الدين والحياة "مكاشفات"...
السيد محمد حسين فضل الله في ثالث مكاشفاته:
عندما تُدرَّس الوهابية كنظرية إسلامية سنجد ما نلتقي عليه
س: سأبدأ هذه الحلقة بمحور رئيس وفاصل حيال موضوع الاختلاف بين السنة والشيعة، وقصدت به موضوع لعن صحابة رسول الله(ص). ما هو موقفكم من لعن الصحابة الكرام، بمن فيهم أبو بكر وعمر وعائشة (رضوان الله عليهم)؟
ج: أنا شخصياً أحرِّم سبّ أي صحابي، لأن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الصحابة بقوله تعالى: {
محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركَّعاً سجَّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} [الفتح:29]، وإن كان لنا رأي في مسألة الإمامة والخلافة، أما في مسألة السبّ، فقد قلت إن هذا يحرم على أي مسلم، وأنا أسجل هذا في كل استفتاء يأتيني، بأنه يحرم سبّ أي صحابي بمن فيهم الخلفاء الراشدون. وأنا أنقل كلمة عن الإمام علي(ع) عندما كان في طريقه إلى صفين، وسمع قوماً من أهل العراق يسبون أهل الشام، فقال لهم: "إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إياهم: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيِّ والعدوان من لهج به". وهذا النص موجود في نهج البلاغة.
أنا أحرّم سبّ أي صحابي بمن فيهم الخلفاء الراشدون
وفي هذا المجال، أحب أن أتحدّث عن أسلوب الإمام علي(ع) في تعامله مع الخلفاء، الذين يعتقد الشيعة أنهم هم الذين نازعوه حقه، ففي كتابه لأهل مصر قال: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به علي أعظم من فوت ولايتكم التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشّع السحاب، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه".
لذلك نحن نتعاطى مع الخلفاء في مسألة الخلافة كما تعاطى الإمام علي بن أبي طالب(ع) الذي كان منفتحاً عليهم وكان يعاونهم ويشير عليهم بكل ما فيه مصلحة لهم. وهناك حديث عن الإمام جعفر الصادق(ع) يخاطب فيه بعض المسلمين من الشيعة: "ما أيسر ما رضي الناس منكم، كفوا ألسنتكم عنهم". أما أمهات المؤمنين، فنحن نحرّم سبهنّ، ونقول إنّه لا بد من إكرامهنّ إكراماً لرسول الله(ص)، وأنا أنقل بيتاً من قصيدة لأحد علمائنا المتوفى قبل مئة سنة، واسمه السيد محمد باقر حجة الإسلام. يقول:
فيا حميـراً سبّك محرّمُ لأجل عينٍ ألف عين تكرمُ
لذلك نحن نحرِّم سبّ أمهات المؤمنين والإساءة إليهن، كما نحرِّم سب الصحابة، وقد أصدرنا فتوى في ذلك انتشرت في العالم.
معارضة في الأصل أم مراعاة؟!
س: هل هذا الموقف نابع من معارضتك لمبدأ السبّ، أم أنه مراعاة لمشاعر أهل السنة، أم أنه نابع من إيمانك وقناعتك بعلو مكانة هؤلاء الصحابة؟
ج: هذا ينبع من الخط الإسلامي الأصيل الذي نؤمن به، وهو أنه لا يجوز سبّ أي مسلم، ولاسيما إذا كان صحابياً، لأن السبّ يمثل انحرافاً عن الخط الإسلامي الأصيل.
الحوار بشكل مباشر يؤدي إلى جوٍّ حميم بين المتحاورين ويقرِّب المسألة بينهم من الناحية النفسية والعقلية والفكرية
س: ولكننا حين نتحدث مع عقلاء الشيعة عن مسألة سبّ الصحابة، يقولون: هذا موقف للغلاة من أهل مذهبنا، وليس موقفاً للمذهب نفسه، لكن الإشكال هو أننا نجد الازدراء بالصحابة في مصنفات أركان المذهب الكبار، كالمفيد والمرتضى والطوسي وابن طاووس والحلي وغيرهم، بل نجد في جميع كتب العقائد الشيعية أن الإيمان الموجب لدخول الجنة لا يصح دون الإيمان بإمامة علي وعصمته، ومقتضى هذا نفي الإيمان الحقيقي عن أبي بكر وعمر وعثمان ومن دونهم. فهل يمكن اعتبار أولئك الكبار من الغلاة؟
ج: من الطبيعي أنّ التراكمات التاريخية والتفاعلات النفسية الشخصية قد تركت تأثيراً سلبياً في مسألة النظرة إلى الخلفاء، انطلاقاً مما يعتبره الشيعة مسألة ظلامة لأهل البيت(ع). فنحن نتصور أن المسألة تتحرك من خلال هذه التراكمات التاريخية والتفاعلات الشخصية، وكما نجد أن هناك بعض الشيعة يبررون السب واللعن، نجد أيضاً أن هناك بعض إخواننا من أهل السنة يكفِّرون الشيعة، حتى إنني سمعت من بعضهم أن اليهود والنصارى أفضل من الشيعة، لأن اليهود والنصارى أهل كتاب والشيعة من المشركين. هناك تراكمات لا بد لنا من معالجتها.
ولذلك أنا كنت أقول إن دعوتي إلى الحوار الإسلامي ـ الإسلامي تنطلق من أننا نستطيع أن نصحِّح الأخطاء وأن نزيل التعقيدات الموجودة لدى هذا المذهب أو ذاك من خلال الحوار، لأنّ الحوار بشكل مباشر يؤدِّي إلى جوٍّ حميم بين المتحاورين ويقرب المسألة بينهم من الناحية النفسية والعقلية والفكرية.
س: أنا أتصوّر أن العائق الأساس بين السنة والشيعة في مسألة التقريب، هي التصورات والانطباعات التي يحملها الشيعة عن الصحابة الكرام. وأنا بصفتي سنياً معظِّماً لمقام أولئك الكرام، وعارفاً بقدرهم في دين الإسلام، أجد صعوبةً شديدةً في قبول من يتبنى مثل هذا الشتم والسبّ. للتو قلت أنت عن الصحابة إنك لا تسبهم، ثم قلت: "لكننا عندما نتحدث عن مسألة الإمامة والخلافة، فلنا رأي فيها معروف". هذا الرأي المعروف، هل يقتضي أنهم غادرون أو متآمرون ـ عياذاً بالله ـ جاحدون لعهد النبي(ص)، وأنهم طلاب زعامة ومفترون على دين الإسلام بإنكار مبدأ الإمامة الكبير الذي عهد به النبي(ص) إليهم؟ وما رأيك لو سمعت من يسم علياً(ع) بمثل هذا؟
ج: أنا لا أوافق، في الجدل العلمي، أن يُتحدث عن بعض المصطلحات المثيرة في هذا المجال. إن مسألة الشرعية وعدم الشرعية تخضع لجدلٍ علمي موضوعي؛ هل إن هؤلاء يملكون الشرعية أم لا ؟ أمّا لماذا أخذوا الخلافة؛ فربّما كان هناك بعض الآراء التي ترى شرعية ذلك، وبعضها لا يرى ذلك. أنا أعتقد أن الحديث عن هذه المصطلحات المثيرة لا يُراد بها إلا الإثارة والبعد عن اللغة العلمية. وأما ما ذكرته أخيراً عن وسم عليّ(ع)، بمثل ما ذكر في السؤال، فما نقوم به هو أن نردّ على من يقول ذلك، ولكنّنا لا نكفّره.
س: هلا تكرَّمت بذكر أسماء لعلماء شيعة كبار متقدمين ومتأخرين تخلو تقريراتهم من الوقيعة في الصحابة الكرام، كي نستشهد بها من جهة لمن يسبون الصحابة، وكي نشهرها من جهة أخرى تجاه من يرفضون التقارب من السنة؟
ج: أنا لا أتحدّث عن أسماء، بل عن مبادئ. ونحن عندما نقرأ كتاب المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين، أو كتب السيد محسن الأمين، أو السيد مرتضى العسكري، فإننا نجد أنّهم ينطلقون بلغة علمية سليمة.
تجاوز هذه المرحلة
س: العقلاء في الطائفتين يتساءلون: هل يوجد ما يمنع من تجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة متقدِّمة، وهي سعيك إلى نشر فضائل هؤلاء الصحابة بين الشيعة، وبيان مقامهم في دين الإسلام، لرتق خرق أصاب الأمة بسببها، وخطوة جادة وهامة لتحقيق التقارب المنشود بين طائفتي الأمة؟
ج: إنني أعتقد أن مثل هذا لن يحل المشكلة، بل إنّ حل المشكلة هو بأن ننطلق من القاعدة الإسلامية التي تجمع المسلمين في الخطوط العقيدية الأساسية والخطوط العامة، عندها من الممكن جداً الدخول في التفاصيل، وهذا ما نتعلّمه من الإمام علي(ع) في نهج البلاغة، فقد أبَّن الخليفة عمر بن الخطاب، وأبَّن طلحة والزبير اللذين خرجا لحربه، وأشار على عمر بعدم الشخوص بنفسه لقتال الفرس عندما استشاره في ذلك. وهذا كله موجود في نهج البلاغة، لكن الكثيرين لا يقرأون.
التشكيك في حادثة الضلع
س: ثمة آراء وسطية عديدة خالفت فيها حتى أركان المذهب، وسأناقشك في بعضها، ولربما كانت حادثة الضلع أبرزها، فقد كان لكم رأي تاريخي، ربما غير مسبوق في تاريخ الشيعة، حيال الرواية المزعومة حول تعدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على فاطمة الزهراء (رضي الله عنهم أجمعين) وكسره لضلعها. بودنا معرفة أدلتك التي استندت إليها لتفنيد هذا القول؟
ج: كنت أناقش القضية من ناحية السرد التاريخي والتحليل التاريخي، أما من ناحية السند التاريخي، فإن الروايات التي رويت كانت أغلبها ضعيفة ولا يمكن الاعتماد عليها، لأنها ليست موثوقة. وإننا عندما ندرس المسألة نتساءل: أولاً ما هي الظروف التي فرضت على الخليفة ـ على تقدير صحة الرواية ـ أن يتجه إلى الزهراء(ع) ليضطهدها أو يضربها أو يكسر ضلعها، علماً أنها لم تكن مقصودةً بالموقف الذي انطلق به للضغط على المعارضة ـ كما نعبّر هذه الأيام ـ كما أن الزهراء كانت محل تقدير كل المسلمين، لأنها بنت رسول الله(ص)، لذلك نتساءل: ما هي المناسبة لفعل ذلك؟
ثانياً: لقد كان الإمام علي بن أبي طالب(ع) موجوداً في البيت، وليس من الطبيعي في مثل هذه الحال أن يبقى هادئاً وهناك من يحاول أن يقتل زوجته، وعلي هو بطل الإسلام الأول، والزهراء(ع) بنت رسول الله(ص) عنده.
ثالثاً: إن علياً(ع) لم يكن وحده في البيت، بل كان معه الكثير من بني هاشم، حتى إن الزبير كان معهم، وفي بعض الروايات أنّه خرج مسلطاً سيفه وكسروا سيفه خارج البيت.
وهناك نقطة أخرى، وهي أن هناك رواية في كتاب الاحتجاج للطبرسي صاحب كتاب (مجمع البيان)، أن الخليفة عمر سئل: لماذا هددت بإحراق بيت علي والزهراء(ع)؟ قال: أتراني فعلت ذلك؟! بمعنى أن المسألة كانت تهديداً. لذلك هذه من المسائل التي لو درسناها دراسةً تحليليةً، لما وجدنا مناسبة. ثم إن الزهراء(ع) لم تتحدث عن هذا الموضوع مطلقاً، وقد جاءها نساء يعدنها، كما أنها حسب بعض الروايات كانت تجول على جموع المهاجرين والأنصار وتتحدث عن حق علي(ع)، وفي خطبتها في المسجد لم تتحدث عن ذلك، مع أن هذا يثير العاطفة أكثر، كما أن علياً لم يتحدث عنها.
التعدي على الزهراء(ع) أمر يثير العاطفة، لذلك فإني أجد أن هذه المسألة لا تخضع للرواية الموثوقة ولا للتحليل التاريخي
وقد يقال إن علياً كان له حكم آخر مع الصحابة، لكن التعدي على الزهراء(ع) هو أمرٌ يثير العاطفة في أعلى مستوى. ولذلك، فإنني أجد أن هذه المسألة لا تخضع للرواية الموثوقة من جهة، كما أنها لا تخضع للتحليل التاريخي من جهة أخرى. وقد سألت كثيراً من الناس الذين يؤكدون هذه المسألة، وقلت لهم: لو أن أحداً هجم على زوجتك لقتلها ماذا تفعل؟ هل تدافع عنها أم لا؟ فإذا كان من الطبيعي لأيّ شخص أن يدافع عن زوجته ضدّ من يحاول الاعتداء عليها، فكيف لا يدافع علي أسد الإسلام عنها؟! ولذلك أنا قلت إن المسألة بالنسبة إلي ليست محل وثاقة.
س: المتابعون لكم من باحثي السنة وعلمائهم، احتفوا بهذا الاعتدال والموضوعية منكم، لكنهم في الحقيقة مندهشون لأنكم لم تقدموا حكماً واضحاً تجاه الموضوع، فهل القصة مختلقة في نظركم أم لا؟ أنت في حديثك الآن شكَّكت في الرواية لكنّك لم تنفها.
ج: هناك نقطة، وهي أن الخليفة عمر هدد بإحراق البيت، وهذا ما ذكره ابن قتيبة، وهناك روايات تقول إن علياً(ع) لم يخرج للبيعة بعد أن رأى الدخان يتسع كأنه في بيته، وحتى إن حافظ إبراهيم في قصيدته العمرية قال:
وقولـةٌ لعلـيٍّ قالهـا عمـر أكرم بسامعهـا أعظـم بملقيهـا
حرَّقت دارك لا أبقي عليك بها إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها
ما كان غير أبي حفص يفوه بها أمام فـارس عدنـان وحاميهـا
لذلك فهناك بعض التهاويل التي تتحدث عن هذه المسألة بطريقة أو بأخرى، وأنا لم تكن المسألة عندي تحقيقية، وإنما طرحتها كفكرة.
وقفات حول الإمامة
س: يعتبر الشيعة الإمامية أن الإمامة أصل شرعي يعادل أركان الإسلام، فما تفسيركم لخلوّ القرآن الكريم من نصٍّ صريح وواضح لهذا الأصل؟
ج: لقد جرى الاستدلال على هذا الأصل بالقرآن الكريم، وذلك بما جاء في قوله تعالى: {
إنما وليُّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون} [المائدة:55]، حيث فسِّرت بالإمام علي(ع)، وبأنه ولي الله تماماً كولاية الرسول(ص). هناك جدل إسلامي حول دلالات بعض الآيات القرآنية، كما في قوله تعالى: {
وكفى الله المؤمنين القتال} [الأحزاب:25]، حيث فسّرها الشيعة بعلي(ع)، وأيضاً كقوله: {
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة:67]، فان الروايات الشيعية وبعض روايات أهل السنة تفسرها بعلي، فهناك جدل في قضية دلالات بعض الآيات على مسألة الولاية للإمام علي(ع)، بين من يؤمن بها، وهم الشيعة، ومن لا يؤمن بها.
ونحن نعتقد أن علينا أن نواكب كل التفسيرات القرآنية، سواء ما ورد في تفاسير أهل السنة أو تفاسير الشيعة، ونحن أكدنا بالصوت العالي، أن أصول الدين ثلاثة وليست خمسة، وهي التوحيد والنبوة والمعاد، فمن أنكر واحدة منها كان كافراً، ومن آمن بها كان مسلماً، وأما بالنسبة إلى العدل، فهو نظرية كلامية يختلف فيها المعتزلة مع الإمامية من جهة، ومع الأشاعرة من جهة أخرى، في قضية الحسن والقبح العقليين، وأما الإمامة، فهي محل جدل بين المسلمين بدأ منذ وفاة رسول الله وحتى الآن، ولم يصلوا إلى نتيجة قاطعة بين المسلمين عموماً، وإنّما اعتقدت بها فئة منهم، وهم الإمامية.
عندما نتحدث عن شرعية الإمامة لعلي(ع)، نعتمد في ذلك على أحاديث الرسول(ص) والتي نجد بعضها في كتب أهل السنة
س: أنت في جوابك هنا لم تثبت أو تنف وجود نصٍ صريح، كنصوص الصلاة والصيام والزكاة. السؤال: لماذا لا نجد نصّاً صريحاً واضحاً يقطع النـزاع، كما هو الحال بالنسبة إلى الصلاة والصيام والزكاة والحج؟ هل توافق على أنه لا يوجد في القرآن أي دلالة صريحة على ذلك؟
ج: نحن نقول: ليس هناك دلالة في القرآن على أعداد الصلوات، وعلى مواقيتها بشكل تفصيلي، وعلى كل تفاصيل الحجّ والصيام والزكاة وغير ذلك؛ ولكنّ القرآن يقول: {
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر:7]. ولهذا، فإننا عندما نتحدث عن شرعية الإمامة لعلي(ع)، نعتمد في ذلك على أحاديث الرسول(ص)، والتي نجد بعضها في صحيح مسلم والبخاري ومستدرك الحاكم وغيرها من كتب أهل السنة، إضافة إلى كثرة هذه الأحاديث في كتب الشيعة. لهذا ليس كلّ شيء شرعي في الإسلام موجوداً بتفاصيله في القرآن.
س: ما قدَّمته من نقد عقلاني رائع لحادثة الاعتداء على فاطمة الزهراء(ع)، يجعل رجلاً محباً مثلي يتساءل: ألا يمكن أن يمارس فضل الله هذا النقد نفسه لمبدأ الإمامة الذي يخلو القرآن من ذكر صريح له مع افتراض عظم موقعه في الدين، والذي يتنافى مع ما ثبت تاريخياً عن الأجلاء من أصحاب النبي(ص) من صدق الديانة، والزهد في الدنيا، والجهاد، والبذل، والإنفاق في سبيل الله، حتى استحقوا ثناء الله عليهم في كتابه بنصوص أوضح، وأكثر صراحةً من نصوص الإمامة؟
ج: إنّ الله تحدّث عن الصحابة بشكل عام، ولم يتحدث عن أسماء، هذا أوّلاً. وثانياً: إن مثل هذه القضية كانت محل جدل، فنحن نعرف أن بعض رواة السنة يتحدث عن أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد هدد بإحراق بيت عليّ وفاطمة(ع)، وقالوا له: إن فيها فاطمة، قال: وإنْ! ويروي أهل السنة أنّ أبا بكر وعمر جاءا يسترضيان الزهراء(ع) في مرضها. فنحن نقول إنّ هذه قضية تاريخية لا بد من أن ندرسها وفق الأسس التاريخية. وأنا عندما أعطيت رأيي، فإنّي أعطيته من خلال طبيعة القواعد التاريخية التي تشكّك في حصول هذا.
الحوار الإسلامي ـ الإسلامي
س: بخصوص التقارب الإسلامي ـ الإسلامي، هل يمكن أن تحدد لي مواطن الخلاف بين السنة والشيعة من وجهة نظركم؟
ج: إنّ أساس الخلاف هو مسألة الإمامة والخلافة، فالشيعة يعتقدون أن الإمامة بنص الله ورسوله هي للإمام علي(ع)، ثم تمتد إلى بقية الأئمة، أما السنة، فإنهم يعتقدون أن الخلافة كانت لأبي بكر ثم لعمر ثم لعثمان ثم لعلي، ثم تمتد المواقف في مسألة الخلافة لبني العباس أو لبني أمية، إضافةً إلى الجدل الفقهي، كما أن هناك مسائل دخلت من خلال هذا الخط، كما هي مسألة الخلاف بين الأشاعرة والعدلية المعتزلة والإمامية في قضية الحسن والقبح، وأنّه هل يحكم العقل في قضية الحسن والقبح أو لا يحكم، فالإمامية والمعتزلة يقولون إن العقل الذي رزقنا الله إياه يحكم بالحسن والقبح على نحو القطع، بينما لا يقول الأشاعرة ذلك، وهناك مثل بعض الجهات تأخذ بالظواهر القرآنية، كما في قوله تعالى: {
كل شيء هالك إلا وجهه} [القصص:88]، {بل يداه مبسوطتان} [المائدة:64]... بينما يرى المسلمون الشيعة أن الله سبحانه وتعالى ليس جسماً كالأجسام، وأن ما ورد من قبيل ذكر اليد والوجه، هو على نحو الكناية والاستعارة.
س: هل هذا اختزال للخلاف؟ وهل أنّ قضية سبّ الصحابة، ومصحف فاطمة، وجملة من المسائل المختلف فيها ربما يصل بعضها إلى مستوى العقيدة، هو نتيجة هذا الخلاف؟
ج: لقد تحدثنا عن ذلك في حوارنا، وقلنا إنّه لا بد من معالجة هذه المسائل بطريقة الحوار الموضوعي الهادئ، وفي إطار الوحدة الإسلامية، لأن طريقة المواجهة والعنف الكلامي، خصوصاً التكفير، هي من المسائل التي لا تؤدِّي إلى نتيجة. فهناك نقاط لا تزال محلَّ جدل حتى بين السنة أنفسهم، ومنها مسألة زيارة القبور، حيث يرى بعض علماء السنة أنها تمثل شركاً، باعتبار أنّ فيها لجوءاً إلى غير الله، ونحن نقول إننا نرفض كل ما فيه استعانة بغير الله بشكل مباشر، كما أننا نؤكد أنّه ليس لنا أن نتوجه إلى أي نبي أو إمام بالطلب منه أن يقضي حوائجنا، لأن الله وحده الرزاق الذي يقضي الحوائج، ولأن الأنبياء والأئمة يطلبون من الله أن يقضي حوائجهم، ونحن أيضاً لا نرى أن الله سبحانه وتعالى أعطى الولاية التكوينية، لهم وهذا أمر اجتهادي، بل إن الأنبياء يمثلون الخط الرسالي {
يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً} [الأحزاب:46]. ونحن نعتقد أيضاً أن النبي والأئمة لا يعلمون الغيب.
مسألة توثيق أيّ حديث وارد عن رسول الله تخضع للموازين العلمية التي لا بد فيها من مناقشة السند
ولكننا نقول لإخواننا من أهل السنة، إنكم، في مسألة زيارة القبور، اعتمدتم على أحاديث واردة عن رسول الله، بحيث اعتبرتم أن من لا يلتزم بذلك مخالف لرسول الله. ونحن نقول إن قضية توثيق أي حديث وارد عن رسول الله تخضع للموازين العلمية التي لا بد فيها من مناقشة السند، فإذا كنت أنت تفهم من الحديث شيئاً وأنا أفهم شيئاً، فلا يجوز لك أن تعتبرني مخالفاً لرسول الله، وإذا كنت ترى وثاقة حديث وأنا لا أرى وثاقته، فلا يجوز أن تعتبرني مخالفاً لرسول الله. المسألة لا بد من أن تنطلق من رؤية علمية في هذا المجال.
س: أود تصحيح فقرة في إجابتك الآن، فقد ذكرت أن من أهل السنة من يعتبر زيارة القبور شركاً!! وأنا لا أتذكر، بحسب علمي، أنه يوجد سني واحد يقول بهذا، بل إن أهل السنة متفقون على مشروعية زيارة القبور واستحبابها!
ج: نحن نرحّب بذلك؛ ولكنّهم يعتبرون قضية التوسل غير مشروعة، ويعتبرون أن الزيارة في المدينة المنوّرة هي للمسجد النبوي، وليست للنبيّ(ص)؛ لأنهم يرفضون ذلك. وعلى كل حال، فالخلاف هو مسألة التوسل بهم، فقد يعتبرها البعض شركاً وقد لا يعتبرها البعض كذلك. وهذه المسألة لا تخص الشيعة، فهناك من السنة من يتوسّل بالأنبياء والأولياء.
ا
لأئمة ومعرفة الغيب
س: ما رأيك في ما يقوله ويعتقده الشيعة بأن الإمام يعلم الغيب، ويعلم ما في السموات والأرض والجنة والنار وما في ضمائر الرجال وأصلابهم؟
ج: نحن نقول إن الله نفى علم الغيب عن كل إنسان، إلا فيما يتعلق بموقعه، كما في قوله تعالى: {
عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً* إلا من ارتضى من رسول} [الجنّ:26-27]، وذلك في ما يتعلق برسالته أو بحمايته، وقد قال النبيّ(ص) كما جاء في قوله تعالى: {
ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء} [الأعراف:188]، {
ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع ما يوحي إلي} [الأنعام:50]. إن الله لم يعط علم الغيب ولا الولاية التكوينية لأحد من خلقه، بل إنه يعطي أنبياءه بعض الغيب الذي يحتاجونه في رسالاتهم، فيمنحهم بعض معلومات الغيب، لا أنه يجعل في تكوين النبي قوة علم الغيب في نفسه بشكل مستقل.
س: سأعترض هنا وأسوق لك ما كتبه صاحب كتاب (الكافي)، فقد بوّب أبوابا منها: "أن الأئمة يعلمون علم ما كان وما يكون، وأنه لا يخفى عليهم شيء" وباب "أن الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا" وغيره. بماذا تعلّق؟
ج: نحن نقول إن (الكافي) من كتب الأحاديث، فيه الصحيح وفيه الضعيف، حتى إن المجلسي عندما شرح الكافي في كتاب "مرآة العقول" قال: لم يصح عندي من الكافي إلا خمسة آلاف حديث ونيف.
ا
لولاية التكوينية للأئمة
س: في موضوع الولاية التكوينية، يقول الخميني في كتابه (الحكومة الإسلاميّة ص52)، "وثبوت الولاية التكوينية للإمام لا يعني تجرّده من منـزلته التي هي له عند الله، ولا يجعله مثل من عداه من الحكام، فإن للإمام مقاماً محموداً ودرجةً ساميةً وخلافةً تكوينيّةً تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون". بودّي سماع تعليقك؟
ج: إن البعض قد يعتمد على بعض الأحاديث والنصوص الواردة عن الأئمة(ع) أو عن النبي(ص) مما لا نؤمن بصحته أو بدلالته.
في عقيدتنا أن النبوّة تعلو كل موقع آخر
س: يقول الشيعة إن الأئمة(ع) هم أفضل من الأنبياء، وهناك قول مشهور يقوله الخميني: "لأئمتنا منزلة لا يبلغها ملك مقرَّب ولا نبي مرسل".
ج: نحن صرحنا في تفسير القرآن وفي أجوبتنا الفقهية، أنه لم يثبت عندنا أن الأئمة أفضل من الأنبياء، بل إن النبوة تعلو كل موقع آخر، هذه عقيدتنا، وهذا اجتهادنا.
س: إسمح لي أن أعبر عمّا يجول في خاطري، فأنا إزاء عالم سلفي من مدرسة الإمام محمد بن عبدالوهاب، وليس أمام مرجعية شيعية.
(مبتسماً) أنا أقول إنه عندما تدرس (الوهابية) كنظرية إسلامية في الاجتهاد الإسلامي من ناحية فكرية، وتدرس الجانب الآخر، يمكن أن تجد أن ما نلتقي عليه أكثر مما نختلف فيه، خصوصاً أن الله دعا أهل الكتاب إلى كلمة سواء، فلماذا لا ندعو أهل الإسلام إلى كلمة سواء؟
نحن نؤمن بالحوار الإسلامي ـ الإسلامي، والحوار الإسلامي ـ المسيحي، والحوار الإسلامي ـ العلماني، ونعتقد أن الحوار هو الوسيلة التي تمكن الناس من أن يفهموا بعضهم بعضاً، فقد نجد أنّ بعض الناس يحكمون على الآخر من خلال ما يفكرون فيه، ونحن علينا أن نحكم على الآخر بحسب ما هو.
أجراها: عبدالعزيز محمد قاسم
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 28 صفر 1429 هـ الموافق: 06/03/2008 م