) نزل على فاطمة(رض) وحدّثها بما يجري لها ولذريتها، ودوّن هذا كله الإمام علي بن أبي طالب(ع). بودي سماع رأيك بصراحة؟


ج: لقد ذكرت أن إحدى الروايات تتحدث عن أن الله أرسل إليها من يؤانسها ويخفِّف من حزنها، ولكن ليس معنى ذلك ـ لو صحت الرواية، وأنا لا أعتقد صحتها ـ أن في ذلك شيئاً من الرسالة، بل إنّ بعض العلماء يقول إنه ربما كان هناك ملك يحدّثها بهذه الطريقة، كما كان الأمر مع مريم(ع) ومع أم موسى. فهذه واحدة من الروايات، ولكن لا يلتزم أحد ممن ذهب إلى تبنّيها إلى أن فاطمة(ع) تمثل حالةً رسوليةً، لأنه لا نبي بعد رسول الله(ص).


حتى إن الشيعة يروون عن رسول الله(ص) بحق علي(ع): «يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، فليس هناك من يعتقد بأن للزهراء حالةً رسوليةً ورسالة، ولكن المسألة في هذه الرواية، إذا صحّت، ونحن لا نضمن صحتها، هي أن ملكاً نزل ليؤانسها وليحدِّثها عن أبيها في غيب الله. ومن الطبيعي أنّه لا وحي بعد رسول الله(ص)، فيما نفهمه من الوحي الذي هو وحي الرسالة.


التبشير الشيعي


س: الشيخ يوسف القرضاوي، بما يمثله من ثقلٍ في الطائفة السنية، وهو أحد الذين باشروا قضية الحوار مع الشيعة منذ زمن بعيد، اعترض قبل عام تقريباً على مسألة التبشير الشيعي الإيراني في البلاد السُنية؟


ج: أنا بعثت إلى الدكتور القرضاوي عن طريق صديقنا الدكتور محمد سليم العوا، وطلبت منه أن يأتينا بإحصائيات توضح من يقوم من الشيعة بإغراء أتباع السنة بالتشيع، من يقوم من السنة بإغراء الشيعة باتباع المذهب السني. ففي سورية، لدينا علاقات وديّة مع أخواننا السنة، وأمثال الشيخ وهبة الزحيلي وغيره من المشايخ، وهناك لقاءات كثيرة تجمعنا. فهذه قد تكون حالات فردية، ولكنّي أستغرب من إثارة المسألة بهذا الشكل الذي يوحي إلى الناس بأنّ هذه القضية من القضايا التي تخلق مشكلة في العالم الإسلامي. وأسأل: لماذا لا تُثار قضية التبشير بالدين المسيحي في المجتمعات الإسلامية كما تثار هذه المسألة؟ أنا الوحيد الذي علق على حديث البابا عن التبشير. ألا يعتبر التبشير في بلاد المسلمين مشكلة؟ ألم يخلق تبشير الملحدين والعلمانيين مشكلة؟

   


لماذا لا تُثار قضية التبشير بالدين المسيحي في المجتمعات الإسلامية كما تُثار قضية التشيّع؟


إيران وإعادة تصدير الثورة


س: يقال في الكواليس السياسية، إن الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، قامت بالتضييق الشديد على دول إسلامية، واغتنمت إيران الفرصة لأنها غير مراقبة، للقيام بدعم هذه الأنشطة التبشيرية في الجزائر والسودان ومصر والأردن واليمن، وكأن القضية أصبحت إعادة تصدير الثورة من جديد بالشكل الذي كانت عليه أيام الخميني؟


ج: من يتحدث بهذه الطريقة لا يفهم في السياسة. فعندما وقعت أحداث (11سبتمبر)، طرحت مسألة الهجوم على العالم الإسلامي كله، بما فيه إيران، باعتبار أنّ حربها هي ضد الإرهاب؛ الإرهاب الشيعي والإرهاب السني. وقد دخلت في مفاصل العالم الإسلامي متسلّحةً بتلك الذريعة. ونحن نعرف أن الولايات المتحدة هي التي دربت طالبان والقاعدة وثقّفتهم وساعدتهم أيام الاحتلال السوفياتي لأفغانستان.


فبعد أحداث (11سبتمبر)، احتلت أمريكا أفغانستان، وكان الشيعة هم ضحايا طالبان في ذلك الوقت، كما أنّها احتلت العراق وأربكته عن طريق الفوضى البناءة التي يعبِّر عنها بوش، إضافةً إلى أحداث الرياض والخبر والدار البيضاء، وفي كل ذلك، لم يكن للشيعة أو لإيران أي دور، بل كان الدور لجماعة القاعدة والمتطرفين. لذلك علينا أن نفهم خلفية الواقع السياسي الذي يتحرك في العالم الإسلامي كله، حتى في الصومال والسودان ومصر...


ولقد علّقت أمريكا مبلغ 100 مليون دولار من مساعداتها لمصر حتى تتأكد من عدم مساعدة مصر للفلسطينيين في عملية تهريب السلاح.


إنّ أمريكا بعد أحداث (سبتمبر) سيطرت على العالم الإسلامي، أما الكلام الذي ذكرته فهو غير صحيح.


مشروع فضل الله للحوار بين الشيعة والسلفيين


س: طرحت في العام الماضي مشروعاً للحوار بين السلفية (الوهابية بتعبيركم) وبين الشيعة، هل لنا أن نطَّلع على دوافعكم من طرح هذا المشروع؟ 


ج: الواقع أنّني أؤمن بالحوار كقاعدةٍ إنسانيّة إسلاميّة تنطلق من الإخلاص للإسلام وللحقيقة؛ لأنّني أعتبر أنّ أيّ اجتهاد يصل إليه الإنسان إنّما يمثّل قناعات صاحبه ووجهة نظره، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الآخر، ولذلك لا ينبغي أن يغفل الإنسان أيّ رأي مهما كان مضادّاً، وإن رآه في بادئ الأمر سخيفاً؛ وهذا ما جعلني أحمل شعار: «ليس هناك سؤال تافه، وليس هناك سؤال محرج؛ والحقيقة بنتُ الحوار».    


الحوار يمثّل القاعدة الإنسانية الإسلامية التي تنطلق من الإخلاص للإسلام


من هنا أعتبر أنّ الحوار لا يمثّل خياراً يُمكن للإنسان المسلم أن يأخذ به أو يتركه، بل هو حركة حياةٍ، تمثّل إحدى أهمّ الوسائل في عملية البحث عن الحقيقة؛ وأنا أهتدي في هذا المجال بقوله تعالى: حول روحية الحوار ومنهجه: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ مبين} [سبأ:24]، حيث تغيب الذات في الحوار، لتحلّ محلّها الشراكة الإنسانيّة الإسلاميّة في البحث عن الحقيقة التي ينشدها كلّ طرف.


ومن هنا، لم يكن طرح فكرة الحوار بين السلفيّة والشيعة إلا جزءاً من الشعور بضرورة أن يتحرّك الحوار في مختلف مجالاته الفكرية والثقافيّة، اهتداءً بقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} [النساء:59]، وتبرز الخصوصيّة الكبيرة في ضرورة الحوار بين فئات من المسلمين، باتت تقف ـ بفعل تعقيدات كثيرة ـ على طرفي نقيض من التكفير والتضليل؛ وفي هذه الحال، ليس أفضل من الحوار سبيلاً لتعريف كلّ طرفٍ بما عنده للطرف الآخر، ثمّ إدارة النقاش من خلال الأسس التي ينطلق منها الطرفان، وأوّلهما القرآن والسنّة.


ثمّ إنّنا عندما ندرس التحدّيات المعاصرة، والتي انطلق فيها الاستكبار العالمي للهجوم على الإسلام، منذ انتهاء الحرب الباردة، نشعر بأنّ المسألة لا تتصل بفريق دون آخر، لأنّ المطلوب هو رأس الإسلام كلّه، وليس من الطبيعي أن يبقى المسلمون يكفّر بعضهم بعضاً، أو يضلّل بعضهم بعضاً، من دون أن يتحاوروا فيما بينهم ليفهموا طبيعة الاختلاف، وليضعوا له أسسه وقواعده التي تنظّم حركته بما لا تدفع بالواقع الإسلامي اتجاه منزلقات خطيرة، تجعل المسلمين يقتلون بعضهم بعضاً، أو يمزّقون بعضهم بعضاً، ليكونوا بذلك لقمة سائغة للمستكبرين الذين يحوكون المؤامرات والخطط في سبيل تفتيت العالم الإسلامي برمّته.


س: ولكن ما هو مضمون هذا المشروع؟ وهل تراه ينطلق من الواقع؟ وهل ينجح في إزالة إرث تاريخي عمره نحو 1400 عام؟


ج: أعتقد أنّ أحد أهمّ ما يُمكن أن ينتج من حوارٍ علميّ موضوعيّ بين السنّة والشيعة عموماً، هو أن يفهم كلّ طرفٍ الأسس التي يرتكز عليها الطرف الآخر، على حقيقتها، من دون أيّ ضبابيّة قد تنطلق بها عناصر الإثارة ضدّ هذا الفريق أو ذاك، لتلصق به بعض ما ينكره، أو لتلزم العموم ببعض نظريّات الخصوص، أو لتحسم لديه نقطة هي محلّ نقاش. وبذلك نستطيع أن نطلّ على التاريخ، من حيث إدراكنا للحاضر، فيضع كلٌّ منّا التاريخ في وضعه الطبيعي، وننطلق إلى الحاضر من خلال مشكلاته وتحدّياته، ارتكازاً على ما استطاع الحوار أن يؤسّسه ويوضّحه من الأسس المشتركة التي يخضع لها الطرفان.


س: لربما يستنتج القارىء من ذلك، أنّ فشلكم في مؤتمرات التقريب الماضية، هو الذي دفعكم إلى طرح هذا المشروع على السلفيّين؟


ج: أوّلاً: إذا كنّا ننتقد هذه المؤتمرات في طريقة إدارة الحوار، حيث تسود الخطابات والمجاملات أكثر من الأمور العلميّة، إلا أنّ لتلك المؤتمرات فوائد كثيرة؛ منها أنّها حقّقت نوعاً من اللقاء على بعض النقاط المشتركة، وأمّنت مساحة زمنيّة ومكانيّة يلتقي فيها المسلمون ليعرض كلّ منهم وجهة نظره، وهذا يحقّق فائدة، وإن لم تكن بالمستوى الشامل.


وثانياً: إنّ طرح فكرة الحوار مع السلفيّة، ليست إلا في السياق الإسلامي العام الذي يؤكد ضرورة الحوار بين المسلمين، وليست ردّاً على فشل هنا أو إخفاق هناك.


هذا مع الإشارة إلى نقطة، وهي أنّ السؤال يكاد يوحي بأنّ السلفيين غير معنيّين بمثل هذه المؤتمرات، أو ينأون بأنفسهم عن سائر المسلمين؛ وأنا في طرحي لفكرة مؤتمرات التقريب، لم أكن بصدد التصنيف، بل كنت أرى أن مسألة الحوار لا بد من أن تنطلق بشموليّة بين المسلمين، بغضّ النظر عن مذاهبهم واتّجاهاتهم.


س: هل تتوقّعون تجاوباً من الطرف السلفي؟ وهل يقبل الطرف الشيعي الآخر مثل هذه المبادرة مع السلفيّين؟


ج: ولماذا لا يلقى الأمر تجاوباً هنا وهناك؟! وقد حصل تجاوبٌ كبير لدى كثير من أصحاب الاتجاهات السلفيّة في لبنان وفي المغرب العربي، وفي دول الخليج، وفي مواقع إسلامية ثقافية متعددة، وأعتقد أن الحوار بيني وبينك هو أحد ثمرات هذه الدعوة.


س: ذكرت أنه من الواجب على علماء الأمة النزول إلى العامة وتثقيفهم والبحث عن القواسم المشتركة، ألست معي في أن من اختطف حال التقارب وحولها إلى حال تباعد، عبر هذا التاريخ غير المشجّع بين السنّة والشيعة، هم المتطرفون من كلا الطرفين، الذين قدّموا لنا النصوص التي فيها كثير من التنافر، مع أن المشتركات بين الطرفين كثيرة، وأوّلها زواج عمر من أم كلثوم بنت الإمام علي(ع)؟ لماذا لا نركز على هذه الجوانب؟


ج: نحن نركز عليها، ولكننا نعيش حال تخلف عامّة، يقول تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة:134]. أنقل لك رأي أحد مراجع الشيعة الإيرانيين الكبار، وهو المرجع الشيخ حسين البروجردي، أستاذ الإمام الخميني، يقول: "في الصراع الذي نعيشه كشيعة وسُنة، نجد أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ذهبوا كلهم إلى رحاب الله، عندما نتناقش حالياً عن الخليفة، ينبغي أن يكون نقاشنا علمياً، والبحث في ما يتوجب علينا؛ وهو هل نتّبع مدرسة الخلافة أو مدرسة الإمامة؟ وبذلك تصبح المسألة علمية.


لذلك نحن نقول: إذا أحسن القائمون على المؤتمرات الإسلامية إدارتها وإبعادها عن الجانب الاستعراضي، وأوجدوا حالة لقاء في هذا المجال، يمكن أن نقترب قليلاً من الوصول إلى بعض النتائج الإيجابية.    


إذا أحسن القائمون على المؤتمرات الإسلامية إدارتها وإبعادها عن الجانب الاستعراضييمكن أن نحصل على نتائج إيجابية


س: أشكر لك رؤيتك في إبراز خطأ التشاغل بمن هو الأفضل والأحق بالخلافة، وقولك: إنّ مسؤوليتنا ليست البحث في الماضي، وإنما استشراف المستقبل”. لكن ربما يعترض عليك أحد ويقول: المشكلة هنا فيما يتعلق بالجانب الشيعي، أن المسألة لم تتوقف عندهم على مجرد تفضيل، بل أضيف إلى ذلك عصمة وإمامة مستمرة إلى اليوم. وبناءً على هذه الإمامة، تم اعتماد مصادر جديدة للتشريع (أقوال الأئمة)، مقابل إسقاط مصادر أخرى (سنة النبي(ص) المروية من طريق الصحابة). فنحن لا نتحدث هنا عن مجرد تفضيل بين أبي بكر وعمر وعلي، بل عن انشقاق كبير في عمق الإسلام يتعلق بمصادره التشريعية.كيف ترد على هذا القول؟


ج: نحن نقول إن هذه المسألة تُدرس بطريقة علمية، وليس عن طريق تسجيل النقاط؛ فلو فرضنا أنّنا درسنا الأحاديث الواردة عن الأئمّة(ع)، لرأينا الكثير منها يتفق مع الأحاديث الكثيرة الواردة في كتب أهل السنة. وإذا كان الشيعة يرفضون ما ورد عند السنة مما يرونه صحيحاً، فإنّ السنّة في المقابل لا يرون ما يرويه الشيعة صحيحاً. أنا أعتبر أن هناك فرقاً بين واقع الإشاعات وواقع الإثارات الموجودة في الواقع الشعبي الذي يجب أن نعمل جميعاً من أجل إصلاحه. وهذا الذي يحكم الآن أحاديث البعض من أهل السنة، حتى العلماء منهم، في مقام تسجيل النقاط على الشيعة، أو ما ينطلق من الشيعة في ما يتحدّثون به عن أهل السنة كذلك.


س: من ترشح لمثل هذه الحوارات؟ وهل تؤيد أن تكون تحت مظلة سياسية؟


ج: لا، فإنّ المظلة السياسية تفسد هذه المؤتمرات.


س: ومن تقترح من علماء الشيعة وعلماء السُنة حتى نتخذ خ جادة؟


ج: علينا أن نبحث عن أشخاص يعيشون حالة الاعتدال والغيرة على الإسلام. أنا أزعم أن السنة والشيعة لا يعطون الإسلام حقه، فنحن عندما ننشغل بمسألة أحقية أبي بكر أو علي بالخلافة، تكون الفرصة مواتيةً لأمريكا للانفراد بالعالم، لأنّ الاستغراق في القضايا التفصيلية التي تبرز السلبيات، يمكِّن أمريكا من تحقيق طموحها في السيطرة على الواقع الإسلامي.


س: هذه الآراء العاقلة تجعلني أسألك: لماذا لا تتبنى أنت مشروعاً حقيقياً للتقارب، وتجعل بقية حياتك لهذا الغرض؟


ج: لقد بدأت الحوار منذ أمد بعيد، وأصدرت أول كتاب حول هذا الموضوع عام 1380هـ، هو (أسلوب الدعوة في القرآن)، وهو يتناول أسلوب الحوار الإسلامي ـ المسيحي، وكذلك كتاب (الحوار في القرآن)، تناولت فيه قضية الحوار الإسلامي ـ الإسلامي التي بدأت تؤتي بعض الثمار.


س: كيف يمكن أن تجتمع الأمة الإسلامية على كلمة سواء؟


ج: نقول لهم إنه حتى رسول الله(ص)، ونحن تراب أقدامه، لم يجمع العالم كله على الإسلام، ومع ذلك، فإن الله خاطبه بالقول: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف:29].


وقال سبحانه له: {إنما أنت مذكِّر* لست عليهم بمسيطر} [الغاشية:21-22]. فنحن مسؤوليتنا أن نقتدي برسول الله(ص) في تبليغ كلمة الله كما نعتقدها، فمن كان معنا فجزاه الله خيراً فهو مع الحق، ومن لم يكن معنا فإننا نعتقد أنه لا يلتزم الحق في نظرنا.


أحمد الكاتب.. كتب في غير اختصاصه


س: الباحث الشيعي المعروف د. أحمد الكاتب، يذكر أنه كتب بحثه حول تطور الفكر السياسي الشيعي، وهو البحث الذي وصل فيه إلى نفي وجود المهدي المنتظر، وإلى نفي مبدأ الإمامة بمفهومها الشيعي. ويذكر أنه أرسل بحثه إلى المراجع، فلم يجبه أحد منهم. ما رأي السيد فضل الله في النتائج التي توصل إليها أحمد الكاتب؟


ج: أنا أعتقد أن الرجل كتب في غير اختصاصه.


س: لكن هل الفكر الشيعي يستوعب مثل هذا الاجتهاد؟


ج: ليست القضية هي أنّ الفكر الشيعي يستوعب أو لا يستوعب الاجتهاد في هذا المجال، فكل فكر يمكن أن يستوعب اجتهاداً، ولقد كان أصحاب الأئمة(ع) يقفون على إمام، فلا يرون إمامته ويلتزمون إماماً آخر، ولذلك فإنّ كثيراً ممن كانوا من أصحاب الأئمة، كانوا لا يلتزمون بمفهوم الإمامة الإثني عشرية، بل كانوا يقفون عند هذا الإمام فلا يرون إمامته، ويقفون عند ذاك الإمام فيرون إمامته، لذلك فمسألة الاجتهاد هي مسألة في حجم الإسلام كله.

    الاجتهاد مسألة في حجم الإسلام كلّه


س: الشيعي الذي يصل في اجتهاده وبحثه إلى نفي مبدأ الإمامة ونفي وجود الإمام المهدي(عج)، هل يقال إنه ارتكب ضلالةً، أو إنه مجتهد له رأيه الذي يجب احترامه؟


ج: نقول إنّه مسلم، ولكنّه ليس شيعياً.


س: سبق أن صرَّحت بأن الإمامة من المتحول وليست من الثابت، ولهذا يتهمكم بعض الشيعة بالتخلي عن ضرورة من ضرورات المذهب؟


ج: أنا قلت إنها من المتحول، بمعنى أنّها من القضايا القابلة للاجتهاد إسلاميّاً، بحيث إن البعض قد يؤمن بها والبعض الآخر قد لا يؤمن بها، وليست من الثوابت كالتوحيد والنبوة والمعاد. وقد كنت في مقام تحرير محل النزاع بين المسلمين.


أجراها: عبدالعزيز محمد قاسم


مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 05 ربيع الأول 1429 هـ  الموافق: 13/03/2008 م

محمد حسين فضل الله في ختام مكاشفاته :

القائلون بتحريف القرآن يسيرون في خط الكفر


س: سنبدأ حلقتنا الأخيرة هذه، بقضية مفصلية أخرى معكم، وهي مسألة تحريف القرآن الكريم، والذي يقول به بعض أئمتكم، نأمل أن تحدثنا عن هذه القضية من وجهة نظركم؟


ج: عندما تعدَّدت الاتجاهات الكلامية والمذهبية الفقهية وغير الفقهية، حاول كل فريق أن يأخذ من القرآن ما يستدلّ به على صوابية الرأي الذي يرتأيه، ما أدى إلى فهم مذهبي محدود للقرآن، وربما خرج الكثيرون عن ظواهر القرآن وأوّلوه على خلاف ظواهره، ومن خلال ذلك، انطلقت الروايات الموضوعة التي وضعها الرواة حول هذه الآية أو تلك لإغاثة بعض الأسماء التي يقدسونها ويحترمونها، أو بعض الأفكار التي يلتزمونها، وهذا ما أدّى إلى الكثير من الأحاديث الموضوعة عن النبي(ص) وأهل البيت(ع) والصحابة، والتي كانت تحرِّف القرآن عن مساره الطبيعي، ومن خلال كل هذه الفوضى المذهبية، ظهرت بعض الروايات التي تتحدث عن تحريف القرآن لتأكيد مذهب هنا أو مذهب هناك.    


كل من يلتزم القول بتحريف القرآن هو إنسان ينحرف عن النصّ القرآني وعن مسلّمة إسلامية


ولكنّ المسلّم به عند علماء المسلمين الشيعة، كما هو عند علماء السنة، أن القرآن هو كتاب الله المعصوم الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصّلت:42]، وأن الله نص على ذلك في قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9]. لذلك، فإننا نعتبر أن كل من يلتزم القول بتحريف القرآن، هو إنسان ينحرف عن النص القرآني وعن مسلّمة إسلامية. ثم إننا عندما ندرس بعض هذه النصوص التي يدّعي البعض لأنّها تنسب إلى القرآن، هي نصوص لا تنسجم مع القرآن في بلاغته وإعجازه، حتى إن الإنسان الذي يملك الثقافة البلاغية يرفض أن تنسب إليه، فكيف يمكن أن تنسب إلى الله؟ إننا نؤكد أن القرآن هو كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن كل من ذهب إلى التحريف، هو منحرف عن الخط الأصيل للعصمة القرآنية.


س: هل يعني كلامك أنّ القول بتحريف القرآن، يستلزم تكفير صاحبه؟


ج: إن مسألة الكفر تنطلق من إنكار الله وإنكار رسوله وإنكار الضروري من الدين الذي يستلزم تكذيب الرسول(ص). لذلك، فإذا كان هؤلاء يتعمدون الأمر، فإنهم يسيرون في خط الكفر، أما إذا كانوا ينطلقون من اجتهاد خاطئ، فلا بد من مناقشتهم في هذا الاجتهاد الخاطئ.


س: ذكرت في إجابتك، أن (غالبية) علماء الشيعة لا يقولون بتحريف القرآن، في حين نرى أنّ السيد عبدالحسين شرف الدين والسيد محسن الأمين وغيرهما، ينفون وجود هذا التحريف أصلاً لدى علماء الشيعة، فما تعليقك على ذلك؟


ج: هذا صحيح؛ لأنّه حتى من يُنسب إليه القول بالتحريف، وهو الشيخ النوري، الذي ألّف كتاباً عنوانه (تحريف كتاب ربّ الأرباب)، يقول إنّه لم يقل بالتحريف، بل كان يقصد الردّ على القائلين به؛ وهذا ما تحدّث به عنه تلميذه الطهراني في كتابه (الذريعة إلى تصانيف الشيعة).


وقد ذكرنا أنّ الكفر هو عبارة عن إنكار النبوّة أو ما يؤدّي إلى إنكارها أو إنكار التوحيد والمعاد، أمّا من كان له رأي اجتهادي حول تحريف القرآن، فهو مخطئ وضالّ في هذه المسألة، ولكنّه لا يعتبر كافراً. وبعض الناس يرون أن نسخ التلاوة عبارة عن تحريف للقرآن، كما أن اختلاف القراءات العشر قد يفهمها بعض الناس أنّها نوعٌ من التحريف. لذلك فإن اجتهادنا وفهمنا للآية القرآنية: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر:9] أو {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} [فصّلت:42]، هو أنّ الله تعالى تكفّل بحماية القرآن من الزيادة والنقصان، ولكنّ هذه المسألة كانت محلّ جدل، أمّا الرأي العام الذي يؤمن به الشيعة، فهو أن القرآن هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسوله، وأنّه مصون من أي تحريف.

   


القرآن الذي يتداوله الشيعة في كل أنحاء العالم لا يختلف عن القرآن الذي يتداوله السنة


ونحن نقرأ في كلّ أحاديث أهل البيت(ع)، أنّهم يطلبون من أتباعهم دوماً أن يرجعوا إلى القرآن في تقويم الأحاديث، فكانوا يقولون لهم: "ما خالف كتاب الله فهو زخرف"، أو "اضربوا به عرض الجدار"، أو: لا تقبلوا علينا إلا حديثاً وافق كتاب الله. وقد سمعتُ من المرحوم الشيخ محمد الغزالي قوله: لو كان عند الشيعة زيادات في القرآن، لرأينا ولو نسخة واحدة منه، حتّى إنّ الذين يُنسب إليهم القول بالزيادة أو بالنقصان، لم يؤكّدوا ذلك بأي دليل. والقرآن الذي يتداوله الشيعة في كلّ أنحاء العالم لا يختلف عن القرآن الذي يتداوله السنّة.


لذلك، فإن إثارة هذا الموضوع بالشكل الذي يثيره البعض من المتعصّبين، لا يُراد منه إلا تعقيد الأمور؛ وأنا أطلب ممّن ينسب إلى الشيعة ذلك، أن يدلّنا على نسخة واحدة من القرآن في كلّ العالم تختلف عن النسخة التي بين أيدي المسلمين. وألفت إلى أن كثيراً من النسخ المتداولة عندنا هي ممّا تطبعه المملكة العربية السعودية.


إهمال دراسة القرآن الكريم


س: ليست إثارة هذا الموضوع من باب تعقيد الأمور بقدر ما وددنا إيضاح الحقائق، ودعني أقول إنّ هناك إهمالاً للقرآن من قِبَل المسلمين الشيعة، وأستشهد على ذلك بما قلته شخصياً عبر نصّ لكم يقول: (نفاجأ بأن الحوزة العلمية في النجف أو في قم لم تمتلك منهجاً دراسياً للقرآن). إلى أين يمكن أن يطل بنا إهمال القرآن في الحوزات الشيعية؟


ج: إنّ هذه المسألة ليست منطلقةً من نظرة شيعية سلبية تجاه القرآن، بل إنّ البعض في الحوزات كان يتصور أن القرآن لا يحتاج إلى دراسة عميقة دقيقة علمية، لأنه من حيث الظاهر يمكن أن يفهمه كل الناس. وأذكر أن أستاذنا المحقق، السيد أبو القاسم الخوئي(قده)، درس تفسير القرآن عند أحد علماء النجف ممّن كانت له تجارب تفسيرية، وهو المرحوم الشيخ جواد البلاغي، كما أنه حاول بعد كتابة مقدمة كتابه التفسيري "البيان في تفسير القرآن"، أن يعطي دروساً في القرآن على الطريقة التي كان يعطي فيها دروس الأصول والفقه، ولكن أغلب الطلاب لم يحضروا ذلك الدرس، لأنهم كانوا يعتبرون أنه لا يمثل الدرس العلمي الذي يحتاج الطالب إلى متابعته مع الأستاذ، ما دفع السيد الخوئي(قده) إلى التوقف عن إعطاء الدرس.


لكننا في الوقت نفسه، عندما ندرس ما كتبه علماء الشيعة في التفسير، نجد أنّ هناك الكثير من التفاسير المميّزة لهم، ولاسيما ما كتبه الشيخ الطبرسي في (مجمع البيان)، الذي اختارت جماعة التقريب في مصر أن تطبعه لكونه الكتاب الذي يمكن أن ينفتح عليه السنة والشيعة معاً، والذي يمكن أن ينقل آراء السنة والشيعة، إضافةً إلى تفاسير أخرى، منها "جوامع الجامع" و"التبيان في تفسير القرآن" للطوسي.


وأظن أن التطورات الأخيرة في انفتاح الشيعة على الحركة الإسلامية، ولاسيما في إيران، جعلت إيران توجّه الكثير من اهتمامها لعلوم القرآن ولاسيما في مجالي التجويد والتفسير.


القرآن وإجازة المجتهد


س: هل عدم اهتمامكم بمسائل القرآن الكريم، وصل إلى حدّ أن يصل المجتهد لديكم إلى مرتبة الاجتهاد دون أن يلمّ جيداً بالقرآن الكريم؟ وأنا أسوق لك نصاً لمرشد الجمهورية الإيرانية علي الخامنئي يقول فيه: "مما يؤسف له، أن بإمكاننا بدء الدراسة ومواصلتنا لها إلى حين استلام إجازة الاجتهاد من دون أن نرجع إلى القرآن ولو لمرة واحدة. لماذا هكذا؟ لأن دروسنا لا تعتمد على القرآن".


ج: في دراسة الفقه والأصول عندنا، نجد أنّ التركيز على الأحاديث أكثر من التركيز على القرآن، ربما لأنّهم كانوا يجدون أن الأحاديث أكثر تفصيلاً من القرآن، وأنها تفسر القرآن، كما أنّ هناك بعض النظريات الأصولية التي تقول بإمكانية تخصيص الكتاب بخبر الواحد وما إلى ذلك من الأمور، إضافةً إلى وجود جدل حول بعض الأبحاث الأصولية، بأنه هل لنا أن نعتمد على ظاهر القرآن، وهل إنّ حجيّة هذه الأبحاث في نفسها، أو أنّها تعتمد على النصوص الحديثية؟... هذه المسائل جعلت المدرسة الفقهية الأصولية تنفتح على الحديث أكثر مما تنفتح على القرآن.    


في منهجنا القرآني نؤكد أن العناوين القرآنية هي التي تحكم على الأحاديث الواردة في تحريم الشيء أو تحليله


ولكننا في منهجنا القرآني، حتى على مستوى الفتوى، نؤكّد أن العناوين القرآنية هي التي تحكم على الأحاديث الواردة في تحريم شيء أو تحليله، لأنّ القرآن هو الأساس في التشريع. ولذلك فإننا لا نرفض الحديث، لأن السنة أساسٌ للخط الإسلامي في الجوانب الكلامية والفقهية وغيرها، ولكننا نعتقد أن العناوين القرآنية لمواضيع الحلية والحرمة هي الأصل، وهي التي تفسر الحديث وتعطيه السعة أو الضيق. فمثلاً، نحن أفتينا بحلية "لعبة الشطرنج" إذا لم يكن ذلك مرتكزاً على أساس تقديم مال للرابح، باعتبار أن العنوان القرآني هو الميسر، والميسر هو القمار الذي يرتكز على أساس الربح والخسارة، ولذلك فإنّ لعبة الشطرنج إذا لم تكن مستندةً على أساس الربح والخسارة، فإنه لا يصدق عليها أنها من الميسر، وإنّما كانت ميسراً في وقت سابق، فتكون الأحاديث التي استفاد منها العلماء الحرمة، ناظرةً إلى اللعب المتعارف في زمان صدور النص.


ولذا ورد في بعض الأحاديث، أن الشطرنج ميسر العجم، فمع عدم صدق الميسر على اللعب، لا يكون منطبقاً على العنوان القرآني الذي هو الأساس في سعة الحرمة وضيقها في نص الحديث الوارد في السنّة، ولذلك لا مانع من الرجوع إلى أصالة الإباحة في حليتها إذا كانت للتسلية وبغير رهن.


س: لكن أمام دفاعكم هذا، فإنّكم في بعض كتاباتكم الشخصية تشككون في اجتهاد من لم يحط بعلوم القرآن؟


ج: ليست المسألة بهذه الدقة، ولكنني أتصور أن من لا يفهم القرآن لا يستطيع أن ينفتح على الإسلام، سواء على المستوى العقيدي أو الفقهي.


س: سامحني على صراحتي، ولكن هذا الإهمال للالتزام بالقرآن دراسياً وبحثياً...ألا يشير من جهة ما إلى أن في الشيعة من يقول بالتحريف، وبسببه كان هذا الإهمال؟


ج: أنا لا أعتقد أن التحريف يمثل تياراً شيعياً غالباً، بل حتى الذي ينسب إليه القول بالتحريف، حاول أن يقول إنني تحدثت عن التحريف من أجل أن أرفضه، وأبين عدم صحته. لذلك فإنّ التحريف لا يمثل تياراً شيعياً، ولكن ربما كانت المسألة هي الاهتمام بالجوانب الحديثية أكثر من الاهتمام بالجوانب القرآنية لظروف معينة أشرنا إلى بعضها.


مصحف فاطمة


س: سآتي إلى قضية مفصلية في الموضوع نفسه، وهي مصحف فاطمة(ع)، هل لديكم مصحف بهذا الاسم غير المصحف الذي نتداوله ونعرفه؟


ج: لا. إنّ كلّ الجدل الذي يدور، والاتهامات التي تنسب إلى الشيعة في قضية مصحف فاطمة، سببها كلمة المصحف، وكلمة المصحف بحسب معناها اللغوي، هي عبارة عن الكتاب الذي يشتمل على صحف، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): «لا أزعم أن فيه قرآناً»، بل كان مصحف فاطمة، بحسب ما كان أئمة أهل البيت(ع) يشرحونه، يشتمل على وصية فاطمة كما ذُكِر في بعض الروايات، أو على الأحكام الصادرة عنها مما كان يمليه عليها رسول الله(ص) ويكتبه علي(ع) كما جاء في روايات أخرى. وقد جاء في بعض الروايات، أنّه عندما اشتد حزن فاطمة(ع) على رسول الله، أرسل الله إليها من يؤانسها ويحدّثها عن أبيها وهو في الجنة... فهذه القضية تعيش في دائرة الروايات، ونحن ليس لدينا قرآن غير هذا القرآن. وأذكر أنني اجتمعت بالمرحوم الشيخ محمد الغزالي في الجزائر، وقال لي إنه كان يتحدث مع كثير من علماء السنة في العالم، ويقول لهم: لو ذهبتم إلى كل أنحاء العالم، فلن تجدوا هناك قرآناً عند الشيعة يزيد ضمةً أو فتحةً عن القرآن الموجود بين أيدي المسلمين جميعاً. وحتى مصحف فاطمة المزعوم؛ ليس لدى الشيعة نسخة منه، فإن الحديث عنه يشبه محاولة تسجيل النقاط على الشيعة، من خلال اتّهامهم بأن لهم قرآناً آخر غير هذا القرآن، وهذا كلام يدخل في باب الافتراء.

    الحديث عن مصحف فاطمة(ع) عند الشيعة يدخل في باب الافتراء


س: ولكن سامحني، لأنني سأردُّ على قولك هذا بما قاله الخميني، فالرجل لديه قول في أحد كتبه يقول فيه إنّ جبريل(ع) نزل على فاطمة(رض) وحدّثها بما يجري لها ولذريتها، ودوّن هذا كله الإمام علي بن أبي طالب(ع). بودي سماع رأيك بصراحة؟


ج: لقد ذكرت أن إحدى الروايات تتحدث عن أن الله أرسل إليها من يؤانسها ويخفِّف من حزنها، ولكن ليس معنى ذلك ـ لو صحت الرواية، وأنا لا أعتقد صحتها ـ أن في ذلك شيئاً من الرسالة، بل إنّ بعض العلماء يقول إنه ربما كان هناك ملك يحدّثها بهذه الطريقة، كما كان الأمر مع مريم(ع) ومع أم موسى. فهذه واحدة من الروايات، ولكن لا يلتزم أحد ممن ذهب إلى تبنّيها إلى أن فاطمة(ع) تمثل حالةً رسوليةً، لأنه لا نبي بعد رسول الله(ص).


حتى إن الشيعة يروون عن رسول الله(ص) بحق علي(ع): «يا علي، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، فليس هناك من يعتقد بأن للزهراء حالةً رسوليةً ورسالة، ولكن المسألة في هذه الرواية، إذا صحّت، ونحن لا نضمن صحتها، هي أن ملكاً نزل ليؤانسها وليحدِّثها عن أبيها في غيب الله. ومن الطبيعي أنّه لا وحي بعد رسول الله(ص)، فيما نفهمه من الوحي الذي هو وحي الرسالة.


التبشير الشيعي


س: الشيخ يوسف القرضاوي، بما يمثله من ثقلٍ في الطائفة السنية، وهو أحد الذين باشروا قضية الحوار مع الشيعة منذ زمن بعيد، اعترض قبل عام تقريباً على مسألة التبشير الشيعي الإيراني في البلاد السُنية؟


ج: أنا بعثت إلى الدكتور القرضاوي عن طريق صديقنا الدكتور محمد سليم العوا، وطلبت منه أن يأتينا بإحصائيات توضح من يقوم من الشيعة بإغراء أتباع السنة بالتشيع، من يقوم من السنة بإغراء الشيعة باتباع المذهب السني. ففي سورية، لدينا علاقات وديّة مع أخواننا السنة، وأمثال الشيخ وهبة الزحيلي وغيره من المشايخ، وهناك لقاءات كثيرة تجمعنا. فهذه قد تكون حالات فردية، ولكنّي أستغرب من إثارة المسألة بهذا الشكل الذي يوحي إلى الناس بأنّ هذه القضية من القضايا التي تخلق مشكلة في العالم الإسلامي. وأسأل: لماذا لا تُثار قضية التبشير بالدين المسيحي في المجتمعات الإسلامية كما تثار هذه المسألة؟ أنا الوحيد الذي علق على حديث البابا عن التبشير. ألا يعتبر التبشير في بلاد المسلمين مشكلة؟ ألم يخلق تبشير الملحدين والعلمانيين مشكلة؟

   


لماذا لا تُثار قضية التبشير بالدين المسيحي في المجتمعات الإسلامية كما تُثار قضية التشيّع؟


إيران وإعادة تصدير الثورة


س: يقال في الكواليس السياسية، إن الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، قامت بالتضييق الشديد على دول إسلامية، واغتنمت إيران الفرصة لأنها غير مراقبة، للقيام بدعم هذه الأنشطة التبشيرية في الجزائر والسودان ومصر والأردن واليمن، وكأن القضية أصبحت إعادة تصدير الثورة من جديد بالشكل الذي كانت عليه أيام الخميني؟


ج: من يتحدث بهذه الطريقة لا يفهم في السياسة. فعندما وقعت أحداث (11سبتمبر)، طرحت مسألة الهجوم على العالم الإسلامي كله، بما فيه إيران، باعتبار أنّ حربها هي ضد الإرهاب؛ الإرهاب الشيعي والإرهاب السني. وقد دخلت في مفاصل العالم الإسلامي متسلّحةً بتلك الذريعة. ونحن نعرف أن الولايات المتحدة هي التي دربت طالبان والقاعدة وثقّفتهم وساعدتهم أيام الاحتلال السوفياتي لأفغانستان.


فبعد أحداث (11سبتمبر)، احتلت أمريكا أفغانستان، وكان الشيعة هم ضحايا طالبان في ذلك الوقت، كما أنّها احتلت العراق وأربكته عن طريق الفوضى البناءة التي يعبِّر عنها بوش، إضافةً إلى أحداث الرياض والخبر والدار البيضاء، وفي كل ذلك، لم يكن للشيعة أو لإيران أي دور، بل كان الدور لجماعة القاعدة والمتطرفين. لذلك علينا أن نفهم خلفية الواقع السياسي الذي يتحرك في العالم الإسلامي كله، حتى في الصومال والسودان ومصر...


ولقد علّقت أمريكا مبلغ 100 مليون دولار من مساعداتها لمصر حتى تتأكد من عدم مساعدة مصر للفلسطينيين في عملية تهريب السلاح.


إنّ أمريكا بعد أحداث (سبتمبر) سيطرت على العالم الإسلامي، أما الكلام الذي ذكرته فهو غير صحيح.


مشروع فضل الله للحوار بين الشيعة والسلفيين


س: طرحت في العام الماضي مشروعاً للحوار بين السلفية (الوهابية بتعبيركم) وبين الشيعة، هل لنا أن نطَّلع على دوافعكم من طرح هذا المشروع؟ 


ج: الواقع أنّني أؤمن بالحوار كقاعدةٍ إنسانيّة إسلاميّة تنطلق من الإخلاص للإسلام وللحقيقة؛ لأنّني أعتبر أنّ أيّ اجتهاد يصل إليه الإنسان إنّما يمثّل قناعات صاحبه ووجهة نظره، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الآخر، ولذلك لا ينبغي أن يغفل الإنسان أيّ رأي مهما كان مضادّاً، وإن رآه في بادئ الأمر سخيفاً؛ وهذا ما جعلني أحمل شعار: «ليس هناك سؤال تافه، وليس هناك سؤال محرج؛ والحقيقة بنتُ الحوار».    


الحوار يمثّل القاعدة الإنسانية الإسلامية التي تنطلق من الإخلاص للإسلام


من هنا أعتبر أنّ الحوار لا يمثّل خياراً يُمكن للإنسان المسلم أن يأخذ به أو يتركه، بل هو حركة حياةٍ، تمثّل إحدى أهمّ الوسائل في عملية البحث عن الحقيقة؛ وأنا أهتدي في هذا المجال بقوله تعالى: حول روحية الحوار ومنهجه: {وإنّا أو إيّاكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ مبين} [سبأ:24]، حيث تغيب الذات في الحوار، لتحلّ محلّها الشراكة الإنسانيّة الإسلاميّة في البحث عن الحقيقة التي ينشدها كلّ طرف.


ومن هنا، لم يكن طرح فكرة الحوار بين السلفيّة والشيعة إلا جزءاً من الشعور بضرورة أن يتحرّك الحوار في مختلف مجالاته الفكرية والثقافيّة، اهتداءً بقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} [النساء:59]، وتبرز الخصوصيّة الكبيرة في ضرورة الحوار بين فئات من المسلمين، باتت تقف ـ بفعل تعقيدات كثيرة ـ على طرفي نقيض من التكفير والتضليل؛ وفي هذه الحال، ليس أفضل من الحوار سبيلاً لتعريف كلّ طرفٍ بما عنده للطرف الآخر، ثمّ إدارة النقاش من خلال الأسس التي ينطلق منها الطرفان، وأوّلهما القرآن والسنّة.


ثمّ إنّنا عندما ندرس التحدّيات المعاصرة، والتي انطلق فيها الاستكبار العالمي للهجوم على الإسلام، منذ انتهاء الحرب الباردة، نشعر بأنّ المسألة لا تتصل بفريق دون آخر، لأنّ المطلوب هو رأس الإسلام كلّه، وليس من الطبيعي أن يبقى المسلمون يكفّر بعضهم بعضاً، أو يضلّل بعضهم بعضاً، من دون أن يتحاوروا فيما بينهم ليفهموا طبيعة الاختلاف، وليضعوا له أسسه وقواعده التي تنظّم حركته بما لا تدفع بالواقع الإسلامي اتجاه منزلقات خطيرة، تجعل المسلمين يقتلون بعضهم بعضاً، أو يمزّقون بعضهم بعضاً، ليكونوا بذلك لقمة سائغة للمستكبرين الذين يحوكون المؤامرات والخطط في سبيل تفتيت العالم الإسلامي برمّته.


س: ولكن ما هو مضمون هذا المشروع؟ وهل تراه ينطلق من الواقع؟ وهل ينجح في إزالة إرث تاريخي عمره نحو 1400 عام؟


ج: أعتقد أنّ أحد أهمّ ما يُمكن أن ينتج من حوارٍ علميّ موضوعيّ بين السنّة والشيعة عموماً، هو أن يفهم كلّ طرفٍ الأسس التي يرتكز عليها الطرف الآخر، على حقيقتها، من دون أيّ ضبابيّة قد تنطلق بها عناصر الإثارة ضدّ هذا الفريق أو ذاك، لتلصق به بعض ما ينكره، أو لتلزم العموم ببعض نظريّات الخصوص، أو لتحسم لديه نقطة هي محلّ نقاش. وبذلك نستطيع أن نطلّ على التاريخ، من حيث إدراكنا للحاضر، فيضع كلٌّ منّا التاريخ في وضعه الطبيعي، وننطلق إلى الحاضر من خلال مشكلاته وتحدّياته، ارتكازاً على ما استطاع الحوار أن يؤسّسه ويوضّحه من الأسس المشتركة التي يخضع لها الطرفان.


س: لربما يستنتج القارىء من ذلك، أنّ فشلكم في مؤتمرات التقريب الماضية، هو الذي دفعكم إلى طرح هذا المشروع على السلفيّين؟


ج: أوّلاً: إذا كنّا ننتقد هذه المؤتمرات في طريقة إدارة الحوار، حيث تسود الخطابات والمجاملات أكثر من الأمور العلميّة، إلا أنّ لتلك المؤتمرات فوائد كثيرة؛ منها أنّها حقّقت نوعاً من اللقاء على بعض النقاط المشتركة، وأمّنت مساحة زمنيّة ومكانيّة يلتقي فيها المسلمون ليعرض كلّ منهم وجهة نظره، وهذا يحقّق فائدة، وإن لم تكن بالمستوى الشامل.


وثانياً: إنّ طرح فكرة الحوار مع السلفيّة، ليست إلا في السياق الإسلامي العام الذي يؤكد ضرورة الحوار بين المسلمين، وليست ردّاً على فشل هنا أو إخفاق هناك.


هذا مع الإشارة إلى نقطة، وهي أنّ السؤال يكاد يوحي بأنّ السلفيين غير معنيّين بمثل هذه المؤتمرات، أو ينأون بأنفسهم عن سائر المسلمين؛ وأنا في طرحي لفكرة مؤتمرات التقريب، لم أكن بصدد التصنيف، بل كنت أرى أن مسألة الحوار لا بد من أن تنطلق بشموليّة بين المسلمين، بغضّ النظر عن مذاهبهم واتّجاهاتهم.


س: هل تتوقّعون تجاوباً من الطرف السلفي؟ وهل يقبل الطرف الشيعي الآخر مثل هذه المبادرة مع السلفيّين؟


ج: ولماذا لا يلقى الأمر تجاوباً هنا وهناك؟! وقد حصل تجاوبٌ كبير لدى كثير من أصحاب الاتجاهات السلفيّة في لبنان وفي المغرب العربي، وفي دول الخليج، وفي مواقع إسلامية ثقافية متعددة، وأعتقد أن الحوار بيني وبينك هو أحد ثمرات هذه الدعوة.


س: ذكرت أنه من الواجب على علماء الأمة النزول إلى العامة وتثقيفهم والبحث عن القواسم المشتركة، ألست معي في أن من اختطف حال التقارب وحولها إلى حال تباعد، عبر هذا التاريخ غير المشجّع بين السنّة والشيعة، هم المتطرفون من كلا الطرفين، الذين قدّموا لنا النصوص التي فيها كثير من التنافر، مع أن المشتركات بين الطرفين كثيرة، وأوّلها زواج عمر من أم كلثوم بنت الإمام علي(ع)؟ لماذا لا نركز على هذه الجوانب؟


ج: نحن نركز عليها، ولكننا نعيش حال تخلف عامّة، يقول تعالى: {تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} [البقرة:134]. أنقل لك رأي أحد مراجع الشيعة الإيرانيين الكبار، وهو المرجع الشيخ حسين البروجردي، أستاذ الإمام الخميني، يقول: "في الصراع الذي نعيشه كشيعة وسُنة، نجد أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ذهبوا كلهم إلى رحاب الله، عندما نتناقش حالياً عن الخليفة، ينبغي أن يكون نقاشنا علمياً، والبحث في ما يتوجب علينا؛ وهو هل نتّبع مدرسة الخلافة أو مدرسة الإمامة؟ وبذلك تصبح المسألة علمية.


لذلك نحن نقول: إذا أحسن القائمون على المؤتمرات الإسلامية إدارتها وإبعادها عن الجانب الاستعراضي، وأوجدوا حالة لقاء في هذا المجال، يمكن أن نقترب قليلاً من الوصول إلى بعض النتائج الإيجابية.    


إذا أحسن القائمون على المؤتمرات الإسلامية إدارتها وإبعادها عن الجانب الاستعراضييمكن أن نحصل على نتائج إيجابية


س: أشكر لك رؤيتك في إبراز خطأ التشاغل بمن هو الأفضل والأحق بالخلافة، وقولك: إنّ مسؤوليتنا ليست البحث في الماضي، وإنما استشراف المستقبل”. لكن ربما يعترض عليك أحد ويقول: المشكلة هنا فيما يتعلق بالجانب الشيعي، أن المسألة لم تتوقف عندهم على مجرد تفضيل، بل أضيف إلى ذلك عصمة وإمامة مستمرة إلى اليوم. وبناءً على هذه الإمامة، تم اعتماد مصادر جديدة للتشريع (أقوال الأئمة)، مقابل إسقاط مصادر أخرى (سنة النبي(ص) المروية من طريق الصحابة). فنحن لا نتحدث هنا عن مجرد تفضيل بين أبي بكر وعمر وعلي، بل عن انشقاق كبير في عمق الإسلام يتعلق بمصادره التشريعية.كيف ترد على هذا القول؟


ج: نحن نقول إن هذه المسألة تُدرس بطريقة علمية، وليس عن طريق تسجيل النقاط؛ فلو فرضنا أنّنا درسنا الأحاديث الواردة عن الأئمّة(ع)، لرأينا الكثير منها يتفق مع الأحاديث الكثيرة الواردة في كتب أهل السنة. وإذا كان الشيعة يرفضون ما ورد عند السنة مما يرونه صحيحاً، فإنّ السنّة في المقابل لا يرون ما يرويه الشيعة صحيحاً. أنا أعتبر أن هناك فرقاً بين واقع الإشاعات وواقع الإثارات الموجودة في الواقع الشعبي الذي يجب أن نعمل جميعاً من أجل إصلاحه. وهذا الذي يحكم الآن أحاديث البعض من أهل السنة، حتى العلماء منهم، في مقام تسجيل النقاط على الشيعة، أو ما ينطلق من الشيعة في ما يتحدّثون به عن أهل السنة كذلك.


س: من ترشح لمثل هذه الحوارات؟ وهل تؤيد أن تكون تحت مظلة سياسية؟


ج: لا، فإنّ المظلة السياسية تفسد هذه المؤتمرات.


س: ومن تقترح من علماء الشيعة وعلماء السُنة حتى نتخذ خ جادة؟


ج: علينا أن نبحث عن أشخاص يعيشون حالة الاعتدال والغيرة على الإسلام. أنا أزعم أن السنة والشيعة لا يعطون الإسلام حقه، فنحن عندما ننشغل بمسألة أحقية أبي بكر أو علي بالخلافة، تكون الفرصة مواتيةً لأمريكا للانفراد بالعالم، لأنّ الاستغراق في القضايا التفصيلية التي تبرز السلبيات، يمكِّن أمريكا من تحقيق طموحها في السيطرة على الواقع الإسلامي.


س: هذه الآراء العاقلة تجعلني أسألك: لماذا لا تتبنى أنت مشروعاً حقيقياً للتقارب، وتجعل بقية حياتك لهذا الغرض؟


ج: لقد بدأت الحوار منذ أمد بعيد، وأصدرت أول كتاب حول هذا الموضوع عام 1380هـ، هو (أسلوب الدعوة في القرآن)، وهو يتناول أسلوب الحوار الإسلامي ـ المسيحي، وكذلك كتاب (الحوار في القرآن)، تناولت فيه قضية الحوار الإسلامي ـ الإسلامي التي بدأت تؤتي بعض الثمار.


س: كيف يمكن أن تجتمع الأمة الإسلامية على كلمة سواء؟


ج: نقول لهم إنه حتى رسول الله(ص)، ونحن تراب أقدامه، لم يجمع العالم كله على الإسلام، ومع ذلك، فإن الله خاطبه بالقول: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} [الكهف:29].


وقال سبحانه له: {إنما أنت مذكِّر* لست عليهم بمسيطر} [الغاشية:21-22]. فنحن مسؤوليتنا أن نقتدي برسول الله(ص) في تبليغ كلمة الله كما نعتقدها، فمن كان معنا فجزاه الله خيراً فهو مع الحق، ومن لم يكن معنا فإننا نعتقد أنه لا يلتزم الحق في نظرنا.


أحمد الكاتب.. كتب في غير اختصاصه


س: الباحث الشيعي المعروف د. أحمد الكاتب، يذكر أنه كتب بحثه حول تطور الفكر السياسي الشيعي، وهو البحث الذي وصل فيه إلى نفي وجود المهدي المنتظر، وإلى نفي مبدأ الإمامة بمفهومها الشيعي. ويذكر أنه أرسل بحثه إلى المراجع، فلم يجبه أحد منهم. ما رأي السيد فضل الله في النتائج التي توصل إليها أحمد الكاتب؟


ج: أنا أعتقد أن الرجل كتب في غير اختصاصه.


س: لكن هل الفكر الشيعي يستوعب مثل هذا الاجتهاد؟


ج: ليست القضية هي أنّ الفكر الشيعي يستوعب أو لا يستوعب الاجتهاد في هذا المجال، فكل فكر يمكن أن يستوعب اجتهاداً، ولقد كان أصحاب الأئمة(ع) يقفون على إمام، فلا يرون إمامته ويلتزمون إماماً آخر، ولذلك فإنّ كثيراً ممن كانوا من أصحاب الأئمة، كانوا لا يلتزمون بمفهوم الإمامة الإثني عشرية، بل كانوا يقفون عند هذا الإمام فلا يرون إمامته، ويقفون عند ذاك الإمام فيرون إمامته، لذلك فمسألة الاجتهاد هي مسألة في حجم الإسلام كله.

    الاجتهاد مسألة في حجم الإسلام كلّه


س: الشيعي الذي يصل في اجتهاده وبحثه إلى نفي مبدأ الإمامة ونفي وجود الإمام المهدي(عج)، هل يقال إنه ارتكب ضلالةً، أو إنه مجتهد له رأيه الذي يجب احترامه؟


ج: نقول إنّه مسلم، ولكنّه ليس شيعياً.


س: سبق أن صرَّحت بأن الإمامة من المتحول وليست من الثابت، ولهذا يتهمكم بعض الشيعة بالتخلي عن ضرورة من ضرورات المذهب؟


ج: أنا قلت إنها من المتحول، بمعنى أنّها من القضايا القابلة للاجتهاد إسلاميّاً، بحيث إن البعض قد يؤمن بها والبعض الآخر قد لا يؤمن بها، وليست من الثوابت كالتوحيد والنبوة والمعاد. وقد كنت في مقام تحرير محل النزاع بين المسلمين.


أجراها: عبدالعزيز محمد قاسم


مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 05 ربيع الأول 1429 هـ  الموافق: 13/03/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية