أصدر سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، بياناً علّق فيه على نتائج الانتخابات الرئاسية في تركيا، جاء فيه:
إنّ نجاح التجربة الإسلاميّة الحديثة في تركيا، بالحجم الذي قد يناقش الكثيرون فيه وفي حيثيّاته، هو من الأمور التي تبعث على الأمل من جهة، وتشكّل مادّة للجدل من جهة أخرى، ولاسيّما في العلاقة بين المرحليّة والاستراتيجيّة الإسلاميّة. وخصوصاً أنّ هذا النجاح انطلق في واقعٍ ينظر فيه الكثيرون إلى كمال أتاتورك كنبيّ من أنبياء العلمانيّة المقدّسة، لا يجوز المساس به فكراً وسياسةً وحركةً، وتحوّلت العلمانيّة إلى دينٍ مقدّس يحرم تغيير نصوصه، تماماً كما هو القرآن أو التوراة والإنجيل، وبلغ التحجّر لدى أتباعها المستوى الذي أصبح فيه الحجاب، الذي يمثّل زيّاً إسلاميّاً شرعيّاً مرتبطاً بالالتزام الشخصي للمرأة المسلمة، تهديداً للنظام وخطراً عليه.
إنّنا في الوقت الذي نعتقد أنّ هذا التشدّد العلماني لا يوحي بقوّة نظامه؛ بل قد يوحي بضعفه؛ إلا أنّنا ننظر بارتياح إلى الطريقة التي تعامل فيها الإسلاميّون، وفي مقدّمهم حزب العدالة والتنمية، مع كلّ السلبيّات التي تحرّك فيها خصومهم السياسيّون، بصبرٍ وأناةٍ، حيثُ أديرت العمليّة السياسية والاقتصاديّة بكفاءة عالية أكسبت الإسلاميّين ثقةً مضاعفة من الناس، أحدثت تغييرات مهمّة على مستوى القاعدة الشعبيّة، ولا بدّ من أن تنعكس على أكثر من مجال لتقود إلى شيء من التوازن في علاقة الإسلاميّين بالنظام العلماني، أو بالعلمانيّين بعامّة.
ولعلّ من المفيد ـ أمام هذه التجربة ـ التوقّف عند أمور عدّة:
أوّلاً: إنّ ما حصل في تركيا من شأنه أن ينعكس في شكل إيجابيّ في النظرة إلى الإسلام كدينٍ لا ينفي الآخر، ولا يُريد للآخر أن ينفي المنتمين إليه، وخصوصاً أنّ الإسلام يركّز على مسألة العدل للإنسان كلّه، وذلك في مقابل تصويره كدينٍ إلغائيّ منغلقٍ، لا يأخذ إلا بالعنف وسيلةً للتغيير.
ثانياً: لا تزال التجارب تُؤكّد، مرّة بعد أخرى، ضرورة ألاّ يُحصر الإسلام في الجوانب الدينيّة و العباديّة الشخصيّة، بل أن يتحرّك ـ إلى جانب ذلك ـ بفاعليّة في قضايا تنظيم المجتمع، في سياسته واقتصاده وأمنه وما إلى ذلك، وألاّ يعيش الإسلاميّون عقدةً من تأكيد الوجهة الحضاريّة للإسلام، وقدرته، لا على المشاركة في الحياة العامّة فحسب، بل على تصدّر المواقع القياديّة في الحياة السياسيّة بجدارة وحكمة واتّزان وحضاريّة.
ثالثاً: أظهر صعود الإسلاميّين في تركيا أنّ الجذور الإسلاميّة تضرب في عمق في وجدان الشعب التركي وحركته، وأنّ سياسة القمع الطويلة التي مورست من قبل العلمانيّة لعشرات السنين لم تستطع أن تشوّه أصالته الإسلاميّة، أو أن تحرف حركته في اتّجاه الأهداف الكُبرى في ذلك الإطار.
رابعاً: إنّنا في الوقت الذي نعرف أنّ لهذه التجربة خصوصيّتها الضاربة في عمق المجتمع التركي والحركة السياسية التركيّة، بشقّيها العلماني والإسلامي؛ ولكنّ ذلك لا يمنع الإسلاميّين في المواقع الأخرى، من التحرّك ضمن تفاهمات مع أطراف يختلفون في القاعدة الفكريّة، في سبيل التعاون لحظ بلدانهم في مصائرها ومستقبلها و استقرارها السياسي والاقتصادي والأمني.
خامساً: إنّنا ندعو الحركات والأحزاب والجمعيّات الإسلاميّة والشخصيّات العلمائيّة الإسلامية إلى أن تعكف على دراسة هذه التجربة في تركيا، في سلبيّاتها وإيجابيّاتها؛ لتقدّم لها النصح في موقع الخطأ، وتستنتج منها عناصر نجاحاتها في موقع النجاح، بما يسهم في إغناء التجربة الإسلاميّة على المستوى العالمي، ويشدّ الروابط التي تربط بين التجارب الإسلاميّة المتناثرة.
سادساً: نتوجّه إلى الدول والدوائر الغربيّة التي رحّبت بما حدث في تركيا ترحيباً حارّاً، ألاّ تتجمّد عند هذا الترحيب، بل أن تتحدّث مع شعوبها في صدق حول هذه التجارب الإسلاميّة التي تقدّم إسلاميّين منفتحين على من يختلف معهم؛ بل هم أ كثر انفتاحاً من كثير من العلمانيّين الذين تحرّكوا في مواقع عسكريّة وسياسية وتربويّة ليفرضوا على النظام العلماني جموداً منعه من التطوّر، وحجب عن الناس ما يستحقّونه على مستوى الحرّيات وحقوق الإنسان...
أخيراً: إنّنا نريد للدوائر الغربيّة، وحتّى للأنظمة في واقعنا العربي والإسلامي، أن تتطلّع إلى هذا النموذج الإسلامي، بعيداً من كلّ التعقيدات والتهم التي تنعت بالإرهاب كلّ من يتحرّك في خطّ إسلاميّ ملتزم، أو من يسلك طريقاً سياسيّاً معارضاً لهذا المحور الدولي أو ذاك... ومن خلال ذلك يُمكن الحديث عن حوار إسلامي ـ غربي يُلاحظ الوقائع، ولا يتجمّد عند الأوهام أو يعيش في متاهات التاريخ وتجاربه المرّة.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله
التاريخ: 27 شعبان 1428هـ الموافق: 09 / 9 / 2007م
"المكتب الإعلامي"