حاوره في بيروت - أحمد الحاج
وحدوي إسلامي، آمن بالوحدة الإسلامية، فمارسها سلوكاً وأطّرها فتاوى، وقف خلال الحرب الأهلية في لبنان بوجه الفتن، وخصوصاً في ما يتعلق بالعلاقة بين السنة والشيعة، فكان له دورٌ أساسي في خلع الصفة المذهبية عن حروب المخيمات في منتصف الثمانينيات.
إنه المرجع اللبناني السيد محمد حسين فضل الله، جرت محاولة فاشلة لاغتياله قُتل فيها المئات، واتهمت بها المخابرات الأميركية.
«السبيل» التقت السيد محمد حسين فضل الله في بيروت وحاورته، وهذا نصّ الحوار:
س: ما هي أبرز التحدّيات التي تواجه الوحدة الإسلامية؟
ج: لعلّ من أهم ما يواجه مشروع الوحدة الإسلامية، هو ذهنية المسلمين الثقافية نفسها، والتي تركّز على الشخصية المذهبية في انتماءاتها، قبل التركيز ـ إن لم نقل دونه ـ على الشخصية الإسلامية العامّة، التي من المفترض أن تشكل إطاراً عاماً للوحدة، في مقابل البيئة التي تحتضن الانتماءات المذهبية التي تضجّ بكل المفردات المليئة بالحساسيات والتعقيدات المختلفة والتي نمت في الزوايا المغلقة للتاريخ الغارق في عصبيّاته، ما يجعل المسلم -هنا وهناك- ينطلق في علاقته بالمسلم الآخر، ونظرته إليه، من كل هذه الأجواء السلبية التي تفرضها التربية العامة والخاصة. وهذا ما يساهم في إبعاد المسلمين عن الانفتاح على الإسلام في الأفق الواسع والساحة الممتدّة، سواء في أفكاره وأهدافه، أو في قيمه الأخلاقية، وأساليبه الحوارية، وحركته العامة. وبذلك، يفتقد المسلمون القاعدة الأساس في حركة الوحدة الإسلامية، وهي الارتفاع عن عناصر الخلاف، والنظر إلى مواطن اللقاء.
وقد يتحوّل هذا المسار ـ بفعل الحالة الشعورية الحادّة، والاستذكار التاريخي الدائم للمشاكل المتنوّعة، والممارسة اليومية للانفعالات القاسية ـ إلى تراكمات عقلية ونفسية وتعقيدات عملية، تؤدي إلى أن يتحوّل المذهب إلى دين مميّز بالمستوى الذي قد يعيش فيه المنتمي إليه ثقل الشعور العدواني ضدّ المذهب الآخر، بحيث يجد في وعيه الذهني والشعوري العذر في اللقاء بأتباع الأديان الأخرى في مواقع اللقاء، بما لا يجد العذر فيه للقاء بأتباع المذاهب الأخرى في دائرة الإسلام، تماماً كما هو شأن اليهود الذين كانوا يعتبرون المشركين {أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} (النساء:51).
ثم إننا نجد ـ بفعل عوامل وتعقيدات كثيرة ـ أن هذا المنهج في الاستغراق بالخصوصية، قد أفرز منهجاً تكفيرياً لكل من يختلف معك في المذهب، حتى وصل الأمر إلى تكفير قائم على أساس الاختلاف في فهم هذا الحديث المرويّ أو ذاك، مما تنفتح عليه دلالات النص في احتمالاته.
ولا نستطيع أن نغفل هنا الدور الأساسي الذي تقوم به الدول الكبرى المحتلة والمستكبرة، في اللعب على كل عناصر الفرقة والاختلاف، ومحاولة تغذيتها، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال إفساح المجال لكل الفئات التكفيرية للعمل بحرية.
هذا الأمر يفرض على المسلمين المخلصين لمشروع الوحدة الإسلامية، أن يقفوا موقفاً حازماً وواضحاً تجاه تلك الحركات، التي نرى أنها ـ في تطوّر حركتها ـ سوف تنطلق إلى الساحات التي تنتمي إليها مذهبياً، ولا تقتصر على المذهب المخالف، لأن التكفير إذا أصبح منهجيّة في التفكير والحركة، فإن الظروف ـ في تبدّلها ـ قد تنفتح به على مجال تكفيري آخر. ولعل هذا الأمر يساعد على إعادة أواصر الثقة بين القيادات الإسلامية المتنوّعة، من خلال إحساسها بالهمّ المشترك، والأخطار التي تهدّد الجميع: الداخلية والخارجية.
س: على الرغم من ظهور مجالس علمائية عالمية تتجاوز الصفة المذهبية، إلاّ أنّها بقيت عاجزة عن نيل الشرعية الشعبية، ما سبب ذلك في رأيكم؟
ج: في الواقع، لا يمكن إغفال نشوء العديد من المجالس التي تضمُّ علماء مسلمين من مختلف المذاهب في أنحاء العالم، وذلك في أكثر من دولة إسلامية، سواء كانت ذات طابع سني أو شيعي من حيث خطها المذهبي. كما أن الكثير من مشاريع التقريب قد تحرّكت بفعل اللقاء المتنوّع الذي خفف من الحواجز النفسية، أقلها من حيث الجهل المحيط بالآخر، إضافةً إلى انفتاح هذا اللقاء الاجتهادات المختلفة في داخل المذهب الواحد، ما قلّص من حجم الاختلافات بين المذاهب، على أساس أنه ما من رأي سني إلا وتجد رأياً شيعياً يوافقه، والعكس صحيح أيضاً، إلا أن التعقيدات السياسية التي تدخل على هذا الخط، أو تكوِّن إحدى مكوّناته ومصادر حركته، قد تبعد مسألة الوحدة الإسلامية عن أن تتحرّك بحرية في الإطار الثقافي والفكري الذي يؤسس للأطر الأخرى، السياسية منها وغيرها، بحيث قد نجد كثيراً من هذه المجالس أقرب إلى الديكور الوحدوي منه إلى المضمون الوحدوي، ما يعني محدودية في النتائج، وذلك في ظل استمرار التربية الخاصة، والتحديات التي ربما يتمّ الانسياق إلى مواجهتها من خلال الخصوصية بعيداً عن العناوين الكبرى، وهو ما يدفع ببعض القيادات إلى الاستجابة للخصوصيات لتأكيد شرعيتها، بحيث تتحرك في نوع من النفاق الثقافي المتعلق بمسألة الوحدة، وعند ذلك يصبح الخطاب الوحدوي من شؤون المجاملات وإدارة العلاقات العامة، حتى إذا رجع كل واحد إلى خصوصياته وقاعدته الشعبية، خاطبها بما تهواه من الخصوصية.
إننا لا نريد أن نتشاءم، أو نقلل من أهمية هذه اللقاءات والمجالس، ولكن من الضروري أن ينطلق الإخلاص للمشروع الوحدوي على أساس الشفافية والجدية، التي تؤسس للوحدة في عمق الوجدان الإسلامي الشعبي على وجه الخصوص، لأنه هو الحاضن الأول والأخير لحركة التقارب المذهبي على القاعدة الإسلامية العامة.
س: هناك من يعتبر أن أحد أسباب ما يجري اليوم من إشكالات مذهبية، هو عدم قراءة التراث قراءة جديدة، إذ إن بعض هذا التراث ـ سواء كان سنياً أو شيعياً ـ فيه الكثير من المغالطات عن الطرف الآخر، فما رأيكم؟
ج: من الطبيعي أن يكون للمسار التاريخي الذي عاشه المسلمون، بكل تعقيداته وتحدّياته، الأثر الكبير في تعميق هوة الاختلاف بين المسلمين؛ إلا أننا نرى أن المشكلة الحقيقية إنما هي في الذهنية التي تحكم حركة الاختلاف لدينا، وغياب المنهجية الإسلامية القرآنية في الحوار مع الآخر، فالله سبحانه يقول: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينـزع بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوّاً مبيناً} (الإسراء:53)، وفي آية أخرى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} (النحل:125)، {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصِّلت:34)، {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول} (النساء:59)، وقد بلغ الأسلوب الحواري القرآني الذروة في قوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} (سبأ:24)، ليوحي بأن مسألة الخلاف الفكري بين خط الهدى وخط الضلال، يفترض أن يبتعد عن الأحكام الحاسمة السابقة، وعن الجوانب الذاتية، ليتحوّل إلى حوار بين فكر وفكر، من دون أن يكون للواقع الانتمائي لهذا أو ذاك دور في الحوار. لذلك، رأينا أن غياب هذا المنهج قد أفرز تنافرات حتى في إطار المذهب الواحد، كما قد نجد ذلك في إطار المذاهب السنية الأربعة، أو في إطار تنوّع الاجتهاد الشيعي القائم، حيث تطبع العصبية كل انتماءاتنا، ما يجعل لدى كل مذهب أو فئة نزوعاً نحو الانقسام بدلاً من الوحدة، والتنافر بدلاً من اللقاء.
إننا نجد أن المسألة حالياً هي أكثر تعقيداً من المسألة التاريخية وحدها، وإن كانت المسألة التاريخية تمثل أحد أهم عناصرها.
ونحبّ أن نسجّل ـ في هذا المجال ـ دعوتنا إلى أن لا يقرأ السنةُ الشيعةَ في كتبهم التاريخية، مما قد لا يلتزمون بأكثره اليوم، وأن لا يُقيِّم الشيعةُ السنةَ من خلال كتبهم التاريخية التي قد لا يلتزم بها الكثيرون اليوم، بل أن ينطلق الحوار حول كل النقاط بشفافية وموضوعية، في سبيل أن يتعرّف كل طرف على الآخر المعاصر، في كل أفكاره وتطلعاته، وهذا ما من شأنه أن يحدّد عناصر الاختلاف الحقيقية بين الطرفين، ويكفل بالتالي قراءة مُتأنية موضوعية من قِبَل كل طرف لنصوصه على ضوء الظروف الموضوعية التي أفرزت رؤية معينة في الماضي للطرف الآخر، ما يفسح في المجال لتعديل أو تبديل.
س: هل من الأفضل لأبناء كل بلد من البلدان الإسلامية، أن يبنوا تفاهمهم الخاص بمعزل عن البلدان الأخرى، حتى لا يستوردوا الفتن؟
ج: من الطبيعي عندما تبحث عن العناصر المشتركة بينك وبين الآخر، فإن قرب مواطن اللقاء إلى الاهتمامات المشتركة، تفرض نفسها في كل ذلك، وهذا من شأنه أن يسهم في خلق حالة من الاستقرار في هذا البلد أو ذاك، قد تنعكس عدوى في نشدان الاستقرار في البلاد الأخرى، ما يجعل من غير الطبيعي أن يعمد أي مجتمع إسلامي إلى أن يجتذب عناصر الفرقة من خارجه.
إلا أنّنا نريد أن نسجّل نقطة، وهي أن طبيعة مشروع الوحدة الإسلامية لا تقبل الانغلاق على الذات في أي إطار، سواء كان وطنياً أو غير وطني، خصوصاً مع ورود الكثير من الأدبيات التي تتحدّث عن واقع المسلمين بأنّهم كالجسد الواحد يشدّ بعضه بعضاً، ويتعاطف بعضه مع بعض، وبالتالي، فمن الضروري التنبّه إلى كل المشاريع التي تحرّكها المصالح الاستكبارية، لتجعل كل بلد إسلامي منغلقاً على نفسه، غير عابئ بكل ما يجري حوله مما يصيب المسلمين، ما يجعل المسألة المذهبية تنطلق لتغرق في خصوصيات كل بلد، وهو ما يزيد في التفتيت والتفرّق في هذا المجال.
س: هل من مبادرة يُمكن أن تقدموها إلى الفرقاء العراقيين؟ وما هي أبرز خطوطها العامة؟
ج: لقد كنا ـ ولا نزال ـ نؤكد أن إحدى أكبر مشاكل العراق اليوم تكمن في الاحتلال الذي ينبغي أن تتضافر جهود العراقيين لرفضه، والعمل ـ بشتى الوسائل ـ على التحرّر منه؛ لأننا نجد أن هذا الاحتلال إنما ينطلق من خلال تأكيد مصالحه في المنطقة، على حساب كل مصالحنا، وأنه هو الذي يفسح في المجال لكلِّ عناصر التفتيت التي تعصف بالمجتمع العراقي، وأنَّ ما يهمّه هو أن لا تقوم للإسلام قائمة، من غير فرق بين إسلام في خط التسنن أو التشيع.
ثم يجب أن يتحرّك الرفض الشامل لكل التكفيريين الذين يحرّكون آلة القتل الأعمى في العراق؛ لأن من شأن ذلك أن يجلب الاستقرار والأمن للمجتمع العراقي، ما يفسح في المجال لكل قواه في أن تتحرّك لتدرس بعمق وهدوء كل مصالحه بعيداً عن مصالح هذه الفئة أو تلك، أو مصالح الاحتلال أو الاستكبار.
وإننا نعتقد ـ في هذا المجال ـ أن المجتمع العراقي ـ بطبيعته ـ متماسك تجاه كلّ حالات الفتنة التي يريد الكثيرون إثارتها في العراق والمنطقة، وهذا ما يشكل ضمانة داخلية ينبغي على كل القيادات المخلصة العمل على إبقاء جذوتها مشتعلة في ظل العواصف التي تتحرّك لتجرف الأخضر واليابس في منطقتنا العربية والإسلامية.
كما نعتقد، أن في العراق الكثير من الطاقات التي يُمكن لها أن تجعل منه بلد الإشعاع الحضاري لكل المنطقة، إذا ما تضافرت الجهود لتوحيد هذه الطاقات في سبيل تحقيق مصلحة الشعب العراقي، وإبعاد كل العناصر التي تعمل على خلق الفتنة وإسقاط الطاقات.
س: هل أنتم مطمئنون إلى الوضع اللبناني في ما يخص طبيعة العلاقة بين السنة والشيعة؟
ج: إننا نعتقد أن الحرب الداخلية بين الطوائف اللبنانية قد انتهت، وذلك لأن الظروف التي ساهمت في نشوب الحرب في أواسط السبعينيات لم تكن ظروفاً داخلية بقدر ما كانت ظروفاً فرضتها الدول المستكبرة، كما أنّ الكثير من القيادات الإسلامية تمتلك الكثير من الوعي والنضج، ما يجعلها تتحرّك في سبيل قطع الطريق على كل محاولة لإثارة الفتنة بين المسلمين، وقد رأينا في الفترة القريبة بعضاً من تجليات هذا الوعي الذي نرجو من الله سبحانه وتعالى أن يستمرّ في المستقبل.
إنني أعتبر أن لبنان هو البلد المؤهل لكي يثقف المنطقة بالثقافة الوحدوية الإسلامية، بالنظر إلى التجارب الوحدوية الكثيرة بين السنة والشيعة، ومع الأخذ بعين الاعتبار مسألة الانفتاح الإعلامي المتوفر في لبنان على أعلى المستويات، الذي أفسح المجال أكثر لإبراز هذه التجارب الوحدوية، إضافةً إلى بعض حالات التزاوج بين السنة والشيعة في لبنان، وهو الأمر الذي انعكس إيجاباً، على أساس أن صهر العائلة يصبح على معرفة تامة بها، ولأن الكثير من حالات الوهم والصورة السلبية عن الآخر غالباً ما تنطلق من عدم معرفة هذا الآخر، فمن خلال المصاهرة، يصبح الأمر مكشوفاً ومعروفاً له، وقد قال النبي(ص): "لو تكاشفتم ما تدافنتم".
إنني أعتقد بأن لبنان يمكن أن يكون رسالة وحدة إسلامية من الباب الواسع، وعلى المسلمين من سنة وشيعة، أن يستفيدوا من الموقع اللبناني في انطلاقتهم الوحدوية الكبرى.