اللاعب الإقليمي يحتل في الخفاء المقعد الخامس عشر على طاولة الحوار

اللاعب الإقليمي يحتل في الخفاء المقعد الخامس عشر على طاولة الحوار
 

مجلة "الأفكار" حاورت سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، حول آفاق الحوار الوطني في لبنان، كما تناولت الوضع في العراق، واحتمالات المواجهة العسكرية الإيرانية الأمريكية. وهذا نصّ الحوار:

لبنان والفوضى البناءة

س: كيف ينظر سماحة السيد إلى طاولة الحوار؟ وهل هناك جدية للخروج من المأزق، أم أن الحوار هو تقطيع للوقت بانتظار حالة إقليمية معينة؟

ج: كنت ولا أزال أحاول دراسة الوضع في لبنان أو في أي بلد عربي آخر، من خلال طبيعة الخطط الدولية للمنطقة، لأنه ليست هناك أية خطة تختص بلبنان في الواقع الدولي. فلبنان هو الساحة التي تتحرك فيها الصراعات التي تعكس ما يدور في المنطقة، لأنه الساحة الحرة الوحيدة في منطقة تسيطر عليها كل عناصر الضغط الإعلامي والسياسي وما إلى ذلك. لهذا، فإننا في هذه المرحلة التي نعيشها، نشهد ما يسمّى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه الرئيس الأميركي «جورج بوش»، والذي جعل من وسائله ما أطلق عليه مصطلح «الفوضى البناءة أو الخلاقة»، الذي يوحي بأن هناك عملاً متنوّعاً لإيجاد فوضى سياسية تستغل بعض نقاط الضغط في هذا البلد، من خلال تنوع الخطوط والأفكار، وخصوصاً في ما يسترجعه اللبنانيون أو قياداتهم من التاريخ الدامي الذي لا يزال يفرض نفسه على طموحات الكثيرين من هؤلاء الذين قد لا يخططون لواقع دامٍ بالمعنى الواقعي، ولكنهم يتحركون بواقعٍ دامٍ بالمعنى السياسي، كما هو بالمعنى الاقتصادي وما إلى ذلك.

إن لبنان في دائرة الخطة الأميركية، والتي تلتصق بها الخطة الفرنسية، وهما الدولتان اللتان تسيطران على مجلس الأمن بطريقة أو بأخرى، بحيث قد يبدو للمراقب أن قرارات مجلس الأمن تمثل المجتمع الدولي، ولكن المجتمع الدولي هو الذي تمثله أميركا من خلال ضغوطها على الاتحاد الأوروبي وعلى بعض الدول الأخرى. لذلك، لا أستطيع أن أفصل الواقع اللبناني بكل مفاعيله عن المشروع الأميركي في المنطقة، ولاسيما أن الرئيس «بوش» جعل من مهمته أن يبرز كرسول مرسل من الله، من أجل تحرير العالم ونشر الديموقراطية، وتأكيد حقوق الإنسان، وهذا ما جعله يعطي العنوان الديموقراطي حالة متحركة في أكثر من بلد، ولاسيما في المنطقة العربية والإسلامية التي تمثل البقرة الحلوب للبترول، ولكثير من مصادر الثروة التي تحتاجها أميركا ويحتاجها المجتمع الغربي. لذلك، حاول الرئيس «بوش» أن يثير عنوان الديموقراطية في أفغانستان من خلال الحرب التي أثارها هناك، تنفيساً لما حدث في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وهكذا لم نجد أنه استطاع أن ينجح في مشروعه هذا بشكل يجلب الاستقرار لأفغانستان.

س: لكن أفغانستان، سماحة السيد، ليس لديها بترول؟!

ج: هذا صحيح، ولكن لأفغانستان موقعاً مهماً، فهي مجاورة لباكستان وتطل على الهند، وهي تدخل في سياق الاستراتيجية الآسيوية التي تأخذ في الحسبان الصين وروسيا، بحيث يكون باستطاعة أميركا أن تضغط على النمو الصيني الاقتصادي والسياسي في المستقبل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا. ومن هنا نجد أن أمريكا لا تزال تمارس لعبة التمايز بين الهند وباكستان، لتمنع باكستان من الكثير من عناصر القوة وتعطيها للهند، وكذلك من جهة الخصوصية الإسلامية لباكستان، حتى تجعل باكستان بحاجة دائمة إليها. ثم نجد أن أمريكا انتقلت إلى العراق تحت عنوان أسلحة الدمار الشامل، وقد تبين كذب هذه المقولة، وانطلق الإعلام ليتحدث عن هذه الكذبة الكبرى، ورأينا الرئيس «بوش» يتحدث مع الإعلام مستنكراً الحديث عن مصطلح الكذب، والتعبير بمصطلح آخر، حتى لا تصور أميركا أنها البلد الذي يكذب في سياسته وفي إعلامه.

ونحن نعرف كيف دخلت أميركا العراق، وكيف سيطرت عليه وقتلت الكثير من العراقيين، ولم يستطع «بوش» أن يعطي العراقيين أي استقرار أمني أو اقتصادي أو سياسي، بل إنه حول العراق إلى ساحة من الفوضى الأمنية التي لم يعرفها العراق في كل تاريخه، حتى إنه أصبح من يوميات العراق أن نسمع أخبار تفجيرات السيارات المفخخة وسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، وخصوصاً ما حدث بالأمس، عندما اجتاحت هذه السيارات أكثر من منطقة، موقعةً أكثر من مئة قتيل وجريح. لذلك، فإن الرئيس «بوش» يتحدث عن الديموقراطية في العراق، ولكنها ديموقراطية مخضّبة بالدماء وبالفوضى وبالخلل الاقتصادي وبالجوع والحرمان، وبكل المتاهات التي لا يزال يعيشها الشعب العراقي، ولكنه مستمر في حديثه عن مستقبل الديموقراطية، ويرجم أولئك الذين يتحركون في العراق بأنهم إرهابيون وضد الحريات وضد الديموقراطية. لذلك رأى الرئيس «بوش» في لبنان المنطقة التي يستطيع فيها أن يتحرك في مشروعه في تأكيد الديموقراطية، باعتبار أن لبنان هو البلد الذي عاش الديموقراطية منذ الأربعينات، ولم يعلمه الديموقراطية أحد، لا بريطانيا ولا فرنسا أو غيرهما، لأن الشعب اللبناني هو شعب ديموقراطي بطبيعته.

ولذلك حاول أن يعطي صورة بأنّ خطته هي التي تجلب الديموقراطية إلى لبنان، وعرفنا كيف استغل مسألة اغتيال الشهيد رفيق الحريري في تحريك الوضع بطريقة أو بأخرى، فكان انسحاب الجيش السوري من لبنان، وكان تحريك الوضع السياسي من خلال السفارة الأميركية ومن خلال الموفدين الأميركيين الذين حاولوا أن يعقدوا العلاقات بين القيادات والأطراف اللبنانية. وقد لاحظنا كيف أن الرئيس «بوش» حول لبنان إلى ورقة للضغط على سورية. فالمشروع الأميركي فيما يتعلّق بلبنان لا يتصل به، إنما يتحرك لحسابات فلسطينية عراقية، يحاول من خلاله أن يثير الوضع اللبناني بشكل معقد جداً للضغط على سوريا، لتقوم بتنازلات في المسألة العراقية والمسألة الفلسطينية. ولذلك، فإنني أنظر إلى ما يحدث في لبنان الآن على أنه يمثل خطة أميركية، لا تحدق بمفردات الواقع اللبناني، ولكنها تحرك هذا الواقع، وخصوصاً بالنسبة إلى الكثير من القيادات المعقدة عربياً وسورياً، من أجل الضغط على سورية. وإذا كان الأميركيون يتحدثون بأن لا صفقة بين أميركا وسورية، وهذا قد يكون صحيحاً في المرحلة الحاضرة، فإننا في مقابل ذلك نعرف أن الدول ليست جمعية خيرية، وأن سورية بالنسبة إلى أميركا لا تزال الدولة التي تحتاجها أميركا في بعض التوازنات في المنطقة، وإذا كانت الظروف معقدة في هذه المرحلة، فإن هناك ـ فيما نرصده ـ الكثير من محاولة تهدئة المناخ الإعلامي الأميركي ضد سورية، والذي قد ينفتح على مناخ أكثر صحة وما إلى ذلك.

المحاور الخامس عشر لاعب إقليمي

س: هل يمكننا أن نقول أن هناك عنصر خامس عشر إلى جانب الشخصيات اللبنانية الأربعة عشرة، وهو اللاعب الإقليمي؟

ج: هذا صحيح. وأنا أدرس كل الكلام الذي قيل بخصوص «صنع في لبنان» وأقول إنه لم يصنع شيء في لبنان، وإن الصناعة كانت خارجية دولية بامتياز، ولكن أعطيت عناوين متعددة، منها عنوان المساعدات الدولية أو الرعاية الدولية، والقول إنها ليست وصاية، ولكننا عندما ندرس حركة السفير الأميركي (جيفري فيلتمان) في كل مفاصل الوضع اللبناني الداخلي، نعرف أنه ليس هناك شيء لبناني، حتى لو قال الكثيرون من القيادات إن هناك توافقاً بيننا وبين أميركا، وإنّ ما هو مصلحة لأميركا هو مصلحة لنا، ولكننا في لبنان نعرف كيف نسمي الأشياء بغير أسمائها، من أجل إيجاد حالة من حالات قبول الكلمة التي قد تكون كلمة حق ولكن يراد بها باطل.

س: معنى ذلك أن طاولة الحوار لن تصل إلى نتائج سريعة وإيجابية؟

ج: عندما ندرس ما أثير في مناخ الحوار، وما تحرك به البعض من خلال إثارة بعض العناوين الكبرى خارج لبنان، في الوقت الذي كان الحوار يدور في المجلس النيابي، فإننا نعرف حساسية بعض العناوين وبعض الشعارات في تأثيرها السلبي على مجمل ما يعيشه الحواريون في هذا المجال. ونعرف أن هناك أكثر من لغم يتحرك أو يراد تفجيره هنا وهناك. فنحن عندما نسمع أحد المحاورين ويتحدث عن الاعتذار لتصريحات سابقة ضد أميركا، فمعنى ذلك أنه يعتذر لأميركا رغم دعمها المطلق لإسرائيل. كما يفهم من الاعتذار في مسألة معاداة السامية اعتذاراً غير مباشر من إسرائيل، وهي المسؤولة عن المجازر التي تقوم بها ضد الشعب الفلسطيني وضد الأرض الفلسطينية وضد العرب والمسلمين بشكل عام، ومعنى ذلك، إلغاء الواقع السياسي والأمني في المنطقة، واعتبار أميركا هي الدولة الملائكية، وإسرائيل هي الدولة الحضارية، وأن العرب الذين اضطهدتهم أميركا وإسرائيل هم المعتدون على أميركا وعلى إسرائيل. ولذلك، فإن كل عربي يتحدث بسلبية عن أميركا وعن إسرائيل، فكأنه يظلم الحقيقة ويظلم الواقع.

هذا بحدّ ذاته يمثل إلغاءً لكل التاريخ الدامي للسجل الأمريكي من خلال احتلال العراق وإرباك المنطقة ومحاصرتها، والعبث بكل أمنها وسياستها، إضافةً إلى عدم سماح الإدارة الأمريكية لمجلس الأمن بأن يتحدث عن القرار 194 أو القرار 242 أو القرار 338، إلى آخر القرارات التي أصدرها ضد إسرائيل، ولم تسمح بتنفيذ ما أصدرته محكمة العدل الدولية بالنسبة للجدار العنصري وما إلى ذلك، في حين تطالب اللبنانيين بتنفيذ القرارات الدولية!! ونحن نتساءل: كيف يمكن لعربي، أياً كان، أن يعتذر لأميركا عن كل النقد لسياستها التي أربكت كل العالم العربي، ولا يزال لبنان يتخبط في هذا الإرباك؟ ولقد سمعت بعض هؤلاء الذين يتحدثون بهذا الشكل، عندما قيل له إن إسرائيل احتلت لبنان وقتلت واقترفت المجازر، فقال إنّ المقاومة هي التي اعتدت على إسرائيل وكانت إسرائيل في موقع الدفاع عن النفس.

الخراب المتبادل بين اللبناني والسوري

س: وماذا عن مقولة: البحر أمامكم والعدو وراءكم؟

ج: نحن نقول إنّ هناك فرقاً بين أن نتحدث عن سورية بأنها مارست أخطاء في لبنان، وقد اعترفت هي بذلك، أو أنها أساءت من خلال ممثليها في لبنان، وبين أن نقول إنّها عدوّ. ونحن نعرف أن السوريين ربما أربكوا الوضع في لبنان، ولكن اللبنانيين ليسوا ملائكة أيضاً، فقد كانوا يحجون إلى سورية ليطلبوا منها مساعدتهم في أن يكون فلان نائباً أو وزيراً أو مديراً وما إلى ذلك. إن السوريين ربما خربوا الإنسان اللبناني، ولكن الإنسان اللبناني أيضاً خرب سورية. ولقد التقيت عام 1985 بالرئيس حافظ الأسد، وكنا نتحدث عن الواقع في لبنان وقوات الردع العربية، فقال لي: «هل تعتقد بأنني مرتاح لأن أدفع بجنودي إلى أزقة اللبنانيين وزواريبهم حتى يخربوا هذا الجيش؟»، فقد كان يعتبر أن اللبنانيين يخربون الجنود السوريين وما إلى ذلك.

ثم إنّه من الطبيعي جداً القول إن لبنان لا يمكنه الاستغناء عن سورية، كما لا يمكن لسورية أن تستغني عن لبنان. لذلك علينا أن نتحدث عن سورية بالنقد لما قامت به من أخطاء، وقد أدت بها أخطاؤها إلى الخروج من لبنان. وإذا كانوا يتحدثون عن مخابرات سورية، وأنها لا تزال موجودة في لبنان، فأنا أسأل: أية مخابرات ليست موجودة في لبنان؟! فإن لبنان هو ساحة المخابرات الإقليمية والدولية، وقد قال بعض المسؤولين الأميركيين إن بيروت أفضل مكان للتنصت، لأنها تلتقي فيها كل المخابرات الدولية. ولذلك قد تكون هناك مخابرات سورية، ولكن لماذا يسمح اللبنانيون بوجودها، وقد أصبح لديهم جهاز مخابرات جديد، وقوى أمنية جديدة وما إلى ذلك؟! لماذا إذاً يسمحون للمخابرات السورية أن تعبث هنا وهناك، كما يقولون؟! وأين هي المخابرات اللبنانية والقوى الأمنية اللبنانية التي يراد للمقاومة أن تنسحب وتسلم سلاحها لها من دون أن يملك لبنان القوة التي تستطيع أن تحمي أرضه من إسرائيل؟!

سلاح المقاومة ومؤتمر الحوار

س: أليس من الخطأ وضع سلاح المقاومة على طاولة الحوار؟

ج: أعتقد أن المقاومة عندما دعت إلى الحوار، ألزمت نفسها بأن تستمع إلى ما يقوله الآخرون، وأن تجرّب، ولكنني أعتقد أن هذه التجربة لن تصل إلى أية نتيجة، لأن الأكثرية ليست مستعدة لأن توافق على بقاء المقاومة متمسكةً بسلاحها ومواجهتها لإسرائيل، لأن أميركا ترفض ذلك.

س: معنى ذلك أن مؤتمر الحوار لن يصل إلى أي نتيجة؟!

ج: أعتقد أن جلسات الحوار لن تؤدي إلى أي نتيجة، لأن القضايا الحساسة اعتبرت أولويات، لن يستطيع الجميع الاتفاق عليها.

لبنان الدولة والمزرعة

س: وحتى لو اتفق المجتمعون على ذهاب رئيس الجمهورية، والإتيان برئيس جديد؟

ج: أعتقد أن الوضع في لبنان معقّدٌ أكثر من قضية ذهاب رئيس ومجيء رئيس آخر، لأن المسألة في لبنان تكمن في الخطة الاقتصادية والسياسية والأمنية التي يمكن للبنان أن يتحول فيها من مزرعة إلى دولة. فنحن عندما ندرس ما يحصل مع احترامنا للجميع، خصوصاً أولئك الذين يمثلون الأكثرية ـ نرى أن البعض ممّن دخلوا التجربة السياسية كوزراء وكسياسيين، قد أثيرت حولهم الكثير من الاتهامات حول قضايا الهدر والفساد. وهم يتحدثون عن النظام المخابراتي السوري، وعن سورية التي أطبقت على لبنان، ويقولون إنّه كان مضغوطاً عليهم، ومعنى ذلك أنه من الممكن لأية دولة نافذة في لبنان أن تضغط عليهم وعلى الواقع السياسي، ومن ثم، هل هؤلاء مستعدون لأن يقفوا في لبنان الجديد ليحاسبهم الشعب اللبناني تحت شعار «من أين لك هذا؟!»، أو ليحاسبهم عن طبيعة الخطوط التي تحركوا فيها من الناحية السياسية؟ فالمسألة هي أن لبنان يحتاج إلى صناعة جديدة في هذا الموضوع. فأنا أتصوّر أنه لن يسمح للبنان في أن يتحول إلى دولة، لا من قبل اللبنانيين الذين تعودوا أن يكون لبنان بقرة حلوباً لهم عندما يدخلون الوزارة أو النيابة أو الرئاسة، ولا من قِبَل الآخرين الذين يريدون للبنان أن يكون في المنطقة مجرد ساحة لكل اللاعبين.

فتش عن أميركا في العراق

س: إذا كان الوضع بهذا السوء في لبنان، فماذا عن العراق؟ ولماذا لا يتفق العراقيون ولديهم علماء كبار؟ ألا يمكن منع تصدع الوحدة العراقية؟

ج: فتش عن أميركا... لأن أميركا دخلت العراق لتبقى، لأنّ العراق يمثّل بالنسبة إليها آبار البترول، ولأن العراق يملك ثروات فوق الأرض وتحتها، وهي كبيرة جداً، ولأن العراق يمثل الجسر الذي يمكن أن تعبر عليه أميركا إلى المنطقة. ولذلك، فإن العراق يمثل الساحة التي تريد أميركا أن تنفِّذ فيها كل خططها. ونحن نعرف أن المسؤولين الأميركيين كانوا يقولون إنهم يريدون الدخول إلى العراق من أجل تحقيق الاستراتيجية لمصالحهم في المنطقة، وإذا استقر العراق، فسوف يقال للأميركيين اخرجوا من بلادنا. فهناك 130 ألف جندي أميركي في العراق، إضافةً إلى الآلاف من الجنسيات المتعددة، وهنا نسأل: ألا يستطيع هؤلاء أن يحاصروا ما يسمى بالإرهابيين من التكفيريين وبقايا النظام الطاغي؟! ولماذا يتركونهم يعبثون ويقتلون ويفجرون؟!

ومن ثم، نحن نلاحظ أن السفارة الأميركية في العراق هي أكبر سفارة في العالم، فهي تضم أربعة آلاف موظف، وبالتالي هي أكبر من أي سفارة أميركية في روسيا أو أوروبا أو الصين، ومعنى ذلك أن السفارة الأميركية في العراق هي سفارة الشرق الأوسط، والتي تنسق مع السفارات الصغيرة في البلدان العربية والإسلامية. وعلينا ألا ننسى أن العراق هو البلد الذي تلتقي حدوده مع إيران وسورية وتركيا ودول الخليج، ومن هنا، فإن الموقع يشكل موقعاً تستطيع أميركا أن تتحرك فيه بطريقة وبأخرى. أضف إلى ذلك، أن الاحتلال الأميركي للعراق جعل الدول المجاورة تشعر بأن أميركا أصبحت على حدودها، سواء سورية أو إيران أو تركيا، ومن الطبيعي أن الدول المجاورة تريد حماية نفسها من أميركا، وكذلك من الصعب جداً أن يجد العراق الهدوء في هذا المجال.

س: حتى مع حكمة أبنائه؟

ج: إن أبناءه أصبحوا عاجزين عن ذلك، وخصوصاً من خلال الإثارة الطائفية التي تحاول هذه المجازر أن تثيرها بين وقت وآخر. وقد سمعنا كيف يتحدّث وزير الدفاع «رامسفيلد» وغيره عن الحرب الأهلية، وكيف أنهم لن يتدخلوا إذا جرت الحرب الأهلية، بل سيتدخل الجيش العراقي فقط. ونحن نعلم أن قوات الاحتلال لم تعط الجيش العراقي أسلحة متقدمة ومتطورة من دبابات وصواريخ وطائرات، ولم تعط قوى الأمن أسلحة تستطيع من خلالها مواجهة المجرمين في الشوارع والمقامات. ولذلك، فالوضع في العراق تحول إلى فوضى، وأصبحت المسألة تتحرك على أساس إثارة الجوانب الطائفية. ونحن لا نزال نؤمن بأن العراقيين لن يدخلوا في حرب طائفية، وقد تحصل ردود فعل هنا وهناك، ولكنها محدودة.

كذلك علينا أن نحدق في المسألة الكردية، ولاسيما أن الأكراد يعملون للسيطرة على سياسة العراق، وهذا واضح من خلال طريقة الاتحاد الكردي في إثارته للأوضاع الداخلية. فالأكراد يفكرون في أن يكون الاتحاد الفيدرالي في العراق مدخلاً للدولة الكردية في المنطقة. صحيح أن هناك عقلاء في العراق على المستوى الديني والسياسي، لكنهم لا يملكون أمرهم أمام لعبة الاحتلال. إن كل الدول دخلت العراق، بحيث أصبح العراق ملتقى لكل مصالحها وصراعاتها.

س: وهل سماحة السيد خائف من حرب أميركية ضد إيران؟

ج: لا أعتقد أن أميركا ساذجة إلى درجة قيادة حرب ضد إيران. فإيران دولة كبرى في المنطقة، وهي تملك أسلحة متقدمة متطورة، وقد لا تملك السلاح الذري، ولكنّنا سمعنا تصريح رئيس الجمهورية الإيرانية محمود أحمدي نجاد، يقول أنه إذا أرادت أميركا العمل على إيذاء إيران فسوف يصيبها الأذى بطريقة أو بأخرى، وما أثار الرئيس «بوش» أن تفكر إيران في إيذاء أميركا! علينا هنا أن نعرف حقيقة، وهي أن هناك 130 ألف رهينة أميركية موجودة في العراق لدى إيران، وأن هناك أكثر من رهينة في أفغانستان. فإيران لم تعد دولة عادية كما كانت عندما حدثت الثورة فيها عام 1979، ولكنها أصبحت دولة متطورة تصنع السلاح وأقوى ما يكون. لذلك لا نقول إن إيران أقوى من أميركا، ولكننا نقول إنّ إيران ليست العراق، فهي تملك القدرة على إيذاء أميركا، وعلينا أن نعرف أن نفط الخليج تحت رحمة المدافع والصواريخ الإيرانية. فالحرب لو وقعت بين إيران وأميركا، فسوف تتحول المنطقة إلى حالة جنون لا يستطيع أن يوقفها أحد، وسوف تحترق المنطقة كلها، ومن خلال ذلك، سوف تحترق كل أصابع وأقدام أميركا في المنطقة.

 

مجلة "الأفكار" حاورت سماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، حول آفاق الحوار الوطني في لبنان، كما تناولت الوضع في العراق، واحتمالات المواجهة العسكرية الإيرانية الأمريكية. وهذا نصّ الحوار:

لبنان والفوضى البناءة

س: كيف ينظر سماحة السيد إلى طاولة الحوار؟ وهل هناك جدية للخروج من المأزق، أم أن الحوار هو تقطيع للوقت بانتظار حالة إقليمية معينة؟

ج: كنت ولا أزال أحاول دراسة الوضع في لبنان أو في أي بلد عربي آخر، من خلال طبيعة الخطط الدولية للمنطقة، لأنه ليست هناك أية خطة تختص بلبنان في الواقع الدولي. فلبنان هو الساحة التي تتحرك فيها الصراعات التي تعكس ما يدور في المنطقة، لأنه الساحة الحرة الوحيدة في منطقة تسيطر عليها كل عناصر الضغط الإعلامي والسياسي وما إلى ذلك. لهذا، فإننا في هذه المرحلة التي نعيشها، نشهد ما يسمّى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي طرحه الرئيس الأميركي «جورج بوش»، والذي جعل من وسائله ما أطلق عليه مصطلح «الفوضى البناءة أو الخلاقة»، الذي يوحي بأن هناك عملاً متنوّعاً لإيجاد فوضى سياسية تستغل بعض نقاط الضغط في هذا البلد، من خلال تنوع الخطوط والأفكار، وخصوصاً في ما يسترجعه اللبنانيون أو قياداتهم من التاريخ الدامي الذي لا يزال يفرض نفسه على طموحات الكثيرين من هؤلاء الذين قد لا يخططون لواقع دامٍ بالمعنى الواقعي، ولكنهم يتحركون بواقعٍ دامٍ بالمعنى السياسي، كما هو بالمعنى الاقتصادي وما إلى ذلك.

إن لبنان في دائرة الخطة الأميركية، والتي تلتصق بها الخطة الفرنسية، وهما الدولتان اللتان تسيطران على مجلس الأمن بطريقة أو بأخرى، بحيث قد يبدو للمراقب أن قرارات مجلس الأمن تمثل المجتمع الدولي، ولكن المجتمع الدولي هو الذي تمثله أميركا من خلال ضغوطها على الاتحاد الأوروبي وعلى بعض الدول الأخرى. لذلك، لا أستطيع أن أفصل الواقع اللبناني بكل مفاعيله عن المشروع الأميركي في المنطقة، ولاسيما أن الرئيس «بوش» جعل من مهمته أن يبرز كرسول مرسل من الله، من أجل تحرير العالم ونشر الديموقراطية، وتأكيد حقوق الإنسان، وهذا ما جعله يعطي العنوان الديموقراطي حالة متحركة في أكثر من بلد، ولاسيما في المنطقة العربية والإسلامية التي تمثل البقرة الحلوب للبترول، ولكثير من مصادر الثروة التي تحتاجها أميركا ويحتاجها المجتمع الغربي. لذلك، حاول الرئيس «بوش» أن يثير عنوان الديموقراطية في أفغانستان من خلال الحرب التي أثارها هناك، تنفيساً لما حدث في 11 أيلول (سبتمبر) 2001، وهكذا لم نجد أنه استطاع أن ينجح في مشروعه هذا بشكل يجلب الاستقرار لأفغانستان.

س: لكن أفغانستان، سماحة السيد، ليس لديها بترول؟!

ج: هذا صحيح، ولكن لأفغانستان موقعاً مهماً، فهي مجاورة لباكستان وتطل على الهند، وهي تدخل في سياق الاستراتيجية الآسيوية التي تأخذ في الحسبان الصين وروسيا، بحيث يكون باستطاعة أميركا أن تضغط على النمو الصيني الاقتصادي والسياسي في المستقبل، وكذلك الأمر بالنسبة إلى روسيا. ومن هنا نجد أن أمريكا لا تزال تمارس لعبة التمايز بين الهند وباكستان، لتمنع باكستان من الكثير من عناصر القوة وتعطيها للهند، وكذلك من جهة الخصوصية الإسلامية لباكستان، حتى تجعل باكستان بحاجة دائمة إليها. ثم نجد أن أمريكا انتقلت إلى العراق تحت عنوان أسلحة الدمار الشامل، وقد تبين كذب هذه المقولة، وانطلق الإعلام ليتحدث عن هذه الكذبة الكبرى، ورأينا الرئيس «بوش» يتحدث مع الإعلام مستنكراً الحديث عن مصطلح الكذب، والتعبير بمصطلح آخر، حتى لا تصور أميركا أنها البلد الذي يكذب في سياسته وفي إعلامه.

ونحن نعرف كيف دخلت أميركا العراق، وكيف سيطرت عليه وقتلت الكثير من العراقيين، ولم يستطع «بوش» أن يعطي العراقيين أي استقرار أمني أو اقتصادي أو سياسي، بل إنه حول العراق إلى ساحة من الفوضى الأمنية التي لم يعرفها العراق في كل تاريخه، حتى إنه أصبح من يوميات العراق أن نسمع أخبار تفجيرات السيارات المفخخة وسقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، وخصوصاً ما حدث بالأمس، عندما اجتاحت هذه السيارات أكثر من منطقة، موقعةً أكثر من مئة قتيل وجريح. لذلك، فإن الرئيس «بوش» يتحدث عن الديموقراطية في العراق، ولكنها ديموقراطية مخضّبة بالدماء وبالفوضى وبالخلل الاقتصادي وبالجوع والحرمان، وبكل المتاهات التي لا يزال يعيشها الشعب العراقي، ولكنه مستمر في حديثه عن مستقبل الديموقراطية، ويرجم أولئك الذين يتحركون في العراق بأنهم إرهابيون وضد الحريات وضد الديموقراطية. لذلك رأى الرئيس «بوش» في لبنان المنطقة التي يستطيع فيها أن يتحرك في مشروعه في تأكيد الديموقراطية، باعتبار أن لبنان هو البلد الذي عاش الديموقراطية منذ الأربعينات، ولم يعلمه الديموقراطية أحد، لا بريطانيا ولا فرنسا أو غيرهما، لأن الشعب اللبناني هو شعب ديموقراطي بطبيعته.

ولذلك حاول أن يعطي صورة بأنّ خطته هي التي تجلب الديموقراطية إلى لبنان، وعرفنا كيف استغل مسألة اغتيال الشهيد رفيق الحريري في تحريك الوضع بطريقة أو بأخرى، فكان انسحاب الجيش السوري من لبنان، وكان تحريك الوضع السياسي من خلال السفارة الأميركية ومن خلال الموفدين الأميركيين الذين حاولوا أن يعقدوا العلاقات بين القيادات والأطراف اللبنانية. وقد لاحظنا كيف أن الرئيس «بوش» حول لبنان إلى ورقة للضغط على سورية. فالمشروع الأميركي فيما يتعلّق بلبنان لا يتصل به، إنما يتحرك لحسابات فلسطينية عراقية، يحاول من خلاله أن يثير الوضع اللبناني بشكل معقد جداً للضغط على سوريا، لتقوم بتنازلات في المسألة العراقية والمسألة الفلسطينية. ولذلك، فإنني أنظر إلى ما يحدث في لبنان الآن على أنه يمثل خطة أميركية، لا تحدق بمفردات الواقع اللبناني، ولكنها تحرك هذا الواقع، وخصوصاً بالنسبة إلى الكثير من القيادات المعقدة عربياً وسورياً، من أجل الضغط على سورية. وإذا كان الأميركيون يتحدثون بأن لا صفقة بين أميركا وسورية، وهذا قد يكون صحيحاً في المرحلة الحاضرة، فإننا في مقابل ذلك نعرف أن الدول ليست جمعية خيرية، وأن سورية بالنسبة إلى أميركا لا تزال الدولة التي تحتاجها أميركا في بعض التوازنات في المنطقة، وإذا كانت الظروف معقدة في هذه المرحلة، فإن هناك ـ فيما نرصده ـ الكثير من محاولة تهدئة المناخ الإعلامي الأميركي ضد سورية، والذي قد ينفتح على مناخ أكثر صحة وما إلى ذلك.

المحاور الخامس عشر لاعب إقليمي

س: هل يمكننا أن نقول أن هناك عنصر خامس عشر إلى جانب الشخصيات اللبنانية الأربعة عشرة، وهو اللاعب الإقليمي؟

ج: هذا صحيح. وأنا أدرس كل الكلام الذي قيل بخصوص «صنع في لبنان» وأقول إنه لم يصنع شيء في لبنان، وإن الصناعة كانت خارجية دولية بامتياز، ولكن أعطيت عناوين متعددة، منها عنوان المساعدات الدولية أو الرعاية الدولية، والقول إنها ليست وصاية، ولكننا عندما ندرس حركة السفير الأميركي (جيفري فيلتمان) في كل مفاصل الوضع اللبناني الداخلي، نعرف أنه ليس هناك شيء لبناني، حتى لو قال الكثيرون من القيادات إن هناك توافقاً بيننا وبين أميركا، وإنّ ما هو مصلحة لأميركا هو مصلحة لنا، ولكننا في لبنان نعرف كيف نسمي الأشياء بغير أسمائها، من أجل إيجاد حالة من حالات قبول الكلمة التي قد تكون كلمة حق ولكن يراد بها باطل.

س: معنى ذلك أن طاولة الحوار لن تصل إلى نتائج سريعة وإيجابية؟

ج: عندما ندرس ما أثير في مناخ الحوار، وما تحرك به البعض من خلال إثارة بعض العناوين الكبرى خارج لبنان، في الوقت الذي كان الحوار يدور في المجلس النيابي، فإننا نعرف حساسية بعض العناوين وبعض الشعارات في تأثيرها السلبي على مجمل ما يعيشه الحواريون في هذا المجال. ونعرف أن هناك أكثر من لغم يتحرك أو يراد تفجيره هنا وهناك. فنحن عندما نسمع أحد المحاورين ويتحدث عن الاعتذار لتصريحات سابقة ضد أميركا، فمعنى ذلك أنه يعتذر لأميركا رغم دعمها المطلق لإسرائيل. كما يفهم من الاعتذار في مسألة معاداة السامية اعتذاراً غير مباشر من إسرائيل، وهي المسؤولة عن المجازر التي تقوم بها ضد الشعب الفلسطيني وضد الأرض الفلسطينية وضد العرب والمسلمين بشكل عام، ومعنى ذلك، إلغاء الواقع السياسي والأمني في المنطقة، واعتبار أميركا هي الدولة الملائكية، وإسرائيل هي الدولة الحضارية، وأن العرب الذين اضطهدتهم أميركا وإسرائيل هم المعتدون على أميركا وعلى إسرائيل. ولذلك، فإن كل عربي يتحدث بسلبية عن أميركا وعن إسرائيل، فكأنه يظلم الحقيقة ويظلم الواقع.

هذا بحدّ ذاته يمثل إلغاءً لكل التاريخ الدامي للسجل الأمريكي من خلال احتلال العراق وإرباك المنطقة ومحاصرتها، والعبث بكل أمنها وسياستها، إضافةً إلى عدم سماح الإدارة الأمريكية لمجلس الأمن بأن يتحدث عن القرار 194 أو القرار 242 أو القرار 338، إلى آخر القرارات التي أصدرها ضد إسرائيل، ولم تسمح بتنفيذ ما أصدرته محكمة العدل الدولية بالنسبة للجدار العنصري وما إلى ذلك، في حين تطالب اللبنانيين بتنفيذ القرارات الدولية!! ونحن نتساءل: كيف يمكن لعربي، أياً كان، أن يعتذر لأميركا عن كل النقد لسياستها التي أربكت كل العالم العربي، ولا يزال لبنان يتخبط في هذا الإرباك؟ ولقد سمعت بعض هؤلاء الذين يتحدثون بهذا الشكل، عندما قيل له إن إسرائيل احتلت لبنان وقتلت واقترفت المجازر، فقال إنّ المقاومة هي التي اعتدت على إسرائيل وكانت إسرائيل في موقع الدفاع عن النفس.

الخراب المتبادل بين اللبناني والسوري

س: وماذا عن مقولة: البحر أمامكم والعدو وراءكم؟

ج: نحن نقول إنّ هناك فرقاً بين أن نتحدث عن سورية بأنها مارست أخطاء في لبنان، وقد اعترفت هي بذلك، أو أنها أساءت من خلال ممثليها في لبنان، وبين أن نقول إنّها عدوّ. ونحن نعرف أن السوريين ربما أربكوا الوضع في لبنان، ولكن اللبنانيين ليسوا ملائكة أيضاً، فقد كانوا يحجون إلى سورية ليطلبوا منها مساعدتهم في أن يكون فلان نائباً أو وزيراً أو مديراً وما إلى ذلك. إن السوريين ربما خربوا الإنسان اللبناني، ولكن الإنسان اللبناني أيضاً خرب سورية. ولقد التقيت عام 1985 بالرئيس حافظ الأسد، وكنا نتحدث عن الواقع في لبنان وقوات الردع العربية، فقال لي: «هل تعتقد بأنني مرتاح لأن أدفع بجنودي إلى أزقة اللبنانيين وزواريبهم حتى يخربوا هذا الجيش؟»، فقد كان يعتبر أن اللبنانيين يخربون الجنود السوريين وما إلى ذلك.

ثم إنّه من الطبيعي جداً القول إن لبنان لا يمكنه الاستغناء عن سورية، كما لا يمكن لسورية أن تستغني عن لبنان. لذلك علينا أن نتحدث عن سورية بالنقد لما قامت به من أخطاء، وقد أدت بها أخطاؤها إلى الخروج من لبنان. وإذا كانوا يتحدثون عن مخابرات سورية، وأنها لا تزال موجودة في لبنان، فأنا أسأل: أية مخابرات ليست موجودة في لبنان؟! فإن لبنان هو ساحة المخابرات الإقليمية والدولية، وقد قال بعض المسؤولين الأميركيين إن بيروت أفضل مكان للتنصت، لأنها تلتقي فيها كل المخابرات الدولية. ولذلك قد تكون هناك مخابرات سورية، ولكن لماذا يسمح اللبنانيون بوجودها، وقد أصبح لديهم جهاز مخابرات جديد، وقوى أمنية جديدة وما إلى ذلك؟! لماذا إذاً يسمحون للمخابرات السورية أن تعبث هنا وهناك، كما يقولون؟! وأين هي المخابرات اللبنانية والقوى الأمنية اللبنانية التي يراد للمقاومة أن تنسحب وتسلم سلاحها لها من دون أن يملك لبنان القوة التي تستطيع أن تحمي أرضه من إسرائيل؟!

سلاح المقاومة ومؤتمر الحوار

س: أليس من الخطأ وضع سلاح المقاومة على طاولة الحوار؟

ج: أعتقد أن المقاومة عندما دعت إلى الحوار، ألزمت نفسها بأن تستمع إلى ما يقوله الآخرون، وأن تجرّب، ولكنني أعتقد أن هذه التجربة لن تصل إلى أية نتيجة، لأن الأكثرية ليست مستعدة لأن توافق على بقاء المقاومة متمسكةً بسلاحها ومواجهتها لإسرائيل، لأن أميركا ترفض ذلك.

س: معنى ذلك أن مؤتمر الحوار لن يصل إلى أي نتيجة؟!

ج: أعتقد أن جلسات الحوار لن تؤدي إلى أي نتيجة، لأن القضايا الحساسة اعتبرت أولويات، لن يستطيع الجميع الاتفاق عليها.

لبنان الدولة والمزرعة

س: وحتى لو اتفق المجتمعون على ذهاب رئيس الجمهورية، والإتيان برئيس جديد؟

ج: أعتقد أن الوضع في لبنان معقّدٌ أكثر من قضية ذهاب رئيس ومجيء رئيس آخر، لأن المسألة في لبنان تكمن في الخطة الاقتصادية والسياسية والأمنية التي يمكن للبنان أن يتحول فيها من مزرعة إلى دولة. فنحن عندما ندرس ما يحصل مع احترامنا للجميع، خصوصاً أولئك الذين يمثلون الأكثرية ـ نرى أن البعض ممّن دخلوا التجربة السياسية كوزراء وكسياسيين، قد أثيرت حولهم الكثير من الاتهامات حول قضايا الهدر والفساد. وهم يتحدثون عن النظام المخابراتي السوري، وعن سورية التي أطبقت على لبنان، ويقولون إنّه كان مضغوطاً عليهم، ومعنى ذلك أنه من الممكن لأية دولة نافذة في لبنان أن تضغط عليهم وعلى الواقع السياسي، ومن ثم، هل هؤلاء مستعدون لأن يقفوا في لبنان الجديد ليحاسبهم الشعب اللبناني تحت شعار «من أين لك هذا؟!»، أو ليحاسبهم عن طبيعة الخطوط التي تحركوا فيها من الناحية السياسية؟ فالمسألة هي أن لبنان يحتاج إلى صناعة جديدة في هذا الموضوع. فأنا أتصوّر أنه لن يسمح للبنان في أن يتحول إلى دولة، لا من قبل اللبنانيين الذين تعودوا أن يكون لبنان بقرة حلوباً لهم عندما يدخلون الوزارة أو النيابة أو الرئاسة، ولا من قِبَل الآخرين الذين يريدون للبنان أن يكون في المنطقة مجرد ساحة لكل اللاعبين.

فتش عن أميركا في العراق

س: إذا كان الوضع بهذا السوء في لبنان، فماذا عن العراق؟ ولماذا لا يتفق العراقيون ولديهم علماء كبار؟ ألا يمكن منع تصدع الوحدة العراقية؟

ج: فتش عن أميركا... لأن أميركا دخلت العراق لتبقى، لأنّ العراق يمثّل بالنسبة إليها آبار البترول، ولأن العراق يملك ثروات فوق الأرض وتحتها، وهي كبيرة جداً، ولأن العراق يمثل الجسر الذي يمكن أن تعبر عليه أميركا إلى المنطقة. ولذلك، فإن العراق يمثل الساحة التي تريد أميركا أن تنفِّذ فيها كل خططها. ونحن نعرف أن المسؤولين الأميركيين كانوا يقولون إنهم يريدون الدخول إلى العراق من أجل تحقيق الاستراتيجية لمصالحهم في المنطقة، وإذا استقر العراق، فسوف يقال للأميركيين اخرجوا من بلادنا. فهناك 130 ألف جندي أميركي في العراق، إضافةً إلى الآلاف من الجنسيات المتعددة، وهنا نسأل: ألا يستطيع هؤلاء أن يحاصروا ما يسمى بالإرهابيين من التكفيريين وبقايا النظام الطاغي؟! ولماذا يتركونهم يعبثون ويقتلون ويفجرون؟!

ومن ثم، نحن نلاحظ أن السفارة الأميركية في العراق هي أكبر سفارة في العالم، فهي تضم أربعة آلاف موظف، وبالتالي هي أكبر من أي سفارة أميركية في روسيا أو أوروبا أو الصين، ومعنى ذلك أن السفارة الأميركية في العراق هي سفارة الشرق الأوسط، والتي تنسق مع السفارات الصغيرة في البلدان العربية والإسلامية. وعلينا ألا ننسى أن العراق هو البلد الذي تلتقي حدوده مع إيران وسورية وتركيا ودول الخليج، ومن هنا، فإن الموقع يشكل موقعاً تستطيع أميركا أن تتحرك فيه بطريقة وبأخرى. أضف إلى ذلك، أن الاحتلال الأميركي للعراق جعل الدول المجاورة تشعر بأن أميركا أصبحت على حدودها، سواء سورية أو إيران أو تركيا، ومن الطبيعي أن الدول المجاورة تريد حماية نفسها من أميركا، وكذلك من الصعب جداً أن يجد العراق الهدوء في هذا المجال.

س: حتى مع حكمة أبنائه؟

ج: إن أبناءه أصبحوا عاجزين عن ذلك، وخصوصاً من خلال الإثارة الطائفية التي تحاول هذه المجازر أن تثيرها بين وقت وآخر. وقد سمعنا كيف يتحدّث وزير الدفاع «رامسفيلد» وغيره عن الحرب الأهلية، وكيف أنهم لن يتدخلوا إذا جرت الحرب الأهلية، بل سيتدخل الجيش العراقي فقط. ونحن نعلم أن قوات الاحتلال لم تعط الجيش العراقي أسلحة متقدمة ومتطورة من دبابات وصواريخ وطائرات، ولم تعط قوى الأمن أسلحة تستطيع من خلالها مواجهة المجرمين في الشوارع والمقامات. ولذلك، فالوضع في العراق تحول إلى فوضى، وأصبحت المسألة تتحرك على أساس إثارة الجوانب الطائفية. ونحن لا نزال نؤمن بأن العراقيين لن يدخلوا في حرب طائفية، وقد تحصل ردود فعل هنا وهناك، ولكنها محدودة.

كذلك علينا أن نحدق في المسألة الكردية، ولاسيما أن الأكراد يعملون للسيطرة على سياسة العراق، وهذا واضح من خلال طريقة الاتحاد الكردي في إثارته للأوضاع الداخلية. فالأكراد يفكرون في أن يكون الاتحاد الفيدرالي في العراق مدخلاً للدولة الكردية في المنطقة. صحيح أن هناك عقلاء في العراق على المستوى الديني والسياسي، لكنهم لا يملكون أمرهم أمام لعبة الاحتلال. إن كل الدول دخلت العراق، بحيث أصبح العراق ملتقى لكل مصالحها وصراعاتها.

س: وهل سماحة السيد خائف من حرب أميركية ضد إيران؟

ج: لا أعتقد أن أميركا ساذجة إلى درجة قيادة حرب ضد إيران. فإيران دولة كبرى في المنطقة، وهي تملك أسلحة متقدمة متطورة، وقد لا تملك السلاح الذري، ولكنّنا سمعنا تصريح رئيس الجمهورية الإيرانية محمود أحمدي نجاد، يقول أنه إذا أرادت أميركا العمل على إيذاء إيران فسوف يصيبها الأذى بطريقة أو بأخرى، وما أثار الرئيس «بوش» أن تفكر إيران في إيذاء أميركا! علينا هنا أن نعرف حقيقة، وهي أن هناك 130 ألف رهينة أميركية موجودة في العراق لدى إيران، وأن هناك أكثر من رهينة في أفغانستان. فإيران لم تعد دولة عادية كما كانت عندما حدثت الثورة فيها عام 1979، ولكنها أصبحت دولة متطورة تصنع السلاح وأقوى ما يكون. لذلك لا نقول إن إيران أقوى من أميركا، ولكننا نقول إنّ إيران ليست العراق، فهي تملك القدرة على إيذاء أميركا، وعلينا أن نعرف أن نفط الخليج تحت رحمة المدافع والصواريخ الإيرانية. فالحرب لو وقعت بين إيران وأميركا، فسوف تتحول المنطقة إلى حالة جنون لا يستطيع أن يوقفها أحد، وسوف تحترق المنطقة كلها، ومن خلال ذلك، سوف تحترق كل أصابع وأقدام أميركا في المنطقة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية