بيان حول تسييس القضاء الدولي

بيان حول تسييس القضاء الدولي

حذّر من أنّ الذهنية السياسية المتحكّمة بالمعطيات القضائية تفتح نافذة للحرب وتغلق نوافذ السلم الأهلي
فضل الله: الأمم المتحدة خاضعة لأمريكا وتأخذ دليلها من الطيران الإسرائيلي المستبيح للأجواء اللبنانية

أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بياناً حذّر فيه من إخضاع القضاء الدولية لهيمنة بعض الدول، جاء فيه:

تطغى على العالم اليوم ذهنية إصدار الأحكام على الأفراد أو الجماعات أو الدول على أساس الدوافع السياسية التي لا تنطلق من الواقع غالباً، وإنما تنطلق من خلال الخطوط السياسية التي يخضع لها هذا الفريق أو ذاك، سواء من خلال الخطط العسكرية التي يحرّكها في الواقع، أو الاقتصادية أو الأمنية أو ما أشبه ذلك. وذلك بعيداً عن المعطيات القضائية التي ترتكز عليها الذهنية القضائية التي تنطلق من خلال الأدلة والبراهين والقرائن المحيطة.

وإننا نستطيع أن نلاحظ أن هذه الذهنية السياسية باتت تُلقي بظلالها على مجمل حركة السياسة الدولية، في مستوى العالم كلّه، وأصبحت تمثّل الخطر الكبير على مصير كثير من الدول والشعوب. وباتت تتحكّم بالحركة السياسية الداخلية لأكثر من دولة، بما يجعل من تبعيتها لحركة الوصاية الدولية أمراً محسوماً، ويدخلها في المتاهات التي تؤكد السير في الخط المعاكس للعدالة، الأمر الذي قد يفتح نافذة فيها على الحرب ويغلق نوافذ السلام الأهلي في داخلها.

إننا نلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية اتّهمت العراق أنه يملك أسلحة الدمار الشامل، لا على أساس وجود أدلّة واقعية، بل لإيجاد مبرّر لشنّ الحرب عليه واحتلاله، تنفيذاً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وهذا ما نلاحظه في موقفها من إيران، في اتهامها بالسعي لصنع القنبلة الذريّة، مع أنه لا يوجد أيّ دليل على ذلك.

وهذا ما نجده في المسألة الفلسطينية؛ كيف أن أمريكا تحاول اتهام الفلسطينيين الذين يعملون من أجل تحرير بلدهم من الاحتلال، بالإرهاب. كما أن الأسلوب الذي أديرت فيه المسألة السياسية تجاه الأحداث الأخيرة في غزّة والقطاع، ينطلق من الذهنية التي لا تحاول أن تتلمّس حقيقة ما جرى، ولو على مستوى قرار الجامعة العربية في تقصّي الحقائق، بل وجدنا أنّ كثيراً من الجهات الفلسطينية وبعض الدول العربية انطلقت من دون تدقيق لتتخذ موقفاً مع فريقٍ ضد فريق آخر.

والشيء نفسه ينسحب على الواقع اللبناني، في تعقيداته السياسية، والتي توزّع فيها الاتهامات على جهةٍ جزافاً، وتُنفي ـ على سبيل المثال ـ عن إسرائيل في شكلٍ مطلق، مع أننا نعرف أن إسرائيل التي احتلّت لبنان في العام 1982 لا تريد للبنان أن يستقرّ على كل المستويات. إضافةً إلى إقحام المسائل السياسية والنفسية في المسائل القضائية الكبرى، بما يكبّل الحقيقة ويعيق حركة العدالة ويفسح في المجال للكثير من التساؤلات حول التضحية بما تبقّى من أرصدة حقوقية وقانونية على مذبح المصالح السياسية الذاتية المدمّرة للبلد.

كما أننا نلاحظ أن الأمم المتحدة التي تمثّل أعلى سلطة في العالم لحفظ السلام العالمي ومنع امتداد الأزمات، يُفترض أن تلجأ، في مجمل القضايا التي تشكّل موضع نزاع في العالم، فضلاً عن القضايا ذات البعد القضائي أو الجنائي، إلى الوقائع والحقائق في حكمها على هذه الدولة أو تلك، أو في إصدارها لهذا القرار أو ذاك، بينما رأينا هذه المنظّمة العالمية ـ في كثير من النماذج ـ لا تأخذ في الاعتبار حاجات الدول والشعوب الواقعية بقدر ما تراعي المصالح السياسية للدول المهيمنة على الأمم المتحدة، وقد بات ذلك واضحاً، سواء من خلال ما تعاملت به الأمم المتحدة مع المسألة العراقية ومسألة دارفور، وصولاً إلى المسألة اللبنانية، حيث لا يأخذ بعض المسؤولين الدوليين شيئاً من الحياء عندما يقدمون الصور الإسرائيلية كدليل على دخول السلاح إلى لبنان، في الوقت الذي يأخذ السلاح الإسرائيلي المعادي، وخصوصاً السلاح الجويّ حريّته في استباحة الأجواء اللبنانية من دون أن تتحرك الأمم المتحدة في شكل حاسم، للاعتراض أو لإيقاف هذا العدوان اليومي على دولة ـ من دولها ـ ذات سيادة.

إن الخطورة تكمن في أن حركة القضاء الدولي باتت خاضعة لهيمنة الدول المتحكمة بالأمم المتحدة وبالعالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث بات من يُفترض أن يقدموا للمحاكمة كمجرمي حرب، ومن بينهم رئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، يحصلون على مكافآت بتعيينهم كمبعوثين للسلام، فيما تقتضي أبسط قواعد العدالة أن يساقوا إلى السجون، بالنظر إلى ما تسببوا به من مآسٍ في حقّ البشرية وفي حق شعوبنا على وجه التحديد في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان.

إن الكارثة تكمن في أن تغليب الذهنية السياسية في الاتهامات، من شأنه أن يجعل المجرم حراً في متابعة جرائمه، فهو سيسمح له باللعب على الأوضاع والتعقيدات السياسية المتنوّعة من دون أن يتحرّك المسؤولون إلى معالجة الجريمة من خلال المعطيات والأدلة والبراهين.

كما أنّ من شأن هذه الذهنية أن توجد مناخات موبوءة تؤثّر على حركة القضاء نفسه، من خلال العلاقة التي تربط بين السلطة السياسية والقضائية، ما قد يجعل بعض الأفراد ينساقون إلى المنطق السياسي السائد خشية أن يدفعوا الثمن من حياتهم أو مستقبلهم المهني، بسبب ضعف الغطاء السياسي لاستقلالية القضاء، والذي لا يمكن للقضاء أن يأخذ دوره القويّ من دونه.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 التاريخ: 15 جمادى الثانية  1428هـ  الموافق: 01 / 7 / 2007م

"المكتب الإعلامي"

حذّر من أنّ الذهنية السياسية المتحكّمة بالمعطيات القضائية تفتح نافذة للحرب وتغلق نوافذ السلم الأهلي
فضل الله: الأمم المتحدة خاضعة لأمريكا وتأخذ دليلها من الطيران الإسرائيلي المستبيح للأجواء اللبنانية

أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بياناً حذّر فيه من إخضاع القضاء الدولية لهيمنة بعض الدول، جاء فيه:

تطغى على العالم اليوم ذهنية إصدار الأحكام على الأفراد أو الجماعات أو الدول على أساس الدوافع السياسية التي لا تنطلق من الواقع غالباً، وإنما تنطلق من خلال الخطوط السياسية التي يخضع لها هذا الفريق أو ذاك، سواء من خلال الخطط العسكرية التي يحرّكها في الواقع، أو الاقتصادية أو الأمنية أو ما أشبه ذلك. وذلك بعيداً عن المعطيات القضائية التي ترتكز عليها الذهنية القضائية التي تنطلق من خلال الأدلة والبراهين والقرائن المحيطة.

وإننا نستطيع أن نلاحظ أن هذه الذهنية السياسية باتت تُلقي بظلالها على مجمل حركة السياسة الدولية، في مستوى العالم كلّه، وأصبحت تمثّل الخطر الكبير على مصير كثير من الدول والشعوب. وباتت تتحكّم بالحركة السياسية الداخلية لأكثر من دولة، بما يجعل من تبعيتها لحركة الوصاية الدولية أمراً محسوماً، ويدخلها في المتاهات التي تؤكد السير في الخط المعاكس للعدالة، الأمر الذي قد يفتح نافذة فيها على الحرب ويغلق نوافذ السلام الأهلي في داخلها.

إننا نلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية اتّهمت العراق أنه يملك أسلحة الدمار الشامل، لا على أساس وجود أدلّة واقعية، بل لإيجاد مبرّر لشنّ الحرب عليه واحتلاله، تنفيذاً لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وهذا ما نلاحظه في موقفها من إيران، في اتهامها بالسعي لصنع القنبلة الذريّة، مع أنه لا يوجد أيّ دليل على ذلك.

وهذا ما نجده في المسألة الفلسطينية؛ كيف أن أمريكا تحاول اتهام الفلسطينيين الذين يعملون من أجل تحرير بلدهم من الاحتلال، بالإرهاب. كما أن الأسلوب الذي أديرت فيه المسألة السياسية تجاه الأحداث الأخيرة في غزّة والقطاع، ينطلق من الذهنية التي لا تحاول أن تتلمّس حقيقة ما جرى، ولو على مستوى قرار الجامعة العربية في تقصّي الحقائق، بل وجدنا أنّ كثيراً من الجهات الفلسطينية وبعض الدول العربية انطلقت من دون تدقيق لتتخذ موقفاً مع فريقٍ ضد فريق آخر.

والشيء نفسه ينسحب على الواقع اللبناني، في تعقيداته السياسية، والتي توزّع فيها الاتهامات على جهةٍ جزافاً، وتُنفي ـ على سبيل المثال ـ عن إسرائيل في شكلٍ مطلق، مع أننا نعرف أن إسرائيل التي احتلّت لبنان في العام 1982 لا تريد للبنان أن يستقرّ على كل المستويات. إضافةً إلى إقحام المسائل السياسية والنفسية في المسائل القضائية الكبرى، بما يكبّل الحقيقة ويعيق حركة العدالة ويفسح في المجال للكثير من التساؤلات حول التضحية بما تبقّى من أرصدة حقوقية وقانونية على مذبح المصالح السياسية الذاتية المدمّرة للبلد.

كما أننا نلاحظ أن الأمم المتحدة التي تمثّل أعلى سلطة في العالم لحفظ السلام العالمي ومنع امتداد الأزمات، يُفترض أن تلجأ، في مجمل القضايا التي تشكّل موضع نزاع في العالم، فضلاً عن القضايا ذات البعد القضائي أو الجنائي، إلى الوقائع والحقائق في حكمها على هذه الدولة أو تلك، أو في إصدارها لهذا القرار أو ذاك، بينما رأينا هذه المنظّمة العالمية ـ في كثير من النماذج ـ لا تأخذ في الاعتبار حاجات الدول والشعوب الواقعية بقدر ما تراعي المصالح السياسية للدول المهيمنة على الأمم المتحدة، وقد بات ذلك واضحاً، سواء من خلال ما تعاملت به الأمم المتحدة مع المسألة العراقية ومسألة دارفور، وصولاً إلى المسألة اللبنانية، حيث لا يأخذ بعض المسؤولين الدوليين شيئاً من الحياء عندما يقدمون الصور الإسرائيلية كدليل على دخول السلاح إلى لبنان، في الوقت الذي يأخذ السلاح الإسرائيلي المعادي، وخصوصاً السلاح الجويّ حريّته في استباحة الأجواء اللبنانية من دون أن تتحرك الأمم المتحدة في شكل حاسم، للاعتراض أو لإيقاف هذا العدوان اليومي على دولة ـ من دولها ـ ذات سيادة.

إن الخطورة تكمن في أن حركة القضاء الدولي باتت خاضعة لهيمنة الدول المتحكمة بالأمم المتحدة وبالعالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث بات من يُفترض أن يقدموا للمحاكمة كمجرمي حرب، ومن بينهم رئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، يحصلون على مكافآت بتعيينهم كمبعوثين للسلام، فيما تقتضي أبسط قواعد العدالة أن يساقوا إلى السجون، بالنظر إلى ما تسببوا به من مآسٍ في حقّ البشرية وفي حق شعوبنا على وجه التحديد في فلسطين والعراق وأفغانستان ولبنان.

إن الكارثة تكمن في أن تغليب الذهنية السياسية في الاتهامات، من شأنه أن يجعل المجرم حراً في متابعة جرائمه، فهو سيسمح له باللعب على الأوضاع والتعقيدات السياسية المتنوّعة من دون أن يتحرّك المسؤولون إلى معالجة الجريمة من خلال المعطيات والأدلة والبراهين.

كما أنّ من شأن هذه الذهنية أن توجد مناخات موبوءة تؤثّر على حركة القضاء نفسه، من خلال العلاقة التي تربط بين السلطة السياسية والقضائية، ما قد يجعل بعض الأفراد ينساقون إلى المنطق السياسي السائد خشية أن يدفعوا الثمن من حياتهم أو مستقبلهم المهني، بسبب ضعف الغطاء السياسي لاستقلالية القضاء، والذي لا يمكن للقضاء أن يأخذ دوره القويّ من دونه.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

 التاريخ: 15 جمادى الثانية  1428هـ  الموافق: 01 / 7 / 2007م

"المكتب الإعلامي"

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية