منذ اشهر لم ألتقِ المرجع الإسلامي، العلامة السيد محمد حسين فضل الله، رغم أنّ ما شهدته الساحة الإسلامية من تطورات، ساهمت إلى حدٍّ كبير في توحّد التيارات الشيعية، فضلاً عن التطورات في المنطقة، كان يقتضي لقاءه لمعرفة رأيه فيها، ولاستشراف المستقبل، نظراً لما يتمتع به من عقل راجح وفكر استراتيجي ونزوع إلى الموضوعية، ولما يملك من معطيات نتيجة متابعته الدقيقة يومياً لكل ما يجري في لبنان وعلى مستوى العالم العربي والإسلامي، والعالم الأوسع. لكن انعقاد مؤتمر الحوار الوطني منذ أيام، بدعوة من رئيس مجلس النواب نبيه بري، وانفتاح آفاق الصراع السياسي ـ الإقليمي ـ الدولي الحاد على احتمالات التسوية أو الهدنة أو الاحتدام، دفعني إلى الذهاب إليه سائلاً، ومتسائلاً، ومستفسراً، ومستطلعاً. فكان هذا الحوار:
س: مُنِيَ معظم تجارب اللبنانيين الحوارية في الماضي، سواء أثناء الحروب التي شهدتها البلاد أو بعدها، بالفشل، وثبت أن ما نجح منها كان دائماً برعاية إقليمية أو دولية أو وساطة. ماذا تتوقع لمؤتمر الحوار الدائر حالياً: النجاح أم الفشل، أم نصف نجاح ونصف فشل؟
ج: من الطبيعي جداً أن يأتي هذا المؤتمر بعد الحرب الكلامية السياسية التي استطاعت أن تؤسّس مناخاً لبنانياً انعكس بشكل سلبي على الساحة الشعبية الميدانية، حتى خُيل للناس أن الحرب على الأبواب. وهكذا رأينا كيف أن العناوين التي طُرحت، كانت عناوين حادّة أوحت بأنّه لا يمكن لأيّ فريق أن يتنازل عمّا يتبنّاه منها مهما تكن النتائج.
لذلك، فإنّ هذا الاجتماع لهذه الأطراف، ربما كان إيجابياً من خلال إعطائه نوعاً من الإيحاء، أنه من الممكن لهؤلاء أن يتحدثوا مع بعضهم البعض بطريقة عقلانية قد تكون حاسمة في إبداء كل واحد وجهة نظره، لكنّها في الوقت نفسه تعطي نوعاً من أنواع الحالة الشعورية التي قد تُثير بعض الحميمية على المستوى الشخصي.
س: إن دراسة عناوين الحوار، من خلال الخلفيات السياسية لكل فريق من هؤلاء، لا تعطي الإنسان أملاً بأن ينتهي الحوار إلى نتائج حاسمة، بحيث يمكن أن يصدر بيان يتحدث عن الوفاق حول بعض القضايا الحساسة، كما في قضيّة مزارع شبعا، فماذا تقولون في ذلك؟
ـ عندما ندرس هؤلاء الذين اجتمعوا للحوار، وندرس خلفياتهم السياسية المنفتحة على أكثر من موقع دولي، من دون أن نثير الحديث حول مسألة الوصاية وغيرها مما استهلكه اللبنانيون بعد خروج سوريا، واستبدال الوصاية السورية بوصاية دولية أميركية وفرنسية، ونحن نعرف أن بعض هؤلاء يرتبط ارتباطاً أشبه بالارتباط العضوي بالسياسة الأميركية أو الفرنسية، لأنه يعتبر أن هذه السياسة قد تخدِم لبنان، وقد تمثل مساعدة وليس سقوطاً له تحت تأثير هذه الوصاية أو هذه التدخلات في هذا المجال، وهو ما يساهم في اتّساع الهوة مع هؤلاء الذين يؤكدون الالتزام بالقرار 1559، ولا يتحمسون لأي موقف ضد إسرائيل، وإن كانوا يستهلكون بعض الحديث حول إسرائيل، لكنك تشعر أنّ في كلماتهم إيحاءات كثيرة قد تقول إن إسرائيل ليست هي العدو بالمعنى السياسي أو الأمني، وأنّ إسرائيل بعد التحرير أصبحت مُسالِمة للبنان، وأن هذه الخروقات التي تحصل بين يوم وآخر إنما هي من باب الدفاع عن النفس، لأن المقاومة تهدد إسرائيل وتتحرك في ما يسمى توازن الرعب.
وعندما ننطلق من منطق المقاومة بكل أدبياتها، ومنطق القرارات الدولية التي يلتزمها فريق آخر، ونرى، سواء بالصراحة التي تعبر عن الموقف بشكل واضح، أو بطريقة اللعب على الألفاظ، نرى إخفاءً لحقيقة بعض المواقف المتعلقة بالمقاومة.
وعندما تنطلق بعض المسائل الحادة، كقضية الرئاسة، أو موضوع العلاقات بين سوريا ولبنان، لأنّ الطريقة التي أدير بها الموقف ضد سوريا، وامتدت بعد ذلك حتى الرابع عشر من شهر شباط، لم تكن الطريقة التي يمكن أن تطل على علاقات طبيعية أو مميزة بين سوريا ولبنان، لأنها خلقت جروحاً، سواء على مستوى القيادات السورية، أو على مستوى الشعب السوري، ما يجعل من الصعوبة جداً إيجاد علاقات مميزة يمكنها أن تحقق العناوين التي يتحدث عنها الناس، من قبيل إنشاء السفارات، أو قضية ترسيم الحدود أو ما أشبه ذلك.
وأتصور أنه حتى "المساعي العربية" أو "المبادرة العربية"، حتى لو أفلحت في تحقيق نوعٍ من الهدنة، فإنه قد يكون من الصعب جداً أن تعيد الأمور إلى نصابها الطبيعي بين البلدين، ولاسيما أن هناك جهات دولية لا تزال تحمّل سوريا المسؤولية على مستوى اتهامها بأنها تعطل التحقيق في قضية اغتيال الرئيس الحريري، أو أنها تتدخل في الشؤون اللبنانية، دون تقديم أية حجج أو براهين في هذا الموضوع، ويؤيدها في هذا الاتهام فريقٌ لبناني يحمّل سوريا المسؤولية، وهو ما يوجد نوعاً من الجدال، خصوصاً وأنّ هناك فريقاً آخر يرى أن لجنة التحقيق لم تتهم سوريا، وإن أثارت بعض الضباب حولها، وأنه لا يمكن تحميلها مسؤولية اغتيال الرئيس الحريري أو غير ذلك.
إننا عندما ندرس كل هذا الواقع، وندرس أيضاً موضوع الرئاسة في تعقيداته، سواء التعقيدات المارونية الدينية التي تتحدث بلغة ملتبسة يحاول كل فريق أن يفهم منها شيئاً يختلف عما يفهمه الآخر، أو هذا النوع من الجدال حول المسائل القانونية وقضية العرائض الممثلة لحالة انفعالية لا تقترب من الجوانب القانونية... نرى أن هذا الحوار سوف ينتهي إلى هذا المناخ الشعوري، ولكن من الصعب جداً، أن ينتج قراراً سياسياً يُتلى على الناس بطريقة وبأخرى. ولكن من الممكن جداً إذا شعر المتحاورون أنهم لم يستطيعوا الاتفاق على شيء محدد، أن يشكلوا لجنة متابعة. ونحن نعرف أن اللجان هي مقبرة المشاريع.
سركيس نعوم:7-3-2006م
س: قلت إن فريقاً لبنانياً كان له التزام عضوي بفرنسا وأمريكا، وتحدثت عن المقاومة على نحو يشير إلى غياب التزام خارجي عندها. وهناك لبنانيون يقولون إن المقاومة ملتزمة عضوياً بإيران الإسلامية وسوريا ـ وأنا هنا لا أساوي بين الفريقين الدولي من جهة، والعربي ـ الإسلامي من جهة أخرى ـ وتحدثت في الجواب نفسه عن خلاف لبناني ـ لبناني حول إسرائيل، بمعنى أن بعض اللبنانيين يتعامل معها كأنها ليست عدواً، أو كأن هناك حال سلام معها. أنا لم أسمع أحداً من السياسيين في لبنان يدافع عن إسرائيل في معرض إثارته موضوع سلاح المقاومة، أو يقول إن المقاومة هي التي تستدرج إسرائيل إلى الضرب وخرق المجال الجوي وغيره. إن ما حصل في لبنان خلال سنوات الحروب وسنوات اللاسلم واللاحرب التي تلت، أحدث تغييراً مهماً في العقلية اللبنانية، وخصوصاً في موضوع إسرائيل. هناك محاولة دائمة من المقاومة (حزب الله) وحلفاء سوريا لاتهام كل من ينتقد المقاومة ويطالب بتطبيق القرار الدولي 1559 أو ينتقد سوريا بأنه إسرائيلي. ما هو تقويمك لذلك؟
ج: لا نريد الدخول في مناخ الكلمات التي يثيرها هذا الفريق أو ذاك، لكن عندما نقول إن المقاومة تنطلق من خلال خلفيات سورية وإيرانية في المسألة السياسية، فقد يثور أمامنا سؤال: ما هي الخطوط التي تؤكد مثل هذه النظرة؟ وكذلك الأمر بالنسبة إلى إيران. نحن نعرف أن سوريا ساعدت المقاومة في لبنان كما لم يساعدها أحد، وأن إيران ساعدت المقاومة كما لم يساعدها أحد، وأن ما كان يُثار من أن سوريا قد تطلب نتيجة بعض الأوضاع السياسية من المقاومة أن تقوم بعملية في هذا اليوم أو في ذاك اليوم، أو أن إيران تطلب ذلك... إنني أستطيع التأكيد، على مستوى المعلومات، أن هذا لم يحصل، وأن كل عمليات المقاومة كانت منطلقة من دراسة الواقع الميداني للخبراء الذين يخططون في هذا المجال أو ذاك.
إن مسألة أن فريق المقاومة ينطلق من خلفية إيرانية أو سورية بالمعنى السياسي أو الأمني الميداني، هو أمر لم نجد له دليلاً في هذا المجال. أما الحديث عن موقف فريق المقاومة من إسرائيل، فإنّ هذه مسألة بدأت من الصراع العربي ـ الإسرائيلي منذ ولادة إسرائيل، فهي ليست شيئاً جديداً. أما مواجهة أميركا، فنحن نعرف أنها تعود إلى أكثر من عشرين عاماً، وليست شيئاً جديداً في هذا المقام أيضاً. إننا نعرف أن هناك مشكلة جديدة بين أميركا وسوريا، وخصوصاً بعد احتلال العراق، وبلحاظ الجانب الفلسطيني، لكن الموقف من إسرائيل وأميركا سابقٌ بكثير على موقف سوريا من أميركا. نحن نعرف أنه كانت هناك علاقات جيدة بين سوريا وأميركا من حيث طبيعة نظرة أميركا إلى سوريا، والعكس صحيح في هذا المجال. وهكذا بالنسبة إلى قضية إيران التي لا يزال موقفها من الأميركيين هو نفسه منذ انتصار الثورة الإسلامية، وليس موقفاً جديداً. ومن الطبيعي أن يتأثّر الموقف ضدَّ أميركا بنظرة القيادة الشرعية الإيرانية (الإمام الخميني) ومن خلال القضية الفلسطينية، لأننا نعرف أن مشكلة أميركا الآن مع العالم العربي والإسلامي، هي مشكلتها في الدعم المطلق لإسرائيل، ولهذا فإن هذه المسألة لا تحتاج إلى أن يكون هناك خلفية إيرانية أو سورية.
أما بالنسبة إلى اتهام الآخرين بأنهم ينطلقون من حالة تنسيق فعلي مع إسرائيل مثلاً، فهناك عدة أطروحات بدأت تطفو، ومنها: "إسرائيل ليست العدو"، و"سوريا هي العدو"، وإن أثيرت هذه المسألة بطريقة ملتبسة قابلة للتغير والتبدّل. وهكذا لاحظنا أسلوب العنف في مناقشة قضية "مزارع شبعا"، من الممكن جداً أن يقال إن مزارع شبعا سورية واحتلت في الحرب مع سوريا؟! أما ما يثير علامات الاستفهام، فهو أن تنطلق المسألة بهذه الحدة، كما لو كانت مسألة "مزارع شبعا" هي من المسائل التي لو بقيت لبنانية لتهدّم لبنان، فضلاً عن السعي إلى تأكيد سوريتها وإن بطريقة ملتبسة، وكلّ ذلك بهدف سحب الذرائع من المقاومة لتتخلى عن سلاحها في الصراع العربي ـ الإسرائيلي. إنّ كل ذلك يثار من دون أن يسجل في هذه الكلمات أي خطاب حول خطورة إسرائيل على لبنان والفلسطينيين، كما لو كانت إسرائيل هي الدولة التي أصبحت علاقتنا بها علاقة سلام قبل أن تكون هناك علاقات سلام بالمعنى الديبلوماسي وما أشبه ذلك.
إني لا أتعامل مع هذه الكلمات "أن هذا إسرائيلي" أو"أميركي"، ولكن عندما أدرس طبيعة المناخ في هذا المجال، أجد أن هذا المناخ لا يوحي بأن إسرائيل تمثِّل مشكلة، بل يوحي بطريقة وبأخرى أن العرب يمثلون المشكلة، وهذا ما لاحظناه عندما انطلقت المبادرات العربية من قِبَل عمرو موسى أو السعودية أو مصر، كيف أثيرت المسألة بدايةً، كما لو كان هذا الواقع العربي المتمثل بهؤلاء، يريد إلغاء قضية اغتيال الرئيس الحريري، وإسقاط لجنة التحقيق، وتبرئة سوريا وغير ذلك، حتى سمعنا هذه الدول العربية تتحدث بسلبية عن الوسط السياسي اللبناني.
أعتقد أن الخطاب الذي تحرّك في الساحة لم يكن خطاباً ينطلق من خلال دراسة لبنان الحاضر الذي يعيش تحت تأثير الزلزال الذي يهزُّ المنطقة. ولهذا نقول: لا بد من أن ندرك ونعي أن لبنان وطننا، لم ولن نستبدله بوطن آخر، وهو بلدنا أولاً وأخيراً، ولكننا لا نستطيع أن نعتبر أن لبنان يمكن أن تحل مشاكله بمعزل عن نسيجه، أو في داخله فقط، لأننا نعرف أن أميركا ليست الدولة التي تعيش مشكلة اغتيال الرئيس الشهيد الحريري في هذا المقام، لأنها سابقاً ولاحقاً، لم تعتنِ بأي قضية اغتيال، ولكنها تريد اللعب بلبنان كورقةٍ تضغط بها على سوريا، لتقدم سوريا التنازلات في القضيتين العراقية والفلسطينية.
ونحن نعرف أن لبنان، وحين يتحدث الناس عن بعض التنظيمات الإسلامية الأصولية التي تصنّف في دائرة العنف، وعن بعض الأوضاع المتصلة بالمنطقة، نجد أن بعض الدول العربية الرئيسية في هذا المقام تتدخل، لأنها تخاف من امتداد الواقع اللبناني ليصل إلى واقعها، لأنه إذا اهتز بلد كسوريا أو لبنان، فإنّ البلدان الأخرى سوف تهتز، لأن السياسة الأميركية هي سياسة لا تعرف الأصدقاء في مثل هذه المسائل. أما إذا تحدثنا عن فرنسا في هذا المقام، فإنها تنطلق في هذه القضايا من ناحية شخصية في جانب ما، ومن جوانب أخرى سياسية، باعتبار أنّ العلاقات الفرنسية ـ اللبنانية هي علاقات تاريخية، لهذا تريد فرنسا أن تبقى هذه العلاقات متجذرة، بحيث تملك حرية إدارة الواقع اللبناني، بصرف النظر عن كونها وصاية أو تدخلاً.
سركيس نعوم:8-3-2006م
س: ...أميركا دولة كبرى لها مصالحها، وربما استعملت قتل الرئيس الحريري ورقةً للضغط على سوريا نظرا إلى "الملف الكثيف" الحافل بالقضايا بين الأخيرة والمجتمع الدولي، وبينها وبين أميركا وإسرائيل. لكن ألا تعتقدون أن الاستعمال الأميركي هذا أثمر نتيجة مطلوبة؟ هل كنتم تفضلون أن يبقى الجيش السوري في لبنان إلى الأبد بتفويض أميركي مطلق، وأن تبقى البلاد ككيان وكسلطة ومناعة وطنية في ذوبان، وأن يصبح لبنان أو يبقى دولة تدور في فلك سوريا أو جزءاً منها مستقبلاً؟ هل كنتم تفضلون ألا تستعمل هذه الورقة؟
ج: كان يمكن أن يتحرك الخط السياسي من أجل خروج الجيش السوري من لبنان من خلال اتفاق الطائف، وربما كان المنطق السوري يتحرّك في هذا الاتجاه. فالمسألة أننا كلبنانيين، مسلمين ومسيحيين، لا نريد لأحد أن يحكمنا، سورياً أو أميركياً أو فرنسياً أو غير ذلك، لأننا نعتبر أن قيمة لبنان هي في ما يملكه اللبناني من الحرية، ولهذا، فإن أية جهة عربية أو خارجية تضغط على حرياتنا وتلغيها وتمنعنا من اختيار مصيرنا، سواء في الانتخابات أو في الوظائف أو غير ذلك، فهذا مما لا يفكر فيه أحد. ولكن المشكلة لم تكن مشكلة سوريا في لبنان، بصرف النظر عن وجود الجيش السوري، لأنه كان في الطريق إلى الخروج، ولم يكن وجوده مؤثرا، بل كانت في وجود المخابرات السورية التي كان لها التأثير الكبير.
ومن المعروف أن الكثيرين من الذين يمثلون الفريق المعارض لسوريا الآن، هم مَنْ كانوا يذهبون إلى سوريا دائماً ليطلبوا منها ما يريدونه، سواء على مستوى المواقع النيابية أو الوزارية أو الإدارية. وكانت المسألة أن اللبنانيين شجعوا المخابرات السورية على اضطهادهم والتدخل في شؤونهم. وأما حكاية أن هناك إكراهاً وضغوطاً، فهذه مسألة ليست دقيقة حين ندرس القضية في واقعها. فقد استمعنا إلى الرئيس سليم الحص ـ وهو يمثل ضمير لبنان ـ يقول إنه خالف النظام السوري في العديد من المسائل، ولم يواجه ضغطاً في ذلك.
صحيح أن رجال المخابرات السورية كانوا يضغطون، ولكن هذا الضغط التقى بوجود خضوع من قِبَل الكثير من اللبنانيين الذين كانوا يحجّون إلى عنجر أو إلى أمكنة أخرى في داخل بيروت.
المسألة هي أن السوريين أفسدوا اللبنانيين، كما أن اللبنانيين أفسدوا السوريين في هذا المقام. فنحن لا يمكن أن نوافق على بقاء الجيش السوري والمخابرات السورية التي تمنع اللبنانيين، بطريقة أمنية أو سياسية، من تقرير مصيرهم، سواء في القضايا التفصيلية أو في الخطوط العامة، لكن أن يخرج السوريون ليكونوا ورقة لا لحساب لبنان، ولكن لحساب أميركا من أجل بعض القضايا المتصلة بالواقع العربي من خلال الاحتلال الأميركي للعراق، أو القضية الفلسطينية، فهذا ما لا نوافق عليه. ونحن أيضاً لا مشكلة عندنا في أن يساعدنا المجتمع الدولي، ولكن هناك فرق بين أن يساعدك المجتمع الدولي وبين أن يستغلك، ولاسيما إذا كان هذا الاستغلال يتحول إلى ما يشبه الإرباك للواقع اللبناني. فحين نستمع إلى تصريحات الموفدين الأميركيين، فإننا نجد أنهم كانوا يتدخلون حتى في الأمور الصغيرة. فما علاقة الموفدين الأميركيين بمسألة رئاسة الجمهورية؟ هذا أمر داخلي، حتى وإن كان الرئيس مطالباً من قِبَل البعض بالرحيل.
إن هذه المسألة تعني أن هناك سيطرة ووصاية في هذا المجال. ونحن نلاحظ أنهم استطاعوا تعميق الخلافات الكثيرة بين اللبنانيين، فما هي علاقتهم بالتفاهم الذي تمّ بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"؟ هذه قضية داخلية تقاس بما يحصل من تفاهمات بين أفرقاء 14آذار في هذا المجال مثلاً. وأنا أؤكّد أنّ القضية ليست في أننا نريد بقاء الجيش السوري والمخابرات السورية لتعبث في لبنان وتمنع اللبنانيين من تقرير مصيرهم، ولكن القضية هي رفضنا في أن يكون بلدنا ورقة، فهذا أمر نرفضه. كنا نقول بالنسبة إلى العراق، إن العراقيين كانوا يسبّحون بحمد الرئيس بوش وأميركا، لأنها أنقذتهم من صدام، وكنا نقول لهم إن نظام صدام كان صناعة أميركية، وحين انتهت وظيفته أرادت أميركا إبداله بنظام تسيطر عليه بشكل مباشر أو غير مباشر، ليكون العراق جسراً للمنطقة.
وقلنا لهم: احسبوا حساب القضايا على حساب المصالح العراقية، وليس على أساس الأخلاق العربية التي تتحدث عن الوفاء والخدمات، لأن في السياسة لا وفاء ولا أخلاق ولا غير ذلك.
س: التوبة موجودة في كل الديانات، وهي تجوز وخصوصاً عندما لا يعود في مقدرة معلنيها احتمال الضغط والإكراه. وقد تحدّثتم عن تبادل الإفساد، علماً أن هناك من يتساءل: هل إن القصة بين اللبنانيين وسوريا هي مجرد أخطاء متبادلة وإفساد متبادل؟ هل إن لبنان في الاستراتيجيا السورية، أو كما يراه السوريون، يؤثر على المسلمات الوطنية في تقديركم؟
ج: هناك نقطة يجب أن نلحظها، وهي: من الذي سلّط السوريين على لبنان وأعطاهم كل هذا الامتداد العسكري والأمني؟ إننا نعرف أن العالم العربي قد ساهم في إدخال قوات الردع العربية إلى لبنان من جهة، وأميركا ومعها الغرب من جهة أخرى، ونحن نعرف من خلال هذا الجو، أن مصالح أميركا آنذاك كانت تقتضي أن تدير المسألة اللبنانية من خلال الجو السوري والعربي، انطلاقاً من الصراع في الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي سابقاً، وكانت تريد تجميد حركة الاتحاد السوفياتي، ومعه اليسار العربي في لبنان، على أساس أن الحرب اللبنانية كانت معدّة لتثير الكثير من القضايا التي يستفيد منها الاتحاد السوفياتي، خصوصاً في المسألة الفلسطينية، وصراع الفلسطينيين ومعهم الوطنيون في لبنان. لهذا، كانت المسألة مسألة المصالح الأميركية في هذا المقام، وبشكل واسع، والمصالح الغربية معها.
حتى إننا نلاحظ أن أميركا أفسحت في المجال لإسرائيل لاحتلال لبنان، وهناك من اللبنانيين من يتحدثون الآن عن الاستقلال وعن الحرية، ولا أعني أنّهم ساعدوا أو اجتذبوا الإسرائيليين، ولكنهم لم يواجهوا الإسرائيليين، ولم يعتبروهم جيشاً محتلاً وبلداً محتلاً، ونحن نعرف كيف تحركت مجزرة صبرا وشاتيلا وغيرها.
ليست المسألة مسألة توبة في هذه القضايا، ففي الدين التوبة، وهي أن تندم على ما مضى، وأن تعزم على أن تصحّح ما تفعله من عمل في المستقبل، أما أن تتوب بمعنى أن الظروف تغيّرت، وتحاول لعب لعبة جديدة تختلف عن التجربة الصعبة السابقة، فهذا أمر لا يسمّى توبة.
إن المسألة بالنسبة، إلينا وفي ما نفكّر فيه، هي أن الذين تحركوا مع الاحتلال الإسرائيلي، أو في الخط الأميركي وغيره، وانعطفوا أيضاً عن الجو السوري في ذلك الوقت، هؤلاء لا يزالون في الخط نفسه، ولكن مسألة سوريا الآن أصبحت تختلف عمّا كانت عليه في الخط الأميركي. والقضية، هي أن أميركا ـ كما يقول بعض الناس ـ والمجتمع الدولي، التقيا معنا ونحن نستفيد منهم في ما نريده من تحقيق حريتنا واستقلالنا ورفض الوصاية، ولكننا عندما ندرس حركة السفير الأميركي في لبنان في كل الأمور الكبيرة والصغيرة، نعرف أن المسألة ليست مسألة مساعدات.
سركيس نعوم:9-3-2006م
س: عندما يكون الحديث عن مسألة نزع سلاح المقاومة، هذا الحديث قد يجد فيه البعض حديثاً موضوعياً عقلانياً، باعتبار أنه لا يمكن أن يكون هناك جيشان في بلدٍ واحد. وفي حال ساعدت أمريكا الجيش اللبناني ودعمته، فإن البعض يتهم الجيش "بالتأمرك"، وإذا لم تساعد الجيش، فإن البعض ينتقدها في عدم المساعدة. فماذا تقولون في ذلك؟
ج: هذا كلام ليس واقعياً، نحن نعرف أن الجمعيات الخيرية الأميركية تعطي اللبنانيين مساعدات، ولم يقل أحد إن لبنان الاجتماعي تأمرك. نحن نقول إن أميركا ليست جادة في أن تجعل الجيش اللبناني جيشاً قوياً، بحيث يستطيع مواجهة العدوان الإسرائيلي. وإذا كانت جادّةً في دعم الجيش بهذا المستوى، فكيف نطالب بنزع سلاح المقاومة التي تنسّق مع الجيش اللبناني، وكانت تنسق مع الدولة اللبنانية؟ كيف يمكن أن نمنع لبنان من أن تكون له مقاومة تنسق مع الجيش اللبناني لمواجهة احتمالات العدوان الإسرائيلي عليه في هذا المجال؟ إنّ أي دولة تحترم نفسها تفكر في هذه الطريقة. والسؤال الآن: لو اعتدت إسرائيل على لبنان، فهل يملك الجيش اللبناني مواجهتها؟!
س: الكل في لبنان يريد بناء الدّولة وتنظيم الجيش، وإبقاء لبنان في دائرة الصراع العربي ـ الإسرائيلي، لكن أن نقول إننا نريد الاحتفاظ بالسلاح لمواجهة التهديد الإسرائيلي، فهذا مطلب غامض، لأن الصراع مع إسرائيل قد يمتد إلى خمسين عاماً أو أكثر. المقاومة بسلاحها أقوى من المؤسسة العسكرية، صحيح هناك تنسيق بين الجهتين، لكنه لا يحول دون حصول انتكاسات سياسية فيتوقف أو يجمد. لا بد من إيجاد حل أو صيغة تجمع المقاومة والجيش، تجعل اللبنانيين يثقون بأن السلاح له مهمة وطنية ولن يوجه إلى الداخل.
ج: نحن نعرف أن هناك جدالاً حول سلاح المقاومة، وخوف من استخدام هذا السلاح في الوضع الداخلي، واتهاماً له بأنه مرتبط بالمشروع النووي في إيران، مع أن إيران تقول إن لديها فتوى من أعلى سلطة دينية، بأنّه يحرم صنع السلاح النووي، وأنها تريد صناعة ما يتحرك في المسألة النووية في إطار سلمي، كما في الهند التي تملك سلاحاً نووياً، والتي عقدت اتفاقاً مع أميركا بالنسبة إلى قضية المشروع النووي المدني. وإيران تؤكّد أنها لا تريد صنع السّلاح، وتقول إنها مستعدّة لإعطاء كل الضمانات في ذلك، ولكنّهم لا يريدون لإيران أن يكون لها خبرة علمية نووية في هذا الموضوع، ولا أن تملك الحرية في مشروعها بما يخدم مصالحها السلمية واقتصادها.
وفي ما يتعلّق بسلاح المقاومة، فإنه من الممكن جداً في الحوار الذي يدور بين المقاومة وبين الفريق السياسي اللبناني والدولة، أن يبحثوا ما هي الضمانات التي يمكن أن تقدمها المقاومة في أنها لن تتحول إلى قوة مسلّحة تُسيء إلى الدولة والبلد واللبنانيين.
ونعتقد أنه لا بد من أن يدور الحوار حول الضمانات، وليس حول انتهاء دور المقاومة أو تسليم سلاحها إلى الجيش، بحجّة عدم وجود سبب لبقائها، إلى غيرها من الطروحات التي تعتبر من أكثر القضايا تعقيداً في لبنان. ولعل قضية سلاح المقاومة هي التي دفعت مجلس الأمن إلى اتخاذ القرار 1559، والذي صرح وزير خارجية إسرائيل شالوم بشأنه حرفياً: "لقد كنا وراء القرار 1559"، في ما يعني أن أميركا وفرنسا انطلقتا من خلال المصلحة الإسرائيلية في هذا القرار، لأنهم لا يريدون أن تكون هناك جهة عربية تملك موقع قوة لقول "لا" لإسرائيل.
إنني أقول، إن الطريقة التي أثيرت فيها مسألة سلاح المقاومة، وبالشكل الذي تحركت فيه التصريحات وغيرها، ليست هي الطريقة المثلى لحلّ مشكلة كهذه.
س: تسود في الوسط السياسي اللبناني لغة التخوين، فمثلاً عندما يحتدّ النقاش ويشتدّ، ينطلق فريق لاتهام فريق آخر بأنه جزء من المخطط الإسرائيلي الذي ترعاه أمريكا، أنا لا أبرّىء من قال إن إسرائيل ليست العدو، لأن طبعه الانفعالي دفعه إلى قول ذلك، لكنّ هناك حالاً عدائية مع سوريا لأسباب متنوعة يحاول الجميع معالجتها. إلى متى يستمر هذا التهويل على الناس دائماً بالقول إذا لم تكونوا مع هذه الجهة فإنكم مع إسرائيل؟
ج: ما تقوله مشترك، فنحن نقول إن هذا الأمر من أين انطلق؟ انطلق عندما أصبح الوطن لعبة كرة تتقاذفها الأقدام، بحيث يريد كل واحد تسجيل نقطة على الآخر. وهذا الصراع الانفعالي، والتصريحات المتحركة عبر وسائل الإعلام، خلق جواً من المنافسة بين اللاعبين بهدف تسجيل نقاط أكثر. فكما ينطلق كلام بأن هؤلاء ينطلقون من خلال إسرائيل وأميركا، أيضاً هناك كلام بأنكم تنطلقون من خلال سوريا وإيران، ولا يزال الحديث حتى الآن عن قضية إيران وسوريا. المسألة هنا، أن بعض القضايا فيها جانب ملتهب، وهو يشجع على بعض الكلمات.
فعندما يُطرح سلاح المقاومة، الذي يتحرك في قضية المواجهة مع إسرائيل، وتطرح مزارع شبعا التي تحمل عنوان الأرض المحتلة التي ينبغي تحريرها، ونسمع التصريحات الإسرائيلية حين قال شالوم: "نحن كنا وراء القرار 1559"... حين ندرس كلّ هذا، نجد أن هذا المجموع كله يعطي نوعاً من الإيحاء حتى على المستوى الشعبي، بأن المسألة، سواء أراد هذا الفريق أو لم يرد، قصد أو لم يقصد، سيخدم إسرائيل. ليس ضرورياً أنك تخدم إسرائيل مباشرة، إن التحرك أحياناً بمشروع تطالب إسرائيل وأميركا به، يصب في خدمة إسرائيل.
وهكذا نلاحظ كيف أنَّ شيراك أثار مسألة أن "حماس" لا بد لها من أن تعترف بإسرائيل، ولا بد من أن ترفض العنف، فهو لم يقل إن إسرائيل لا بد أن تعترف بفلسطين وليس بحماس فقط، وأن تعترف بالشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية التي تقضمها كل يوم، لم يقل إن على إسرائيل الامتناع عن ممارسة الاغتيالات، والتدمير، والاجتياح المتواصل في فلسطين وإسقاط الأمن الفلسطيني، فيقيناً يمكننا القول إن جاك شيراك ورايس وبوش يقفون مع إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني الذي اختار "حماس" عبر انتخابات غير الموجودة في المنطقة، انتخابات حرّة نزيهة. هذا الكلام وهذه المواقف والعقوبات تدل على أن الجماعة مع إسرائيل وليسوا مع الشعب الفلسطيني، بل إنهم ينافقون ويخادعون الشعب الفلسطيني عندما يتحدثون عن السلام وغير السلام.
إنّ كلاماً من هذا القبيل، ليس ضرورياً أن يكون هو الكلام الذي يوجه في هذا الاتجاه المثير للحساسيات، ولكن طبيعة الموضوع هي ما يقود إلى هذا.
سركيس نعوم:10-3-2006م
س: ماذا يخدم لبنان أكثر؛ بقاؤه دولة ضعيفة بطوائف مسلَّحة كنافذة مفتوحة على التقسيم والتفتيت، أم أن يصبح دولة قوية مبنية على توافق أبنائه مرة أولى ونهائية؟
ج: من المؤكّد أن ما يخدم لبنان هو عندما يتوحد اللبنانيون ويتفاهمون، وحتى عندما يختلفون بالطريقة الديموقراطية التي لا يخوّن فيها أحدٌ أحداً، ولا يقصي أحد أحداً. ولكن كيف يتحقق ذلك ما دام النظام اللبناني طائفياً؟ إن النظام الطائفي في لبنان يحوّله ـ كما كنت أتحدث دائماً ـ إلى ولايات غير متحدة. إن إسرائيل تعمل من خلال النظام الطائفي إلى الدخول بين الطوائف من خلال تخويفهم من بعضهم البعض، وهذا ما تقوم به بعض الدول أيضاً، وهذا ما لاحظناه من خلال الحديث عن الخلاف الطائفي بين السنة والشيعة عقب اغتيال الرئيس الحريري، باعتبار أن الرئيس الحريري قيادة سنية. لهذا نقول: ما دام النظام في لبنان طائفياً، فمن الصعب أن يستقر هذا البلد، ولن يستقر ولن يترك في حالة استقرار، لأن كل الأطراف تستفيد من هذه الفسيفساء اللبنانية الطائفية السياسية الحزبية، والتي تجعل لبنان نافذة الشرق على الغرب، ونافذة الغرب على الشرق. ولهذا أعود إلى كلمتي، أن لبنان تحكمه لاءات ثلاث: "لا تقسيم، لا انهيار، لا استقرار.
س: هل الأطراف المستفيدة من الواقع الطائفي والمذهبي في لبنان هي دولية أو إقليمية أو شقيقة أو صديقة أو عدوة؟
ج: بطبيعة الحال نقول، إنه ما من طرف في لبنان لبناني بالمعنى الخالص الذي يفكر في لبنان دون أن يحسب حساب التدخلات الخارجية. وإن اختلفت درجة هذا الحساب ما بين طرف وآخر، ولكن هناك نقطة نضيفها، أنه ليس هناك بلد مغلق الحدود، فبعد تحرك لبنان بطريقة معقولة في الأربعينات والخمسينات، حيث كانت المشاكل محدودة والتدخلات محدودة من قبل (بريطانيا ـ فرنسا) بشكل لا تؤثر في كل المفاصل اللبنانية، اهتزّ وضعه بعد أن قامت دولة إسرائيل في المنطقة، فأصبح أكثر بلد عرضةً للتهديد والاجتياح والتدمير الإسرائيلي، وكان أكثر بلد قتل فيه مدنيون بسلاح إسرائيل. ولهذا فربط لبنان بالسياسة الإسرائيلية من خلال السياسة الدولية. ثم جاءت القومية العربية لجهة أن لبنان بلد عربي، ولا بد من أن يتحرك من خلال موقعه في العالم العربي. ثم كانت المسألة الإسلامية ومعها الأصولية. ونحن الآن أمام مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي المناخ الذي يحاول فيه القائمون عليه الاستفادة من أي ثغرة موجودة في لبنان وسوريا والعراق وإيران. لذلك من الصعب جداً أن يحصل في لبنان نوع من أنواع الاستقرار، أو معالجة قضية من قضاياه، بعيداً عن المناخ الدولي والعربي والإقليمي الموجود. فالقضية أننا لا نملك كل قواعد اللعبة.
س: هل إن الشعب اللبناني بطوائفه ومذاهبه كلها، ليس أفضل من حكامه وزعمائه ومراجعه السياسية والدينية، أم هو ربما أسوأ منهم كلهم؟
ج: صحيح، لذلك كنت أقول، لا تتحدثوا فقط عن النواب والرؤساء، بل تحدثوا عن الناخب، فهو الذي يشجِّع الشخص المنتخَب على أن يقهره ويظلمه ويصادره، فكما تكونون يولّى عليكم. إننا نرى كيف أنّ الناس يتحرّكون ويتظاهرون بمئات الآلاف عندما يشار إليهم بالتأييد لكل العناوين التي تطرح، دون أن يدرك البعض منهم دلالاتها أحياناً.
لقد قلت لبعضهم في انتخابات سابقة فرعية: كنا نريد منكم أن تحركوا عقول الشباب، فحركتم غرائزهم. ولقد قلت في خطبة الجمعة الماضية: أين الجيل الجديد؟
س: بصراحتكم المعهودة، إذا تعرضت سوريا ـ ولا أتمنى لها إلا الخير ـ أو إيران ـ ولا أتمنى ذلك ـ لضربة أميركية ـ إسرائيلية، فهل تعتقد أن "حزب الله" سيحرك سلاحه ويتصرف عسكرياً بشكل من الأشكال؟
ج: لا أتصور ضمن الظروف الموضوعية الموجودة في المنطقة الآن، أن يتحرك، ولكن عندما تتعرض سوريا لخطر، وإيران كذلك، فسوف تدخل المنطقة في حالة جنون، وعندما يأتي الجنون، فإنه سيشمل كل المنطقة.
س: إنكار تدخل المجتمع الدولي في لبنان مكابرة. فالسندان الأميركي والفرنسي ينشطان ويتدخلان. الفرق بيننا في هذا الموضوع، أنكم تعتبرون ذلك وصاية وأنا لا أعتبره كذلك. ألا تعتقدون في المقابل، أن هناك تدخلاً من السفير الإيراني في بيروت في الشؤون اللبنانية، وكذلك السفراء العرب؟ والسفير الإيراني بدأ يتحدث عن الشعب اللبناني "الشقيق" ودولة لبنان "الشقيقة"، فهل صارت إيران دولة عربية؟
ج: أنا لا أجد أن السفير الإيراني يعمل على تغيير أي شيء، في النسيج اللبناني، ولكن عندما يصرّح ويقول بأن لبنان دولة شقيقة، فباعتبار أن القسم الأكبر منه سكانه مسلمون، وإلا لماذا وعلى أي أساس يحضر مؤتمر "منظمة المؤتمر الإسلامي"؟ وأما قضية تدخل السفير الإيراني، فإنني لا أجد لديه أية فاعلية أو رغبة في التدخل بالمعنى السياسي أو الأمني. غاية الأمر، أن الإيرانيين يأتون ويقولون نحن مستعدون لمساعدتكم اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً. وأحبّ لمن يقول بتدخل إيران في الشؤون اللبنانية، أن يأتي ليقول لي أين هو هذا التدخل؟ وأكون ممتناً له.
سركيس نعوم:11-3-2006م
س: قلتم أنكم تسمعون كلاماً عن تدخّل إيراني في الشؤون اللبنانية؟
ج: نعم أسمع، ولكنني لا أحترم هذا الكلام مع احترامي لكل الناس، لأن هذا الكلام لا ينطلق من أساس، وأحب في هذا المجال أن أسجل تقديري لسفير المملكة العربية السعودية الذي أحترمه كشاعر وأديب، عندما يقول: "ليس من حق أي سفير أن يتدخّل ويتحدّث عن الشؤون اللبنانية"، فهذا يمثل الموقع الحقيقي للسفراء في هذا المجال. وقد كنت أستمع إلى بعض وسائل الإعلام الفضائية حين تُسأل رايس عن مواصفات رئيس لبنان الجديد، فتقول كذا وكذا... وتسهب في التصريح، والسؤال: ما المناسبة في ذلك؟ إن وسائل الإعلام تستصرح الأجانب حول كل الشؤون اللبنانية، بما فيها ما يختلف فيه اللبنانيون، حتى يعلّمونا كيف نعمل.
س: ذكرتم السفير السعودي في لبنان بالخير، وقلتم إن الفريق اللبناني المراهن على المجتمع الدولي، وحتى المجتمع العربي، لم يستطع تحمل مبادرة أو تحرّك السعوديين، كيف ذلك؟
ج: لقد سمعنا من المسؤولين السعوديين ردود فعل على ذلك، فالأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي، رد على رئيس الحكومة اللبناني فؤاد السنيورة الذي نفى وجود مبادرة سعودية، بتأكيد وجودها. وتفيد المعلومات أنّ السعودية تلقّت أفكاراً سورية وأخرى لبنانية، لكن الوسيط النشيط ليس صندوق بريد يتلقى الاقتراحات ويدعو أصحابها إلى التفاهم، فدوره هو الغربلة وإيجاد القواسم المشتركة، وحتى اقتراح مشروع تسوية من كل الأفكار المطروحة بما يحفظ مصالح الجميع. السعودية لم تفعل ذلك. كان العرب، وفي مقدمهم السعودية، صادقين في مساعدة لبنان أو في الرغبة في مساعدته، لكنهم كانوا ينكفئون عندما تواجههم صعوبات.
س: اتفاق الطائف كان العرب عرّابيه (السعودية تحديداً)، وكان يفترض أن يواكبوا تنفيذه، لكنهم لم يفعلوا، فاجتُزئ تطبيقه، علماً أنهم قبل أن يصبح الاتفاق نهائياً عام 1989 عدَّلوا في أحد بنوده نزولاً عند رغبة الرئيس (الراحل) حافظ الأسد الذي "ميّع" موضوع الانسحاب السوري من لبنان سنوات طويلة. كل ذلك جعل اللبناني يخشى عدم استكمال الشقيق العربي المساعد مشواره معه؟
ج: مَنْ وقفوا ضد المساعي العربية كانوا يتقرّبون إلى السعودية، ويذهبون إليها في كل يوم قبل إطلاق المساعي، ثم أصبحت الكلمات ملتبسةً، عند طرح السعودية ومصر مبادرتهما.
والسؤال: لماذا يذهب كبار المسؤولين إلى السعودية ويقوّلونها ما لم تقل؟
كل دولة لها مصالحها، وعلى لبنان، حين يتحرك، أن يعرف مصلحته. ونحن نتساءل أمام هذا الحوار في موضوع العلاقات اللبنانية ـ السورية: لو بقيت العلاقات جامدة بين سوريا ولبنان، فكيف سيكون وضع لبنان؟ هل يستطيع لبنان مصادرة سوريا؟ ومن الطبيعي أن سوريا لا تستطيع السيطرة على لبنان، لكن لو أرادت، فإنّ لبنان حينها لن يستقر ولو كان هناك عشرون أميركا وعشرون إسرائيل.
إني أدعو إلى دراسة الأمور بعقلانية تنفتح على مصالح اللبنانيين. ونحن لبنانيون نريد مصالحنا، كما يريد السوري مصالحه. وإني أرى أن هناك شيئاً يشبه العقدة من سوريا، وهي عقدة من الصعب حلّها بعد أن تعمّقت لدى الشعب السوري، وهو ما يخدم سوريا، لأن الحديث ليس عن أشخاص، إنما عن البلد كله.
س: نعود إلى مؤتمر الحوار. البلاد الآن في احتقان كبير، والدول العربية تنتظر نتائجه أياً تكن لمواكبتها بلجنة متابعة أو بأي شيء آخر. ألا تعتقدون أن المتحاورين لن يتوصلوا في هذه المرحلة إلى حل أو إلى تسوية في ما يتعلق بالقرار 1559، بل إلى تصورات تسوية، ولذلك قد يكون من الأفضل، وبغية تنفيس الاحتقان المذكور، التفاهم على خطوط عامة للحلول ومتابعة البحث فيها، وفي الوقت نفسه، انتخاب رئيس جديد للبلاد يقود الحوار الذي يعلق اللبنانيون عليه آمالهم؟ هل تتوقعون ذلك؟
ج: من خلال دراستي للمناخ الذي تُثار فيه هذه القضية، سواء على مستوى طبيعة الشخص، وطبيعة الوسائل المستخدمة، وطبيعة الأساليب الحادّة التي تُثار وتستعمل لإسقاط الجانب الشخصي للشخص، لا أتوقع أن يحصل حلّ من خلال الحوار، لأن الكثير من الأطراف قد لا يجدون هناك فرصة لهذا. ثم إن المسألة ربطت بذهاب شخص ومجيء آخر، فمن هو هذا الشخص؟ وما هو برنامجه؟ وكيف تُدار القضية؟ لذلك، فإن هذه قضية لا حل لها حسب الظاهر، إلا بالطريق القانوني غير المتيسّر... وهي لن تحل بحسب طبيعة المناخ الذي نتحرك فيه. ولا مستحيل في السياسة، ولهذا قد يبقى اللبنانيون مستأنسين بالتصريحات وبالإعلام وبالفضائيات وغيرها.
س: هل توافقون من يقولون، وأنا منهم، إن اللبنانيين وزعماءهم يتكلمون وطنياً ويتصرفون طائفياً ومذهبياً؟
ج: طبعاً، وهذا ما أواكبه من خلال دراستي للواقع، وأرى أن الأعمال تختلف كثيراً عن الكلمات، وهذا ما جعل الأجيال السابقة تدفع ثمناً كبيراً، وقد تدفع الأجيال القادمة أثماناً مضاعفة.
سركيس نعوم:13-3-2006م