وللمرجع السيد مواقف جديدة في قديمها، ومتجددة في مسار التطورات، لكنها في مختلف الأحوال تغوص في تقاطع السياسات الدولية والإقليمية، لذلك هي في رأيه منظومة مصالح تتحرك، من هنا نصح وليد جنبلاط بأن يكون كوالده كمال جنبلاط المثقف المنفتح المتصوف الذي يقع أيضاً في الخطأ، وبعد النصيحة يقول «السيد»: الأميركيون منشغلون دائماً في شبكة المصالح وليس المبادىء، وعندما يحصلون على مصالحهم، يتركون وراءهم كل من كان معهم متعاوناً...
«الديار» أجرت حديثاً مع العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، لم تغص فيه كثيراً في القضايا العربية والدولية، إلا بقدر ما يتصل بالتطورات على الساحة اللبنانية، وكان الآتي:
صعوبة بناء دولة
س: هل تعتقد أن القوى في لبنان يمكنها الخروج بنتائج وطنية واضحة من خلال طاولة الحوار؟
ج: عندما تدرس الأسماء التي تتحمل مسؤولية بناء الدولة في لبنان، تجد أنها الأسماء ذاتها التي كانت مشكلةً للدولة، بقطع النظر عن طبيعة الخلفيات التي كانت تحكم حركتها، أو العلاقات التي كانت تتمثل في سلوكها، وخصوصاً أن بعض هؤلاء هم أمراء الحرب من أي طائفة كانوا، وقد تثار بعض علامات الاستفهام حول تجربتهم عندما دخلوا الحكومة في أية وزارة من الوزارات، ما جعل البعض منهم في قمة الثراء وجعل الناس تتساءل عن طبيعة الفساد والهدر وسرقة أموال الدولة.
ربما يناقش بعض الناس في هذا بالنسبة إلى شخصٍ ما، لكن إذا تأمّلت المناخ الذي كان يسيطر على تلك المرحلة التي يمثل معظم هؤلاء قيادتها وحركيتها، تعرف أنّ الذين أسقطوا الدولة في الماضي، أو الذين لم يسمحوا بولادتها، هم أنفسهم الذين يتحدثون عن بناء الدولة القوية القادرة القاهرة، وأن الكثيرين منهم يتحدثون عن نظام الوصاية الذي كان يتحكم في الواقع اللبناني، لكننا نعرف أن نظام الوصاية ما كان ليكون لولا الكثير من الذين كانوا يعيشون على مائدة هذه الوصاية، ويضربون باسمها، ويتحركون من خلالها على مستوى الانتخابات والوزارات. لهذا، فإننا عندما ندرس مثل هذا، الجو فمن الصعب أن نتصور أن مثل هذا النادي السياسي يمكن أن يصنع دولة قوية قادرة قاهرة.
من جهة ثانية، فإن لبنان بعد خروج الجيش السوري والمخابرات السورية، حسب العناوين التي أُثيرت في هذه المرحلة، تحول إلى ورقة ضغط تتداول في مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، الذي تحاول أميركا فرضه على المنطقة، إضافةً إلى المشكلة التي تحكم السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، وهي الأمن الإسرائيلي الذي يتحكم أميركياً في كل مفاصل الوضع السياسي، وخصوصاً في الحركة الأميركية ضد سوريا لبنانياً، لأن سوريا تقف مع المقاومة الفلسطينية، أو من جهة سلاح «حزب الله» الذي يمثل مشكلة لإسرائيل، بقطع النظر عن حجم هذه المشكلة. لذلك، فإنّ خطوط السياسة الأميركية تطبق على خطوط السياسة اللبنانية في هذا المجال. وإذا كان البعض يتحدث في لبنان بأننا لا نرفض مساعدة المجتمع الدولي أو أميركا وفرنسا، فإننا نعرف أنّ أميركا لا تمنح أحداً أية مساعدة إذا لم يتحرك في خطوط سياستها ومصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وهكذا بالنسبة إلى فرنسا التي دخلت مع أميركا في بازار لمصلحة أوضاعها الخاصة في لبنان.
ونحن عندما نسأل في هذا المقام: ما هي المساعدات التي قدمتها أميركا للبنان منذ رفع الوصاية السورية ـ وفق الاصطلاح المتداول الآن ـ نعرف أن أميركا لم تقدم للبنان أية مساعدة مالية، لا على مستوى تقوية الجيش اللبناني، ولا على المستويات الأخرى التي تحل المشكلة اللبنانية. إنهم يتحدثون الآن عن بيروت واحد، لكننا لا نجد أن الشروط التي فرضت على المؤتمر تتحقق حتى الآن في لبنان. لذلك نحن نتصوَّر أنه ليست هناك أية ظروف سياسية واقتصادية وأمنية يمكن أن تُسهِّل بناء دولة قوية قادرة حتى الآن، بل إن الواقع اللبناني يبقى يراوح مكانه، وتبقى العناوين التي تحركت في الأجواء السياسية على أساس أن التاريخ يعيد نفسه.
دين سياسي جديد يؤمن بالمواطنة
س: أشرتم إلى أن هذا النادي السياسي غير قادر على إدارة عملية التغيير، ولا يستطيع تغيير نفسه. إذاً ما هو تصوُّركم لقيام دولة عادلة؟
ج: إنني أتصوَّر أنَّ قدر لبنان أن يبقى في حالة اهتزاز داخلية، تنطلق من خلال كل الثغرات التي فرضها النظام الطائفي الذي لا يزال يحكم الذهنيات الكبرى، على المستوى الديني، والمستوى السياسي، وحتى على المستوى الأمني في هذا المجال، والدليل البارز هو العجز عن إطلاق قانون الانتخاب الذي انطلقت التحفظات حوله من حسابات طائفية في مسألة عدد الدوائر. لهذا، فإنني أتصور أنّه ما دام النظام الطائفي في لبنان موجوداً، وما دام فيه أمراء الطوائف الذين يرتبط كل واحد منهم بخلفية دولية أو إقليمية، انطلاقاً من مصالحه أو مصالح طائفته، فلن يستطيع لبنان أن يتحول إلى دولة، لأنّ النظام الطائفي يجعل من لبنان ولايات متعددة، بحيث تشعر كل ولاية بانفصالها في مناطقها وأوضاعها عن الولاية الأخرى. لذلك، أتصوّر أنّه عندما ينشأ في لبنان دين سياسي جديد يؤمن بالمواطنة، وبأنه لا صفة للبناني إلا كونه مواطناً يحصل على حقوقه ويقوم بواجبه على أساس المواطنة، ويعتبر أن علاقات لبنان بكل العالم، سواء في المنطقة أو في غيرها، لا تُدار لحساب هذه الدولة أو تلك، بل على أساس أن تكون العلاقات منطلقة من المصالح والاحترام المتبادلين، عندما تتأمّن مثل هذه الشروط، يصبح لدينا وطن، لكن وللأسف، لا تزال هذه شعارات يرفعها الجميع، ولكن ليس لها أي مضمون واقعي.
سوريا... العناوين الكبرى للأمة
س: هذا الموضوع يشير مباشرة إلى سوريا، فما هي رؤيتكم إلى هذا الأمر، بناءً على القرار 1680؟
ج: قلنا مراراً إننا كلبنانيين نريد أن نعيش أحراراً، وأن نملك مصيرنا في كل قضايانا. ولكننا في لبنان لا نملك أن ننسحب من هذا العنوان العربي الذي يحكم وجودنا اللبناني كما يحكم مصالحنا المستقبلية، وخصوصاً أنّنا في مواجهة العدو الإسرائيلي، ونحن نلتقي مع أي دولة تحمل مثل هذه العناوين القومية، ونرتبط بسوريا بالروابط التاريخية التي تربط الشعبين اللبناني والسوري من الناحية التاريخية والعلاقات الأسرية. كما أننا نرتبط بسوريا لأنها ما تزال الدولة التي تحمل العناوين الكبرى للأمة، وفي مقدمها قضية مواجهة العدو الإسرائيلي، ودعم المقاومة والشعب الفلسطيني من جهة، ومسألة مواجهة الاحتلال الأميركي والبريطاني للعراق من جهة ثانية. وهاتان هما المسألتان اللتان تحكمان علاقاتنا في ما أتصوّره بسوريا، لأنّنا نلاحظ أنّ غالبية الدول العربية، وحتى بعض الدول الإسلامية، قد ابتعدت عن هذه العناوين الكبرى، واقتربت من العدو الإسرائيلي، سواء كان ذلك بواسطة الاتفاقات المهينة المذلة والعلاقات الدبلوماسية، أو من خلال ما يتحرك تحت الستار من العلاقات الاقتصادية، لذلك لم يبقَ هناك إلا سوريا التي تحمل هذه العناوين.
أما الجوانب الأخرى التي يتحدث بها البعض، فهي أمور تفصيلية يمكن أن نناقشها مع السوريين على مستوى العلاقات من مختلف النواحي. وإنّنا نعتقد أن لبنان محكوم بالعلاقة مع سوريا، كما أنّ سوريا محكومة بالعلاقة مع لبنان، لأنّ طبيعة هذا الالتصاق الجغرافي والتاريخي والمصالح المتبادلة تفرض هذا الشيء. ونحن نعتقد أن الطريقة التي يدار بها الموقف ضد سوريا، وإثارة بعض الكلمات أو بعض المواقف ضدّها، أو استغلال أية حالة صغيرة لتكبيرها، لا يخدم هذه العلاقات. ونعتقد أيضاً أنّ ما يتحدث به بعض السياسيين في لبنان، من دعوة وتحرك للاستقواء ببعض الدول الأجنبية ـ وكانت آخر معالمه إدخال الموقف الروسي على خطّ العلاقات بين سوريا ولبنان ـ إنّ هذا كله لا يمكن أن يحقق أي علاقات طبيعية ومعقولة ومتوازنة، إذا لم تنشأ هناك علاقات ثنائية مباشرة بين البلدين معاً، وهذا يحتاج مناخاً سياسياً نظيفاً يمكن أن يزيل الكثير من الحساسيات التي يثيرها في كل يوم سياسي هنا وسياسي هناك.
حتميّة العلاقة مع سوريا
س: لكن في واقع الأمر، هناك انقسام لبناني كبير واتهامات، فالبعض يتهم أفرقاء معيّنين بأنهم أدوات سورية ـ إيرانية، وفي المقابل، يردّ هؤلاء بأنّ الفريق الآخر أدوات للوصاية الأميركية. فإلى أي مدى تملك قوى 14آذار أو القوى الأخرى، القدرة على السير بهكذا علاقات مع سوريا، بعيداً عن قضية اغتيال الرئيس الحريري؟
ج: إنني أتصوّر أن اللبنانيين في شكل عام، سواء المنفتحين على سوريا، أو المنغلقين عليها، مضطرون جميعاً لإيجاد علاقات أساسية مع سوريا، لذلك لاحظنا أن الخطاب الذي كان يتحرك في الخطوط السياسية اللبنانية المتعلق بسوريا قد تغيّر، إذ كانت المسألة الموجهة ضد سوريا هي مسألة الحقيقة، وأصبح الكثيرون يقولون إن مسألة الحقيقة هي علاقة مفصولة عن العلاقات السورية ـ اللبنانية. وإذا كان بعض الناس يتحدث بين وقت وآخر عن اتهام سوريا باغتيال الرئيس الشهيد الحريري، فهذا الكلام لا يمثِّل عمقاً في الواقع السياسي اللبناني الآن، وكل اللبنانيين يعرفون أنّه في نهاية المطاف، لن تسمح أي دولة عربية أو أي موقع دولي، عندما تتغير بعض الظروف الدولية، لن يسمحوا ببقاء هذا الانقسام بين سوريا ولبنان، لأنّ قضية العلاقات بين سوريا ولبنان هي من القضايا التي تتصل بالمناخ الدولي، ولا تقتصر على المناخ الإقليمي. لذلك، سوف يضطر كل هؤلاء الذين يعيشون العقدة ضد سوريا الآن، كما عاشوها سابقاً، إلى تجاوز الكثير من اتّهاماتهم ومواقفهم السلبية، والعمل على تصحيح سياساتهم على هذا الصعيد، وللأسف فإنّ هؤلاء كانوا يتغدَّون ويتعشون على المائدة السورية التي استطاعت أن تعطيهم الكثير ممّا يريدونه من أطماعهم وقضاياهم، الأمر الذي أدّى إلى سلبيات كثيرة، لأنّ هذا النوع من العلاقات انحصر في الخطوط المخابراتية. وبالعودة إلى مسألة تصحيح العلاقات، أعتقد أنه سيفرض دولياً على الواقع اللبناني أن يدخل في علاقات مميزة مع سوريا، لأن لبنان لا يستطيع أن يعيش دون سوريا، وهي مدخله الوحيد إلى العالم العربي.
وإذا كان بعض الناس يقولون العدو وراءكم والبحر أمامكم، فإنهم يعرفون أن هذا العدو الذي هو من ورائهم لا يمكن أن يبقى عدواً، ولا يمكن أن يتعاملوا معه تعامل العدو، لان ذلك سيخلق الكثير من الأوضاع السلبية في لبنان ضدّهم. ونحن لاحظنا كيف عاش اللبنانيون حالة طوارئ في فترة مشكلة الشاحنات، وبدأوا يتحدثون عن البحر والطيران ممّا لا يمثل أي واقعية في هذا المجال.
الحرب الأميركية ـ الإيرانية: مراهنة خاسرة
س: هناك من يقول إن الحوار اللبناني يمكن أن يصل إلى نتيجة في حالتين، إما قيام حرب إيرانية ـ أميركية في المنطقة، أو حوار أميركي ـ إيراني، ذلك أن الستاتيكو الداخلي مرتبط بهذه النظرة؟
ج: إن مشكلة بعض اللبنانيين، أنهم يراهنون على الأوضاع الدولية، كالحرب بين أميركا وإيران، لكن عندما نتابع المسألة الأميركية ـ الإيرانية، نجد أنه لو أرادت أميركا ـ على سبيل الفرض ـ أن تقارن بين مصالحها في لبنان ومصالحها في إيران، فإن أمريكا لن تتطلّع إلا إلى ما يخدم هيمنتها، حتى لو كان على حساب لبنان وغيره. ونحن عندما ندرس موقف أميركا تجاه إيران، إضافةً إلى الموقف الأوروبي، نجد أن هناك الخطوط الخفية التي يمكن أن تنتهي إلى نتائج قد لا تكون حاسمة، لكنها لا تؤدّي إلى الدخول في حرب بين أميركا وإيران، لأن أميركا تعرف أن حرب إيران سوف تحرق المنطقة وتحرق الكثير من مصالح أميركا في المنطقة، وربما تحرق إيران. نحن لا نعتبر أن قوة إيران هي أكبر من قوة أميركا أو أنّها موازنة لها، لكن علينا أن نعرف أن هناك 130000جندي أميركي في العراق، وأن هناك قواعد أميركية في الخليج، لذلك أعتقد أن المراهنة على حرب أميركية ـ إيرانية هي مراهنة خاسرة جداً.
لا مصلحة لاميركا في الحرب مع ايران
س: وفي حال حصل حوار بينهما؟
ج: هناك فرصة لا ندري مدى نجاحها في حوار إيراني ـ أميركي. فنحن نستمع إلى المسؤولين الأميركيين وهم يتحدثون عن إمكانية إجراء مفاوضات مع إيران إذا أوقفت التخصيب، وأنّ مدير الوكالة الدولية للطاقة يتحدث عن وجود تنازلات إيرانية. إنني أعتقد أن أميركا لن تغامر بمصالحها في إيران الدولة الإقليمية الكبرى في المنطقة لحساب لبنان، أو لأي حسابات صغيرة هنا وهناك.
س: بناءً على ما تحدَّثتم به، هناك رؤية بالفعل تقول إنّه ليس لأميركا أي مصلحة في الحرب مع إيران، أوفي توجيه ضربة إليها، وذلك نتيجة الانعكاسات الواضحة لهكذا عمل، لكن هل تقبل إسرائيل بإيران النووية، وهناك كلام أن إسرائيل قد تقوم بتوريط أميركا في هذا الموضوع؟
ـ إنني أعتقد أن مثل هذه المسألة، أي العلاقات الأميركية ـ الإيرانية المعقّدة، وانفتاحها على المسألة الإيرانية ـ الأوروبية، وكذلك انفتاح هذه المسألة على الصين وروسيا، والمشاكل التي يمكن أن تحدث بالنسبة إلى دول الخليج التي تمثل البحر البترولي الذي تتحرك فيه أميركا اقتصادياً... إنّ مثل هذه الأوضاع، لا يمكن أن تصل إلى مرحلة أن تورّط إسرائيل أميركا في هذا المجال، لأن إسرائيل تعرف أن مواجهتها العسكرية لإيران لن تكون نزهة وستكلفها كثيراً. وعندما ندرس تصريح الرئيس الأميركي لرئيس وزراء العدو، بأن أميركا سوف تدافع عن إسرائيل إذا اعتدت عليها إيران، نعرف أنّ المبادرة لن تكون في يد الإسرائيلي ضدّ إيران، كما أنّ المبادرة الإيرانية ضد إسرائيل قد لا تكون أمراً واقعياً. لكن مناخ هذا التصريح يدل على أن المسألة الإيرانية ليست بالسهولة التي يمكن أن تصل إلى مستوى أن تبادر إسرائيل لضرب مفاعل أو موقع إيراني. فالمسألة معقدة جداً، ما يجعل أية ضربة، سواء كانت أميركية أو إسرائيلية، غير قادرة على إسقاط المشروع الإيراني في هذا المجال، والقضية لا تصل إلى مستوى الخطورة إلا إذا تحوَّلت إلى حرب شاملة، بحيث تشارك فيها أميركا وأوروبا على إيران، ولا نعتقد حدوث ذلك إلا في الخيال.
س: طالما نتحدث عن إيران، كيف تصف لنا علاقتكم بالجمهورية الإسلامية، إذ هناك زيارات لمسؤولين إيرانيين لكم، فهل تطورت هذه العلاقة وتقدّمت؟
ج: نحن نتصوَّر أن الإيرانيين الذين كان بعضهم يقف موقفاً سلبياً من بعض أوضاعنا العامة، قد أصبح يدرك أن هذا الشخص الذي حورب من بعض مواقعهم في الداخل والخارج، وقف منذ البداية، ولا يزال يقف، للدفاع عن إيران دون قيد أو شرط، ودون أي طمع بأي شيء، لذلك كنا نقول لهم: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}. وإنني ألاحظ أن الكثير من القيادات الإيرانية، والكثير من الذين يعملون في الوسط السياسي، سواء في مجلس الشورى، أو في بعض المواقع القيادية، يشعرون أنني وقفت موقفاً حاسماً قوياً لمصلحة الدفاع عن إيران في وجه الاستكبار العالمي، كما أنني وقفت أيضاً في لبنان، على الرغم من بعض الحساسيات والسلبيات، مع المقاومة الإسلامية دون قيد أو شرط، وأعتقد أن مثل هذا استطاع أن يترك تأثيراً إيجابياً لدى الكثيرين من الفاعليات الإسلامية في إيران. كما أن مسألة المرجعية قد استطاعت أن تمتد في العالم، على الرغم من كل الحرب التي انطلقت عليها من قبل بعض الناس، ولا أتحدث عن إيران بشكل عام، كما استطاعت أن تحصل على مواقع على مستوى العالم.
لا يستطيع أحد أن يعزل الشيعة
س: كيف ترى هذا التلاحم بين «حركة أمل» و«حزب الله»، وكنتم تقولون في السابق إن الشيعة يَعزلون ولا يُعزلون، فالشيعة شعروا خلال السنة الماضية بمحاولة مستمرة لعزلهم؟
ج: لا يستطيع أن يعزلك أحد في العالم إذا لم تعزل نفسك، إلاّ أنّ القضية تخضع لبعض المواقف التي تجعلك محشوراً في الزاوية. وأعتقد أن الوجود الشيعي في الخطوط اللبنانية والعربية والإسلامية هو وجود فاعل ومتجذّر، حتى إننا نعرف، كما يعرف الجميع، أن المقاومة الإسلامية التي استطاعت أن تحرر لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، قد دخلت عقل كل عربي ومسلم، ونعرف أن العالم العربي والإسلامي بأكثريته، يحمل من التقدير والاحترام والرعاية والعناية للمقاومة في لبنان بما لا يحمله الكثير من اللبنانيين الذين يحاولون تطويقها واعتبار سلاحها سلاحاً لا قيمة له، كما كانوا يتحدثون قبل التحرير بأن العين لا تقاوم المخرز، وأنه لا يمكن أن ينسحب المحتل بواسطة المقاومة، وكأنهم يستعيدون ذلك بطريقة أخرى. نحن عندما ندرس ردة الفعل العربية في قمة الخرطوم، نعرف أن تقدير العرب للمقاومة في لبنان، أكثر مما يحمله بعض اللبنانيين لها، بل إنهم اتخذوا موقفاً لا يخلو من التأنيب للذين تحركوا بطريقة سلبية أو بطريقة ملتبسة.
لذلك، فإنّ الوجود الشيعي وجود متجذر، وقد تجاوز الحساسيات الطائفية التي قد يحملها بعض المسلمين بالنسبة إلى المسألة السنيّة ـ الشيعية، ومن الطبيعي جداً أن الوجود الإسلامي الشيعي في لبنان قد تجاوز صفته الطائفية، وأصبح منفتحاً على كل الأطياف اللبنانية، فنحن نعرف أن علاقته بالمسلمين السنة على المستوى الديني والسياسي هي جيدة ولا تزال تتطور، وكذلك مع المسيحيين، خصوصاً لجهة التفاهم الذي حصل بين حزب الله والتيار الوطني الحر. لهذا نحن نتصور أن الوجود الشيعي تجاوز صفته الطائفية، وأصبح ينطلق لبنانياً من خلال مشاركته في كل القضايا اللبنانية، المطلبية والسياسية والأمنية، وإذا كان بعض الناس يأخذون عليه بعض النقاط التفصيلية هنا وهناك، فهذا أيضاً موجود بالنسبة إلى الطوائف الأخرى في هذا المجال.
إن قيمة الشيعة في لبنان أنهم لم يكونوا طائفةً منذ البداية، بل كانوا منفتحين على كل الطوائف، ولا أزال أذكر تعليقاً في بعض الصحف الكويتية أثناء الحرب يتحدث عن الطائفة الشيعية، يقول هي الطائفة التي تموِّل المنظّمات بالقيادات والعناصر. لذلك نحن نؤكِّد ما تقوله غالبية القيادات الشيعية، أنه ليس للشيعة مشروع خاص في لبنان، فالشيعة لا يبحثون عن جمهورية إسلامية في لبنان، ولا يبحثون عن جمهورية شيعية في البقاع أو الجنوب أو غيرهما، بل هم يريدون العيش كمواطنين، لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم، وأن يتساووا مع بقية المواطنين الآخرين، وهذا سر قوة الشيعة، لأنهم لم ينطلقوا من خلال حالة طائفية أو مشروع طائفي، لذلك هم أقل الطوائف ربحاً من الدولة اللبنانية.
س: لكنني أشرت في سؤالي إلى التوحيد يين «أمل» و«حزب الله» ووحدة الشيعة؟
ج: نحن مع وحدة المسلمين الشيعة في الخطوط السياسية للأمة، على أساس أن ينطلقوا من خلال وحدتهم ليتوحدوا مع الطوائف الأخرى من مسيحيين وسنّة ودروز. إن الشيعة يبحثون عن وحدة لبنان، لا عن الوحدة الطائفية .
لا فرصة لأي جهة بخرق الجدار الشيعي
س: بهذا المعنى، اللقاءات التي كانت تعقد بين سماحة السيد نصر الله وسماحتكم أو مع الرئيس بري، هل هي في إطار التنسيق الشيعي لإيجاد مرجعية شيعية في لبنان؟
ج: إنّ اللقاءات التي تحدث مع القيادات الشيعية من جهة، والقيادات الأخرى المستقلة التي لا تزال تتحدث معي وأتحدث معها، تنطلق من خلال التشاور في القضايا العامة، سواء كانت لبنانية أو على مستوى قضايا الأمة. وإنني أؤكد أنها كانت منفتحةً انفتاحاً واسعاً جداً، بعيداً عن كل الخطوط الضيقة.
س: هل ترى إمكاناً لمحاولات الخرق في هذا الجدار الشيعي القائم؟
ج: لا أعتقد أن هناك أي فرصة لأي جهة لإيجاد أي خرق في هذا المجال، لكننا نحترم وجهات النظر الأخرى التي قد ترى بعض الملاحظات حول سياسة الأخوة في أمل أو سياسة الأخوة في حزب الله. وكنت أدعو الأخوة في حزب الله وفي حركة أمل إلى أن ينفتحوا على هذه الطلائع المثقفة المنفتحة والمستقلة، من أجل أن يدخلوا معهم في حوار على أساس التواصل الذي قد يؤدي إلى التكامل.
المقاومة حقّقت الاستقلال الممزوج بالدم
س: هل تعتقدون أن من أسباب الدعوة إلى نزع سلاح المقاومة، هو إضعاف الشيعة اللبنانيين ضمن مشروع عام لإضعاف الشيعة بشكل عام، وذلك في ظلّ الحديث عن السلاح الفارسي، وغير ذلك؟
ج: قد تكون هذه الخلفية موجودة عند البعض، وأما الحديث عن أن هذا السلاح فارسي أو سوري، فهو تماماً كما لو أنَّ الجيش اللبناني حصل على سلاح أميركي، هل تقول إنه سلاح أميركي؟! إنك عندما تحصل على هذا السلاح، سواء كان فارسياً أو سورياً أو من أي بلد، فالمهم هو كيف تستخدمه؟! وما هي إرادتك في تحريك هذا السلاح؟! نحن نعرف أن سلاح المقاومة لم يُستعمل في الداخل، إنما استخدم ضد العدو الإسرائيلي باعتراف كل اللبنانيين، حتى إنّ بعض الذين يتعقّدون من سلاح المقاومة، ويدعون إلى نزعه وإعطائه للجيش، صرَّح أخيراً أن المقاومة لن تستعمل سلاحها في الصراعات الداخلية. لذلك، ليست المسألة مصدر هذا السلاح، بل حركته. ونحن نعرف أنه السلاح الوحيد الذي حرّر لبنان، بينما السلاح الآخر يدمّر لبنان، بقطع النظر عمّا كان يقوله البعض، من أننا نريد أن نحمي لبنان بهذا السلاح ضد فريق معين يريد أن يصادر لبنان، لكن السلاح الوحيد الذي استخدم من أجل تحرير لبنان، هو سلاح المقاومة. وقد حصل لبنان على استقلاله بواسطة هذا السلاح، تماماً كما حصلت فرنسا على استقلالها بسلاح المقاومة. لذلك استغربنا قرار الحكومة القاضي بعدم جعل يوم التحرير عيداً وطنياً كبقية الأعياد الوطنية التي تعطل الدوائر الرسمية، فهذا السلاح وهذه المقاومة حقَّقا الاستقلال الممزوج بالدم. إن آلاف الشباب اللبناني بذلوا من دمائهم من أجل استقلال لبنان وحريته، ما لم يبذله أحد في هذا المجال.
نحن نعرف أن المقاومة في الأساس لم تحصل على إجماع لبناني، ونعرف أن الكثيرين من السياسيين الذين يتحركون الآن بالحديث عن السيادة والحرية والاستقلال، كانوا ضد المقاومة، وكانوا يعتبرون أن العين لا تقاوم المخرز، وأننا لا يمكن أن نحقق تحرير الأرض من خلال سلاح المقاومة. ونحن نقول لكلّ أصدقائنا ومواطنينا في مؤتمر الحوار أو خارجه، أن يكونوا واقعيين، لأنني أتصور أن العناوين التي تطرح في هذا البلد، ليست عناوين واقعية من الناحية السياسية.
وليد جنبلاط
س: اتصالاتكم مفتوحة مع كل الأطراف، من هنا، ما هي النصيحة التي توجهها إلى وليد جنبلاط؟
ج: لقد سُئلت هذا السؤال، وقلت إنني أنصحه بأن يكون كمال جنبلاط، لأن كمال جنبلاط يمثل الشخصية السياسية اللبنانية المثقفة المنفتحة على العالم، والذي كان يتحرك بما يشبه العرفان الصوفي في سياسته. ونحن لا نريد أن نتحدث عن كمال جنبلاط كشخصية لا أخطاء عندها، ولكنه كان شخصية مميزة في السياسة اللبنانية. وفي الوقت نفسه، نريد من الموحدين الدروز أن يبقوا على هذا النبض العربي الذي يقف ضد إسرائيل التي تمثّل الخطر على كل العالم العربي والإسلامي، وأن يكونوا حذرين من السياسات الأميركية التي تستخدم لبنان وغير لبنان لمشاريعها الخاصة. ونحن لا نتحدث عن دور الموحدين الدروز العربي ـ الإسلامي، بل نتحدث مع كل الطوائف اللبنانية أن ترحم لبنان من كل هذه الكلمات الحادة، وهم يعرفون أنها قد تسقط الهيكل على رؤوس الجميع، وقد تخلق أكثر من تعقيد في الواقع اللبناني. لذلك علينا أن نعمل جميعاً على أن نوحّد اللبنانيين حول القضايا الكبرى، وأن نؤسس الحوار بطريقة واقعية، لا أن يقف كل واحد في موقعه، فيصبح الحوار مثل حوار الطرشان.
تيّار المستقبل
س: وتيار المستقبل؟
ج: أدعوه إلى أن يتقمّص شخصية رفيق الحريري الذي لا نعتبره شخصاً معصوماً، لكنه شخصية تملك الانفتاح السياسي على مفردات الواقع اللبناني في كل تنوعاته. كما أنه كان صاحب مشروع في لبنان من أجل تحديث الواقع العمراني، إضافةً إلى انفتاحه على العالم العربي والواقع الدولي. إنني أتصور أنه إذا استطاع تيار المستقبل أن يتقمص شخصية رفيق الحريري في الخطوط الأساسية، وأن يتجاوزه من خلال طبيعة المرحلة التي تحيط بواقع المنطقة، فإنه يمكن أن يحقق الكثير للبنان وللمسلمين.
س: لكن التوتر عندما يحصل مع تيار المستقبل، ينعكس طائفياً سنياً وشيعياً؟
ج: نحن نعتقد أن هناك مَن يعمل على إثارة الحالة الطائفية، لكن هناك بعض العقلاء من الطرفين، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الديني، يحاولون أن يقفوا ضد الخطيئة الكبرى.
العماد عون... الرئاسة
س: انتقاداتكم للأوضاع وحديثكم عن المحاسبة والهدر والفساد، يقارب حديث الجنرال عون؟
ج: لقد كنّا نتحدّث، قبل أن يدخل الجنرال عون في الساحة السياسية اللبنانية، ومنذ عشرات السنين، عن قانون من أين لك هذا؟ وكنا نقول بمحاسبة الأشخاص الذين سرقوا البلاد لحل مشكلة الدَّين وأثروا على حسابه.
س: لكن هل تعتقد أن العماد عون يبقى على مواقفه بالنسبة إلى المحاسبة والإصلاح؟
ج: نحن علينا أن نتعامل مع الإنسان من خلال مواقفه، لذلك فإننا نرحب بهذا الخطاب، أما ماذا يحدث بعد ذلك، فلنترك التطورات توضح بعض الأشياء سلباً أو إيجاباً.
س: هل ترى العماد عون مرشحاً قوياً لرئاسة الجمهورية؟ أريد جواباً من سماحتكم.
ج: أنا لا أتحدث عن أشخاص.
س: أعلم لكنني أسألكم؟
ج: إنني أقول نريد رئيساً للجمهورية قوياً في موقفه، لا يخضع لأية جهة داخلية أو خارجية تعمل على ابتزازه لحسابات شخصية، ونريد أن يكون رئيس الجمهورية واعياً من الناحية السياسية، ومنفتحاً على طبيعة اللعبة الإقليمية والدولية، وأن يكون مخلصاً لاستقلال لبنان، ويخطط من أجل استراتيجية دفاعية يملك فيها لبنان أن يواجه العدو الإسرائيلي.
س: أفهم من هذا الكلام أنه مرشح قوي؟
ج: نقول لا بدّ من أن يحكم لبنان الشخص القوي في عقله وقلبه وموقفه، والقوي في ثقافته السياسية، وأن لا يشعر باسمه، وإنما يشعر بوطنه.
س: كيف تصف العلاقة مع رئيس الجمهورية العماد إميل لحود؟
ج: أقدر للرئيس لحود مواقفة المؤيّدة والداعمة للمقاومة والعروبة.
س: في قراءتك السياسية، هل ترى أنه لحق بالرئيس لحود ظلماً؟
ج: عندما نريد أن نتحدث عن شخصية رئيس الجمهورية، وعن الطريقة التي أدير الصراع فيها، فإننا نتصور أن هناك الكثير من السلبيات الإنسانية في مواجهته، وبما نّ الجميع أقرّوا بأنه سيبقى إلى نهاية ولايته، فعليهم أن يتعاونوا معه من أجل مصلحة لبنان، لا من أجل مصلحته الشخصية.
حاوره: ياسر الحريري