أنسنة الإنسان
س: نحن نعرف أنّكم مسؤولون عن مشاريع إنسانيّة اجتماعيّة كبيرة جداً في هذا البلد، ونحن نشكر الله لهذا العمل الإنساني الكبير لسماحتكم وللقيّمين عليه.هنا أحبّ أن أطرح سؤالاً: ما هي الحاجة الإنسانيّة الأعمق والأهمّ التي تراها سماحتكم في بلدنا؟
ج: أرى أنّ الحاجة الأساسيّة هي أنسنة الإنسان، قد يكون التّعبير غامضاً، ولكن في الواقع، إن السياسة المتّبعة ـ ولا أقصد السياسة السياسيّة فقط ـ توحشن الإنسان وتجعله يتحرّك غرائزياً، وهذا ما عشناه في المعركة الانتخابيّة، حيث كانت الغرائزيّة الطائفيّة هي سيّدة صناديق الاقتراع؛ هذا أبو هذه الطائفة، وذاك أبو تلك الطّائفة، وهذا زعيم السنّة أو الشّيعة أو الموارنة.. هناك عمليّة إنتاج للغرائزية الطائفية بطريقة وحشيّة تنعكس على العناصر الشعورية لعلاقة الإنسان بالإنسان. صحيح أن لدينا مشكلة اقتصادية، ولكن الجانب الأخلاقي الذي يحكم واقع الإنسان اللّبناني في اعترافه بإنسانيّة الآخر، في اعترافه بأنّه يجب أن يعيش في دولة يحفظها ويحفظ قوانينها وأنظمتها، هذه هي المشكلة.. لو أنّ المشكلة تقتصر على أنّ هناك مجرّد أناس يجوعون، فالمشكلة لها حلّ.
علاقة الدّين بالسياسة
س: كيف ترى العلاقة بين الدين والسياسة؟ وكيف ترى دور المرأة في الإسلام؟
ج: أمّا العلاقة بين الدين والسياسة، فنحن نعتبر أنّ السياسة في قلب الدّين، والسبب هو أنّ هناك آية قرآنيّة تؤكّد أنّ الأديان انطلقت لإقامة العدل {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[الحديد: 25].
فمنذ الانطلاقة الأولى للدّين حتى الآن، إنما انطلق لتحقيق العدل في الحياة، ولا عدل بدون سياسة، لأنّ عدل الحاكم عدل القانون.
ومن الطبيعي أنّنا نقصد بالسياسة إدارة أمور النّاس بما يحفظ لكلّ إنسان حقّه، لأنّ العدل هو إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، وليس المراد من السياسة اللّعب على مشاعر النّاس وعواطفهم بالكذب والنّفاق، ولدينا شعار أنّ الدّين جاء لخدمة الإنسان، ولم يأتِ الإنسان لخدمة الدّين، ولا يمكن أن نخدم الإنسان بالدّين، إلا إذا تحرّك الدّين من أجل أن يحقِّق القيم الإنسانيّة في الواقع.
تكاملٌ في الأدوار
أمَّا موقف الإسلام من المرأة، فالمرأة إنسانة كما الرَّجل إنسان، ولها حقوقها الإنسانيّة كإنسانٍ مسؤول في الحياة، كما للرَّجل حقوقه الإنسانيّة كإنسان مسؤول في الحياة. ولذلك، من حقِّ المرأة أن تتعلَّم وأن تعمل وتشارك في العمليَّة الانتخابيَّة، أن تكون ناخبة، وأن تكون منتخَبة أو مسؤولة في الدّولة، كما من حقّ الرّجل ذلك.
وإذا كان الإسلام يفرض على المرأة برنامجاً أخلاقياً، فهو البرنامج الأخلاقي نفسه الذي يفرضه على الرّجل.. في الحياة الزوجيّة، هناك شيء من توزيع الأدوار بين الرّجل والمرأة، وهذا الذي يجعل دور المرأة يختلف عن دور الرّجل، باعتبار خصوصيّاتها البيولوجيّة وما إلى ذلك من خلال تكوين الأسرة. الإنسان رجل وامرأة، ولكلّ منهما دور، وهما يتكاملان في عمليّة بناء الإنسانيّة، وكما يتكاملان في إنتاج الإنسان الجسد، فهما يتكاملان في إنتاج الإنسان الفكر والرّوح والقلب والحياة.. ولم يفرّق الله بين عمل الرَّجل وعمل المرأة، فقد تكون المرأة أفضل من الرَّجل في عملها الذي يقرّبها من الله، وقد يكون الرَّجل أفضل، وربما يتساويان.
هل ذلك من الإسلام؟!
س: لو أتيح لسماحتكم مخاطبة بعض الأشخاص الّذين يشغلون بعض المواقع باسم الإسلام، ويمنعون المرأة من أن تدرس، أو حتى من الذَّهاب إلى المدرسة باسم الإسلام؟
ج: إنّ الإسلام يقول إنّ العلم قيمة إسلاميّة إنسانيّة، "طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة" {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الزمر: 9] {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه: 114]. لذلك نحن نقول، من حقّ المرأة أن تتعلّم، كما من حقّ الرّجل أن يتعلّم، ومن حقّها أن تعمل في مناخٍ يحفظ لها إنسانيَّتها وأخلاقيَّتها، تماماً كما يطلب من الرَّجل أن يتعلَّم في مناخ يحفظ له إنسانيَّته وأخلاقيَّته.. مشكلة بعض النّاس أنهم لا يتصوَّرون المرأة إلا من جانب الجنس، لذلك فالهاجس عندهم في دخول المرأة إلى أيِّ مجتمع، هو الخوف من أن تكون ضحيَّة جنسيَّة. ولكنّنا نعتقد أنّ المرأة تملك بنياناً أخلاقيّاً يمكّنها من أن تحفظ نفسها في أيّ مكان تكون فيه. المسألة ليست موقع المرأة في هذا المكان أو ذاك المكان، ولكنَّ المسألة هي البنيان الدّاخلي للمرأة في احترامها لنفسها ولأخلاقيَّتها ولعفَّتها ولدينها.
هل هو خوف فطريّ؟!
س: سماحتكم قلتم إنّنا فطريّاً نتّجه إلى الله، هل تعتقد أنّنا فطريّاً نخاف من الله عندما نكون بعيدين عنه؟
ج: الخوف على قسمين؛ هناك خوف يتَّصل بالطبيعة القاسية الوحشيّة لمن تخاف منه، وآخر ينطلق من خلال عدم قيام الإنسان بالمسؤوليّة التي يتحمَّلها أمام الذي فرض عليه المسؤوليّة لمصلحته ولمصلحة النظام العام.نحن نخاف من الله، وهو الرّحمن الرّحيم، وهو الذي يحبّنا، ولهذا حمّلنا المسؤوليّة لمحبّته لنا.. نحن عندما نعصي الله وننحرف عن المسؤوليَّة، فالله يغضب علينا لمصلحتنا، لأنّنا أسأنا إلى أنفسنا ولم نسىء إليه، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، ولا تنفعه طاعة من أطاعه.نعطي مثالاً: عندما يكون النّاس، سواء الرجال أو النساء، يحبّون بعضهم بعضاً، كالفتاة عندما يكون عندها حبيب، والشابّ كذلك عندما يكون عنده حبيبة.. الإنسان في بعض الحالات عندما يؤذي حبيبه، يشعر بأنّه سيفقد محبّته، يخاف.. الإنسان الحبيب يحبّ دائماً أن يستجيب لرغبات حبيبه، لأنّه إذا لم يستجب له، يفقد محبّته، وفقدان المحبّة بين المتحابّين كارثة لمن يحبّ. لذلك، نحن عندما لا نطيع الله الذي أحبّنا فأوجدنا، وأحبّنا فأنعم علينا، وأحبَّنا فرعانا، نخاف فقدان محبَّته، وفقدان محبَّة الله هي التي تشعر الإنسان بالضَّياع في الحياة، ولهذا فالقضيَّة ترجع إلينا وليس إلى الله.
س: هل الإنسان يشعر فطريّاً بحاجة إلى الله عندما لا يعود لديه أيّ ملجأ؟ وهل الخوف من الله مسألة فطريّة؟
ج: الإنسان عندما يدرك وجود الله بما يجعله يمتلىء بمعنى الله، يحبّ الله.. الله أعطانا الوجود، أعطانا النِّعمة، أعطانا الأفق الواسع، إذاً نحن نخافه لأنّه الحقيقة، ولأننا نحبّه، وعندما نحبّه نخافه، لأنّنا نخاف أن نفقد حبّه، لا نخاف قسوته، فهو الرّحمن الرّحيم.
الله يحبّنا ولا يسقطنا
س: حاجتنا إلى الله أحياناً تكون الدّافع والأداة لتمرّدنا، هل الخوف من اللامسؤوليّة يؤدّي إلى البعد عن الله؟
ج: خوفنا يقرّبنا إلى الله أكثر، وذلك عندما أخاف ممن حياتي متعلّقة به، عندما أخاف أن أفقد الحياة، أي أن أفقد هذه الرّعاية الحياتيّة عندما أبتعد عن الله، أخاف عندما أبتعد عن محبوبي، عندما أفقد هذه المشاعر الحميمة مع المحبوب.. الخوف ينطلق من حالة الإنسان الوجدانيّة عندما يحبّ ولمن يحبّ، ولا ينطلق من حالة قهر وحالة إسقاط.. الله لا يسقطنا، لا يقهرنا، ولكنّه يحبّنا، ولأنّه يحبّنا ينظّمنا، ويرسم لنا الخطوط التي تحفظ حياتنا وتحفظ علاقتنا معه.
* المصدر: لقاء سماحته مع طلاب من لندن، 6 أيلول 2000م.